الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وُضُوءَهُ بِحَالِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ مُتَعَلِّقٌ بِظَاهِرِ الشَّعْرِ وَالظُّفْرِ، فَظُهُورُ الْبَاطِنِ لَا يُبْطِلُهُ، كَمَا لَوِ انْكَشَطَ جِلْدُهُ أَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ؛ وَلِهَذَا لَا يُجْزِئُ غَسْلُ الْبَشَرَةِ الْمُسْتَتِرَةِ بِاللِّحْيَةِ عَنْ ظَاهِرِهَا، بِخِلَافِ قَدَمِ الْمَاسِحِ وَرَأْسِهِ، وَفَرَّقَ أَحْمَدُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ هَذَا شَيْءٌ يَسِيرٌ فَهُوَ، كَمَا لَوْ نَتَفَ شَعْرَةً. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَلَّمَ أَظَافِرَهُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ:" أَلَا تَتَوَضَّأُ؟ " فَقَالَ: " أَتَوَضَّأُ؟ إِنَّكَ لَأَكْيَسُ مِمَّنْ سَمَّتْهُ أُمُّهُ كَيْسَانَ ". وَاسْتَحْسَنَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ يَمُرَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ؛ لِأَنَّ بَعْضَ السَّلَفِ أَوْجَبَ الْوُضُوءَ مِنْ ذَلِكَ، فَفِيهِ خُرُوجٌ مِنَ الِاخْتِلَافِ.
وَقَدْ رَوَى حَرْبٌ فِي مَسَائِلِهِ " أَنَّ عَلِيًّا كَانَ إِذَا قَلَّمَ أَظْفَارَهُ وَأَخَذَ شَارِبَهُ تَوَضَّأَ، وَإِذَا احْتَجَمَ اغْتَسَلَ " وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ وَالْقَاضِي اسْتِحْبَابُ مَسْحِهِ بِالْمَاءِ.
[مَسْأَلَةٌ أَكْلُ لَحْمِ الْإِبِلِ]
" مَسْأَلَةٌ "
" وَأَكْلُ لَحْمِ الْإِبِلِ "
هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي نَصِّهِ وَمَذْهَبِهِ، وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا رِوَايَةً أُخْرَى: أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ كَسَائِرِ اللُّحُومِ وَالْأَطْعِمَةِ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ مِنْهُ مَنْسُوخٌ بِمَا رَوَى جَابِرٌ قَالَ: «كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرْكَ
الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. وَقَالَ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ: "«الْوُضُوءُ مِمَّا خَرَجَ وَلَيْسَ مِمَّا دَخَلَ» " رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ.
أَوْ يَكُونُ الْوُضُوءُ أُرِيدَ بِهِ غَسْلُ الْيَدِ وَالْفَمِ، فَإِنَّهُ يُسَمَّى وُضُوءًا، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُسْتَحَبًّا فِي جَمِيعِ الْأَطْعِمَةِ لَا سِيَّمَا مِنَ الدَّسَمِ، فَإِنَّ لَحْمَ الْإِبِلِ فِيهِ زِيَادَةُ زُهُومَةٍ وَحَرَارَةٍ. كَمَا حَمَلَ بَعْضُهُمُ الْوُضُوءَ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ تَلَوُّثِ الْيَدِ بِمَسِّهِ لَا سِيَّمَا مِنَ الْمُسْتَجْمِرِينَ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ اسْتِحْبَابًا. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم:" «أَنَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ " قَالَ: " إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَتَوَضَّأْ " قَالَ: " أَنَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ؟ " قَالَ: " نَعَمْ تَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ " قَالَ: " أُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ؟ " قَالَ: " نَعَمْ " قَالَ: " أُصَلِّي فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ؟ " قَالَ: " لَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ.
وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ فَقَالَ: " تَوَضَّأْ مِنْهَا ". وَسُئِلَ عَنْ لُحُومِ الْغَنَمِ فَقَالَ: " لَا تَتَوَضَّأْ مِنْهَا ". وَسُئِلَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ فَقَالَ: " لَا تُصَلُّوا فِيهَا "، فَإِنَّهَا مِنَ الشَّيَاطِينِ ". وَسُئِلَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ فَقَالَ: " صَلُّوا فِيهَا فَإِنَّهَا بَرَكَةٌ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: " «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَتَوَضَّأَ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَلَا نَتَوَضَّأَ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ، مِنْ حَدِيثِ ذِي الْغِرَّةِ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: " صَحَّ فِي الْبَابِ حَدِيثَانِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ؛ حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ " وَهَذِهِ سُنَنٌ صَحِيحَةٌ يَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا، وَلَا يَصِحُّ ادِّعَاءُ نَسْخِهِ؛ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ لَحْمِ الْغَنَمِ، فَأَمَرَ بِالْوُضُوءِ مِنْ هَذَا، وَنَهَى عَنِ الْوُضُوءِ مِنْ هَذَا، وَلَوْ كَانَ هَذَا قَبْلَ النَّسْخِ لَأَمَرَ بِالْوُضُوءِ مِنْهُمَا.
وَثَانِيهَا: أَنَّ لَحْمَ الْإِبِلِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ لِكَوْنِهِ لَحْمَ الْإِبِلِ، لَا لِكَوْنِهِ مَمْسُوسًا بِنَارٍ يَقْتَضِي الْوُضُوءَ، نَيُّهُ وَمَطْبُوخُهُ، لَكِنْ كَانَ النَّقْضُ بِمَطْبُوخِهِ لِعِلَّتَيْنِ زَالَتْ إِحْدَاهُمَا وَبَقِيَتِ الْأُخْرَى، كَمَا لَوْ مَسَّ الرَّجُلُ فَرْجَ امْرَأَتِهِ لِشَهْوَةٍ انْتَقَضَ وُضُوؤُهُ لِسَبَبَيْنِ، فَلَوْ زَالَتِ الشَّهْوَةُ بَقِيَ مُجَرَّدُ مَسِّ الْفَرْجِ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَمْ يَجِئْ حَدِيثٌ بِنَسْخِهِ، فَإِنَّ قَوْلَ جَابِرٍ:«كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ» " إِنَّمَا هُوَ قَضِيَّةُ عَيْنٍ وَحِكَايَةُ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ مِنْ لَحْمٍ مَسَّتْهُ النَّارُ، ثُمَّ أَكَلَ مِنْ لَحْمٍ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَذَاكَ كَانَ لَحْمَ غَنَمٍ كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي رِوَايَاتٍ أُخَرَ، فَأَخْبَرَ جَابِرٌ رضي الله عنه أَنَّ تَرْكَ الْوُضُوءِ مِنْهُ كَانَ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا عُمُومٌ، وَلَمْ يَحْكِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَفْظًا عَامًّا، وَإِنَّمَا يُفِيدُ هَذَا أَنَّ مَسِيسَ النَّارِ لَا أَثَرَ لَهُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: " لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ تَصْرِيحِ السُّنَّةِ بِالْفَرْقِ " وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَرَسُولُهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ: "{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275] " وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا، وَهَذَا قِيَاسٌ فَاسِدُ الْوَضْعِ؛ لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ.
وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ لَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صِفَةٌ عَامَّةٌ بِتَرْكِ الْوُضُوءِ مِمَّا غَيَّرَتِ النَّارُ - مَعَ أَنَّ هَذَا لَمْ يَقَعْ - لَكَانَ عَامًّا، وَالْعَامُّ لَا يَنْسَخُ الْخَاصَّ، لَا سِيَّمَا الَّذِي فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ أَفْرَادِ الْعَامِّ، بَلْ يَكُونُ الْخَاصُّ مُفَسِّرًا لِلْعَامِّ وَمُبَيِّنًا لَهُ.
وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ لَوِ انْدَرَجَ فِي الْعُمُومِ قَصْدًا لَمْ يُفِدِ الْعُمُومَ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ مَسَّتْهُ النَّارُ، وَلَا يَبْقَى الْمُتَوَضِّئُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، كَمَا لَوْ نُسِخَ التَّوَضُّؤُ مِنْ مَسِّ الْفَرْجِ لَمْ يَنْفِ التَّوَضُّؤَ مِنْ مَسِّ فَرْجِ الْمَرْأَةِ لِشَهْوَةٍ، وَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ مُخَالِفًا مُعْتَقًا وَقَدْ نُسِخَ مِيرَاثُ الْمُخَالِفِ، لَمْ يُنْسَخْ إِرْثُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُعْتَقٌ.
وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ أَمَرَ بِالتَّوَضُّؤِ مِنْ لَحْمِهَا مَعَ نَهْيِهِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَبَارِكِهَا فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ، مَعَ تَرَخُّصِهِ فِي تَرْكِ الْوُضُوءِ مِنْ لَحْمِ الْغَنَمِ، وَإِذْنِهِ فِي الصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِهَا، وَذَلِكَ اخْتِصَاصُ الْإِبِلِ بِوَصْفٍ قَابَلَتْ بِهِ الْغَنَمَ، اسْتَوْجَبَتْ لِأَجْلِهِ فِعْلَ التَّوَضُّؤِ وَتَرْكَ الصَّلَاةِ، وَهَذَا الْحُكْمُ بَاقٍ ثَابِتٌ فِي الصَّلَاةِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الْوُضُوءِ.
وَسَابِعُهَا: أَنَّهُ قَدْ أَشَارَ صلى الله عليه وسلم فِي الْإِبِلِ إِلَى " «أَنَّهَا مِنَ الشَّيَاطِينِ» يُرِيدُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهَا مِنْ جِنْسِ الشَّيَاطِينِ وَنَوْعِهِمْ، فَإِنَّ كُلَّ عَاتٍ مُتَمَرِّدٍ شَيْطَانٌ مِنْ أَيِّ الدَّوَابِّ كَانَ، كَالْكَلْبِ الْأَسْوَدِ شَيْطَانٌ، وَالْإِبِلُ شَيَاطِينُ الْأَنْعَامِ، كَمَا لِلْإِنْسِ شَيَاطِينُ وَلِلْجِنِّ شَيَاطِينُ؛ وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه لَمَّا أَرْكَبُوهُ بِرْذَوْنًا فَجَعَلَ يُهَمْلِجُ بِهِ فَقَالَ: " إِنَّمَا أَرْكَبُونِي شَيْطَانًا ". وَالتَّجَالُسُ وَالِاجْتِمَاعُ، وَلِذَلِكَ كَانَ عَلَى كُلِّ ذُرْوَةِ بَعِيرٍ شَيْطَانٌ. وَالْغَنَمُ هِيَ مِنَ السَّكِينَةِ، وَالسَّكِينَةُ مِنْ أَخْلَاقِ الْمَلَائِكَةِ، فَلَعَلَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَكَلَ لَحْمَ الْإِبِلِ أَوْرَثَتْهُ نِفَارًا وَشِمَاسًا وَحَالًا شَبِيهًا بِحَالِ الشَّيْطَانِ.
وَالشَّيْطَانُ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ، فَأَمَرَ بِالْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِهَا؛ كَسْرًا لِتِلْكَ الصُّورَةِ وَقَمْعًا لِتِلْكَ الْحَالِ، وَهَذَا لِأَنَّ قَلْبَ الْإِنْسَانِ وَخُلُقَهُ يَتَغَيَّرُ
بِالْمَطَاعِمِ الَّتِي يَطْعَمُهَا؛ وَلِهَذَا حَرَّمَ اللَّهُ الْخَبَائِثَ حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ حَرَّمُ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلَّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ؛ لِمَا فِي طِبَاعِهَا مِنَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، فَيُورِثُ بِطِبَاعِ آكِلِهَا مَا فِي طِبَاعِهَا، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ وَمَا يُقَارِبُهَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إِيمَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَأَمَّا دَعْوَى كَوْنِ الْوُضُوءِ هُوَ غَسْلُ الْيَدِ وَالْفَمِ فَفَاسِدٌ أَيْضًا؛ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: الْوُضُوءُ الْمُطْلَقُ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ هُوَ وُضُوءُ الصَّلَاةِ.
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ لِلِاسْتِحْبَابِ، وَالْأَصْلُ فِي الْأَمْرِ الْوُجُوبُ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي سِيَاقِ الصَّلَاةِ مُبَيِّنًا حُكْمَ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ فِي هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ، وَالْوُضُوءُ الْمَقْرُونُ بِالصَّلَاةِ هُوَ وُضُوءُهَا لَا غَيْرُ.
وَرَابِعُهَا: أَنَّ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ هُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ، فَفَهِمَ مِنْهُ وُضُوءَ الصَّلَاةِ، وَأَوْجَبَهُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَعْنَى مَا سَمِعَ.
وَهَذِهِ الْوُجُوهُ مَعَ غَيْرِهَا كَمَا يُقَالُ فِي مَسِّ الذَّكَرِ.
وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ لَحْمِ الْغَنَمِ نَاهِيًا عَنِ الْوُضُوءِ مِنْ لَحْمِ الْغَنَمِ، أَوْ مُخَيِّرًا بَيْنَ الْوُضُوءِ وَتَرْكِهِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى اسْتِحْبَابِ غَسْلِ الْفَمِ وَالْيَدِ مِنْ لَحْمِ الْغَنَمِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" «مَنْ بَاتَ وَفِي يَدِهِ غَمَرٌ (وَلَمْ يَغْسِلْهُ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ) فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ» ".
