الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مَسْأَلَةٌ إِذَا نَوَى بِغُسْلِهِ الطَّهَارَتَيْنِ أَجْزَأَ عَنْهُمَا]
مَسْأَلَةٌ:
" وَإِذَا نَوَى بِغُسْلِهِ الطَّهَارَتَيْنِ أَجْزَأَ عَنْهُمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ تَيَمَّمَ لِلْحَدَثَيْنِ وَالنَّجَاسَةُ عَلَى بَدَنِهِ أَجْزَأَهُ عَنْ جَمِيعِهَا. وَإِذَا نَوَى بَعْضَهَا فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا مَا نَوَى "
أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إِذَا اغْتَسَلَ غُسْلًا نَوَى بِهِ الطَّهَارَتَيْنِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ أَوْ تَوَضَّأَ وُضُوءًا هُوَ بَعْضُ الْغُسْلِ وَلَمْ يُعِدْ غَسْلَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، وَإِذَا نَوَى الْأَكْبَرَ فَقَطْ بَقِيَ عَلَيْهِ الْأَصْغَرُ، وَإِنْ نَوَى بِوُضُوئِهِ الْأَصْغَرَ فَقَطْ بَقِيَ عَلَيْهِ الْأَكْبَرُ، سَوَاءٌ وُجِدَ سَبَبٌ يَخْتَصُّ بِالْأَصْغَرِ أَوْ كَانَ سَبَبُهُ سَبَبَ الْأَكْبَرِ، مِثْلَ أَنْ يَنْظُرَ أَوْ يَتَفَكَّرَ فَيُمْنِيَ، أَوْ يُجَامِعَ مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ وَيُنْزِلَ أَوْ لَا يُنْزِلَ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا يَرْتَفِعُ الْأَصْغَرُ إِلَّا بِوُضُوءٍ مَعَ الْغُسْلِ بِفِعْلِهِ قَبْلَ الْغُسْلِ أَوْ بَعْدَهُ حَتَّى فِيمَا إِذَا اتَّحَدَ السَّبَبُ، مِثْلَ أَنْ يَنْظُرَ فَيَمْنِيَ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ هَلْ تَجِبُ إِعَادَةُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم " كَانَ يَتَوَضَّأُ قَبْلَ الْغُسْلِ» " وَفِعْلُهُ يُفَسِّرُ قَوْلَهُ:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وَلِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ مُخْتَلِفَتَا الصِّفَةِ وَالْقَدْرِ وَالْفُرُوضِ، فَلَمْ يَتَدَاخَلَا كَالطَّهَارَةِ الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:" يَتَدَاخَلَانِ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا " وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِخَصَائِصِ الْوُضُوءِ وَهِيَ التَّرْتِيبُ وَالْمُوَالَاةُ وَمَسْحُ الرَّأْسِ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، فَعَلَى قَوْلِهِ إِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ، ثُمَّ يَدَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ حَتَّى أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ - أَجْزَأَهُ وَلَمْ يَحْتَجْ أَنَّ يُعِيدَ غَسْلَ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، وَبِكُلِّ حَالٍ فَإِذَا تَوَضَّأَ قَبْلَ غَسْلِهِ كُرِهَ لَهُ إِعَادَةُ وُضُوئِهِ بَعْدَ غَسْلِهِ، إِلَّا أَنْ يَنْقُضَ وُضُوءَهُ لِمَسِّ فَرْجِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وَفُسِّرَ التَّطْهِيرُ بِالِاغْتِسَالِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، وَلَا يُقَالُ: النَّهْيُ
هُنَا عَنْ قُرْبَانِ مَوَاضِعِ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ يَزُولُ بِالِاغْتِسَالِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ وَعَنْ مَسْجِدِهَا، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَسْجِدِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ صَلَاةُ مَنْ صَلَّى بِهِمْ وَخَلَطَ فِي الْقِرَاءَةِ، وَسَبَبُ النُّزُولِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الْكَلَامِ؛ وَلِأَنَّهُ أَبَاحَ الْقُرْبَانَ لِلْمُسَافِرِ إِذَا تَيَمَّمَ، وَالْمَسَاجِدُ فِي الْغَالِبِ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْأَمْصَارِ وَلَا مُسَافِرَ هُنَاكَ، وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ فِي الْغَالِبِ لَا يُمْكِنُهُ قُرْبَانُ الْمَسْجِدِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ هِيَ الْأَفْعَالُ نَفْسُهَا، فَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا مِنَ الْكَلَامِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنْهَا أَوْ عَنِ الصَّلَاةِ فَقَطْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ:{إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا، وَهَذَا أَحْسَنُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وَقَوْلِهِ: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «فِي الْمَنِيِّ الْغُسْلُ " وَقَالَ: " إِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي» " وَلَمْ يَذْكُرِ الْوُضُوءَ. «وَسُئِلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَيَتَوَضَّأُ الْجُنُبُ بَعْدَ مَا يَغْتَسِلُ؟ قَالَ: " يَكْفِيهِ الْغُسْلُ» ". وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: " إِذَا لَمْ يَتَوَضَّأِ الْجُنُبُ أَجْزَأَهُ الْغُسْلُ مَا لَمْ يَمَسَّ فَرْجَهُ " رَوَاهُمَا سَعِيدٌ؛ وَلِأَنَّ الْغُسْلَ الَّذِي وَصَفَتْهُ مَيْمُونَةُ لَيْسَ فِيهِ مَسْحُ رَأْسِهِ وَلَا غَسْلُ رِجْلَيْهِ مَرَّتَيْنِ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً مُكَمِّلَةً لِغُسْلِهِ، مَعَ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: "«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَتَوَضَّأُ بَعْدَ الْغُسْلِ» " رَوَاهُ الْخَمْسَةُ.
أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ إِذَا تَيَمَّمَ لِلْحَدَثَيْنِ وَالنَّجَاسَةُ عَلَى بَدَنِهِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُ عَنْ جَمِيعِهَا فِي الْمَشْهُورِ، وَإِنْ نَوَى بَعْضَهَا فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا مَا نَوَى؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ، وَإِنَّمَا يُبِيحُ فِعْلَ الصَّلَاةِ مَعَ قِيَامِ مَانِعِهَا، فَلَا يَسْتَبِيحُ فِعْلَ الْفَرْضِ بِنِيَّةِ النَّفْلِ؛ وَلِأَنَّهُ إِذَا اغْتَسَلَ لِأَحَدِ الْحَدَثَيْنِ لَمْ يَرْتَفِعِ الْآخَرُ، فَأَنْ لَا يُجْزِئَ التَّيَمُّمُ لِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَإِذَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ أَحْدَاثٌ كُبْرَى مِثْلَ أَنْ يُجَامِعَ وَيَحْتَلِمَ، أَوْ تَكُونُ الْمَرْأَةُ حَائِضًا جُنُبًا، أَوْ صُغْرَى مِثْلَ أَنْ يَنَامَ وَيَخْرُجَ مِنْهُ نَجَاسَاتٌ، وَيَمَسَّ النِّسَاءَ، فَنَوَى بِطَهَارَتِهِ عَنْ جَمِيعِهَا - أَجْزَأَهُ، وَإِنْ نَوَى بِطَهَارَتِهِ عَنْ إِحْدَاهَا ارْتَفَعَتْ جَمِيعُهَا عِنْدَ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهَا أَحْدَاثٌ تُوجِبُ طَهَارَةً مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، فَكَفَتِ النِّيَّةُ عَنْ أَحَدِهَا، كَمَا لَوْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الْحَدَثُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَنَوَى عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَرْتَفِعُ إِلَّا مَا نَوَاهُ إِذَا لَمْ يَدْخُلِ الْأَصْغَرُ فِي الْأَكْبَرِ بِدُونِ النِّيَّةِ، فَالنَّظِيرُ مَعَ النَّظِيرِ أَوْلَى مَعَ الظَّاهِرِ مِنْ قَوْلِهِ:" «إِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» " وَقِيلَ: إِنْ كَانَ حُكْمُ الْحَدَثَيْنِ وَاحِدًا كَالْبَوْلِ مَعَ النَّوْمِ وَالْوَطْءِ مَعَ الْإِنْزَالِ تَدَاخَلَا، وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا كَالْحَيْضِ مَعَ الْجَنَابَةِ لَمْ يَتَدَاخَلَا، وَإِذَا تَيَمَّمَ لِبَعْضِ الْأَحْدَاثِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ لَا يُجْزِئُهُ إِلَّا عَمَّا نَوَاهُ كَالْمَاءِ وَأَوْلَى، وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي فِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُجْزِئُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ مَسْحٌ، فَلَمْ يُبَحْ مَا لَمْ يُنْوَ.
