الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ملحق رقم (1)
جواب التُّسولي المختصر عن مسائل الأمير عبد القادر 1
ــ
يخفى أن هؤلاء القبائل الكاتمين، قد خسروا دنياهم وآخرتهم، وخالفوا أمر مولاهم، فإن ثبت عليهم ما ذكرتموه فحكمهم ظاهر- ممّا يأتي-، وإنْ لم يكن إلاّ مجرّد التهمة وغلبة الظن فالواجب وهو غاية المقدور، أن يتقدّم الإمام إليهم ويلزمهم بحراسة جواسيسهم وتجّارهم، ويخبرهم بأنّه إنْ ظفر بجاسوس منهم، أو بمن يبيع شيئاً لهم حلت عقوبة جميعهم، إذ لا يحرس الجاسوس أو السارق أو الغاصب غير أخيه الذي يساكنه ويجاوره، ولا يشك عاقل أنّ أهل المداشر أو الدوار لا يخفى عليهم ذهاب جاسوسهم ولا إيابه ولا مكاتبته، وقد جرت عادة قبائل الزمان- كما هو مشاهد بالعيان- أنّ الوالي إذا تقدّم، للقبيلة أو المدشر وأخبرهم: بأنّ من أذنب منهم أخذوا جميعاً بذنبه، وأنّ القوافل والأضياف إذا نهبوا بأرضهم غرموا ما نهبوه، إذ لا يخفى عليهم المذنب والناهب، فلا إشكال أنّهم يتأهبون لحراسة المذنب والناهب، ويشمرون عن ساق الجدّ في ذلك، ويتأهّبون فيما بينهم دفعاً للعقوبة وإلى هذا المعنى أشار ناظم عمل فاس بقوله:
ولا يؤاخذ بذنب الغير
…
في كل شرع من قديم الدهر
إلاّ إذا سدّت به الذريعة
…
أو خيف شرع شرعه أو شيعه
1 - أورده التُّسولي في "الجواهر النفسية فيما يتكرر من الحوادث الغريبة": 1/ 274 - ب، 276 - أ، والوزاني في "المعيار الجديد": 10/ 207 - 212. ونظراً إلى كون هذا الجواب مختصراً من الأصل الذي وثقت نقوله فقد أغناني ذلك عن تكرار التوثيق.
فقوله: إلاّ إذا سدت
…
إلخ، هو المستند لما نحن فيه، لأنّ العادة أنّ المذنب إذا علم أنّ قريبه يؤاخذ به إنْ فرّ هو بنفسه كف عن ذنبه، وهذا هو مستند الأمراء والولاة في القديم في مؤاخذة القرابات بمذنبيهم، حتى عقد الموثقون- في ذلك- الوثائق لمن أراد البراءة من قريبه الشرير المعلوم بالفساد والعصيان لئلاّ يؤاخذ به كما في "المتيطية" وغيرها.
ثم بعد التقدّم المذكور- للقبائل المذكورة- يجعل المراصد على الطرقات من أهل الثقات العارفين بمغابن الطرق من غير أولئك القبائل والمداشر خفية منهم، فإذا ظفر بأحد منهم حقت عقوبة جميعهم، إما المقبوض جاسوساً فلا يخفى حكمه وهو القتل- كما في خليل-.
وأمّا الذاهب للتجارة ولا سيّما (ببيعه ما لا يحل بيعه لهم) 1 كالخيل والبغال والجلود والشمع والنحاس أو عينه، لقول "سحنون":(من باع سلاحاً للعدوّ فقد أشرك في دماء المسلمين) اهـ والسلاح يشمل ذلك كلّه.
وقال الحسن: (من حمل إليهم الطعام فهو فاسق، ومن باع منهم السلاح فليس بمؤمن في هدنة أو غيرها) اهـ.
وقد أفتى القاضي سيدي محمد بن سودة، والشيخ ميّارة، والإمام الأبار:(بقتل من باع وصيفاً- أي مملوكاً- للعدوّ)، حيث كان من أهل الفساد، وإدخال الضرر على المسلمين، وكان لا ينكف إلاّ بالقتل زجراً لأمثاله عن العتو والفساد.
وأمّا الكاتمون للجواسيس والتجار، والمفرطون في حراستهم من إخوانهم- بعد التقدّم المذكور- فعليهم الأدب الوجيع، لأن حرس الجواسيس والتاجريين إليهم) ليضيق بهم وتقطع عنهم الحيرة) 7 جهاد يتعيّن بتعيين الإمام- كما في خليل - وغيره-، وهؤلاء الكاتمون والمفرطون قد عينهم الإمام للحراسة فخالفوا
1 - في المعيار الجديد للوزاني: 10/ 208: (بحمله ما لا يحل بيعه منهم).
2 -
في المعيار الجديد للوزاني: 10/ 209: (للتضيق بهم وقطع الحيرة عنهم).
وكتموا أو فرطوا، فحيث افتضح أمرهم بقبض الجواسيس والتجار لزمهم العقاب، لأنهم بالمخالفة والكتمان والتفريط عصوا الله ورسوله.
وعزر الإمام لمعصية الله، أمّا بالعقوبة في الأبدان فلا خلاف، وأمّا بالأموال فعلى نزاع، فأجازها البرزلي ومنعها غيره، لكن قالوا محل الخلاف:(إذا تمكن الإمام من إقامة الحدود وإجرائها على مقتضى الشريعة، وإلاّ فالعقوبة بالمال أولى من الإهمال) اهـ.
وبجوازها- أيضاً- مع عدم التمكن من إقامة الحدود أفتى سيدي العربي الفاسي- حسبما في شرح نظم العمل- قائلاّ: (الواقع الآن بالمشاهدة أن القبائل التي لا تنالها أحكام السلاطين لا تمكن فيهم العقوبة بالأدان، فالعقوبة بالمال وإنْ كانت ممنوعة فهي هذا الزمان محل الضرورة وفعلها عام المصلحة) اهـ باختصار.
وإذا تقرّر هذا (فإليكم) 1 النظر في كونكم متمكّنين من إقامة الحدود في أولئك القبائل، وعدم تمكّنكم من إقامتها.
وأمّا قولكم في السؤال: أم يتركون على حالهم
…
إلخ، فذلك ممّا لا يحلّ كتاباً وسنة وإجماعاً، لأنّ من قدر على تغيير المنكر وجب عليه تغييره، وهو فرض عين على الولاة، وما نصبوا إلاّ لتغييره، ولا منكر أعظم من ترك القبائل المذكورين على ما هم عليه من نقل الأخبار ومبايعة الكفّار، لأن ذلك مفض إلى هدم الإسلام، وقد قال العلماء- رضي الله عنهم (من ترك أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الولاة تجري على أحكام تخالف أحكام الكتاب والسنة فقد غشها)، وقال- عليه الصلاة والسلام:"من غشّ أمّتي فعليه لعنة الله" وقال- أيضاً-: "إذا ظهرت البدع، وسكت العالم فعليه لعنة الله".
وأما حكم المتخلّف عن الجهاد بعد أن استنفره الإمام: فلا يخفى عليكم قوله- تعالى-: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
…
}، ولا يخفى عليكم قول "خليل": (وتعيّن بتعيين الإمام
…
إلخ)، لأنّ الإمام حيث استنفرهم فقد
1 - في نفس المصدر السابق: (فالحكم).
عينهم، فمخالفتهم عصيان لله ورسوله توجب عقوبتهم- بما تقدّم ذكره- فإن كانت عقوبتهم لا تتأتّى إلاّ بقتالهم قوتلوا، لأن عدم نفورهم رضا منهم باستيلاء عدوّ الدين.
وأمّا مانع الزكاة: فتؤخذ منه إنْ تحققت عمارة ذمته ببيّنة أو إقرار ولو كرهاً، وأما غلبة الظن بتعمير ذمّته، فغاية ما توجبه عليه اليمين.
وأمّا أرزاق الجيش: فقال "ابن منظور": (إذا عجز بيت المال عن أرزاق الجند وما يحتاج إليه من آلة الحرب، فيوزع على الناس ما يحتاج إليه من ذلك، ويستنبط هذا الحكم من قوله- تعالى-: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ
…
}، لكن لا يجوز ذلك إلاّ بشروط: أن يعجز بيت المال وتتعيّن الحاجة، وأن يصرفه الإمام بالعدل فلا يجوز أن يستأثر به دون المسلمين ولا ينفقه في سرف ولا يعطي من لا يستحق ولا أكثر ممّا يستحق، وأن يكون العزم على من كان قادراً من غير ضرر ولا إجحاف ومن لا شيء له أوله شيء قليل لا يغرم شيئاً، وأن يتفقدها في كل وقت فربّما جاء وقت لا يفتقر فيه لزيادة على مما في بيت المال، وكما يتعيّن التوزيع في المال فكذلك إذا تعيّنت الضرورة للمعونة بالأبدان- ولم يكف المال- فإن الناس يجبرون على التعاون بالأبدان بشرط القدرة وتعيّن المصلحة) اهـ.
فإنْ قلت: قد ورد في الحديث الكريم أنّه قال- عليه الصلاة والسلام: "لا يدخل الجنة صاحب مكس" أليست المغارم المذكورة من المكس المذكور؟.
قلنا: ليست من المكس "لابن عرفة" إذ قال: (هو منع الناس من التصرّف في أموالهم بالبيع أو غيره ليختصّ المانع بنفع ذلك).
وقال "أبو محمد المرجاني": (المكس أنّ يحجر السلعة بحيث لا يبيعها أحد غيره) وقال "الطيبي": (المكس الضريبة التي يأخذها العشار).
قال الشيخ عبد القادر الفاسي: (فعلى تفسير الطيبي أخذ الفوائد في الأبوات والقاعات وأكثر الأسواق والرحاب مكس- وهو الذي كثر إستعماله في العرف-
وعلى تفسير المرجاني وابن عرفة ليس بمكس وإنّما هو غصب وظلم) اهـ.