فَكَيْفَ يَأْذَنُ فِي تَرْكِ غَسْلِ الْيَدِ وَالْفَمِ مِنْ لَحْمِ الْغَنَمِ وَهُوَ يُلْزِمُ مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا: مَا كَانَ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ لَهُ رَائِحَةٌ أَوْ زُهُومَةٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَيُسْتَحَبُّ غَسْلُ الْيَدِ وَالْفَمِ مِنْهُ، وَأَمَّا مَا لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَالْخُبْزِ وَالثَّمَرِ، فَإِنْ شَاءَ غَسَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ.
وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ غَسْلَ الْيَدَيْنِ وَالْفَمِ لَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَكَوْنُ الْإِبِلِ مُخْتَصَّةً بِزِيَادَةِ زُهُومَةٍ وَدُسُومَةٍ لَا يُوجِبُ اخْتِصَاصَهَا بِالْأَمْرِ، " «فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ لَبَنًا فَمَضْمَضَ وَقَالَ: إِنَّ لَهُ دَسَمًا» ".
وَسَابِعُهَا: أَنَّهُ سَيَأْتِي أَنَّهُ أَمَرَ بِالْوُضُوءِ مِنْ لَبَنِ الْإِبِلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ دَسَمَهَا دُونَ دَسَمِ لَحْمِ الْغَنَمِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ غَسْلَ الْيَدِ وَالْفَمِ، وَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ فَبِعِيدٌ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ، وَالْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ؛ وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ الْحُكْمَ فِي جَوَابِ السَّائِلِ، وَالْحُكْمُ فِي مِثْلِ هَذَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا الْإِيجَابُ، كَالْوُضُوءِ مِنَ الصَّوْتِ وَالرِّيحِ وَمَسِّ الذَّكَرِ؛ وَلِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ لَحْمِ الْغَنَمِ، وَالنَّهْيُ فِي لَحْمِ الْغَنَمِ إِنَّمَا أَفَادَ نَفْيَ الْإِيجَابِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي لَحْمِ الْإِبِلِ مُفِيدًا لِلْإِيجَابِ؛ لِيَحْصُلَ الْفَرْقُ، وَلِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِذَلِكَ صِفَةً فِي الْإِبِلِ تَقْتَضِي الْوُضُوءَ، وَالْأَصْلُ فِي الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْوُضُوءِ أَنْ تَكُونَ مُوجِبَةً؛ وَلِأَنَّ اسْتِحْبَابَ الْوُضُوءِ مِنْ لَحْمِ الْإِبِلِ دُونَ الْغَنَمِ إِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ خَارِجٍ عَنْ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، وَلَإِنْ قَالَهُ قَائِلٌ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْخِلَافِ، وَهَذِهِ عِلَّةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ لَيْسَتْ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً لِنَفْسِ الْحُكْمِ، وَالشَّارِعُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقًا يُوجِبُ اخْتِصَاصَ أَحَدِهِمَا بِالْحُكْمِ لِمَعْنَى اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى أَنْ يُوجِبَ الْوُضُوءَ أَوْ لَا يُوجِبَهُ، أَوْ لَا يَقْتَضِيَهُ، ثُمَّ لَمْ يُسَلِّمِ اخْتِصَاصُ الْإِبِلِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَنْعَامِ بِوَصْفٍ يُسْتَحَبُّ مَعَهُ الْوُضُوءُ بِطَلَبِ جَمِيعِ أَدِلَّتِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا، وَلَمْ يَبْقَ حِينَئِذٍ دَلِيلٌ يُوجِبُ صَرْفَ الْأَمْرِ عَنِ الْوُجُوبِ، وَيُقَالُ: إِنْ جَازَ أَنْ يَخْتَصَّ بِاسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ جَازَ أَنْ يَخْتَصَّ بِوُجُوبِهِ، وَهُوَ الْمَعْقُولُ مِنَ الْكَلَامِ، فَلَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ عَنْهُ، ثُمَّ الْجَوَابُ عَنْ جَمِيعِ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ أَنَّهَا احْتِمَالَاتٌ مَرْجُوحَةٌ وَتَأْوِيلَاتٌ بَعِيدَةٌ لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَيْهَا إِلَّا مَعَ دَلِيلٍ قَوِيٍّ أَقْوَى مِنْ تِلْكَ الدَّلَالَةِ يُوجِبُ الصَّرْفَ عَنِ الظَّاهِرِ وَالْمَصِيرِ إِلَى الْبَاطِنِ، وَلَيْسَ فِي عَدَمِ نَقْضِ الْوُضُوءِ بِلُحُومِ الْإِبِلِ دَلِيلٌ يُقَارِبُ تِلْكَ الدَّلَالَةَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى مِنْهَا، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِصْحَابُ حَالٍ وَقِيَاسٌ طَرْدِيٌّ يَحْسُنُ اتِّبَاعُهَا عِنْدَ عَدَمِ
الدَّلَالَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَقَدْ تَعَجَّبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِمَنْ يُخَالِفُ هَذَا الْحَدِيثَ الصَّرِيحَ الصَّحِيحَ، وَيُنْقَضُ الْوُضُوءُ بِالْقَهْقَهَةِ، مَعَ أَنَّهَا أَبْعَدُ شَيْءٍ عَنِ الْعُقُولِ وَالْأُصُولِ، وَحَدِيثُهَا مِنْ أَوْهَى الْمَرَاسِيلِ، وَيَتْرُكُ الْعَمَلَ بِهَذَا أَوْ يَعْمَلُ بِحَدِيثِ مَسِّ الذَّكَرِ مَعَ تَعَارُضِ الْأَحَادِيثِ فِيهِ، وَأَنَّ أَحَادِيثَ النَّقْضِ لَيْسَتْ مِثْلَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي الصِّحَّةِ وَالظَّنِّ، فَمَنْ يُخَالِفُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَمِعُوهُ، أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُمْ مِنْ وَجْهٍ يَصِحُّ عِنْدَهُمْ، فَلَمْ تَقُمْ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةُ. وَكَذَلِكَ فِي انْتِقَاضِ وُضُوءِ الْجَاهِلِ بِهِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: يَنْتَقِضُ وُضُوءُ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ كَسَائِرِ النَّوَاقِضِ.
وَالثَّانِيَةُ: لَا يَنْتَقِضُ وُضُوءُ الْجَاهِلِ، وَلَا يُعِيدُ مَا صَلَّى بَعْدَ أَكْلِهِ بِوُضُوئِهِ الْمُتَقَدِّمِ، قَالَ الْخَلَّالُ:" وَعَلَى هَذَا اسْتَقَرَّ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي هَذَا "؛ لِأَنَّ هَذَا خَبَرٌ وَاحِدٌ وَرَدَ فِي شَيْءٍ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ، فَعُذِرَ الْجَاهِلُ بِهِ كَمَا يُعْذَرُ فِي الْجَهْلِ بِالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ الْحَدِيثُ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ وَالنَّاشِئُ بِبَادِيَةٍ.
