الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر على نحو ما جاء به الشرع العزيز، ولذا كان الملوك يلاقون من شدة العلماء عليهم ما يتجرعون مرارته كسحنون وسعدون الخولاني وربيع القطان وأبي محفوظ محرز بن خلف. وسترى قريباً الخبر عن القيروان بما فيه عبرة لذوي الفضل والشأن.
فصل
قد علمت مما تقدم أن الأندلس استوى عليه عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان ويقال له عبد الرحمن الداخل وصار وراثة في بنيه وبقي الكلام على ما آل إليه أمرهم فنقول: إن في أيامهم استفحلت الأندلس واستبحرت بالعلوم والمعارف والصنائع مع عمران باهر وحضارة وتمدن زاهر.
في خلاصة تاريخ العرب: نصح عبد الرحمن المذكور ولده الحكم قبل وفاته بقوله: يا بنيّ، إن الممالك ملك الله وهو يؤتيها من يشاء وينزعها ممن يشاء كما يختار وحيث إنه قد أجلسنا على سرير سلطنة إسبانيا فلنشكره جزيل الشكر الأبدي ولنصنع الخير بخلقه لنكون عاملين طبق أوامره المقدسة، فإن الله تعالى لم يجعل فينا الشوكة العظمى إلا لنفعل لخير بعباده، فلنجعل عدلك مستقيماً بين الغني والفقير، وعامل جنودك برفق وبر وأمرهم بالحماية على البلاد وانههم عن الظلم والجور بين العباد. وحامِ عن الفلاحين الذين نقتات من نتائج أشغالهم واستلفت نظرك نحو مزارعهم ومحصولاتهم حتى تكون الرعية سعيدة الحال في ظل سلطانك ولتتمتع الرعية في الأمن بخيرات الحياة ونعيمها. انتهى.
ثم قال ما ملخصه: من ملوك الأموية عبد الرحمن الثالث أدخل في السياسة علوم بغداد واجتهد في تقديم العلوم والفنون، وجمّل قرطبة ومدائن الأندلس بالمباني الفاخرة، وبنى قرب قرطبة لجاريته زهراء قصراً وصفته التواريخ العربية بما لا يتصوره الذهن، وكان عصره أزهر عصر خلفاء الأموية، وبالجملة كان حائزاً للنصر الحربي والعلم الفائق والمال الوافر والزينة وجميع أسباب الاشتهار الدنيوي، ولما مات وجد في بعض أوراقه ما نصه: إنه قد مضت مدة خمسين سنة منذ توليت الخلافة وتمتعت بعلو الشأن وكثير من خزائن الأموال والملاذ والحظوظ حتى أنفذت كل ما ظفرت به منها، وإن لملوك المقارنين لي في عصري يعتبرونني ويخشونني ويغبطونني وجميع ما تشتهيه الرجال قد أنعم الله به على مَن فضله وقد أحصيت مدة خلافتي التي ظننتني فيها سعيداً فرأيتها أربعة عشر يوماً فيا أيها الناس قدروا بعقولكم
ما قيمة عظمة الملك عند الملوك والدنيا والحياة انتهى. قلت: عبد الرحمن هذا هو عبد الرحمن الناصر بن محمَّد بن عبد الله بن محمَّد بن عبد الرحمن الأوسط بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل ولي الملك سنة 300 هـ وتوفي سنة 356 هـ واتسع الملك بالأندلس في مدته ومن اتساعه أنه بني تجاه قرطبة مدينة سماها الزهراء لسكناه هي من عجائب الدنيا دالة على قدر بانيها وأنفق فيها من الأموال خمسة وسبعين مائة ألف دينار وكان عدد الفتيان بالزهراء ثلاثة عشر ألف فتى وسبعمائة وخمسين فتى لهم من اللحم كل يوم ثلاثة عشر ألف رطل غير أنواع الطير والحوت، وعدد النساء بالقصر ستة آلاف وسبعمائة وثمانون والمرتب على الخبز لحيتان بحيرة الزهراء اثنا عشر ألف خبزة وأما أوصاف هاته المدينة فإنها طويلة. وما أغرب ما يحكى عن الناصر أنه أراد القصد يوماً فقعد في البهو الكبير واستدعى الطبيب لذلك فأخذ الطبيب الآلة وجس يد الناصر فبينما هو كذلك إذ أطل زرزور فصعد على إناء من ذهب وأنشد ذلك الزرزور:
أيها الفاصد رفقاً بأمير المؤمنين
…
إنما تفصد عرقاً فيه محيا العالمين
