المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل الكلام على أهل الردة وقتالهم - شجرة النور الزكية في طبقات المالكية - جـ ٢

[مخلوف، محمد بن محمد]

فهرس الكتاب

- ‌تمهيد

- ‌فائدة

- ‌الطبقة الأولىمنحصرة فيمن أنزل عليه القرآن وجاء بالشريعة المطهرة صلى الله عليه وسلم وكرم وعظم

- ‌صلة بها أن القرآن هو الحكمة البالغة والحجة الكاملة مع الإبانة عن فضل المعنى الذي به باين سائر الكلام

- ‌درة

- ‌جوهرة

- ‌فريدة

- ‌خلاصة في العلوم التي تفرعت من القرآن أو نشأت لخدمته

- ‌القراءات السبع

- ‌النحو

- ‌التفسير وعلم الأدب

- ‌الحديث

- ‌الفقه

- ‌السير والتاريخ

- ‌الجغرافيا

- ‌الخطابة

- ‌الشعر

- ‌فصل أذكر فيه الوازع والحرية

- ‌البشارة بالسعادة والنذارة بالشقاوة

- ‌خلاصة فيما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة عندما أعلن بالرسالة وما حصل لمن آمن به

- ‌خطبته عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع

- ‌ذكر مرضه ووفاته صلى الله عليه وسلم

- ‌الحالة الاجتماعية على عهده صلى الله عليه وسلم

- ‌الطبقة الثانية طبقة الصحابة رضي الله عنهم

- ‌فصل في خلافة أبي بكر رضي الله عنه ونبذة من فضائله

- ‌خطبة أبي بكر رضي الله عنه

- ‌الكلام على جيش أسامة رضي الله عنه

- ‌فصل الكلام على أهل الردة وقتالهم

- ‌فصل

- ‌أولياته

- ‌خطبة علي في تأبين أبي بكر رضي الله عنهما

- ‌تنبيه:

- ‌الحالة الاجتماعية على عهد أبي بكر

- ‌خلافة سيدنا عمر رضي الله عنه ونبذة من سيرته

- ‌فتوح الشام

- ‌تنبيه:

- ‌جغرافية سوريا

- ‌انتداب عمر رضي الله عنه لفتح العراق وفارس

- ‌رجوع إلى خبر الهرمزان

- ‌فتح الجزيرة

- ‌فتح مصر وبرقة

- ‌تنبيه:

- ‌أولياته - فمنها كتابة التاريخ الهجري

- ‌ومنها: تدوين الدواوين وفرض العطاء

- ‌قضاؤه

- ‌كتابه في القضاء إلى أبي موسى الأشعري

- ‌وفاته رضي الله عنه

- ‌وصيته لمن يخلفه

- ‌الحالة الاجتماعية على عهده

- ‌فضائل عثمان رضي الله عنه

- ‌الحالة الاجتماعية على عهده

- ‌فضائل علي القرشي الهاشمي رضي الله عنه

- ‌الكلام على الفتنة

- ‌خلاصة فيما عليه أهل السنة في هاته الفتنة

- ‌فضائل الستة بقية العشرة المبشَّرين بالجنة

- ‌سيدنا أبو عبيدة (رضي الله عنه

- ‌سيدنا عبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنه

- ‌سيدنا طلحة (رضي الله عنه

- ‌سيدنا الزبير (رضي الله عنه

- ‌سيدنا سعيد بن زيد (رضي الله عنه

- ‌سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه

- ‌ذكر بعض السادات من أعيان الصحابة وفضلائهم

- ‌سيدنا حمزة رضي الله عنه

- ‌أخوه سيدنا العباس رضي الله عنه

- ‌سيدنا جعفر رضي الله عنه

- ‌سيدنا زيد بن حارثة رضي الله عنه

- ‌سيدنا عبد الله بن رواحة رضي الله عنه

- ‌سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه

- ‌سيدنا خالد بن سعيد رضي الله عنه

- ‌سيدنا سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهما

- ‌سيدنا معاذ بن جبل الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه

- ‌سيدنا يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنه

- ‌سيدنا أبي بن كعب رضي الله عنه

- ‌تنبيه

- ‌سيدنا عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه

- ‌سيدنا أبو ذر رضي الله عنه

- ‌سيدنا المقداد بن الأسود رضي الله عنه

- ‌سيدنا عبادة بن الصامت رضي الله عنه

- ‌سيدنا أبو الدرداء رضي الله عنه

- ‌سيدنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما

- ‌سيدنا سلمان الفارسي رضي الله عنه

- ‌سيدنا عمار بن ياسر رضي الله عنه

- ‌سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه

- ‌سيدنا زيد بن ثابت رضي الله عنه

- ‌سيدنا سعيد بن العاص رضي الله عنه

- ‌سيدنا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه

- ‌سيدنا الحسن وسيدنا الحسين ابنا سيدنا علي رضي الله عنهم

- ‌سيدنا أسامة بن زيد رضي الله عنهما

- ‌سيدنا عبد الله بن سعد رضي الله عنه

- ‌سيدنا معاوية رضي الله عنه

- ‌سيدنا مسلمة بن مخلد رضي الله عنه

- ‌سيدنا مروان بن الحكم رضي الله عنه

- ‌سيدنا عبد الله بن العباس رضي الله عنه

- ‌سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما

- ‌سيدنا عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما

- ‌سيدنا عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما

- ‌خلاصة

- ‌الفتوحات الغربية على يد الصحابة

- ‌صلة

- ‌جغرافية المغرب أي إفريقية الشمالية الغربية

- ‌الكلام على قرطاجنة

- ‌الأطوار الأربعة:

- ‌الطور الأول:

- ‌الطور الثاني:

- ‌الطور الثالث:

- ‌الطور الرابع:

- ‌فصل

- ‌الطبقة الثالثة طبقة التابعين رضي الله عنهم

- ‌خلاصة فيما حصل مدة الدولة الأموية

- ‌الطبقة الرابعة

- ‌فصل

- ‌صلة

- ‌فريدة أذكر فيها نبذة من حضارة بغداد في عهد المنصور والرشيد وابنه المأمون

- ‌تنبيه:

- ‌الطبقة الخامسة

- ‌صلة

- ‌الطبقة السادسة

- ‌الطبقة السابعة

- ‌الطبقة الثامنة

- ‌فصل

- ‌تنبيه:

- ‌الطبقة التاسعة

- ‌تنبيه:

- ‌الطبقة العاشرة

- ‌تنبيه:

- ‌الطبقة الحادية عشر

- ‌ولاية ابنه أبي الحسن علي بن يحيى:

- ‌ولاية ابنه الحسن:

- ‌تنبيه:

- ‌الطبقة الثانية عشر

- ‌تنبيه:

- ‌الطبقة الثالثة عشر

- ‌فصل

- ‌تنبيه:

- ‌الطبقه الرابعة عشر

- ‌‌‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌الطبقة الخامسة عشر

- ‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌الطبقة السادسة عشر

- ‌‌‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌الطبقة السابعة عشر

- ‌الطبقة الثامنة عشر

- ‌فصل

- ‌تنبيه:

- ‌الطبقة التاسعة عشر

- ‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌الطبقة العشرون

- ‌تنبيه:

- ‌الطبقة الحادية والعشرون

- ‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌الطبقة الثانية والعشرون

- ‌تنبيه:

- ‌الطبقة الثالثة والعشرون

- ‌تنبيه:

- ‌رجوع وانعطاف

- ‌تنبيه:

- ‌الطبقة الرابعة والعشرون

- ‌تنبيه:

- ‌الطبقة الخامسة والعشرون

- ‌تنبيهات

- ‌تنبيه:

- ‌الطبقة السادسة والعشرون

- ‌تنبيه:

- ‌الطبقة السابعة والعشرون

- ‌تنبيه:

- ‌خلاصة بها الأدوار التي حصلت لدول إفريقية

- ‌فائدة

- ‌صلة

- ‌تنبيه:

- ‌الجغرافية

- ‌التعريف بالقطر التونسي

- ‌جغرافية إيالة تونس

- ‌جبالها

- ‌أنهارها وبحيراتها

- ‌حيواناتها:

- ‌زراعتها:

- ‌صناعتها:

- ‌معارفها ولغتها وديانتها

- ‌الحكومة

- ‌تاريخ إيالة تونس

- ‌الخاتمة

- ‌فصلفيما يتعلق بالقصر

- ‌عود إلى الكلام على القصر الكبير:

- ‌ذكر من بالمقبرة من الفضلاء

- ‌عود إلى الكلام على قصر السيدة:

- ‌استدراك

- ‌تنبيه:

- ‌ما جاء في صفة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ما جاء في الرؤيا

- ‌حديث نبع الماء من تحت أصابعه

- ‌الترغيب في الصوفة

- ‌ما جاء في المهاجرة

- ‌السنّة في الشراب ومُناولته عن اليمين

- ‌ما جاء في النهي عن تأخير صلاة العصر

- ‌ما جاء في الوليمة

- ‌ما جاء في الحجامة وإجارة الحجام

- ‌ما جاء في الغزو

- ‌قطع التلبية

- ‌ما جاء في تحريم المدينة

- ‌ما جاء في وباء المدينة

- ‌ما جاء في سفر النساء

- ‌في جامع ما جاء في الطعام والشراب

- ‌ما جاء في سكنى المدينة والخروج منها

- ‌في جامع ما جاء في الطعام والشراب

- ‌في جامع ما جاء في تعجيل الفطر

- ‌ما يتقى من الشؤم

- ‌ما جاء في رؤية الهلال للصوم والفطر

- ‌قدر السحور من النداء

- ‌مكيلة زكاة الفطر

- ‌ما جاء في القرآن

- ‌النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها

- ‌فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ

- ‌غسل يوم الجمعة

- ‌الصلاة في البيت

- ‌مواقيت الإهلال

- ‌من جامع الإيمان

- ‌ما جاء في التعفف عن المسألة

- ‌في جامع الجنائز

- ‌تحريم الخمر

- ‌ما جاء في الخيل والمسابقة بينها

- ‌ما جاء في الكلاب

- ‌ما جاء في قتل الحيات

- ‌بيع الذهب بالورق تبراً وعيناً

- ‌ما يكره من الكلام بغير ذكر الله

- ‌ما جاء في إسبال الرجل ثوبه

- ‌ما جاء في الطعام والشراب

- ‌التقاريظ

- ‌مص‌‌ادر ومراجع

- ‌ا

- ‌ت

- ‌ ب

- ‌ح

- ‌ج

- ‌ ث

- ‌ د

- ‌خ

- ‌ذ

- ‌ ر

- ‌س

- ‌ ز

- ‌ط

- ‌ ش

- ‌ ص

- ‌ ع

- ‌ف

- ‌ل

- ‌م

- ‌ك

- ‌ق

- ‌ن

- ‌ه

- ‌ و

الفصل: ‌فصل الكلام على أهل الردة وقتالهم

لأكله. فسار أسامة فجعل لا يمر بقبيلة يريدون الارتداد إلا قالوا لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم، فلقوهم فهزموهم وأغار أسامة على ابني موضع في الجنوب الغربي من الشام وغنم وعاد بعد أربعين يوماً وقيل بعد سبعين يوماً. وهذا يدل على علو كعب أبي بكر رضي الله عنه في السياسة وبعد نظره في مهمات الأمور فإنه ظهر به للعرب بمظهر القوة واستهان بإنفاذه بخطب الردة فنفث في روع العرب روح الرهبة فكانوا بين مقبل على الردة ومدبر عنها ومتردد بين الأمرين.

‌فصل الكلام على أهل الردة وقتالهم

اعلم أن من أعظم فضائل أبي بكر رضي الله عنه قتال العرب الذين ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم والذين منعوا الزكاة وقال والله لأجاهدنهم ما استمسك السيف بيدي وإن منعوني عقالاً أو عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له عمر رضي الله عنه: وكيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فمَن قالها عصم مني ماله ودمه إلا بحقها وحسابه على الله تعالى" فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله لأقاتلن مَن فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال وقد قال "إلا بحقها" قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق. قال الشيخ محيي الدين بن العربي في المسامرة: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب أبو بكر رضي الله عنه الزكاة كفر بها قوم وقالوا: قد كنا ندفع أموالنا إلى محمَّد فما بال ابن أبي قحافة يسألنا! والله لا نعطيه منها شيئاً أبداً. فاستشار أبو بكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجمع القوم على التمسك بدينهم في أنفسهم وأن يتركوا الناس مع ما اختاروه لأنفسهم، وتخيلوا أنهم لا يقدرون على من ارتد من المسلمين فقال أبو بكر رضي الله عنه: لو لم أجد أحداً يؤازرني لجاهدتهم بنفسي وحدي حتى أموت أو يرجعوا إلى الإِسلام، ولو منعوني عقالاً مما كانوا يعطونه رسول الله صلى الله عليه وسلم لجاهدتهم حتى ألحق بالله تعالى. فلم يزل أبو بكر رضي الله عنه يجاهد بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عاد الناس جميعاً إلى الإِسلام ودخلوا فيه كما خرجوا منه.