بِخِلَافِ الْوُضُوءِ مِنَ الْخَارِجِ مِنَ السَّبِيلَيْنِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ هُنَا هُوَ مَنْ لَمْ يَسْمَعِ الْحَدِيثَ مِنَ الْعَامَّةِ وَنَحْوِهِمْ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ قَدْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ، فَعَنْهُ يُعِيدُ، وَعَنْهُ لَا يُعِيدُ إِذَا تَرَكَهُ عَلَى التَّأْوِيلِ وَطَالَتِ الْمُدَّةُ، وَعَنْهُ إِذَا طَالَتِ الْمُدَّةُ وَفَحُشَتْ مِثْلَ عَشْرِ سِنِينَ، لَمْ يُعِدْ بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَتْ قَصِيرَةً، وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ، فَإِنَّ عِلْمَ هَذَا قَدِ انْتَشَرَ، يَعُمُّ طَرْدُ هَذَا أَنَّ مَنْ كَانَ لَا يَرَى النَّقْضَ بِخُرُوجِ النَّجَاسَاتِ أَوْ بِمَسِّ الذَّكَرِ ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ مَا كَانَ صَلَّاهُ، وَقِيلَ عَنْهُ: لَا يُعِيدُ إِذَا تَرَكَهُ مُتَأَوِّلًا بِحَالٍ، وَكَذَلِكَ مَنْكَانَ صَلَّى بِتَقْلِيدِ عَالِمٍ وَشِبْهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مَعْذُورُونَ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِيمَنْ أَخَلَّ بِبَعْضِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ أَوْ شَرَائِطِهَا الْمُخْتَلِفِ فِيهَا لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، حَيْثُ يُعْذَرُ بِهِ اجْتِهَادٌ أَوْ تَقْلِيدٌ وَنَحْوُهُ ثُمَّ عَلِمَ، فَأَمَّا مَنْ يُحْكَمُ بِخَطَئِهِ مِنَ الْمُخَالِفِينَ مِثْلَ مَنْ تَرَكَ الطُّمَأْنِينَةَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَكْثَرَ مِنَ الْمِيقَاتِ الشَّرْعِيِّ
تَقْلِيدًا لِحَدِيثِ عُمَرَ فَإِنَّهُ يُعِيدُ، نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِكَوْنِهِ قَدْ خَالَفَ حَدِيثًا صَحِيحًا لَا مُعَارِضَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ، بِخِلَافِ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا نَصَّ عَلَيْهِ.
فَصْلٌ
وَفِي الْوُضُوءِ مِنْ أَلْبَانِهَا - إِذَا قُلْنَا: يَتَوَضَّأُ مِنْ لَحْمِهَا رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «تَوَضَّأْ مِنْ أَلْبَانِ الْإِبِلِ، وَلَا تَوَضَّأْ مِنْ أَلْبَانِ الْغَنَمِ» " وَعَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَلْبَانِ الْإِبِلِ فَقَالَ:" تَوَضَّأْ مِنْ أَلْبَانِهَا " وَسُئِلَ عَنْ أَلْبَانِ الْغَنَمِ فَقَالَ: " لَا تَتَوَضَّأْ مِنْ أَلْبَانِهَا» " رَوَاهُمَا أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ.
وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " تَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا» " رَوَاهُ الشَّالَنْجِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ.
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم " كَانَ يَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا» " وَفِيهِ جَهَالَةٌ.
وَالثَّانِيَةُ: لَا يَنْقُضُ اخْتَارَهَا كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " «تَمَضْمَضُوا مِنَ اللَّبَنِ؛ فَإِنَّ لَهُ دَسَمًا» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَهَذَا يُفِيدُ الِاكْتِفَاءَ بِالْمَضْمَضَةِ فِي كُلِّ لَبَنٍ، وَأَنَّ الْأَمْرَ بِهَا اسْتِحْبَابٌ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ أُتِيَ بِلَبَنٍ مِنْ أَلْبَانِ الْإِبِلِ فَشَرِبَ، فَقِيلَ لَهُ:" أَلَا تَتَوَضَّأُ؟ " فَقَالَ: " لَا أُبَالِيهِ بَالَةً اسْمَحْ يُسْمَحْ لَكَ " رَوَاهُ سَعِيدٌ.
وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «الْأَعْرَابَ الَّذِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا مَعَ كَوْنِهِمْ حَدِيثِي عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْوُضُوءِ» .
وَحَدِيثُ أُسَيْدٍ فِيهِ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَأَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (فِيهِ) بَقِيَّةُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَقَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ:" فِيهِ حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ " يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ مَا سِوَاهُمَا، وَلَيْسَ فِيهِمَا اللَّبَنُ. وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا كُلِّهِ. أَمَّا الْمَضْمَضَةُ مِنَ اللَّبَنِ، فَلَا يَنْفِي وُجُوبَ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَضْمَضَةَ مَأْمُورٌ بِهَا عِنْدَ الشُّرْبِ لِإِزَالَةِ الدَّسَمِ، وَالْوُضُوءُ إِنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ، كَالْأَمْرِ بِغَسْلِ الْيَدِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ، وَالْأَمْرُ بِالِاسْتِنْشَاقِ وَالسِّوَاكِ لَا يَنْفِي وُجُوبَ غَسْلِ الْيَدِ وَالْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِسَبَبٍ وَهَذَا لِسَبَبٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّ اللَّبَنَ كَاللَّحْمِ، وَاللَّحْمُ تُغْسَلُ مِنْهُ الْيَدُ وَالْفَمُ، وَلَا يَنْفِي ذَلِكَ وُجُوبَ الْوُضُوءِ مِنْهَا، وَالنَّجَاسَةُ الْخَارِجَةُ يُغْسَلُ مَوْضِعُهَا، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ وُجُوبَ الْوُضُوءِ مِنْهَا. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ رضي الله عنه لَمْ تَبْلُغْهُ السُّنَّةُ فِي ذَلِكَ بَلَاغًا تَقُومُ عَلَيْهِ
بِهِ الْحُجَّةُ، كَمَا لَمْ يَبْلُغْ عَلِيًّا خَبَرُ بَرْوَعِ بِنْتِ وَاشَقٍ، وَلَمْ يَبْلُغِ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما خَبَرُ الَّذِي وَقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ، وَلَمْ يَبْلُغِ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَحَادِيثُ الْمُتْعَةِ وَالصَّرْفِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ فَقَدْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ، وَأَحَادِيثُ الْوُضُوءِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ رُوَاتِهَا مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ لَمْ يَصْحَبَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (إِلَّا فِي آخِرِ حَيَاتِهِ). وَقَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ إِنَّمَا أَرَادَا (بِقَوْلِهِمَا) حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ عَلَى طَرِيقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَاصْطِلَاحِهِمْ. وَأَمَّا الْحَسَنُ فَإِنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَهُ صَحِيحًا مَعَ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ أَحْمَدَ، يُضَعِّفُ الْحَدِيثَ ثُمَّ يَعْمَلُ بِهِ، يُرِيدُ أَنَّهُ ضَعِيفٌ عَنْ دَرَجَةِ الصَّحِيحِ، وَمَعَ هَذَا فَرَاوِيهِ مُقَارِبٌ وَلَيْسَ مُعَارِضٌ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَهُوَ الْحَسَنُ؛ وَلِهَذَا يُضَعِّفُ الْحَدِيثَ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ مَعَ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِأَكْثَرِ الْمَرَاسِيلِ. وَأَمَّا بَقِيَّةُ فَثِقَةٌ، أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ، وَهُوَ جَلِيلٌ، إِلَّا أَنَّهُ يُدَلِّسُ عَنْ رِجَالٍ مَجْهُولِينَ، وَالْقِيَاسُ يُوَافِقُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، فَإِنَّ اللَّبَنَ مُتَحَلِّلٌ مِنَ اللَّحْمِ، فَوَجَبَ أَنْ يُعْطَى حُكْمَهُ كَمَا أُعْطِيَ
حُكْمَهُ فِي التَّطْهِيرِ وَالتَّنْجِيسِ، وَلَوْ قِيلَ: إِنَّ الْبَوْلَ كَذَلِكَ، لَمْ يُسْتَبْعَدْ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ مَأْكُولٌ مُعْتَادٌ، بِخِلَافِ الْبَوْلِ وَنَحْوِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّ الْبَوْلَ وَالْعَرَقَ وَالشَّعْرَ لَا يَنْقُضُ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي أَوْجَبَتِ النَّقْضَ بِاللَّحْمِ لَمْ تَخْلُصْ لَنَا؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ، وَاللَّبَنُ يُشَارِكُ اللَّحْمَ فِي عَامَّةِ أَحْكَامِهِ.
