الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلِأَنَّهُ فِيهِ حَيَاةُ الْحَيَوَانِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78]؛ وَلِأَنَّ الْعَصَبَ يُحِسُّ وَيَأْلَمُ وَكَذَلِكَ الضِّرْسُ، وَذَلِكَ دَلِيلُ الْحَيَاةِ.
وَأَمَّا مَا لَا يُحِسُّ مِنْهُ مِثْلُ الْقَرْنِ وَالظُّفُرِ وَالسِّنِّ إِذَا طَالَ فَإِنَّمَا هُوَ لِمُفَارَقَةِ الْحَيَاةِ مَا طَالَ، وَقَدْ كَانَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ نَجَاسَتَهُ، لَكِنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ اتِّصَالُهُ بِالْجُمْلَةِ تَبَعًا لَهَا وَدَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ بِتَنْجِيسِ ذَلِكَ كَمَا قُلْنَا فِيمَا حُشِيَ عَلَى الْعَقِبِ وَبُسِطَ عَلَى الْأَنَامِلِ وَسَائِرِ مَا يَمُوتُ مِنَ اللَّحْمِ وَلَمْ يَنْفَصِلْ، فَإِذَا انْفَصَلَ أَوْ مَاتَ الْأَصْلُ زَالَ الْمَانِعُ فَطَهُرَ عَلَى السَّبَبِ، وَتَعْلِيلُ نَجَاسَةِ اللَّحْمِ بِاحْتِقَانِ الرُّطُوبَاتِ فِيهِ قَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ.
[مَسْأَلَةٌ كُلُّ مَيْتَةٍ نَجِسَةٌ إِلَّا الْآدَمِيَّ]
مَسْأَلَةٌ:
" وَكُلُّ مَيْتَةٍ نَجِسَةٌ إِلَّا الْآدَمِيَّ ".
أَمَّا نَجَاسَةُ الْحَيَوَانِ بِالْمَوْتِ فِي الْجُمْلَةِ فَإِجْمَاعٌ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وَذَلِكَ يَعُمُّ أَكْلَهَا وَالِانْتِفَاعَ بِهَا وَغَيْرَ ذَلِكَ، لِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ. فَقَالَ: لَا هُوَ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَّلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ وَأَكَلُوا ثَمَنَهُ» ". رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.
وَالْكَلَامُ فِي فَصْلَيْنِ فِي أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ وَفِي أَجْنَاسِهَا؛ أَمَّا أَجْزَاؤُهَا فَاللَّحْمُ نَجِسٌ وَكَذَلِكَ الْجِلْدُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْعَظْمِ وَالشَّعْرِ. وَأَمَّا مَا لَا يَمُوتُ بِمَوْتِهَا كَالْبَيْضِ وَاللَّبَنِ فَإِنَّهُ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ لَكِنْ هَلْ يَنْجُسُ بِنَجَاسَةِ وِعَائِهِ؟ أَمَّا الْبَيْضُ فَإِذَا كَانَ قَدْ تَصَلَّبَ قِشْرُهُ فَهُوَ طَاهِرٌ مُبَاحٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ النَّجَاسَةِ كَمَا لَوْ غُمِسَ فِي مَاءٍ نَجِسٍ، وَكَمَا لَوْ طُبِخَ فِي خَمْرٍ أَوْ مَاءٍ نَجِسٍ؛ وَكَذَلِكَ لَوْ سَلَقَهُ فِي مَاءِ مِلْحٍ أَوْ مُرٍّ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: هُوَ طَاهِرٌ مُبَاحٌ وَإِنْ لَمْ يَتَصَلَّبْ؛ لِأَنَّ جُمُودَهَا وَغِشَاءَهَا الَّذِي هُوَ كَالْجِلْدِ مَعَ لِينِهِ يَمْنَعُ نُفُوذَ النَّجَاسَةِ إِلَيْهَا.