ص: 42

نهض رضي الله عنه بعزيمة ماضية، وحكمة سامية، ونهض لنهضته رجال قريش فاستقبلت بصدورها حوادث الردة المريعة ونيرانها المتأججة، وأخذت على عاتقها استخضاع العرب وقد ارتدت قبائلها عامة وخاصة إلا ثقيفاً وقريشاً فاقتحمت رجالات قريش بالمهاجرين والأنصار وثقيف وبعض الأحلاف ذلك العجاج الذي يرتج بأهل الردة ارتجاجاً وخاضت بخيلها ورجلها حروب القوم بحراً أجاجاً. ولم يلبث أبو بكر رضي الله عنه أن أطفأ نيران الردة برجال قريش وأمثالهم حتى رمى بهم جيوش القياصرة وجنود الأكاسرة وتابعه على ذلك عمر رضي الله عنه فكان من قوادهما في استخضاع تلك الجيوش الجرارة وتدويخ تلك الممالك العظيمة الشاسعة التي شيدت فيها صروح الإِسلام وذكر على منابرها اسم محمَّد عليه الصلاة والسلام منهم خالد بن الوليد وخالد بن سعيد وعمرو بن العاص وأبو عبيدة بن الجراح ويزيد بن أبي سفيان وأخوه معاوية وعياض بن غنم وحبيب بن مسلمة الفهري وسعد بن أبي وقاص وأضرابهم من صناديد قريش ورؤسائها الذين ذللوا الصعاب وقطعوا من العقبات ولاقوا من الأهوال، ما لا يحلم بذكره إنسان، ولا يدانيهم فيه من مشاهير العالم مدان. كما سترى إن شاء الله. بلغ بعزيمة أبي بكر رضي الله عنه وعظيم رأيه بعد إذ رأى ما أصاب المسلمين من الغم أن آلى على نفسه أن لا يدع العرب يقر لهم قرار إلا والسيف آخذ برقابهم والإِسلام ضارب بينهم بجرانه. وبينما هو يطاول في الأمر انتظاراً لرجوع أسامة وجيشه أعجلته عبس وغطفان وأسد وطيىء، وكان بعضهم نازلاً بذي القصة وبعضهم بالأبرق فأرسلوا إليه وفداً يبذلون الصلاة ويمتعون الزكاة فردهم خائبين فرجعوا وأخبروا القوم بقلة المسلمين وضعفهم وقد غرتهم كثرتهم وأعماهم الجهل عن أن مع المسلمين قوة الإيمان واليقين وفيهم من الصناديد وليوث الحرب الشجعان مثل عمر وعلي وطلحة والزبير الذين لا يفل لهم حد ولا يدرك لهم جد خشي أبو بكر بعد مسير الوفد من البيات فجعل على أنصار المدينة علياً وطلحة والزبير وابن مسعود وأمرهم بملازمة المسجد خوف إغارة من العدو فما لبثوا ثلاثاً حتى طرق العدو المدينة غارة ليلاً وخلفوا بعضهم بذي حسى ليكونوا لهم ردءاً. فوافوا ليلاً الأنقاب وعليها المقاتلة فمنعوهم وأرسلوا إلى أبي بكر فخرج بالمسلمين على النواضح فردوا العدو واتبعوهم حتى بلغوا ذا حسى فخرج عليهم أهل الردة بانحاء قد نفخوها وفيها الحبال ثم دهوها على الأرض فنفرت إبل المسلمين وهم عليها ورجعت بهم إلى المدينة ولم يصرع أحد منهم ثم خرج أبو بكر ليلاً على تعبئة فما طلع الفجر إلا وهم والعدو على صعيد واحد فما شعروا بالمسلمين حتى وضعوا