وَفِي النَّقْضِ بِالْأَجْزَاءِ الَّتِي لَا تُسَمَّى لَحْمًا كَالْكَبِدِ وَالطِّحَالِ وَالسَّنَامِ وَالْكِرْشِ وَالْمَصِيرِ وَالْجِلْدِ - وَجْهَانِ، وَقِيلَ فِيهَا رِوَايَتَانِ:
لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمَا مُخَرَّجَتَانِ مِنْ أَصْحَابِنَا (فَمِنْهُمْ) مَنْ يُطْلِقُهُمَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْنِيهِمَا عَلَى اللَّبَنِ. إِحْدَاهُمَا: لَا تَنْقُضُ وَإِنْ قُلْنَا بِالنَّقْضِ فِي اللَّحْمِ وَاللَّبَنِ؛ إِذْ لَا نَصَّ فِيهِ قَوِيٌّ وَلَا ضَعِيفٌ، وَالْقِيَاسُ لَا يَقْتَضِيهِ.
وَالثَّانِيَةُ: تَنْقُضُ سَوَاءٌ إِنْ قُلْنَا يَنْقُضُ اللَّبَنُ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ إِطْلَاقَ اللَّحْمِ فِي الْحَيَوَانِ يَدْخُلُ فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهِ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ اللَّحْمَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ أَغَلَبُ الْأَجْزَاءِ، وَلِهَذَا دَخَلَتْ فِي مُطْلَقِ اسْمِ الْخِنْزِيرِ، وَلِأَنَّهَا أَوْلَى بِالْبَعْضِ مِنَ اللَّبَنِ وَقَدْ جَاءَ فِيهِ الْحَدِيثُ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ اللَّحْمَ وَاللَّبَنَ عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ سَائِرَ الْأَجْزَاءِ، وَلِأَنَّهَا جُزْءٌ مِنَ الْجَزُورِ فَنَقَضَتْ كَاللَّحْمِ، وَقِيَاسُ الشَّبَهِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى هَاتَيْنِ الْعِلَّتَيْنِ فِي الْأَصْلِ، فَإِنَّ الْمُشَابَهَةَ بَيْنَ اللَّحْمِ وَالْكَبِدِ وَالسَّنَامِ مَنْ أَبَيْنِ الْأَشْبَاهِ؛ وَلِهَذَا اشْتَرَكَا فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ وَالدُّسُومَةِ وَالزُّهُومَةِ، وَقَوْلُهُمْ: الْحُكْمُ بَعِيدٌ إِنْ أُرِيدَ بِهِ هُنَا مُجَرَّدُ امْتِحَانٍ وَابْتِلَاءٍ، فَلَا يَصِحُّ بَعْدَ إِشَارَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى التَّعْلِيلِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّا نَحْنُ لَمْ نَعْتَقِدِ الْعِلَّةَ، فَهَذَا مُسَلَّمٌ لِمَنِ ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ، لَكِنْ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ قِيَاسِ الشَّبَهِ مَعَ أَنَّنَا أَوْمَأْنَا إِلَى التَّعْلِيلِ فِيمَا تَقَدَّمَ بِمَا فَهِمْنَاهُ مِنْ إِيمَاءِ الشَّارِعِ، حَيْثُ ذَكَرَ أَنَّ الْإِبِلَ حِينَ خُلِقَتْ مِنْ جِنٍّ وَأَنَّهَا شَيَاطِينُ، فَأَكْلُ لَحْمِهَا يُورِثُ ضَرْبًا مِنْ طِبَاعِهَا وَنَوْعًا مِنْ أَحْوَالِهَا، وَالْوُضُوءُ يُزِيلُ ذَلِكَ الْأَثَرَ، وَهَذَا يَشْتَرِكُ فِيهِ اللَّحْمُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَجْزَاءِ، وَلَعَلَّهُ -
وَاللَّهُ أَعْلَمُ - كَانَ قَدْ شَرَعَ الْوُضُوءَ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ إِمَّا إِيجَابًا وَإِمَّا اسْتِحْبَابًا بِالْمَاءِ؛ لِمَا تَكْتَسِبُهُ مِنْ تَأْثِيرِ النَّارِ الَّتِي خُلِقَتْ مِنْهَا الشَّيَاطِينُ، لَكِنَّ أَثَرَ النَّارِ عَارِضٌ يَزُولُ وَلَا يَبْقَى مَعَ الْإِنْسَانِ، بِخِلَافِ اللَّحْمِ، فَإِنَّ تَأْثِيرَهُ عَنْ طَبِيعَةٍ وَخَلِيقَةٍ فِيهِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ يُزِيلُهُ، فَكَذَلِكَ صَارَ هُنَا وَاجِبًا دُونَ ذَلِكَ.
وَفِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِاللُّحُومِ الْمُحَرَّمَةِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: " تَنْقُضُ " نَصَّ عَلَيْهَا فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَخَصَّ أَبُو بَكْرٍ النَّقْضَ بِهِ لِتَغْلِيظِ تَحْرِيمِهِ، وَعَمَّمَ غَيْرُهُ فِي جَمِيعِ اللُّحُومِ وَالْمُحَرَّمَاتِ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالنَّقْضِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ.
وَالثَّانِيَةُ: لَا تَنْقُضُ، حَكَاهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَاخْتَارَهَا كَثِيرٌ مِنْهُمْ؛ إِذْ لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَيْسَ الْقِيَاسُ بِالْبَيِّنِ حَتَّى تُقَاسَ عَلَى الْمَنْصُوصِ، وَكَذَلِكَ لَا يُنْقَصُ بِمَا يُحَرَّمُ مِنْ غَيْرِ اللُّحُومِ، وَأَمَّا الْوُضُوءُ مِنْ سَائِرِ الْمَطَاعِمِ مُبَاحًا، وَمُحَرَّمِهَا فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا مُسْتَحَبٍّ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ غَسْلُ الْيَدِ وَالْفَمِ مِنَ الطَّعَامِ كَمَا يُذْكَرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَوْضِعِهِ إِلَّا مَا مَسَّتْهُ النَّارُ، فَفِي اسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ مِنْهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُسْتَحَبُّ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ» " رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا الْبُخَارِيَّ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، ثُمَّ نُسِخَ الْوُجُوبُ مِنْهُ أَوْ صُرِفَ عَنِ الْوُجُوبِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَمْرُو بْنُ أَبِي
أُمَيَّةَ وَمَيْمُونَةُ رضي الله عنهم " «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَقَوْلُهُ:" وَلَا تَتَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ» ".
وَعَنْ سُوَيْدِ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَ: " «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ خَيْبَرَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ - وَهِيَ مِنْ أَدْنَى خَيْبَرَ - صَلَّى بِنَا الْعَصْرَ، ثُمَّ دَعَا بِالْأَطْعِمَةِ، فَلَمْ يُؤْتَ إِلَّا بِسَوِيقٍ، فَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا، ثُمَّ قَامَ إِلَى الْمَغْرِبِ، فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا، ثُمَّ صَلَّى بِنَا الْمَغْرِبَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ النَّاسِخُ (فِعْلُ) الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَتَوَضَّئُونَ مِمَّا غَيَّرَتِ النَّارُ، وَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْأَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَظَرْنَا إِلَى مَا عَمِلَ بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِهَا وَنَاسِخِهَا، وَإِذَا زَالَ الْوُجُوبُ بَقِيَ الِاسْتِحْبَابُ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ ذَهَبَ خَلْقٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنْهَا، وَقَالَ رِجَالٌ مِنَ التَّابِعِينَ:
الْوُضُوءُ مِنْهَا هُوَ النَّاسِخُ، فَفِي الْوُضُوءِ احْتِيَاطٌ وَخُرُوجٌ مِنَ الْخِلَافِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُسْتَحَبُّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُدَاوِمُ عَلَى تَرْكِهِ أَخِيرًا وَهُوَ لَا يُدَاوِمُ عَلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْوُضُوءَ مِنْهُ قَدِيمًا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا؛ لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعَ الْأَمْرَ بِهِ، وَإِنَّمَا صَحِبَهُ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ، وَحَدِيثُ سُوَيْدِ بْنِ النُّعْمَانِ فِي تَرْكِهِ كَانَ فِي مَخْرَجِهِ إِلَى خَيْبَرَ، فَعَلِمَ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِهِ اسْتِحْبَابًا وَيَفْعَلُهُ وَيَتْرُكُهُ أَحْيَانًا، ثُمَّ يَتْرُكُ بِالْكُلِّيَّةِ، بِدَلِيلِ عَمَلِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ.
فَصْلٌ
كَلَامُ الشَّيْخِ رضي الله عنه يَقْتَضِي أَنْ لَا وُضُوءَ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَقَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ وَغَيْرِهِمَا؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَيْسَ فِي مَيِّتِكُمْ غُسْلٌ إِذَا غَسَّلْتُمُوهُ، فَإِنَّ مَيِّتَكُمْ لَيْسَ بِنَجِسٍ، فَحَسْبُكُمْ أَنْ تَغْسِلُوا أَيْدِيَكُمْ» " رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيِّ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِي أَحَدٍ مِنْهُمْ إِلَّا فِي خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ الْقَطَوَانِيِّ وَعَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، وَهُمَا مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ يَمَّمَهُ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوؤُهُ، فَكَذَلِكَ إِذَا غَسَّلَهُ، وَلِأَنَّهُ آدَمِيٌّ
فَلَمْ يَنْتَقِضْ كَغُسْلِ الْحَيِّ وَغُسْلِ نَفْسِهِ، وَحَمَلُوا الْآثَارَ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَالْمَنْصُوصُ عَنْهُ أَنَّ عَلَيْهِ الْوُضُوءَ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ، قَالَ أَحْمَدُ:" مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا عَلَيْهِ الْوُضُوءُ، وَهُوَ أَقَلُّ مَا فِيهِ وَلَا بُدَّ مِنْهُ " وَقَالَ: " أَرْجُو أَنْ لَا يَجِبَ الْغُسْلُ، وَأَمَّا الْوُضُوءُ فَأَقَلُّ مَا فِيهِ " وَكَذَلِكَ قَالَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: " إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْوُضُوءِ ".
رَوَى عَطَاءٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ " كَانَا يَأْمُرَانِ غَاسِلَ الْمَيِّتِ بِالْوُضُوءِ ". وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: " أَقَلُّ مَا فِيهِ الْوُضُوءُ ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " يَكْفِي فِيهِ الْوُضُوءُ " وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ غَيْرِهِمْ فِي تَرْكِهِ رُخْصَةٌ، يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الِاغْتِسَالِ مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يُوجِبْهُ انْتَهَتْ رُخْصَتُهُ إِلَى الْوُضُوءِ، وَكَانَ الْوُضُوءُ مِنْهُ شَائِعًا بَيْنَهُمْ، لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمُ الْإِخْلَالُ بِهِ، قَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ: حَدَّثَنِي عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " غَسَّلَ أَبَاكَ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَمَا زَادُوا عَلَى أَنْ حَسِرُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ، وَجَعَلُوا ثِيَابَهُمْ فِي حُجُزِهِمْ، فَغَسَّلُوا ثُمَّ تَوَضَّئُوا ثُمَّ خَرَجُوا " وَأَوْصَى أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه " أَنْ تُغَسِّلَهُ زَوْجَتُهُ أَسْمَاءُ
فَغَسَّلَتْهُ، ثُمَّ أَرْسَلَتْ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَلْ عَلَيَّ مِنْ غُسْلٍ؟ قَالُوا: لَا، فَتَوَضَّأَتْ " رَوَاهُمَا سَعِيدٌ فِي مَسْنَدِهِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِالِاغْتِسَالِ مِنْهُ، كَمَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعِهِ.
فَظَاهِرُهُ يُوجِبُ الْغُسْلَ وَالْوُضُوءَ الَّذِي هُوَ بَعْضُهُ، فَإِذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ مَا زَادَ عَلَى الْوُضُوءِ بَقِيَ الْوُضُوءُ بِحَالِهِ، أَوْ يُقَالُ: الْأَمْرُ بِالْغُسْلِ أَمْرٌ بِالْوُضُوءِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَفَحْوَى الْخِطَابِ، فَإِذَا تُرِكَ دَلَالَةُ الْمَنْطُوقِ لَمْ يَجِبْ أَنْ نَتْرُكَ دَلَالَةَ فَحَوَاهُ، وَقَوْلُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقَلُّ مَا فِيهِ الْوُضُوءُ، وَيَكْفِي فِيهِ الْوُضُوءُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَقَلُّ مَا يُؤْمَرُ بِهِ، وَالْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ؛ وَلِأَنَّهُ وُضُوءٌ مَشْرُوعٌ لِسَبَبٍ مَاضٍ، فَكَانَ وَاجِبًا كَالْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ، وَمَنْ قَالَ هَذَا الْتَزَمَ أَنْ لَا وُضُوءَ مِنَ الْقَهْقَهَةِ، وَلَا مَا مَسَّتْهُ النَّارُ، أَوْ يَقُولُ: وُضُوءٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، أَوْ مَشْرُوعٌ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ؛ وَلِأَنَّهُ وُضُوءٌ عَنْ سَبَبٍ مَاضٍ يُشْرَعُ لَهُ الْغُسْلُ، فَكَانَ وَاجِبًا كَوُضُوءِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْمَجْنُونِ وَالْمُسْتَحَاضَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ شَرْعَ الْغُسْلِ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ الْمُقْتَضِي لِلطَّهَارَةِ، فَإِذَا نَزَلَ إِلَى اسْتِحْبَابِ الْغُسْلِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُوجِبَ الْوُضُوءَ، بِخِلَافِ الْأَسْبَابِ الْمُسْتَقْبِلَةِ كَغُسْلِ الْإِحْرَامِ وَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا النَّظَافَةُ فَقَطْ، وَهَذَا الْقِيَاسُ مِنْ أَقْوَى الْأَشْبَاهِ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ، وَلِأَنَّ بَدَنَ الْمَيِّتِ صَارَ فِي حُكْمِ الْغُرُورِ بِنَفْسِهِ بِدَلِيلِ كَرَاهَةِ مَسِّهِ وَالنَّظَرِ إِلَيْهِ لَا لِحَاجَةٍ، وَهُوَ مَظِنَّةٌ لِخُرُوجِ النَّجَاسَاتِ، فَجَازَ أَنْ يُوجِبَ الْوُضُوءَ كَمَسِّ الذَّكَرِ، وَلَا يَنْتَقِضُ بِمَسِّهِ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ لِلنَّوْعِ وَالْجَوَازِ، فَلَا يَنْتَقِضُ بِأُمَّهَاتِ الْمَسَائِلِ؛ وَلِأَنَّ لَمْسَ النَّاقِضِ يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ مَمْسُوسٍ وَمَمْسُوسٍ، فَمَسُّ الْفَرْجِ يَنْقُضُ مُطْلَقًا، وَمَسُّ النِّسَاءِ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الشَّهْوَةِ، وَمَسُّ الْمَيِّتِ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّغْسِيلِ لَهُ سَوَاءٌ مَسَّهُ مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ أَوْ بَاشَرَهُ، وَهَذَا أَجْوَدُ مِنْ تَعْلِيلِ مَنْ عَلَّلَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا بِأَنَّ الْغَاسِلَ لَا يَسْلَمُ غَالِبًا مِنْ مَسِّ ذَكَرِهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما إِنْ صَحَّ، فَمَعْنَاهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - «حَسْبُكُمْ فِي إِزَالَةِ مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ نَجَاسَتِهِ أَنْ تَغْسِلُوا أَيْدِيَكُمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسٍ، وَإِنَّمَا يُخْشَى أَنْ يَكُونَ قَدْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَصَابَ الْيَدَ» ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ هُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَفْتَى أَنَّ الَّذِي يَكْفِي مِنْهُ الْوُضُوءُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَعْنَى مَا رَوَى.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: " «حَسْبُكُمْ أَنْ تَغْسِلُوا أَيْدِيَكُمْ» " أَيْ حُمِلَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، كَأَنَّ مَعْنَاهُ: يَكْفِيكُمْ فِي الِاسْتِحْبَابِ غَسْلُ أَيْدِيكُمْ، وَهُوَ أَيْضًا مِمَّا لَا يُقَالُ بِهِ عَلَى مَا ادَّعَوْهُ، فَإِنَّ الْوُضُوءَ مِنْهُ مَشْرُوعٌ، بَلِ الِاغْتِسَالُ أَيْضًا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: يَكْفِيكُمْ فِي إِزَالَةِ مَا يُتَوَهَّمُ مِنَ الْخَبَثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْأَقْيِسَةِ مُنْعَكِسٌ بِاسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَحِبُّوا الْوُضُوءَ فِي تَيَمُّمِهِ، وَلَا تَغْسِيلَ الْحَيِّ، أَوِ اسْتَحَبُّوهُ هُنَا، وَجَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ، فَكُلُّ مَعْنًى اقْتَضَى الْفَرْقَ فِي الِاسْتِحْبَابِ حَصَلَ الْفَرْقُ بِهِ فِي الْإِيجَابِ؛ لِأَنَّهُ وُضُوءٌ جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ مُطْلَقًا، وَكَانَ وَاجِبًا كَالْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ وَلَحْمِ الْجَزُورِ، بَلْ وَأَوْكَدُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَجِئْ رُخْصَةٌ فِي تَرْكِ الْوُضُوءِ مِنْهُ وَلَا أَثَرٌ يُعَارِضُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْغَاسِلُ هُوَ الَّذِي يُقَلِّبُهُ وَيُبَاشِرُهُ وَيُعِينُ فِي ذَلِكَ وَلَوْ مَرَّةً، فَأَمَّا مَنْ يَصُبُّ الْمَاءَ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ مُلَامَسَةٍ لِلْمَيِّتِ فَلَيْسَ بِغَاسِلٍ.