كَمَا لَوْ وَقَعَتْ فِي مَائِعٍ نَجِسٍ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا تَتَنَجَّسُ إِذَا لَمْ تَتَصَلَّبْ؛ لِأَنَّهَا فِي النُّمُوِّ، وَالْحَاجِزُ غَيْرُ حَصِينٍ فَلَا يَنْفَكُّ غَالِبًا مِنْ أَنْ يَشْرَبَ أَجْزَاءً عَقِيبَ الْمَوْتِ قَبْلَ ذَهَابِ حَرَارَةِ الْحَيَاةِ. وَأَمَّا اللَّبَنُ وَالْإِنْفَحَةُ فَطَاهِرٌ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ فَتَحُوا بِلَادَ الْمَجُوسِ وَأَكَلُوا مِنْ جُبْنِهِمْ مَعَ عِلْمِهِمْ بِنَجَاسَةِ ذَبَائِحِهِمْ، وَأَنَّ الْجُبْنَ إِنَّمَا يُصْنَعُ بِالْإِنْفَحَةِ، وَأَنَّ اللَّبَنَ لَمْ يَنْجُسْ بِالْمَوْتِ؛ إِذْ لَا حَيَاةَ فِيهِ وَلَا بِمُلَاقَاةِ وِعَائِهِ؛ لِأَنَّ الْمُلَاقَاةَ فِي الْبَاطِنِ لَا حُكْمَ لَهَا؛ إِذِ الْحُكْمُ بِالتَّنْجِيسِ إِنَّمَا يَتَسَلَّطُ عَلَى الْأَجْسَامِ الظَّاهِرَةِ.
وَلِذَلِكَ لَمْ يَنْجُسِ الْمَنِيُّ، وَالنَّجَاسَةُ تَخْرُجُ مِنْ مَخْرَجِ الْمَنِيِّ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَجِلْدُ الْإِنْفَحَةِ نَجِسٌ كَجِلْدِ الضَّرْعِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا فِيهِمَا، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى هُمَا نَجِسٌ وَهِيَ الْمَنْصُورَةُ؛ وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أُعِيدَ فِي
الضَّرْعِ بَعْدَ الْحَلْبِ أَوْ حَلَبْتَ فِي إِنَاءٍ نَجِسٍ، وَمَا عَلَّلُوا بِهِ يُنْتَقَضُ بِالْمُخِّ فِي الْعَظْمِ فَإِنَّهُ نَجِسٌ. وَأَمَّا الْمَنِيُّ وَالنَّجَاسَةُ فَمَيَّزَ لَهُ اللَّبَنُ الْخَارِجُ فِي الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَجُسَ مَا خَلَقَ طَاهِرًا فِي الْبَاطِنِ بِمَا يُلَاقِيهِ لِنَجِسٍ أَبَدًا، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ خُرُوجُهُ نَادِرٌ كَمَا لَوْ خَرَجَ الْمَنِيُّ وَالنَّجَاسَةُ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَمَا ذُكِرَ عَنِ الصَّحَابَةِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ أَكَلُوا مِنْ جُبْنِ بِلَادِ فَارِسَ؛ فَلِأَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُمْ يَهُودُ وَنَصَارَى يَذْبَحُونَ لَهُمْ فَحِينَئِذٍ لَا تَتَحَقَّقُ نَجَاسَةُ الْجُبْنِ، وَلِهَذَا كَتَبَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ إِلَى عُمَرَ يَذْكُرُ أَنَّ الْمَجُوسَ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَشْتَرُونَ جُبْنَهُمْ، وَإِنَّمَا يَشْتَرُونَ جُبْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ عَمَدَ الْمَجُوسُ وَصَلَّبُوا عَلَى الْجُبْنِ كَمَا يُصَلِّبُ أَهْلُ الْكِتَابِ لِيُشْتَرَى جُبْنُهُمْ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ مَا تَبَيَّنَ لَكُمْ أَنَّهُ مِنْ صَنْعَتِهِمْ فَلَا تَأْكُلُوهُ، وَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَكُمْ فَكُلُوهُ وَلَا تُحَرِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ. رَوَاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ.
وَقَالَ: قَدْ تَوَرَّعَ عُمَرُ وابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي خَاصَّةِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَكْلِ الْجُبْنِ إِلَّا مَا أَيْقَنُوا أَنَّهُ مِنْ جُبْنِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ خِيفَةَ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُبْنِ الْمَجُوسِ، وَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ: إِنَّا نَخَافُ أَنْ يَجْبُنَ الْجُبْنُ بِإِنْفَحَةِ الْمَيْتَةِ، فَقَالَ مَا عَلِمْتَ أَنَّهُ مَيْتَةٌ فَلَا تَأْكُلْ. وَأَمَّا أَجْنَاسُ الْمَيِّتِ فَكُلُّ مَيِّتٍ نَجِسٌ إِلَّا مَا يُبَاحُ أَكْلُهُ مَيِّتًا وَمَا لَيْسَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ وَمَا حُرِّمَ لِشَرَفِهِ وَقَدِ اسْتَثْنَاهَا الشَّيْخُ رحمه الله كَذَلِكَ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَالْقِيَاسِ، سَوَاءٌ كَانَ طَاهِرًا فِي الْحَيَاةِ أَوْ نَجِسًا لَكِنْ يَبْقَى نَجِسًا لِسَبَبَيْنِ كَمَا حَرَّمَ السَّبَبَيْنِ.
أَمَّا الْإِنْسَانُ فَلَا يَنْجُسُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى يَنْجُسُ لِعُمُومِ الْآيَةِ، وَوَقَعَ زِنْجِيٌّ فِي بِئْرِ زَمْزَمَ فَمَاتَ فَأَمَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِهَا تُنْزَحُ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ؛ وَلِأَنَّهُ ذُو نَفْسٍ سَائِلَةٍ لَا تُبَاحُ مَيْتَتُهُ فَنَجُسَ بِالْمَوْتِ كَالشَّاةِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظِ الدَّارَقُطْنِيِّ " «الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا» ". وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " «لَيْسَ عَلَيْكُمْ فِي مَيِّتِكُمْ غُسْلٌ إِذَا غَسَّلْتُمُوهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسٍ» ".
وَلِأَنَّ ذَلِكَ مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ فِي قَضَايَا مُتَعَدِّدَةٍ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مُخَالِفٌ؛ وَلِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مُسْلِمٌ فَلَمْ يَنْجُسْ بِالْمَوْتِ كَالشَّهِيدِ؛ فَإِنَّهُ
مُسْلِمٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ نَجُسَ لَمْ يَطْهُرْ بِالْغُسْلِ؛ وَلِأَنَّ الْمُوجِبَ لِطَهَارَتِهِ شَرَفُهُ، وَكَذَلِكَ لَا حَيًّا وَلَا مَيِّتًا، وَإِنْ قُلْنَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ بِحَسَبِ أَعْضَائِهِ بِالِانْفِصَالِ كَسَائِرِ الْحَيَوَانِ، فَأَمَّا الشَّعْرُ فَهُوَ طَاهِرٌ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْحَيَاةِ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ نَجِسٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْجُمْلَةِ كَالْيَدِ، سَوَاءٌ جُزَّ أَوْ تَسَاقَطَ بِخِلَافِ شَعْرِ الْمَأْكُولِ فَإِنَّهُ لَمَّا احْتِيجَ إِلَيْهِ كَانَ جَزُّهُ كَتَذْكِيَةٍ.
وَهَذَا ضَعِيفٌ كَمَا سَبَقَ وَيَطْهُرُ بِالْغَسْلِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ وَلَا يَنْجُسُ الشَّهِيدُ كَمَا لَا يَنْجُسُ دَمُهُ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ فَكَذَلِكَ أَعْضَاؤُهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ تَنْجُسُ وَإِنْ لَمْ يَنْجُسْ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ إِنَّمَا تَثْبُتُ لَهَا إِذَا كَانَتْ تَابِعَةً، وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْأَعْضَاءِ كَحُرْمَةِ الْجُمْلَةِ، وَهَذَا يَخْتَصُّ بِالْمُسْلِمِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَنْجُسُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَفِيَ لِلطَّهَارَةِ مِنَ الْأَثَرِ وَالْقِيَاسِ مَفْقُودٌ فِيهِ، وَسَبَبُ التَّنْجِيسِ مَوْجُودٌ فَعَمِلَ عَمَلَهُ، وَعُمُومُ كَلَامِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا يَقْتَفِي التَّسْوِيَةَ كَمَا فِي الْحَيَاةِ.