ص: 43

فيهم السيوف فولوا الأدبار واتبعهم أبو بكر رضي الله عنه حتى نزل بذي القصة وكان أول الفتح ووضع فيها النعمان بن مقرن في عدد ورجع للمدينة، وقدم في أثناء ذلك أسامة بن زيد بجيش المسلمين فاستخلفه أبو بكر على المدينة وجنده معه ليستريحوا ويريحوا ظهورهم ثم خرج فيمن كان معه فقام عليه علي والمسلمون وناشدوه الله ليقيم فأبى وقال: والله لأواسينكم بنفسي. وصار إلى ذي حسى وذي القصة حتى نزل بالأبرق فقاتل من به فهزمهم وغلب علي بني ذبيان وبلادهم وحماها لدواب المسلمين ثم رجع للمدينة. فلما استراح أسامة وجنده بادر أبو بكر رضي الله عنه إلى تسيير الجيوش إلى أهل الردة فعقد أحد عشر لواء.

الأول: لخالد بن الوليد وأمره بطليحة الأسدي ومالك بن نويرة.

والثاني: لعكرمة بن أبي جهل وسيّره لمسيلمة.

والثالث: للمهاجر بن أبي أمية المخزومي القرشي وأمره بجنود العنسي في اليمن ومعونة الأبناء على قيس ثم يمضي إلى كندة بحضرموت.

الرابع: لخالد بن سعيد بن العاص وبعثه إلى مشارف الشام.

الخامس: لعمرو بن العاص القرشي وأرسله إلى قضاعة.

السادس: لحذيفة بن محصن وأمره بأهل دبا.

السابع: لعرجفة بن هرثمة الأزدي وأمره بمهرة.

الثامن: لشرحبيل ابن حسنة حليف بني زهرة وأرسله في إثر عكرمة بن أبي جهل وإذا فرغ يلحق بقضاعة.

التاسع: لمعن بن جابر السلمي وأمره ببني سليم وهوازن.

العاشر: لسويد بن مقرن وأمره بتهامة.

الحادي عشر: للعلاء بن الحضرمي حليف بني أمية ووجهه إلى البحرين.

سيّر أبو بكر رضي الله عنه هؤلاء الأمراء وكتب لهم عهداً كما كتب للمرتدين تركنا ذكرهما اختصاراً. ثم انتهت حروب الردة بعد تذليل عقبات وأهوال في أخبار طوال بانتصار جيوش المسلمين في كل الوقائع انتصاراً باهراً وذهبت دعوة النبوة التي ظهرت بين العرب كأمس الدابر وهي التي ادعاها أربعة رجال وامرأة على عهد الرسالة إلى نهاية أيام الردة وهم: الأسود العنسي في اليمن، وطلحة في أسد وغطفان، ومسيلمة في بني حنيفة، ولقيط بن زرارة في عمان، وسجاح في أخوالها من بني بكر ورهطها من بني تميم. ورجع العرب للركون بعد أن علموا أن الإِسلام

ص: 44

يعلو ولا يعلى عليه وأن المسلمين قوم نصروا الله فنصرهم على أعدائهم ومكن لهم السلطان في الأرض وحصل لهم بذلك سعادة الدنيا والآخرة.

لا ينكر ما لأبي بكر رضي الله عنه من حسن الاختيار بمن ولاهم حروب الردة من القواد العظام الذين أمعنوا بجيوش المسلمين القليلة في أحشاء بلاد العرب وجابوا أنحاءها القاصية حتى بلغوا مشارف الشام والجزيرة شمالًا وشطوط البحر الهندي جنوباً والعراق العربي وخليج فارس شرقاً وشطوط البحر الأحمر ومضيق باب المندب غرباً. ولم تكن غيبتهم إلا كما يغيب المرتاد للمناجع ثم انقلبوا ظافرين وقد عمموا في جزيرة العرب دعوة القرآن وجمعوا سكانها على كلمة الإيمان ونتج عن ذلك أن وقعت هيبة الإِسلام في قلوب العرب وأيقنوا أنه الدين الحق الذي لا يفلح مناوئه ولا ينجح شانئه. فأقبلوا بأجمعهم إليه، وجمعوا كلمتهم المتفرقة عليه.

ثم التفت أبو بكر رضي الله عنه للفتوحات ورأى أن لا يدع لبعض المنافقين الذين لا يروق لهم سمو شأن الإِسلام وقتاً لدس سموم الفتنة في جسم تلك الأمة العظيمة التي جمعتها كلمة الإِسلام وأن يشغلهم مع الجيوش الإِسلامية بالفتح تعميماً للدعوة الإِسلامية وبثاً لروح العدل والحرية بين الأمم، فما هو إلا أن ولج بالعرب هذا الباب حتى انكفؤوا على الأمم التي مزقت أحشاءها سيوف الأهواء والأوهام وقضى على مجدها القديم ظلم أرباب السيطرة على النفوس والأجسام فلم يلبث أن وافاها المسلمون يحملون لفريق أهل الكتاب منها {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} ولفريق الصابئة ومَن على نحلتهم من المشركين الإِسلام أو الجزية أو السيف حتى اشرأبت لعدل سلطانهم أعناق الناس ودانت لدينهم الشعوب وخضعت لسلطانهم فعمروا المسالك وشادوا الممالك ومصروا الأمصار وكانوا خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون القسطاس ويأخذون من أنفسهم للمظلوم حتى يرضى كما يأخذون على الظالم متى يتعدى.

أول ما التفت إليه أبو بكر رضي الله عنه فتح العراق والذي حركه لذلك هو البطل الجليل المثنى بن حارثة بن ضمضم الشيباني بن بكر بن وائل وهو ممن لم يتابع بكراً على ردتها وبقي وقومه على الإِسلام وسهل إليه الأمر ورغّبه بغزوهم فكتب إليه أبو بكر رضي الله عنه عهداً وسار إلى بلاده ثم إن أبا بكر رضي الله عنه استدعى خالد بن الوليد في اليمامة سنة 12 وأمره بالمسير إلى العراق وأن يبدأه من أسفله وكتب إلى عياض بن غنم الفاتح الشهير الذي كان على يده فتح الجزيرة

ص: 45

وأرمينيا أن يأتي العراق من أعلاه ويسير حتى يلقى خالداً وأوصى أبو بكر خالداً وعياضاً رضي الله عنهم أن لا يضرا بفلاحي العراق وأهل السواد حرصاً منه على منابع الثروة وعلماً بأن العمران لا تقوم بدونه الدولة والفلاحة كما لا يخفى مصدر حياة الناس وتقدمها أساس عمران الممالك. لما سار خالد إلى العراق كان معه من الجند عشرة آلاف واستقبله المثنى بثمانية آلاف ثم أمدّ أبو بكر خالداً بالقعقاع بن عمرو بطل المسلمين المغوار فقيل له أتمده برجل واحد فقال: لا يهزم جيش فيه مثل هذا. وأمدّ عياضاً بعبد يغوث الحميري وكتب إلى المثنى يأمره بالسمع والطاعة لخالد وأمر مذعوراً بن عدي العجلي أن ينضم مع قومه إلى خالد وكذلك سويد بن قطبة الذهلي من بكر وائل واستنفر رضي الله عنه العرب وأذن لعامتهم بالانضمام إلى جيوش الفتح، وكان لزعماء الردة منهم -كطليحة الأسدي وعمرو بن معدي كرب والسمط بن الأسود الكندي والأشعث بن قيس وأمثالهم- البلاء الحسن في فتوح العراق والشام والإخلاص العظيم في إعلاء كلمة الإِسلام ومعظمهم استشهد في أيام الفتوح.

واختلف المؤرخون في أول بلد قصده خالد فقيل الأبلة وقيل الحيرة وإن الأبلة كان على عهد عمر رضي الله عنه وعليه فالحيرة هي أول فتح بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثم إن خالداً بعد أن استخضع أهل الحيرة وقضى على دولة المناذرة التي كانت تحكم العراق من قبل الأكاسرة وقاعدتها الحيرة وأتم فتح العراق العربي بلداً بلداً وكان كلما فتح فتحاً وتوفرت لديه الغنائم يبعث بالخمس إلى أبي بكر مع خبر الفتح. ثم انصرف خالد بعد هذا الفتح إلى الشام واستخلف المثنى بن حارثة على جند العراق.