فَصْلٌ
" وَمَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ أَوْ تَيَقَّنَ الْحَدَثَ وَشَكَّ فِي الطَّهَارَةِ فَهُوَ عَلَى مَا يَتَيَقَّنُ مِنْهُمَا " سَوَاءٌ كَانَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجَ الصَّلَاةِ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: " «شُكِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ، قَالَ: " لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ
صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا» " أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "«إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فِي الصَّلَاةِ، فَيَأْخُذُ شَعْرَةً مِنْ دُبُرِهِ، فَيَمُدُّهَا، فَيَرَى أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ، فَلَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَلَفْظُهُ: "«إِذَا أَتَى الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَقَالَ لَهُ: قَدْ أَحْدَثْتَ، فَلْيَقُلْ لَهُ: كَذَبْتَ، إِلَّا مَا وَجَدَ رِيحًا بِأَنْفِهِ أَوْ سَمِعَ صَوْتًا بِأُذُنِهِ» " وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "«إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا عَلَيْهِ أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا، فَلَا يَخْرُجْ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَلَفْظُهُ: "«حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا لَا يَشُكُّ فِيهِ» ". فَلَمَّا نَهَاهُ عَنْ قَطْعِ الصَّلَاةِ وَعَنِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ مَعَ الشَّكِّ دَلَّ عَلَى جَوَازِ بِنَاءِ الصَّلَاةِ عَلَى طَهَارَةٍ مُسْتَصْحَبَةٍ مَبْنِيَّةٍ عَلَى الْيَقِينِ، وَلَوْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ خَارِجَ الصَّلَاةِ لَجَازَ لَهُ، أَوْ لَوَجَبَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ كَسَائِرِ النَّوَاقِضِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَتَسَاوَىَ الْأَمْرَانِ عِنْدَهُ أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَحَدُهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَلِأَنَّ الظَّنَّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ضَابِطٌ فِي الشَّرْعِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِمَارَةٌ شَرْعِيَّةٌ أَوْ عَرَضِيَّةٌ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ، كَظَنِّ صِدْقِ أَحَدِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ، بِخِلَافِ الْقِبْلَةِ وَالْوَقْتِ، وَلِأَنَّهُ شَكَّ فِي بَقَاءِ زَاوَلَ طَهَارَتِهِ، فَيَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ، كَمَا لَوْ شَكَّ فِي نَجَاسَةِ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَالْبُقْعَةِ بَعْدَ تَيَقُّنِ الطَّهَارَةِ، قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ ذَلِكَ: " إِنْ خُيِّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ وَهُوَ فِي
الصَّلَاةِ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ خُيِّلَ إِلَيْهِ ذَلِكَ وَهُوَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَالْأَحْوَطُ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيُصَلِّيَ " وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّا وَإِنْ جَوَّزْنَا لَهُ الْبِنَاءَ عَلَى يَقِينِ الطَّهَارَةِ، فَإِنَّ الْأَفْضَلَ لَهُ أَنْ يَتَطَهَّرَ لِمَا تَرَدَّدَ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ خُرُوجًا مِنِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا يُجَوِّزُ لَهُ الدُّخُولَ فِي الصَّلَاةِ بِطَهَارَةٍ مَشْكُوكَةٍ، وَلِأَنَّ التَّجْدِيدَ مَعَ الْيَقِينِ مُسْتَحَبٌّ فَمَعَ الشَّكِّ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ عَدَمَ الطَّهَارَةِ فِيهَا رَيْبٌ وَشُبْهَةٌ، وَلَيْسَ فِي الِاحْتِيَاطِ فِيهَا مَشَقَّةٌ وَلَا فَتْحٌ لِبَابِ الْوَسْوَسَةِ، فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ لَهَا أَفْضَلَ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "«دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» " وَقَوْلِهِ: "«فَمَنْ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ» " بِخِلَافِ الشَّكِّ الْعَارِضِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «قَدْ نَهَى عَنِ الْخُرُوجِ مِنْ أَجْلِهِ» ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ إِبْطَالًا لِلصَّلَاةِ بِالرَّيْبِ وَالشُّبْهَةِ وَمُطَاوَعَةِ الشَّيْطَانِ فِي ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ نُهِيَ عَنْهُ، وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ قَطْعَ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ لِذَلِكَ مُحَرَّمٌ؛ لِأَجْلِ نَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلِأَنَّ إِبْطَالَ الْفَرْضِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ غَيْرُ جَائِزٍ.
فَصْلٌ
فَإِنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَالْحَدَثَ وَشَكَّ فِي السَّابِقِ مِنْهُمَا فَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ كَانَ مُتَطَهِّرًا، أَوْ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا، فَيَبْنِي عَلَى خِلَافِ حَالِهِ قَبْلَهُمَا، إِنْ كَانَ مُتَطَهِّرًا فَهُوَ مُحْدِثٌ، وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا فَهُوَ مُتَطَهِّرٌ؛ لِأَنَّ الْحَالَ قَبْلَهُمَا إِنْ كَانَ طَهَارَةً مَثَلًا فَقَدْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ وُجِدَ بَعْدَهَا حَدَثٌ وَطَهَارَةٌ، فَزَالَتْ
تِلْكَ الطَّهَارَةُ بِيَقِينٍ، وَالطَّهَارَةُ الثَّانِيَةِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْأُولَى دَامَتْ وَاسْتَمَرَّتْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَدَثَتْ بَعْدَ الْحَدَثِ، وَالْحَدَثُ مُتَيَقَّنٌ فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ.
الثَّانِي: يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ تَطَهَّرَ عَنْ حَدَثٍ وَأَنَّهُ أَحْدَثَ بَعْدَ طَهَارَةٍ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ مُتَطَهِّرًا فَهُوَ الْآنَ مُتَطَهِّرٌ، وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا فَهُوَ الْآنَ مُحْدِثٌ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ السَّابِقَةَ قَدْ وُجِدَ بَعْدَهَا حَدَثٌ نَاقِضٌ، وَذَلِكَ الْحَدَثُ وُجِدَ بَعْدَ طَهَارَةٍ رَافِعَةٍ، وَالْأَفْضَلُ بَقَاؤُهَا، فَأَمَّا إِنْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ تَطَهَّرَ وَأَنَّهُ أَحْدَثَ لَكِنْ لَا يَدْرِي هَلْ كَانَتِ الطَّهَارَةُ بَعْدَ طَهَارَةٍ أَوْ بَعْدَ حَدَثٍ، وَذَلِكَ الْحَدَثُ هَلْ كَانَ (بَعْدَ) طَهَارَةٍ أَوْ بَعْدَ حَدَثٍ، فَهَذَا كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ يَكُونُ عَلَى خِلَافِ حَالِهِ قَبْلَهُمَا، وَلَوْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ ابْتَدَأَ الطَّهَارَةَ عَنْ حَدَثٍ، وَأَنَّهُ كَانَ أَحْدَثَ وَلَا يَدْرِي أَفَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ مُحْدِثٌ أَوْ هُوَ طَاهِرٌ، فَهُنَا هُوَ طَاهِرٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ أَحْدَثَ عَنْ طَهَارَةٍ، وَأَنَّهُ تَوَضَّأَ لَا يَدْرِي أَتَجْدِيدًا أَمْ رَفْعًا، فَهُوَ مُحْدِثٌ بِكُلِّ حَالٍ.