الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ملحق رقم (2)
تقييد التُّسولي على فتوى علماء فاس وردّ الجزائريين عليها 1
ــ
لما فتح الروم ثغر الجزائر أعادها الله دار إسلام في الحرم سنة ست وأربعين ومائتين وألف، وغنموا سلطانها، وبقي ذلك الجو بلا أمير يجمع كلمتهم فدخلهم الرعب واختلّت الكلمة وغلب الفساد فيهم، فأتى رؤساؤهم وأهل الوجاهة منهم إلى أمير المؤمنين الآخذ لراية الكتاب والسنة باليمين، ظل الأمن والأمان مولانا عبد الرحمن سائلين منه الدخول في إيالته، وإجراء الأحكام فيهم بكلمته وسطوته، فاستشار- أيّده الله- قاضي هذه الحضرة الإدريسية وقتئذ وعلماءها فأفتوا بعدم قبولهم، لأن تلك إيالة أخرى وسلطانهم- وهو العثماني- سلطان إصطنبول لا زال قائماً موجوداً، فلما رأى علماء ذلك الجو وأهل الوجاهة منهم ما أفتى به قاضي فاس وعلماؤها كتبوا للسلطان المذكور- وهم يومئذ "بفاس"- ما نصّه:
(ليعلم سيّدنا قطب المجد ومركزه، ومحل الفخر ومحرزه، أساس الشرف الباذخ ومنبعه، وبساط الفضل الشامخ ومجمعه، السلطان الأعظم الأمجد الأفخم، نجل الملوك العظام سيّدنا ومولانا عبد الرحمن بن هشام، أبقى الله سيّدنا للمسلمين ذخراً، ومنحه مودّة وأجراً، أن فتوى سادتنا علماء "فاس" مبنيّة على غير أساس، لأنّهم اعتقدوا أن في عنقنا للإمام العثماني بيعة، وهذا لو صحّ لكان علينا حجة، وليس الأمر كذلك وإنما له مجرد الاسم هنالك، وعامل الجزائر
1 - أورده التُّسولي بتمامه في "الجواهر النفسية فيما يتكرر من الحوادث الغربية": 1/ 267 - أ، 268 - أ، وأورده السلاوي في الاستقصا: 9/ 27 - 29 ما ردّ به علماء الجزائر على فتوى علماء فاس في عدم قبول مبايعتهم.
إنّما كان متغلباً، وبالدين متلاعباً، فأهلكه الله بظلمه وتطاوله على عباد الله وجوره وفسقه، إنّ الله يمهل على الظالم حتى يأخذه، فإذا أخذه لم يفلته، ويدل على تغلبه وإستقلاله عدم وقوفه عند الأمر العثماني وإمتثاله، بل لا يكترث به أصلاً، ولا يتبع له قولاً ولا فعلاً، وقد أمره أن يعقد مع النصارى صلحاً فلم يقبل له قولاً ولا نصحاً، وطلب منه بعض الأموال ليستعين بها على ما حلّ به مع النصارى من الأهوال، فامتنع غاية الامتناع، ولم يمكنه من شبر منها فضلاً عن الباع، حتى أخذها العدوّ الكافر، وهذا جزاء كل فاسق فاجر، مال جمع من حرام سلّط الله عليه الأعداء اللّئام، وهذا كلّه من المتغلب متواتر مشاهد بالعيان، مستغن عن إقامة الدليل والبرهان، الناس كلهم عبيد الله وإماؤه، والسلطان واحد منهم ملّكه الله أمرهم إبتلاء وامتحاناً، فإن قام فيهم بالعدل والرحمة والإنصاف والاصلاح مثل سيّدنا- نصره الله- فهو خليفة الله في أرضه وظلّ الله على عبيده وله الدرجة عند الله- تعالى-، وإن قام فيهم بالجور والعسف والطغيان والفساد مثل هذا المتغلب فهو متجاسر على الله في مملكته، ومتسلّط ومتكبّر في الأرض بغير الحق ومتعرض لعقوبة الله الشديدة وسخطه، هذا وعلى فرض التسليم أن للعثماني في عنقنا بيعة، فلا تكون علينا حجة، لأنّه تباعد علينا قطره فلم يغن عنّا شيئاً ملكه، لما بيننا وبينه من المفاوز والقفار والبحار، والقرى والمدن والأمصار، وربما قرب محله من جهة البحر لكن منعه الآن من ركوبه الكفار، على أنّه ثبت بتواتر الأخبار البالغة حدّ الكثرة والانتشار أنّه مشتغل لنفسه ومقرّه عاجز عن الدفع عن إيالته القريبة من محلّه حتى أنّه هادن النصارى خمس سنين على عدد كثير من المئين، وأعطى فيهم منهم ضامن ليكون في المدة المذكورة على نفسه وحشمه آمناً، فكيف يمكنه مع هذا الدفاع عن قطرنا وناحيتنا وبلدنا، وأدل دليل على بعده عن هذا المرام خبر مصر ونواحي الشام، فقد استولى عليها أعداء الدين، مدة تزيد على الخمس سنين فلم يجد لهم نفعاً ولا ملك عنهم دفعاً حتى استعان بالعدوّ والكافر، والله- تعالى- قد يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر.
هذا وقد نصّ الآبي في "شرح مسلم" - "مفصح عن مثل قضيتنا ومعلم-: (على أن الإمام إذا لم ينفذ في ناحية أمره جاز إقامة غيره فيها ونصره) 1، فانتظار نصرته يؤدي إلى الهلاك، كيف وقد تطاولت إليها الأعناق وتشوفت إليها من كل جانب العيون والأحداق، فأعرضنا عن الكل صفحاً وطوينا عنه الجواب كشحاً، مقبلين على عتبة باب سيّدنا- نصره الله- وسدّته، داخلين تحت طاعته، ملتزمين لخدمته متوافقين مع القبائل والأمصار، وأهل الرأي والاستبصار، لعلمنا أنّ سيّدنا- نصره الله- المتأهل في هذا الأمر العريق، الجدير بالإمامة الحقيق، كيف وقد ورثها كابراً عن كابر وإليه إنتهت المآثر والمفاخر، فنطلب من سيّدنا- نصره الله- أنّ يلتزم لنا بفضله من هذه البيعة القبول، مستشفعين بجاه جدّه الرسول- صلى الله عليه وعلى آله الطيبين وصحابته المنتخبين وآخر دعوانا أنّ الحمد لله ربّ العالمين).
قال التُّسولي: (انتهى ما كتبه علماء ناحية الجزائر للسلطان المذكور، ولما وقف عليه- أيّده الله ونصره- قبل بيعتهم ودخولهم في إيالته، وخالف ما افتى به فقهاء فاس، فلما سئلت عن النازلة بعد قدومي من الغيبة- لأني كنت غائباً وقت فتوى فقهاء فاس فلم احضر معهم- دعاني الحال إلى أن قيدت في شأنها ما نصّه:
الحمد لله الباقي الذي لا يزول ولا يبيد، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد، الداعي إلى قتال كل جبار عنيد، وكفور صنديد، وعلى آله وأصحابه أولي السماحة والشجاعة، بلا مرية ولا تفنيد، وبعد:
فلا يخفى أنّ هؤلاء القوم اعترتهم فتنتان، فتنة فيما بينهم، وفتنة عدوّ الدين، وما يقال من وجوب العزل في الأولى يقال في الثانية بالأحرى، إذ وزان ذلك حرمة ضرب الوالدين المأخوذة من حرمة تأفيفهما بالفحوى، وقد أجمعت الأمة على أنّه إذا التقى ضرران ارتكب أخفهما، قال في
1 - أنظر: إكمال إكمال المعلم: 5/ 160.
"المواقف" 1 وشرحه: (وللأمة خلع الإمام وعزله لسبب يوجبه مثل أن يوجد منه ما يوجب اختلال أحوال المسلمين وانتكاس أمور الدين- كما كان لهم نصبه وأقامته- لانتظامهم وإعلائها، وإن أدى خلعه إلى الفتنة احتمل أي ارتكب أدنى المضرتين) 2 اهـ.
ولا يخفى أن إمام هؤلاء بغفلته وعدم تفقدّه للأحوال مع مضيّ مدة يمكنه فيها التفقد- لو كان على البال- وقع منه غاية الاختلال، وانتكس الدين مع ذلك إلى وراء، ونبذ بالعراء، على أنّه معلوم ما فعله علماء إفريقية- وفيهم للأمة أسوة وقدوة- من عزل الغائب المعهود له من أبيه بالخلافة، وبيعة أخيه الموجود بالحضرة لما خشي في إنتظار الغائب من توقّع الفتنة، وإذا كان هذا مع التوقع فكيف به مع الوقوع؟!، الذي يراود عن التمسك بالوثقى والدين المتين. وقد قال ابن حزم- رحمه الله في "مراتب الاجماع":(أجمعوا على أنّه لو نزل عدوّ الدين بساحة المسلمين، وقالوا إن لم تعطونا مال فلان استأصلناكم، لم يحل أن يعطوا ذلك، ولو خيف إستئصال المسلمين) 3 اهـ.
ولا يخفى أن عدم مبادرة القوم لإقامة الإمام وبقائهم على الحال تمكين للعدوّ - دمّره الله- من الاستيلاء على الرقاب والأموال، إذ لا مقاتل يتعيّن ولا مدافع يتبيّن. كيف وهو قد استولى على أعظم الثغور، وصارت تخلى رعباً منه المنازل والدور، إن دام هذا ولم يحدث له تغيير لم يبك لميت ولم يفرح لمولود.
وقد يقال على جهة التلميح: هؤلاء القوم اختلت كلمتهم وفسد نظامهم وكل من كان كذلك عظمت مفسدته بسفك الدماء ونهب الأموال واستيلاء
1 - المواقف في علم الكلام لأبي الفضل عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي: عالم بالأصول والمعاني والعربية. من أهل "ايج""بفارس"، ولي القضاء، وأنجب تلامذة عظاماً، وجرت له محنة مع صاحب كرمان، فحبسه بالقلعة، فمات مسجوناً سنة (756هـ).
أنظر: السيوطى: بغية الوعاة: 2/ 75 - 76، كبرى زادة- مفتاح السعادة:1/ 169).
2 -
أنظر: الإيجي- المواقف: 400.
3 -
بحثت عنه في كتاب "مراتب الاجماع" ولم أقف عليه.
أعداء الدين، وكل من كان كذلك وجب عليه نصب الإمام ولا ينتظر من كان، ينتج أن هؤلاء يجب عليهم نصب الإمام، ولا ينتظرون من كان، فدليل الصغرى والوسطى المشاهدة، ودليل الكبرى ما تقدّم، ولك أنّ تجعل الوسطى صغرى وتكتفي بها.
وبالجملة: فالنازلة لوضوح حكمها التحقت بضروريات العين، وصار إقامة الدليل عليها كإقامته على أنّ الواحد نصف الاثنين. ثم لا يخفى أنّ الكلام في العامل غير ضار، إذ لا علينا فيه عدل أو جار، سواء عزله الخليفة أو عليه ثار، وأيضاً فإنّ المتغلب تنعقد إمامته على الأصحّ دفعاً لفساده، إلاّ أنّه عاص بما فعله قاله:"سعد الدين التفتزاني" 1، إلاّ أنّه وإن تغلّب أو انعقدت إمامته بغير التغلب فقد وجب- لما مرّ- عدم مراعاتها. والسلام. علي التُّسولي- لطف الله به).
1 - مسعود بن عمر عبد الله التفتازاني، سعد الدين: من أئمة العربية والبيان والمنطق، ولد "بتفتازان"، وأقام "بسرخس"، وأبعده تيمورلنك إلى سمرقند، من كتبه:"تهذيب المنطق" و"المطول" في البلاغة، و"المختصر"، اختصر به شرح تلخيص المفتاح" وغيرها، مات بسمرقند ودفن بسرخس سنة 793هـ).
أنظر: السيوطى- بغية الوعاة: 2/ 285، الزركلي- الأعلام: 7/ 219.