الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ» " وَفِي لَفْظٍ " يَتَوَضَّأُ مِنْهُ "، وَمَفْهُومُهُ جَوَازُ ذَلِكَ فِي الْجَارِي مُطْلَقًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:" «لَا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ» " وَمَفْهُومُهُ جَوَازُ الِاغْتِسَالِ فِي الْجَارِي وَإِنِ اسْتَدْبَرَ الْجِرْيَةَ، وَكَذَلِكَ نَهْيُهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبَالَ فِي الرَّاكِدِ وَمَفْهُومُهُ الْإِذْنُ فِي الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الْجَارِي وَلَوْ يُنَجِّسُهُ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ بِئْرِ بُضَاعَةَ عَامٌّ، وَمَفْهُومُ حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ لَا يُعَارِضُ هَذَا لِأَنَّ قَوْلَهُ:" «إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ» " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَإِذَا فَرَّقْنَا بَيْنَ جَارِيهِ وَوَاقَفِهِ حَصَلَتِ الْمُخَالَفَةُ لَا سِيَّمَا وَسَبَبُ الْحَدِيثِ هُوَ السُّؤَالُ عَنِ الْمَاءِ الرَّاكِدِ، وَلِأَنَّ الْقَلِيلَ الْوَاقِفَ إِنَّمَا يُنَجَّسُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - لِضَعْفِهِ عَنِ اسْتِهْلَاكِ النَّجَاسَةِ، وَالْجَارِي لِقُوَّةِ جَرَيَانِهِ يُحِيلُهَا وَيَدْفَعُهَا إِذَا وَرَدَ عَلَيْهَا فَكَانَ كَالْكَثِيرِ.
[مَسْأَلَةٌ مقدار القلتين]
مَسْأَلَةٌ:
" وَالْقُلَّتَانِ مَا قَارَبَ مِائَةً وَثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ بِالدِّمَشْقِيِّ "
" الْقُلَّةُ " هِيَ الْجُبُّ وَالْخَابِيَةُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُقَلُّ بِالْيَدِ، وَالتَّقْدِيرُ بِقِلَالِ هَجَرَ، هَكَذَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ «إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ بِقِلَالِ هَجَرَ» .
وَهِيَ قِلَالٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَهُمْ كَانُوا يَعْتَبِرُونَ بِهَا الْأَشْيَاءَ وَهِيَ أَكْثَرُ الْقِلَالِ وَأَشْهَرُهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ: " «ثُمَّ رُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى فَإِذَا نَبِقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ، وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ»، وَأَمَّا قِلَالُ هَجَرَ فَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: " رَأَيْتُ قِلَالَ هَجَرَ فَرَأَيْتُ الْقُلَّةَ مِنْهَا تَسَعُ قِرْبَتَيْنِ أَوْ قِرْبَتَيْنِ وَشَيْئًا " فَأَثْبَتْنَا الشَّيْءَ احْتِيَاطًا وَجَعَلْنَاهُ نِصْفًا لِأَنَّهُ أَقْصَى مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ شَيْءٍ مُنْكَرٍ فَصَارَتِ الْقُلَّتَانِ خَمْسَ قِرَبٍ بِقِرَبِ الْحِجَازِ، وَقِرَبُ الْحِجَازِ كِبَارٌ مَعْلُومَةٌ تَسَعُ الْقِرْبَةُ مِنْهَا نَحْوَ مِائَةِ رِطْلٍ كَذَا نَقَلَهُ الَّذِينَ حَدَّدُوا الْمَاءَ بِالْقِرَبِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ بَعْدَ التَّجْرِبَةِ فَصَارَتِ الْقُلَّتَانِ خَمْسَمِائَةِ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ، وَرِطْلُ الْعِرَاقِ الَّذِي يَعْتَبِرُ بِهِ الْفُقَهَاءُ تِسْعُونَ مِثْقَالًا فَيَكُونُ مِائَةً وَثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةَ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ، فَإِذَا حَسَبْتَ ذَلِكَ بِرِطْلِ دِمَشْقَ وَهُوَ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ كَانَتِ الْقُلَّتَانِ مِائَةً وَسَبْعَةَ أَرْطَالٍ وَسُبُعَ رِطْلٍ.
وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهَا أَرْبَعُمِائَةِ رِطْلٍ لِأَنَّ يَحْيَى بْنَ عَقِيلٍ قَالَ: رَأَيْتُ
قِلَالَ هَجَرَ وَأَظُنُّ كُلَّ قُلَّةٍ تَأْخُذُ قِرْبَتَيْنِ. وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ، فَإِنَّ الثَّانِيَ إِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ ظَنٍّ، وَهَذَا التَّحْدِيدُ تَقْرِيبٌ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْوَجْهَيْنِ، وَقِيلَ مِنَ الرِّوَايَتَيْنِ، فَلَوْ نَقَصَ الْمَاءُ نَقْصًا يَسِيرًا لَمْ يُؤَثِّرْ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْقِلَالِ بِالْقِرَبِ إِنَّمَا كَانَ عَنْ رَأْيٍ وَحِسَابٍ يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ، وَتَقْدِيرُ الْقِرَبِ بِالْأَرْطَالِ تَقْرِيبٌ فَإِنَّ الْقِرَبَ وَغَيْرَهَا مِنْ أَوْعِيَةِ الْمَاءِ لَا تَكَادُ تَتَسَاوَى عَلَى التَّحْقِيقِ إِذْ لَا يُقْصَدُ كَيْلُ الْمَاءِ وَوَزْنُهُ غَالِبًا فِي تَطْهِيرِ الْمَاءِ، فَإِذَا كَانَ الْمَاءُ كَثِيرًا يَبْلُغُ قُلَّتَيْنِ فَإِنَّمَا يَنْجُسُ بِالتَّغَيُّرِ، فَإِذَا زَالَ التَّغَيُّرُ طَهُرَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا ثَبَتَ بِعِلَّةٍ زَالَ بِزَوَالِهَا، كَالْخَمْرِ إِذَا زَالَتْ عَنْهُ الشِّدَّةُ الْمُسْكِرَةُ صَارَ حَلَالًا طَاهِرًا أَوْ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ إِذَا غُسِلَ طَهُرَ، وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا أَنْ يَزُولَ بِنَفْسِهِ فَيَطْهُرَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَالثَّانِيَةُ: لَا يَطْهُرُ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ بِحَالِهَا لَمْ تُزَلْ وَلَمْ تُسْتَهْلَكْ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهَا تُسْتَهْلَكُ بِمُرُورِ الزَّمَانِ عَلَيْهَا، الثَّانِي: أَنْ يُنْزَحَ الْمَاءُ وَيَزُولَ تَغَيُّرُهُ وَهُوَ قُلَّتَانِ فَصَاعِدًا لِأَنَّ بِالنَّزْحِ زَالَتِ النَّجَاسَةُ فَإِنْ لَمْ يَزُلْ تَغَيُّرُهُ حَتَّى نَقَصَ عَنِ الْقُلَّتَيْنِ كَانَ حِينَئِذٍ نَجِسًا بِالْمُلَاقَاةِ فَلَا يَطْهُرُ بِزَوَالِ تَغَيُّرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ قُلَّتَا مَاءٍ طَهُورٍ جُمْلَةً أَوْ مُتَتَابِعًا بِحَسَبِ الْعَادَةِ بِصَبٍّ أَوْ إِجْرَاءٍ مِنْ عَيْنٍ أَوْ نَهْرٍ أَوْ نَبْعٍ وَيَزُولُ تَغَيُّرُهُ فَيَطْهُرُ سَوَاءٌ اخْتَلَطَ الْمَاءَانِ أَوْ لَمْ يَخْتَلِطَا بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا صَافِيًا وَالْآخَرُ كِدَرًا لِأَنَّهُمَا قُلَّتَانِ أُضِيفَتَا إِلَى مَائِعٍ نَجِسٍ وَلَمْ يُغَيِّرْهُمَا كَانَ الْجَمِيعُ طَاهِرًا كَمَا لَوْ أُضِيفَتَا إِلَى خَمْرٍ أَوْ دَمٍ، وَأَمَّا الْمَاءُ الْقَلِيلُ فَسَوَاءٌ كَانَ مُتَغَيِّرًا أَوْ لَمْ يَكُنْ لَا يَطْهُرُ حَتَّى يُضَمَّ إِلَيْهِ قُلَّتَا مَاءٍ طَهُورٍ وَيَزُولَ تَغَيُّرُهُ لِأَنَّ نَجَاسَتَهُ تَكُونُ بِمُلَاقَاةِ الْقَلِيلِ لِلنَّجَاسَةِ.
فَإِذَا كَانَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ كَثِيرًا دَفَعَ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَمَّا يَرِدُ عَلَيْهِ، فَأَمَّا إِنْ أُضِيفَ إِلَى الْكَثِيرِ الْمُتَغَيِّرِ أَوْ إِلَى الْقَلِيلِ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ وَزَالَ تَغَيُّرُهُ لَمْ يَطْهُرْ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ يَطْهُرُ فِيهِمَا وَقِيلَ يَطْهُرُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ. فَأَمَّا إِنْ طُرِحَ فِيهِ تُرَابٌ فَقَطَعَ تَغَيُّرَهُ لَمْ يَطْهُرْ وَلَا يَجِبُ غَسْلُ جَوَانِبِ النَّهْرِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ.
فَصْلٌ:
فَإِنْ تَغَيَّرَ بَعْضُ الْمَاءِ الْكَثِيرِ بِالنَّجَاسَةِ لَمْ تَنْجُسْ بَقِيَّتُهُ إِذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَنْجُسُ لِأَنَّهُ مَاءٌ وَاحِدٌ وَإِذَا لَمْ يَتَغَيَّرِ الْمَاءُ الْكَثِيرُ بِالنَّجَاسَةِ وَكَانَتْ مُسْتَهْلَكَةً فِيهِ كَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ جَازَ اسْتِعْمَالُ جَمِيعِهِ وَلَمْ يَجِبْ أَنْ يَبْقَى قَدْرُهَا. وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ قَائِمَةً فِيهِ وَهُوَ قَدْرُ الْقُلَّتَيْنِ فَاغْتُرِفَتْ مِنْهُ فِي إِنَاءٍ فَهُوَ طَهُورٌ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قُلَّتَيْنِ جَازَ التَّنَاوُلُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ سَوَاءٌ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّجَاسَةِ قُلَّتَانِ أَوْ لَا، وَسَوَاءٌ فِي نَجَاسَتِهِ مَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ وَمَا لَا يُدْرِكُهُ، إِذَا تُيُقِّنَ وُصُولُهُ إِلَى الْمَاءِ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَلَوْ سَقَطَتْ عَذِرَةٌ أَوْ قِطْعَةٌ مَيِّتَةٌ فِي مَاءٍ يَسِيرٍ فَانْتُضِحَ مِنْهُ بِسُقُوطِهَا شَيْءٌ فَهُوَ نَجِسٌ وَإِذَا شَكَّ هَلْ مَا وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ قُلَّتَانِ أَوْ أَنْقَصُ؟ فَهُوَ نَجِسٌ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ.