الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الَّذين كَانُوا على حصارها بِعَدَمِ النصح فِي افتتاحها لِئَلَّا يبْعَث بهم بعْدهَا إِلَى حِصَار البريجة فيبعدوا عَن بِلَادهمْ مَعَ أَنهم قد سئموا كَثْرَة الْأَسْفَار ومشقات الحروب وَاسْتمرّ الْحَال إِلَى أَن مَاتَ الْقَائِد أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد الله الريفي وَولى بعده ابْنه الْقَائِد أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عَليّ والقتال لَا زَالَ وَالْحَال مَا حَال وَفِي كل سنة يتعاقب الْغُزَاة عَلَيْهَا وَالسُّلْطَان مشتغل بتمهيد الْمغرب ومقاتلة برابرة جبل فازاز وَغَيرهم وَلم يهيىء الله فتحهَا على يَدَيْهِ وَدَار الْقَائِد أَحْمد بن عَليّ ومسجده اللَّذَان بناهما بِإِزَاءِ سبتة أَيَّام الْحصار لَا زَالا قائمي الْعين والأثر إِلَى الْيَوْم وَحكى الغزال فِي رحلته أَنه رأى بِأحد أَبْوَاب سبتة خرقا قَدِيما لم يصلح فَسَأَلَ أَهلهَا عَنهُ فَقَالُوا إِنَّه من أثر الرَّمْي الَّذِي كَانَ يرميه الْجَيْش الْإِسْمَاعِيلِيّ وَهُوَ أثر كرة خرقت الْبَاب ونفذت إِلَى دَاخل الْبَلَد وَتَرَكْنَاهُ على حَاله ليعتبر بِهِ من يَأْتِي بَعدنَا ويزداد احْتِيَاطًا وحزما أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ وَالله تَعَالَى أعلم
غَزْو السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل برابرة فازاز وإيقاعه بهم
كَانَ السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رحمه الله فِي هَذِه الْمدَّة مشتغلا بتمهيد الْمغرب واستنزال أممه من معاقلهم إِلَى أَن فتح أقطاره كلهَا وَبنى قلاعها ورتب حاميتها وَلم يبْق لَهُ بالمغرب كُله إِلَّا قنة جبل فازاز الَّذِي فِيهِ آيت ومالو وآيت يَفِ المَال وآيت يسرى فعزم على النهوض إِلَيْهِ وافتضاض عذرته
وَلما أَرَادَ الْخُرُوج إِلَيْهِم اسْتخْلف على فاس الْجَدِيد كَبِير أَوْلَاده الْمولى أَبَا الْعَلَاء محرزا وَبعث إِلَى مراكش ابْنه الْمولى أَبَا الْيمن الْمَأْمُون وَترك بمكناسة ابْنه الْمولى مُحَمَّد الْمَدْعُو زَيْدَانَ وَكَانَ فَارس أَوْلَاده الْمَوْجُودين يَوْمئِذٍ
وَلما ولي الْمَأْمُون على مراكش أَمر برئيس الحضرة وَإِمَام الْكتاب الْفَقِيه أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد اليحمدي أَن يُعْطِيهِ التَّقْلِيد ويوصيه بِمَا تنبغي الْوِصَايَة بِهِ
وَكَانَ الْمولى الْمَأْمُون منحرفا عَن الْوَزير الْمَذْكُور فَمشى إِلَيْهِ على كره مِنْهُ وَحَازَ مِنْهُ التَّقْلِيد واستمع لوصيته امتثالا لأمر وَالِده ثمَّ عَاد إِلَيْهِ وَقَالَ يَا مَوْلَانَا إِن اليحمدي ينْقصك وَيَزْعُم أَنه الَّذِي علمك دينك فِي كَلَام آخر فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان رحمه الله وَالله إِن كَانَ قد قَالَ ذَلِك إِنَّه لصَادِق فَإِنَّهُ الَّذِي عَلمنِي ديني وعرفني بربي نقل هَذِه الْحِكَايَة صَاحب الْبُسْتَان وَصَاحب الْجَيْش وَكِلَاهُمَا قَالَ إِنَّه سَمعهَا من السُّلْطَان المرحوم الْمولى سُلَيْمَان بن مُحَمَّد رحمه الله وَهِي منقبة فخيمة للْمولى إِسْمَاعِيل فِي الخضوع للحق وَالِاعْتِرَاف بِهِ رحم الله الْجَمِيع
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَمِائَة وَألف وَالسُّلْطَان عازم على النهوض إِلَى فازاز وَبعث مَعَ ذَلِك بالراتب وَالْعدة إِلَى أهل فاس وَأمرهمْ بالنهوض إِلَى التّرْك مَعَ وَلَده الْمولى زَيْدَانَ فَخَرجُوا فِي رَمَضَان من السّنة وَبعد الْعِيد أَخذ السُّلْطَان فِي الاستعداد للنهوض إِلَى فازاز ثمَّ بدا لَهُ فَخرج فِي أثر الْمولى زَيْدَانَ فلحق بأطراف الْمغرب الْأَوْسَط وأبرم الصُّلْح مَعَ التّرْك وَرجع إِلَى الحضرة هَكَذَا سَاق صَاحب الْبُسْتَان هَذَا الْخَبَر وَالَّذِي رَأَيْته فِي نشر المثاني هُوَ مَا نَصه قد اخْتَار السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل الْفَقِيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد الطّيب الفاسي لعقد المهادنة مَعَ التّرْك فِي حُدُود سنة ثَلَاث وَمِائَة وَألف بعد وقْعَة المشارع مَعَهم لعلمه وفصاحته وبيته فَذهب نَحْو الجزائر صُحْبَة ولد السُّلْطَان وَهُوَ مولَايَ عبد الْملك وَمَعَهُمْ الْكَاتِب أَبُو عبد الله الْمَدْعُو الْوَزير وَغَيرهم من وُجُوه الدولة الإسماعيلية فَلَمَّا قاربوا الجزائر خرج صَاحبهَا فِي جنده وَقتل وَنهب حَتَّى انْتهى الْخَبَر إِلَى فاس بِأَنَّهُم قتلوا أجمع وصادف ذَلِك يَوْم عَاشُورَاء فَحزن النَّاس لذَلِك وأمسكوا عَن الْإِنْفَاق حَتَّى بَقِي مَا عهد أَن يَشْتَرِي فِي ذَلِك الْيَوْم ملقى لما عرا النَّاس من الْغم ثمَّ جَاءَ الْخَبَر بِأَنَّهُم قادمون بعافية وَأَنَّهُمْ وصلوا إِلَى تازا ففرح النَّاس واستأنفوا الْإِنْفَاق كَيَوْم عَاشُورَاء وَمَات بايشي القبلي فولى السُّلْطَان عَليّ زمور وَبني حكم وَلَده أَبَا الْحسن عَليّ بن يشي
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَمِائَة وَألف وفيهَا تهَيَّأ السُّلْطَان للنهوض إِلَى البربر
أهل فازاز فاستنفر الْقَبَائِل وحشد الجيوش واستعد الاستعداد التَّام بالمدافع والمهاريس والمجانيق وَسَائِر آلَات الْحصار فَنزل رحمه الله فِي جند العبيد ببسيط آدخسان ورتب على البرابر العساكر من كل جِهَة فَبعث الباشا مساهلا فِي خَمْسَة وَعشْرين ألفا من الرُّمَاة طلع بهَا من تادلا على وَادي العبيد حَتَّى نزل خلف آيت يسري وَبعث عَليّ بن بَرَكَات مَعَ آيت يمو وآيت أدراسن فنزلوا بتغالين وَبعث عَليّ بن يشي مَعَ زمور وَبني حكم وَأمره أَن ينزل بِعَين شوعة وَبعث إِلَى أهل تدغة وفركلة وغريس والصباح أَن يقدموا بجموعهم على عَليّ بن يشي وَبعث إِلَيْهِ مَعَ ذَلِك بعسكر الطبجية بالمدافع والمهاريس وَسَائِر آلَات الْحَرْب وَبعث نَصَارَى العرائش يجرونها على طَرِيق آعليل ثمَّ على قصر بني مطير إِلَى أَن اجْتَمعُوا بعلي بن يشي على عين شوعة
وَضرب السُّلْطَان لأمراء الْجنُود لإنشاب الْحَرْب موعدا مَعْلُوما وَقَالَ لَهُم إِذا كَانَ وَقت الْعشَاء من لَيْلَة كَذَا فليأخذ الطبجية فِي إِخْرَاج المدافع والمهاريس بالكور والبنب طول ليلتهم ليحصل للبربر الدهش فَإِذا أَصْبَحْتُم فليقدم كل قَائِد من ناحيته ولينشب الْحَرْب ليَكُون الْقِتَال فِي سَاعَة وَاحِدَة من جَمِيع الْجِهَات فَفَعَلُوا مَا أَشَارَ بِهِ عَلَيْهِم
وَلما كَانَت اللَّيْلَة الْمعينَة لم يرع البربر إِلَّا رعود المدافع والمهاريس تصعق فِي الجو ونيرانها تنقدح فِي ظلمات اللَّيْل وأصداء الْجبَال تتجاوب من كل نَاحيَة فَقَامَتْ عَلَيْهِم الْقِيَامَة وظنوا أَن الأَرْض قد زَالَت بهم فقوضوا أبنيتهم وحملوا عيالاتهم للفرار وصاروا لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَة وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلا وَلما أَصْبحُوا زحف إِلَيْهِم السُّلْطَان من ناحيته وزحفت إِلَيْهِم العساكر من بَاقِي الْجِهَات وَاشْتَدَّ الْقِتَال فَانْهَزَمُوا وَتَفَرَّقُوا فِي الشعاب والأودية شذر مدر وَصَارَ كل من قصد مِنْهُم ثنية أَو منفذا وجد العساكر مقبلة مِنْهَا والمدافع مصوبة نَحْوهَا فَحل بهم الْقَضَاء وَتصرف فيهم الْبلَاء كَيفَ شَاءَ فقتلت رِجَالهمْ وسبيت نِسَاؤُهُم وَأَوْلَادهمْ وَنهب أثاثهم وحيزت مَوَاشِيهمْ وأنعامهم واستلبت خيلهم وسلاحهم واستحر الْقَتْل والنهب فيهم
ثَلَاثَة أَيَّام والعساكر تلتقطهم من الأودية والشعاب وتستخرجهم من الكهوف والغيران وَأمر السُّلْطَان قواده مساهلا وَعلي بن يشي وَعلي بن بَرَكَات بِجمع رُؤُوس الْقَتْلَى وَجمع الْخَيل وَالسِّلَاح ويوافوه بِهِ لآدخسان فَجمعُوا مَا عثروا عَلَيْهِ من ذَلِك فَكَانَ عدد الرؤوس ينيف على اثْنَي عشر ألفا وَعدد الْخَيل الفحول ينيف على عشرَة آلَاف وَعدد المكاحل ينيف على ثَلَاثِينَ ألفا وبالاستيلاء على هَؤُلَاءِ البربر كمل للسُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رحمه الله فتح الْمغرب وَاسْتولى عَلَيْهِ كُله وَلم يبْق بِهِ عرق ينبض وَكتب فِي الدِّيوَان من آيت يمور ألف فَارس أنزلهم مَعَ عَليّ بن بَرَكَات بقلعة تغالين وَأنزل محلتهم على رَأس منزل آيت ومالو وَلم يتْرك لقبيلة من قبائل الْمغرب خيلا وَلَا سِلَاحا وَإِنَّمَا كَانَت الْخَيل وَالسِّلَاح عِنْد العبيد والودايا وآيت يمور وَأهل الرِّيف الْمُجَاهدين بسبتة
قَالَ أَبُو عبد الله أكنسوس رحمه الله وَكَانَ الْمولى إِسْمَاعِيل رحمه الله ارْتكب أخف الضررين وَأدنى المفسدتين فِي إضعاف قبائل الْمُسلمين بسلب الْخَيل وَالسِّلَاح مَعَ أَن الْمَطْلُوب هُوَ تقويتهم بذلك لمقابلة الْعَدو الْكَافِر قَالَ تَعَالَى {وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم من قُوَّة وَمن رِبَاط الْخَيل} الانفال 60 الْآيَة وَرَأى الْمولى إِسْمَاعِيل أَنه لما أعد ذَلِك الْعَسْكَر الْقوي الشَّديد قَامَ عَن الْمُسلمين بِوَاجِب وكفاهم كل مُؤنَة وأراحهم من كلفة الْقيام بِالْخَيْلِ وَالسِّلَاح مَعَ أَن الْفساد الَّذِي يظْهر مِنْهُم عِنْد ملك الْخَيل وَالسِّلَاح أعظم وَذَلِكَ بِقطع الطرقات وَنهب الْأَمْوَال وخلع الْيَد من الطَّاعَة قَالَ وَهَذَا الْقدر الَّذِي اعتذرنا بِهِ عَن السُّلْطَان ظَاهر غَايَة الظُّهُور وَلَعَلَّه خَفِي على الشَّيْخ اليوسي حَتَّى كتب إِلَيْهِ برسالته الْمَشْهُورَة اهـ
قلت مَا فعله السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رحمه الله من ذَلِك ظَاهر الْمصلحَة لَا يخفى على أحد وجد استحسانه وَلَا يتَوَهَّم عَاقل أَن أهل فازاز وَمن فِي معناهم يتخذون الْخَيل وَالسِّلَاح للْجِهَاد يَوْمًا مَا فَلَا يحْتَاج السُّلْطَان رحمه الله فِي مثل ذَلِك إِلَى الِاعْتِذَار وَقَوله أَن ذَلِك الِاعْتِذَار خَفِي على اليوسي لَيْسَ على مَا يَنْبَغِي لِأَن الشَّيْخ اليوسي رحمه الله مَا تكلم مَعَ
السُّلْطَان فِي أَمر أُولَئِكَ الْقَبَائِل وَمن فِي معناهم وَإِنَّمَا كَلَامه مَعَه فِي أُمُور ثَلَاثَة الأول فِي جباية المَال من وَجهه وَصَرفه فِي وَجهه الثَّانِي فِي إِقَامَة رسم الْجِهَاد وشحن الثغور كلهَا بالمقاتلة وَالسِّلَاح الثَّالِث فِي الأنتصاف من الظَّالِم للمظلوم وكف الْيَد العادية عَن الرّعية
وَنَصّ هَذِه الرسَالَة الْحَمد لله وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه أَجْمَعِينَ قطب الْمجد ومركزه ومحاز الْفَخر ومأرزه وأساس الشّرف الباذخ ومنبعه ومناط الْفضل الشامخ ومجمعه السُّلْطَان الْأَعْظَم الْأَجَل الآفخم مَوْلَانَا إِسْمَاعِيل ابْن مَوْلَانَا الشريف لَا زَالَت أَعْلَامه منصورة وأيامه على الْعِزّ واليمن مَقْصُورَة سَلام على سيدنَا وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته هَذَا وَلَا زَائِد عندنَا سوى الْمحبَّة لسيدنا وَغَايَة التَّعْظِيم والإجلال وَالدُّعَاء لسيدنا بِصَالح الْأَحْوَال وَذَلِكَ بعض مَا أوجبته يَده المبسوطة علينا بِالْبرِّ وَالْإِحْسَان وَالْفضل والامتنان والتوقير والاحترام والإنعام وَالْإِكْرَام مَعَ مَا لَهُ علينا وعَلى غَيرنَا من الْحُقُوق الَّتِي أوجبتها مَنْزِلَته السُّلْطَانِيَّة ومثابته الطوقية الفاطمية فكتبنا هَذِه البطاقة وَهِي فِي الْوَقْت مُنْتَهى الطَّاقَة وَكُنَّا كثيرا مَا نرى من سيدنَا التشوق إِلَى الموعظة والنصح وَالرَّغْبَة فِي استفتاح أَبْوَاب الرِّبْح والنجح فأردنا أَن نرسل إِلَى سيدنَا مَا أَن وفْق إِلَى النهوض إِلَيْهِ رجونا لَهُ ربح الدُّنْيَا وَالْآخِرَة والارتقاء إِلَى الدَّرَجَات الفاخرة ورجونا وَإِن لم نَكُنْ أَهلا لِأَن نعظ أَن يكون سيدنَا أَهلا لِأَن يتعظ وَأَن يحتمي من جَمِيع المذام ويحتفظ فَليعلم سيدنَا أَن الأَرْض وَمَا فِيهَا ملك لله تَعَالَى لَا شريك لَهُ وَالنَّاس عبيد الله سُبْحَانَهُ وإماء لَهُ وَسَيِّدنَا وَاحِد من العبيد وَقد ملكه الله عبيده ابتلاء وامتحانا فَإِن قَامَ عَلَيْهِم بِالْعَدْلِ وَالرَّحْمَة والإنصاف والإصلاح فَهُوَ خَليفَة الله فِي أرضه وظل الله على عبيده وَله الدرجَة الْعَالِيَة عِنْد الله تَعَالَى وَإِن قَامَ بالجور والعنف والكبرياء والطغيان والإفساد فَهُوَ متجاسر على مَوْلَاهُ فِي ملكته ومتسلط ومتكبر فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق ومتعرض لعقوبة مَوْلَاهُ الشَّدِيدَة وَسخطه وَلَا يخفى على سيدنَا حَال من تسلط على رَعيته يروم تملكهم بِغَيْر إِذْنه كَيفَ يفعل بِهِ يَوْم يتَمَكَّن مِنْهُ ثمَّ
نقُول إِن على السُّلْطَان حقوقا كَثِيرَة لَا تفي بهَا البطاقة ولنقتصر مِنْهَا على ثَلَاثَة هِيَ أمهاتها الأول جمع المَال من حق وتفريقه فِي حق الثَّانِي إِقَامَة الْجِهَاد لإعلاء كلمة الله وَفِي مَعْنَاهُ تعمير الثغور بِمَا تحْتَاج إِلَيْهِ من عدد وعدة الثَّالِث الانتصاف من الظَّالِم للمظلوم وَفِي مَعْنَاهُ كف الْيَد العادية عَلَيْهِم مِنْهُم وَمن غَيرهم وَهَذِه الثَّلَاثَة كلهَا قد اختلت فِي دولة سيدنَا فَوَجَبَ علينا تنبيهه لِئَلَّا يعْتَذر بِعَدَمِ الِاطِّلَاع والغفلة فَإِن تنبه وَفعل فقد فَازَ وَذَلِكَ صَلَاح الْوَقْت وَصَلَاح أَهله وسبوغ النِّعْمَة وشمول الرَّحْمَة وَإِلَّا فقد أدينا الَّذِي علينا أما الْأَمر الأول فَليعلم سيدنَا أَن المَال الَّذِي يجبى من الرّعية قد أعد للْمصَالح الَّتِي يَنْتَظِم بهَا الدّين وَتصْلح الدُّنْيَا من أهل الْبَيْت وَالْعُلَمَاء والقضاة وَالْأَئِمَّة والمجاهدين والأجناد والمساجد والقناطر وَغير ذَلِك من الْمصَالح وَمِثَال هَؤُلَاءِ كأيتام لَهُم دُيُون قد عجزوا عَن قبضهَا إِلَّا بوكيل وَمِثَال الرّعية مثل الْمديَان وَالسُّلْطَان هُوَ الْوَكِيل فَإِن استوفى الْوَكِيل الدّين بِلَا زِيَادَة وَلَا نُقْصَان وَأَدَّاهُ إِلَى الْيَتَامَى يحْسب مَا يجب لكل فقد برىء من اللوم وَلم تبْق عَلَيْهِ تباعة للمديان وَلَا للْيَتِيم وَحصل لَهُ أَجْرَانِ أجر الْقَبْض وَأجر الدّفع وَإِن هُوَ زَاد على الدّين الْوَاجِب بِغَيْر رضى الْمديَان فَهُوَ ظَالِم لَهُ أَو نقص الْيَتِيم من حَقه الْوَاجِب لَهُ فَهُوَ ظَالِم لَهُ وَكَذَا إِن استوفى الدُّيُون وأمسكها وَلم يَدْفَعهَا لأربابها فَهُوَ ظَالِم فَلْينْظر سيدنَا فَإِن جباة مَمْلَكَته قد جروا ذيول الظُّلم على الرّعية فَأَكَلُوا اللَّحْم وَشَرِبُوا الدَّم وامتشوا الْعظم وامتصوا المخ وَلم يتْركُوا للنَّاس دينا وَلَا دنيا أما الدُّنْيَا فقد أخذوها وَأما الدّين فقد فتنوهم عَنهُ وَهَذَا شَيْء شهدناه لاشيء ظنناه ثمَّ إِن أَرْبَاب الْحُقُوق قد ضَاعُوا وَلم تصل إِلَيْهِم حُقُوقهم فعلى السُّلْطَان أَن يتفقد الجباة ويكف أَيْديهم عَن الظُّلم وَلَا يغتر بِكُل من يزين لَهُ الْوَقْت فَإِن كثيرا من الدائرين بِهِ طلاب الدُّنْيَا لَا يَتَّقُونَ الله تَعَالَى وَلَا يتحفظون من المداهنة والنفاق وَالْكذب وَفِي أفضل مِنْهُم قَالَ جده أَمِير الْمُؤمنِينَ مَوْلَانَا عَليّ بن أبي طَالب كرم الله وَجهه الْمَغْرُور من غررتموه اه وَأَن يتفقد الْمصَالح ويبسط يَد الْفضل على خَواص النَّاس من أهل الْفضل وَالدّين وَالْخَيْر ليكتسب محبتهم وثناءهم ونصرهم كَمَا قيل
(أفاتكم النعماء مني ثَلَاثَة
…
يَدي ولساني وَالضَّمِير المحجبا)
وَقد جبلت الْقُلُوب على حب من أحسن إِلَيْهَا وَلَا يهملهم فيتمنوا غَيره ويتطلبوا دولة أُخْرَى كَمَا قيل
(إِذا لم يكن للمرء فِي دولة امرىء
…
نصيب وَلَا حَظّ تمنى زَوَالهَا)
(وَمَا ذَاك من بغض لَهَا غير أَنه
…
يُرِيد سواهَا فَهُوَ يهوى انتقالها)
وليعلم سيدنَا أَن السُّلْطَان إِذا أَخذ أَمْوَال الْعَامَّة ونثرها فِي الْخَاصَّة وشيد بهَا الْمصَالح فالعامة يذعنون ويعلمون أَنه سُلْطَان وتطيب قُلُوبهم بِمَا يرَوْنَ من إِنْفَاق أَمْوَالهم فِي مصالحهم وَإِلَّا فالعكس وَأَيْضًا السُّلْطَان متعرض للسهام الراشقة من دَعْوَة المظلومين من الرّعية فَإِذا أحسن إِلَى الْخَاصَّة دعوا لَهُ بِالْخَيرِ والسلامة والبقاء فيقابل دُعَاء بِدُعَاء وَالله الْمُوفق وَأما الْأَمر الثَّانِي فقد ضَاعَ أَيْضا وَذَلِكَ أَنه لم يتأت فِي الْوَقْت إِلَّا عمَارَة الثغور وَسَيِّدنَا قد غفل عَنْهَا فقد ضعفت الْيَوْم غَايَة وَقد حضرت بِمَدِينَة تطاوين أَيَّام مَوْلَانَا الرشيد رحمه الله فَكَانُوا إِذا سمعُوا الصَّرِيخ تهتز الأَرْض خيلا ورماة وَقد بَلغنِي الْيَوْم أَنهم سمعُوا صريخا من جَانب الْبَحْر ذَات يَوْم فَخَرجُوا يسعون على أَرجُلهم بِأَيْدِيهِم العصي والمقاليع وَهَذَا وَهن فِي الدّين وغرر على الْمُسلمين وَإِنَّمَا جَاءَهُم الضعْف من المغارم الثَّقِيلَة وتكليفهم الحركات وَإِعْطَاء الْعدة كَسَائِر النَّاس فعلى سيدنَا أَن يتفقد السواحل كلهَا من قلعية إِلَى ماسة ويحرضهم على الْجِهَاد والحراسة بعد أَن يحسن إِلَيْهِم ويعفيهم مِمَّا يُكَلف بِهِ غَيرهم وَيتْرك لَهُم خيلهم وعدتهم ويزيدهم مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فهم حماة بَيْضَة الْإِسْلَام ويتحرى فِيمَن يوليه تِلْكَ النواحي أَن يكون أَشد النَّاس رَغْبَة فِي الْجِهَاد ونجدة فِي المضايق وغيرة على الْإِسْلَام وَلَا يولي فِيهَا من همته ملْء بَطْنه والاتكاء على أريكته وَالله الْمُوفق
وَأما الْأَمر الثَّالِث فقد اخْتَلَّ أَيْضا لِأَن المشعبين للانتصاف بَين النَّاس فِي الْبلدَانِ وهم الْعمَّال وخدامهم هم المشتغلون بظُلْم النَّاس فَكيف يزِيل
الظُّلم من يَفْعَله وَمن ذهب يشتكي سَبَقُوهُ إِلَى الْبَاب فزادوا عَلَيْهِ فَلَا يقدر أحد أَن يشتكي فليتق الله سيدنَا وليتق دَعْوَة الْمَظْلُوم فَلَيْسَ بَينهَا وَبَين الله حجاب وليجهد فِي الْعدْل فَإِنَّهُ قوام الْملك وَصَلَاح الدّين وَالدُّنْيَا قَالَ تَعَالَى {إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان وإيتاء ذِي الْقُرْبَى وَينْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر وَالْبَغي} الْآيَة وَقَالَ تَعَالَى {ولينصرن الله من ينصره إِن الله لقوي عَزِيز} الْحَج 40 ثمَّ ذكر تَعَالَى المنصورين وشروط النَّصْر فَقَالَ {الَّذين إِن مكناهم فِي الأَرْض أَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة وَأمرُوا بِالْمَعْرُوفِ ونهوا عَن الْمُنكر} الْحَج 41 فضمن تَعَالَى للملوك النَّصْر وَشرط عَلَيْهِم هَذِه الْأُمُور الْأَرْبَعَة فَمَتَى اخْتَلَّ عَلَيْهِم أَمر الرّعية وتسلط عَلَيْهِم من يفْسد عَلَيْهِم الدولة فليعلموا أَن ذَلِك من إخلالهم بِهَذِهِ الْأُمُور فَكَانَ عَلَيْهِم الرُّجُوع إِلَى الله تَعَالَى وتفقد مَا أَمرهم بِهِ ورعاية مَا استرعاهم إِيَّاه وَقد اتّفقت حكماء الْعَرَب والعجم على أَن الْجور لَا يثبت مَعَه الْملك وَلَا يَسْتَقِيم وَأَن الْعدْل يَسْتَقِيم مَعَه الْملك وَلَو مَعَ الْكفْر وَقد عَاشَ الْمُلُوك من الْكَفَرَة المئين من السنين فِي الْملك المنتظم والكلمة المسموعة والراحة من كل منغص لما كَانُوا عَلَيْهِ من الْعدْل فِي الرّعية استصلاحا لدنياهم فَكيف بِمن يَرْجُو صَلَاح الدُّنْيَا وَالدّين قَالَ بعض الْحُكَمَاء الْملك بِنَاء والجند أساسه وَإِذا ضعف الأساس سقط الْبناء فَلَا سُلْطَان إِلَّا بجند وَلَا جند إِلَّا بِمَال وَلَا مَال إِلَّا بجباية وَلَا جباية إِلَّا بعمارة وَلَا عمَارَة إِلَّا بِالْعَدْلِ فالعدل أساس الْجَمِيع وَقد صنع أرسطوطاليس الْحَكِيم للْملك الْإِسْكَنْدَر الشكل الْمُسْتَند عَنهُ وَكتب عَلَيْهِ الْعَالم بُسْتَان سياجه الدولة الدولة سُلْطَان تعضده السّنة السّنة سياسة يسوسها الْملك رَاع يعضده الْجَيْش الْجَيْش أعوان يكفلهم المَال المَال رزق يجمعه الرّعية الرّعية عبيد يقودهم الْعدْل الْعدْل مألوف وَبِه صَلَاح الْعَالم الْعَالم بُسْتَان إِلَى آخِره وَقَالَ صلى الله عليه وسلم كلكُمْ رَاع وكلكم مسؤول عَن رَعيته وَقَالَ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن رجَالًا يَخُوضُونَ فِي مَال الله بِغَيْر حق لَهُم النَّار يَوْم الْقِيَامَة أَو كَمَا قَالَ وَقَالَ صلى الله عليه وسلم مَا من وَال يَلِي ولَايَة إِلَّا جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة ويداه مغلولتان فَأَما عدل يفكه وَأما جور يوبقه وَعَن مَوْلَانَا عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه قَالَ رَأَيْت عمر على قتب يعدو بِهِ بعيره بِالْأَبْطح فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَيْن تسير فَقَالَ بعيره من إبل الصَّدَقَة شرد أطلبه فَقلت أذللت الْخُلَفَاء من بعْدك فَقَالَ لَا تلمني فوالذي بعث مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ لَو أَن عنَاقًا ضلت بشاطىء الْفُرَات لأخذ بهَا عمر يَوْم الْقِيَامَة إِنَّه لَا حُرْمَة لوال ضيع الْمُسلمين وَلَا لفَاسِق روع الْمُؤمنِينَ وَقد رأى رضي الله عنه شَيخا يَهُودِيّا يسْأَل على الْأَبْوَاب فَقَالَ مَا أنصفناك أَخذنَا مِنْك الْجِزْيَة مَا دمت شَابًّا ثمَّ ضيعناك الْيَوْم وَأمر أَن يجْرِي عَلَيْهِ قوته من بَيت المَال وليعلم سيدنَا أَن أول الْعدْل أَن يعدل فِي نَفسه فَلَا يَأْخُذ لنَفسِهِ من المَال إِلَّا بِحَق وليسأل الْعلمَاء عَمَّا يَأْخُذ وَمَا يُعْطي وَمَا يَأْتِي وَمَا يذر وَقد كَانَ بَنو إِسْرَائِيل يكون فيهم الْأَمِير على يَد نَبِي فالنبي يَأْمر والأمير ينفذ لَا غير وَلما كَانَت هَذِه الْأمة المرحومة انْقَطَعت مِنْهَا النُّبُوَّة بنبيها خَاتم النَّبِيين صلى الله عليه وسلم فَلم يبْق إِلَّا الْعلمَاء يقْتَدى بهم قَالَ صلى الله عليه وسلم عُلَمَاء أمتِي كأنبياء بني إِسْرَائِيل فَكَانَ حَقًا على هَذِه الْأمة أَن يتبعوا الْعلمَاء ويتصرفوا على أَيْديهم أخذا وَعَطَاء وَقد توفّي صلى الله عليه وسلم واستخلف أَبُو بكر رضي الله عنه وَكَانَ قبل ذَلِك يَبِيع وَيَشْتَرِي فِي السُّوق على عِيَاله فَلَمَّا بُويِعَ أَخذ مَاله الَّذِي للتِّجَارَة وَذهب للسوق على عَادَته حَتَّى رده عُلَمَاء الصَّحَابَة وَقَالُوا إِنَّك فِي شغل بِأَمْر الْخلَافَة عَن السُّوق وفرضوا لَهُ مَا يَكْفِيهِ مَعَ عِيَاله وَجعلُوا المَال على يَد أَمِين فَكَانَ هُوَ وَغَيره فِيهِ سَوَاء يَأْخُذ مِنْهُ بِمَا اقتضته الشَّرِيعَة لنَفسِهِ وَلغيره وَهَكَذَا سيرة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين من بعده فعلى سيدنَا أَن يَقْتَدِي بهؤلاء الْفُضَلَاء وَلَا يَقْتَدِي بِأَهْل الْأَهْوَاء وليسأل من مَعَه من الْفُقَهَاء الثِّقَات كسيدي مُحَمَّد بن الْحسن وسيدي أَحْمد ابْن سعيد وَغَيرهمَا من الْعلمَاء العاملين الَّذين يَتَّقُونَ الله وَلَا يخَافُونَ فِي الله
لومة لائم فَمَا أَمرُوهُ بِهِ مِمَّا ذَكرْنَاهُ وَمِمَّا لم نذكرهُ فعله وَمَا نهوه عَنهُ انْتهى هَذِه طَريقَة النجَاة إِن شَاءَ الله تَعَالَى نسْأَل الله تَعَالَى أَن يرْزق سيدنَا تَوْفِيقًا وتسديدا وإرشادا وتأييدا وَأَن يصلح بِوُجُودِهِ الْبِلَاد والعباد وَأَن يحسم بِسَيْفِهِ أهل الزيغ والعناد آمين وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
وَلما فرغ السُّلْطَان رحمه الله من وقْعَة فازاز وآيت ومالو دَعَا عَليّ بن يشي وَعقد لَهُ على عشرَة آلَاف من الْخَيل وَقَالَ لَهُ لَا أرى وَجهك إِلَّا إِذا أغرت على كروان وأتيتني مِنْهُم بِعَدَد هَذِه الرؤوس الَّتِي هُنَا لأَنهم كَانُوا بوادي زيز يعيثون فِي طَرِيق سجلماسة وينهبون الرفاق فَسَار عَليّ بن يشي حَتَّى صبحهمْ وهم عارون فنهب حللهم ومواشيهم وَقتل مِنْهُم الْعدَد الْكثير ثمَّ نَادَى فِي تِلْكَ الْقَبَائِل كلهَا من أَتَى بِرَأْس كرواني فَلهُ عشرَة مَثَاقِيل فَصَارَ كل من انحاز إِلَيْهِ أحد مِنْهُم يقطع رَأسه وَيَأْتِي بِهِ إِلَيْهِ وَاسْتمرّ الْبَحْث عَنْهُم فِي الْمدر والوبر إِلَى أَن قضى من جماجمهم الوطر وَلما اجْتمعت عِنْده أعْطى كل من أَتَى بِرَأْس مِثْقَالا وَاحِدًا وَجَاء إِلَى السُّلْطَان بِاثْنَيْ عشر ألف رَأس كَمَا اقترح عَلَيْهِ وفْق مَا اجْتمع مِنْهَا بآدخسان فَشكر لَهُ فعله وولاه على قبائل الْعَرَب والبربر
وَدخلت سنة خمس وَمِائَة وَألف فَلم يكن فِيهَا شَيْء يذكر
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَمِائَة وَألف فَفِي ربيع مِنْهُ خرج الْمولى زَيْدَانَ ابْن السُّلْطَان بالعساكر قَاصِدا نَاحيَة تلمسان بعد أَن قتل النَّائِب بفاس أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد السلاوي فقاتل التّرْك وَنهب وَرجع
ثمَّ دخل سنة سبع وَمِائَة وَألف فَلم يكن فِيهَا شَيْء يذكر
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَمِائَة وَألف فَفِي يَوْم عَرَفَة مِنْهَا قدم عشرَة رجال من إصطنبول وَمَعَهُمْ كتاب من السُّلْطَان مصطفى بن مُحَمَّد العثماني صَاحب الْقُسْطَنْطِينِيَّة الْعُظْمَى إِلَى السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل يندبه إِلَى الصُّلْح مَعَ أهل الجزائر فَانْتدبَ رحمه الله وامتثل