لما انتهى فتح العراق العربي وجاس المسلمون خلال ديار الفرس واستقر لهم في تخوم فارس الملك والسلطان واتخذوا بها الثغور يدخرون بها معدات القوة للإجهاز على ممالك الفرس انصرفت همة أبي بكر رضي الله عنه إلى الشام التي هي مركز التجارة بين الشرق والغرب ومدخر الخيرات، وكانت الشام يومئذ متابعة لمملكة الروم وكان سلطانهم في تقلص ونفوذهم في اضمحلال ولما توجهت أنظاره إلى فتحها استنفر المسلمين من أطراف البلاد العربية وأخذوا يفدون عليه من كل فج ويعسكرون بالجرف قرب المدينة، وفي مستهل صفر سنة 13 عقد ألوية فلواء ليزيد بن أبي سفيان ووجهه إلى البلقاء ولواء لعمرو بن العاص ووجهه لفلسطين ولواء لشرحبيل ابن حسنة ووجهه إلى الأردن ولواء لأبي عبيدة بن الجراح ووجهه إلى حمص وكان العقد في بدء الأمر لكل أمير على ثلاثة آلاف فلم يزل أبو بكر يتبعهم

ص: 46

الإمداد حتى صار مجموعهم أربعة وعشرين ألفًا ساروا ولهم قوة العزيمة والصبر والاعتماد على الله في السر والجهر وعدم المبالاة بالحياة في سبيل إعلاء كلمة الدين ونصرة الإِسلام والتعفف عما بأيدي الناس وحماية المال والنفس وإطلاق الحرية في العوائد والدين وأضف إلى هذا ما يصاحب أولئك المجاهدين من حسن الرأي بمَن يصاحبهم من رجال الإِسلام وأقطاب السياسة والحرب يومئذ كعمرو بن العاص وأبي عبيدة بن الجراح ومعاوية ويزيد ابني أبي سفيان رضي الله عنهم ومن ورائهم مثل أبي بكر رضي الله عنه يمدهم بالرأي ويتابع النصائح وحسبهم من وصاياه وصيته ليزيد المذكور التي تعجز أقطاب السياسة وتنفع قادة الجيوش وساسة الأمم في كل عصر، أوصاه بها لما شايعه ماشياً كما أوصى سائر الأمراء، ونصها:

"إني قد وليتك لأبلوك وأجربك فإن أحسنت رددتك إلى عملك وزدتك وإن أسأت عزلتك فعليك بتقوى الله فإنه يرى من باطنك مثل الذي يرى من ظاهرك وإن أولى الناس بالله أشدهم تولياً له وأقرب الناس من الله أشدهم تقرباً إليه بعمله وقد وليتك عمل خالد بن سعيد فإياك وعبية الجاهلية فإن الله يبغضها ويبغض أهلها وإذا قدمت على جندك فأحسن صحبتهم وابدأهم بالخير وعدهم إياه وإذا وعظتهم فأوجز فإن كثير الكلام ينسى بعضه بعضاً وأصلح نفسك يصلح لك الناس وصل الصلوات لأوقاتها بإتمام ركوعها وسجودها والتخشع فيها وإذا قدم عليك رسل عدوك فأكرمهم واقلل لبثهم حتى يخرجوا من عسكرك وهم جاهلون به ولا تريثهم فيروا خللك ويعلموا عملك وأنزلهم في ثروة عسكرك وامنع من قبلك من يحادثهم وكن أنت المتولي لكلامهم ولا تجعل سرك لعلانيتك فيخلط أمرك وإذا استشرت فاصدق الحديث تصدق المشورة ولا تخزن عن المشير خبرك فتؤتى من قبل نفسك واسهر بالليل في أصحابك تأتك الأخبار وتنكشف عنك الأستار وأكثر حرسك وبددهم في عسكرك وأكثر مفاجآتهم في محارسهم بغير علم منهم بك فمَن وجدته غفل عن حرسه فأحسن أدبه وعاقبه في غير إفراط واعقب بينهم بالليل واجعل النوبة الأولى أطول من الأخيرة فإنها أيسر لهما لقربها من النهار، ولا تخف من عقوبة المستحق ولا تلجن فيها ولا تسرع إليها ولا تخذلها مدفعاً، ولا تغفل عن أهل عسكرك فتفسده ولا تجسس عليهم فتفضحهم: ولا تكشف الناس عن أسرارهم واكتفِ بعلانيتهم، ولا تجالس العبّاثين وجالس أهل الصدق والوفاء وأصدق اللقاء ولا تجبن فيجبن الناس، واجتنب الغلول فإنه يقرب الفقر ويدفع النصر وستجدون أقواماً حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعهم وما حبسوا أنفسهم له اهـ.

ص: 47

لما سار أمراء الأجناد المتقدم ذكرهم وكتبوا إلى هرقل عظيم الروم يدعونه إلى الإِسلام أو الجزية أو الحرب -وهو يومئذ بالقدس- جمع له البطارقة وكبار القواد وشاورهم في أمر المسلمين وأشار عليهم بصلحهم فأبوا عليه إلا الحرب، ولما لم يوافقوه على رأيه أخذ في إعداد الجنود والعدة وأرسل لكل أمير جيشاً ليشغل كل طائفة من المسلمين بطائفة من قومه. أما أمراء المسلمين فإنهم أوغلوا بجيوشهم في أحشاء البلاد ولهم وقائع كثيرة قبل وقعة اليرموك كوقعة مرج الصفر على وزن سكر ووقعة أجنادين التي بشر أبو بكر بظفر المسلمين فيها وهو بآخر رمق ووقعة العربة من فلسطين وبصرى وحوران وغيرها.

اقتحم المسلمون بجيوشهم البلاد اقتحام المجربين في الحرب العارفين بمواقع الخطر الواقفين على عورات العدو الخبيرين بطرق البلاد، فإنهم أوغلوا في جنوب الشام على شكل مثلث متقارب الخطوط رأسه في البلقاء مع يزيد بن أبي سفيان مما يلي الحجاز وطرفا الواحد في الجنوب الغربي في فلسطين وهو مع عمرو بن العاص والآخر في الجنوب الشرقي في حوران وهو مع أبي عبيدة بن الجراح وفي الوسط بميلة إلى الغرب وهو مع شرحبيل وهو في الأردن بحيث يمد بعضهم من بعض بقرب ومن ورائهم يزيد يحفظ خط الرجوع ويديم النظر في طرق المواصلات على هاته الصفة افتتح كل أمير ما مر عليه من البلاد صلحاً أو حرباً حتى أخذت الصيحة الروم من كل مكان فانتبهوا من غفلتهم فضرب هرقل البعث على العرب الذين هم تحت حمايته والروم فاجتمع لديه منهم زهاء مائة وخمسين ألفاً ولما تفرق المجاهدون في البلاد وراعهم ما جمعه هرقل من المجموع استشاروا عمرو بن العاص فأشار عليهم بالاجتماع فاجتمع الأمراء والجيوش باليرموك وكتبوا إلى أبي بكر رضي الله عنه فأمدهم بخالد بن الوليد ولما وصل تأمر عليهم ورتب الجيوش ترتيباً على غاية من النظام وتعبئة يعجز عنها حذّاق الأمراء ثم نشب القتال بين الفريقين وكانت حركة عظيمة انجلت عن انكسار الروم وانهزامهم شر هزيمة بعد أن قتل منهم مقتلة عظيمة وأصيب من المسلمين بين قتيل وجريح زهاء الثلاثة آلاف فيهم من وجوه المهاجرين وجلة قريش عدد كبير منهم عكرمة بن أبي جهل وابنه وسعيد بن الحارث بن قيس بن عدي وخالد بن سعيد وهم ممن أبلى بهذه الحرب ومنهم أبو سفيان بن حرب ذهبت فيها عينه وبينما هم في اليرموك في أشد حالات الحرب قدم البريد بخبر وفاة أبي بكر وتولية عمر رضي الله عنهما ومعه أمر بعزل خالد وتأمير أبي عبيدة فكتم هذا الخبر على المسلمين ريثما تضع الحرب أوزارها وتولى الروم أدبارها. وقد اختلف المؤرخون هل جاء الخبر بموت أبي بكر

ص: 48