وجعل يكرر ذلك المرة بعد المرة فاستظرف الناصر ذلك وسرّ به غاية السرور ووهب لمعلم الزرزور ثلاثين ألف دينار. ولما أتم بناء الزهراء وبها قبة لجلوسه مزخرفة صنع طعاماً دعا إليه العلماء وجلس في تلك القبة فلما حضر العلماء ومعهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي فلما رأى تلك القبة أنكر عليه ذلك الصنيع فأثر عليه إنكاره فقال له جزاك الله يا قاضي عنا وعن نفسك خيراً وعن الدين والمسلمين أجل جزائه وكثر في الناس أمثالك. وأمر بنقض سقف القبة الذي طلوه بالذهب وأعادها على صفة ليس بها ما ينكر عليه فيه. ومن أخباره أنه أغضب جاريته طروف فهجرته وكان يحبها، فأرسل إليها يترضاها فأبت وأغلقت باب مجلسها فأمرهم بسد الباب عليها من خارجه ففعلوا وبنوا عليها بالبدر. فأقبل حتى وقف بالباب وكلمها مسترضياً راغباً في المراجعة على أن لها جميع ما سد به الباب من البدر فأجابت وفتحت الباب فانهالت البدر ببيتها فأكبت على رجله تقبلها وحازت المال وكانت تبرم الأمور فلا يرد شيئاً تبرمه، وكانت له غزوات كثيرة شهيرة. وقد ذكر أبو العباس أحمد بن عبد ربه في العقد الفريد اثنين وعشرين غزوة من غزواته ونظم كل غزوة منها في منظومة من الرجز، وكان معاصراً له وبذلك طار صيته وانتشر ذكره وأطاعته بنو إدريس أمراء العدوة وملوك زناتة والبربر حتى صار ملكه غاية في الضخامة وعلو الشأن. ولما توفي بويع لابنه الحكم المستنصر بالله فقام بأعباء الملك خير قيام
وكان عالماً نبيلاً أقام للعلم والعلماء سوقاً نافقاً واجتمع عنده من خزائن الكتب ما لم يجمعه أحد من الملوك قبله. في غرائب الغرب لأبي عبد الله محمَّد كرد علي: كان للأندلسيين غرام بتسبيل الكتب على المطالعة ولهم خزائن كتب عامة وخاصة وكانت قرطبة أكثر بلاد الأندلس كتباً وأهلها أشد الناس اعتناء بخزائن الكتب صار ذلك عندهم من آلات التعين والرياسة فلا يكاد يخلو دار من خزانة فيها كتب قيِّمة وقد أنشأ الحكم الثاني عدة مكاتب للمطالعين فكان يرسل وكلاءه إلى المشرق يستنسخون الأسفار فما هو إلا أن يؤلف المؤلف تصنيفه حتى تستنسخ منه نسخ أو نسخة لتحمل إلى خليفة الأندلس ولا يفوت بلاده شيء من حركة العقول، وكانت دار كتبه تحتوي على أربعمائة ألف مجلد جاء فهرسها في أربعة وأربعين مجلداً ولطالما أجزل ملوك الأندلس الصلات لبعض مؤلفي الشرق والأندلس حتى يذكروا في مقدمتها أنهم ألفوها برسم خزائنهم، ومن المؤلفين مَن كانوا يرضون بذلك ومنهم مَن لا يرضون به يقصدون أن يكون لمن يستفيد منه. وكان للعلماء والمؤرخين والشعراء والأدباء في الأندلس مجامع عالمية وأدبية أشبه بالمجامع أو الأكاديميات في هذا العصر وذلك لنشر العلم والمعارف ومفاوضة الحكمة بينهم فنتج من اجتماعهم فوائد مهمة للعلم والمدينة وكان المظفر بن الأفطس صاحب بطليوس من أعلم الملوك بالأدب وله التصنيف المترجم بالتذكرة والمشتهر بالكتاب المظفري في خمسين مجلداً في الفنون والعلوم واستأدب لبنيه أبا عبد الله بن يونس وكان يحضره وأبا الحزم بن عليم وأمثالهما للمذاكرة والمباحثة فيفيد ويستفيد وكان لأبي عامر أمير الأندلس في دولة هشام المؤيد مجلس معروف في الأسبوع يجتمع فيه أهل العلوم للكلام فيها بحضرته وقد أنشأ الحكم مجمعاً وقلّده غيره من أمراء الأندلس فأنشأوا مجامع لهم وأنشأ أحمد بن سعيد النصري مجمعاً في طليطلة فكان يجتمع عنده أربعون عالماً من طليطلة وما جاورها ثلاثة أشهر في السنة، يعقدون اجتماعاتهم في ردهة فرشت أحسن فرش يبدؤون عملهم بقراءة آيات من الكتاب العزيز ثم يتذاكرون في تفسير ما قرأوا ويأخذ بهم الاستطراد إلى البحث في فنون شتى في العلم والحكمة اهـ.
وقال ابن حزم: عدد الفهرسات التي فيها أسماء بعض الكتب أربع وأربعون فهرسة كل فهرسة ست وعشرون ورقة ليس فيها إلا أسماء الدواوين وأما غير الدواوين من سائر فنون العلوم فشيء كثير قيل إن كتبه كانت أربعمائة ألف مجلد قلما يوجد كتاب منها إلا وله فيه قراءة ونظم ومكتوب على هوامشه خطه. ولما ألف أبو الفرج الأصبهاني كتابه الأغاني بعث للحكم نسخة فاجازه بألف دينار وقد
تقدّم في ترجمة المعيطي وابن المكوي أن الحكم هذا كلفهما بتأليف الاستيعاب فألفاه وأجازهما على ذلك جائزة سنية وكانت مدة ولايته ستة عشر سنة وبويع لابنه هشام المؤيد وعمره تسع سنين واستوزر محمَّد بن أبي عامر الملقب بالمنصور المعافري ومعافر بطن من حمير وباشر هذا الوزير تدبير الملك بنفسه وكان ذا عقل ورأي وشجاعة وكرم وبصيرة بالحروب ودين متين وكان عالماً متفنناً وله غير ذلك من الصفات الحميدة وسيرته مشهورة في التواريخ ومفردة بالتأليف واستمر على سيرته سبعاً وعشرين سنة وذكر في نفح الطيب كثيراً من غزواته وأخباره في الكرم والعفو والحلم وحسن الخلق ثم قال: وأخبار المنصور تشمل مجلدات، وتوفي في صفر سنة 392 هـ فقام بأمر الوزارة بعده ابناه فأولاً عبد الملك فجرى على سنن أبيه في السياسة والغزو وكانت أيامه أعياداً دامت سبع سنين ثم قام بالأمر بعده الابن الآخر عبد الرحمن وجرى على سنن أبيه وأخيه في الحجر على الخليفة هشام والاستبداد عليه ثم طلب من هشام أن يجعله ولي عهده فأجابه لذلك لتغلبه عليه وأحضر لذلك أرباب الشورى وأهل الحل والعقد وكتب عهده بذلك ثم سعى كثير من الأمويين وغيرهم في نقضه وأثاروا لذلك فتنة إلى أن قتلوا عبد الرحمن المذكور سنة 399 هـ ثم خلعوا الخليفة هشاماً وبايعوا غيره ثم أعيد هشام ثم فقد سنة 403 هـ وثارت بسبب ذلك فتن كثيرة يطول ذكرها آل الأمر فيها إلى زوال ملكهم وافتراق كلمتهم وكل يوم يخلعون خليفة ويبايعون آخر إلى أن انقضت الدولة الأموية من الأرض سنة 428 هـ وانتثر سلك الخلافة بالمغرب وقام الطوائف بعد انقراض الخلائف متغلبين في كل ناحية ملك مستقل وتغلب بعضهم على بعض ولا حاجة بنا إلى ذكر أسمائهم ومن أشهرهم بنو عباد ملوك إشبيلية الذين منهم المعتمد بن عباد وعند ذلك استفحل أمر النصارى بالأندلس وجرت بعد ذلك أمور ستقف على بعضها إن شاء الله وهي مبسوطة في نفح الطيب وغيره. قال ولي الدين بن خلدون: إن دولة بني أمية بالأندلس لما فسدت عصبيتها من العرب استولى ملوك الطوائف على أمورها واقتسموا خطتها وتنافسوا وتوزعوا ممالك الدولة كل واحد منهم على مكان في ولايته وشمخ بأنفه وبلغهم شأن ملك العجم من الدولة العباسية فتلقبوا بألقاب الملك ولبسوا شارته لاستيلاء الترف عليهم ولذلك يشير ابن رشيق في قوله:
مما يزهدني في أرض أندلس
…
أسماء معتصم فيها ومعتضد
ألقاب سلطنة في غير مملكة
…
كالهر يحكي انتفاخاً صورة الأسد