وقد علمت أنّ المغارم المذكورة ليست لنفع المانع بل النفع للمسلمين، ولذا اتفقوا على جوازها، وقال الفقيه الصالح "أبو القاسم بن خجو" في أواخر شرح "بيوع ابن جماعة" ما نصّه: (من البدع المحرمة التواطؤ على إهمال إقتناء الخيول لأهل القوة، واكتساب أنواع العدة والرماية التي بها يسيد الرجل ويصول، وترك التحفير والتحصين على ثغور المسلمين، قال تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} والتحفير والتحصين من العدّة.
قال الإمام ابن طلحة: (يلزم الإمام حمل الناس على الجهاد، فإنْ اتّكل على أن يتكفف الناس الجهاد بأنفسهم ضاع الباب وتهدّم الإسلام، إذ لا يتمّ الجهاد إلاّ بحمل الإمام الناس عليه، وأخذ أموالهم من وجهها ووضعها في جيوشهم، ويجبر أهل المال على كسب الخيول وآلة الحرب وسدّ الثغور) اهـ.
فتأمّلوا- رحمكم الله- هذا التحريض على الاستعداد، وتدبّروه- مع ما مرّ - فيمن ترك أمة محمد صلى الله عليه وسلم تجري على غير الكتاب والسنة ممّا وقع للمسلمين من الوهن عن القتال في تلك الأقطار- حتى استولى العدوّ على الثغور وبعض الأمصار- إلاّ من إهمال الاستعداد، وترك أوامر الله في زوايا الإهمال والاندثار، وهو- سبحانه تعالى- يقول:{حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} 1 {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} 2 {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} 3 {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} 4، والتحريض والعلوّ والغلظة لا تكون إلاّ بالعدة والعدد وغير ذلك من كمال الاستعداد من تعليم الرماية للصغار والكبار وممارسة القتال، فلما أهملوا ذلك ولم يحملهم الإمام عليه، نبّه الله- سبحانه وتعالى عدوّهم للعمل به
1 - سورة الأنفال / آية 65.
2 -
سورة التوبة / آية 123.
3 -
سورة التوبة / آية 73.
4 -
سورة محمد / آية 35.
ففاجأهم بالعدة والعدد- فبهتوا وخلت منه ثغورهم وقصورهم، ولم يتأخر عنهم ساعة فيستعدّوا ويثبتوا فندموا والله- وما نفع الندم- وتألموا في قلوبهم- وما نفعهم الألم فـ {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} ، ولمثل هذا فليفعل العاملون.
وأما مانع المعونة فهو باغ قطعاً لأنّه منع حقاً وجب عليه- كما تقدّم- فيجري عليه حكم البغاة، ويستعان بماله على قتاله، ويظهر غاية الظهور أنّه يؤخذ من ماله ما جهز به الإمام الجيوش التي قاتله بها، لأنّه ببغيه متسبب في إتلاف بيت المال فعليه ضمان ذلك في المال الذي بيده، وفي غيره، ولم أره مسطوراً إلاّ أنّه لا شكّ أنّ من تسبّب في إتلاف مال وجب عليه عزمه، ولعل هذا هو المستند في عدم ردّ الملوك اليوم أموالهم إليهم إذ الغالب أنّها لا تفي بما جهزوا به الجيوش المقاتلة، أو يقال مستندهم في ذلك سدّ الذريعة- على ما مرّ بيانه- وأيضاً فردّ أموالهم إنما هو إذا تأتى جمعها من الجيش ولم يخشى بغيهم بها ثانياً، وأيضاً قد تقدم أن العقوبة بالمال فيها نزاع ومال الباغي من ذلك قطعاً، بل ينبغي أن لا يدخلها الخلاف المتقدّم حيث رأى الإمام تضمينهم لما أفسدوه- أي تسبّبوا في إتلافه ببغيهم-، والقول بردّ أموالهم يحمل على ما إذا لم يرد الإمام تضمينهم، أو على أن الأئمة قالوا:(واستعين بمالهم عليهم) والاستعانة الحقيقيّة إنّها هي قبل القدرة عليهم، وهو قبلها لا تمكنه الاستعانة بمالهم لها- على الوجه المذكور- وهو: أن يجهز جيوشه ثم يضمنهم فذلك من الاستعانة قطعاً، وأمّا بعد القدرة فلا تتصوّر الاستعانة، لأنّه بعد القدرة لم يبق قتال بينهما يوجب الاستعانة بالمال، وأيضاً فإن الردّ مقيد بما إذا عُلِم أربابه، ولذا قال في (معاوضات المعيار":(يجوز شراء ما لم يُعْلم مالكه من الطعام الذي يجلبه الجيش من أمتعة الباغية) والله أعلم.
وكتب عبد ربّه- تعالى- على التُّسولي، لطف الله به، آمين.