وَالثَّانِي: يُجْزِئُهُ كَالْمَاءِ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ التَّطْهِيرِ فِي التَّيَمُّمِ تُغْنِي عَنْ نِيَّةِ نَظِيرِهِ، وَلَوْ تَيَمَّمَ لِفَرْضٍ اسْتَبَاحَ فَرْضًا آخَرَ، وَلَوْ تَيَمَّمَ لِنَفْلٍ اسْتَبَاحَ نَفْلًا آخَرَ؛ لِأَنَّ مَمْنُوعَاتِ أَحَدِ الْحَدَثَيْنِ هِيَ مَمْنُوعَاتُ الْحَدَثِ الْآخَرِ بِعَيْنِهِ، بِخِلَافِ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ.
فَصْلٌ
وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْكَلَامُ جَوَازَ التَّيَمُّمِ لِلْجَنَابَةِ، كَمَا يَجُوزُ لِلْحَدَثِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ:" «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مُعْتَزِلٍ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ؟ قَالَ: أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلَا مَاءَ. قَالَ: عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَحَدِيثُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِمْ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَهِيَ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ، لَكِنْ يُكْرَهُ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ أَنْ يَطَأَ زَوْجَتَهُ مَا لَمْ يَخْشَ الْعَنَتَ، فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إِزَالَةِ طَهَارَةٍ يُمْكِنُ إِبْقَاؤُهَا وَالتَّعَرُّضُ لِإِصَابَةِ النَّجَاسَةِ، وَحَمْلًا لِمَا جَاءَ مِنَ الرُّخْصَةِ عَلَى مَنْ يَخْشَى الْعَنَتَ، وَفِي الْأُخْرَى لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ الْحَاجَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْأَثَرِ، وَقَدْ تَضَمَّنَ أَيْضًا جَوَازَ التَّيَمُّمِ لِلنَّجَاسَةِ عَلَى بَدَنِهِ إِذَا عَدِمَ مَا يُزِيلُهَا وَخَشِيَ الضَّرَرَ بِإِزَالَتِهَا كَمَا لَوْ تَيَمَّمَ لِلْحَدَثِ، وَهَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ الْمَنْصُوصِ، فَإِنْ صَلَّى بِغَيْرِ تَيَمُّمٍ لَمْ يُجْزِئْهُ. قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: لَا يَتَيَمَّمُ لِلنَّجَاسَةِ كَمَا لَا يَتَيَمَّمُ لِنَجَاسَةِ الثَّوْبِ وَنَجَاسَةِ الِاسْتِحَاضَةِ وَسَلَسِ الْبَوْلِ؛ وَلِأَنَّ طَهَارَةَ الْجُنُبِ بِالْمَاءِ لَا تَتَعَدَّى مَحَلَّهَا فَأَنْ لَا تَتَعَدَّى طَهَارَةُ التُّرَابِ مَحَلَّهُ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ طَهَارَةَ التُّرَابِ تَعَبُّدٌ قَدْ عَجَزَ عَنْ إِزَالَتِهَا وَعَنِ التَّيَمُّمِ لَهَا، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ» " وَهَذَا يَعُمُّ طَهَارَتَيِ الْحَدَثِ وَالْجُنُبِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْبَدَنِ دُونَ الثَّوْبِ لِقَوْلِهِ: "«فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ» " وَلِأَنَّهُ مَحَلٌّ مِنَ الْبَدَنِ يَجِبُ تَطْهِيرُهُ بِالْمَاءِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ بِالتُّرَابِ عِنْدَ الْعَجْزِ كَمَوَاضِعِ الْحَدَثِ
وَبَدَنِ الْمَيِّتِ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ، وَإِنَّمَا يُبِيحُ فِعْلَ الصَّلَاةِ مَعَهُ، فَكَذَلِكَ التَّيَمُّمُ عَنِ الْجُنُبِ وَالْمُسْتَحَاضَةِ يَجِبُ عَلَيْهَا غَسْلُ النَّجَاسَةِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْوُضُوءُ لِكُلِّ صَلَاةٍ مِنْ غَيْرِ تَيَمُّمٍ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ عَلَى جُرْحٍ لَمْ يَجِبْ تَطْهِيرُهُ مِنَ الْحَدَثِ تَيَمَّمَ لَهَا، خَاصَّةً إِنْ كَانَتْ عَلَى مَحَلِّ الْحَدَثِ، وَهِيَ غَيْرُ مَعْفُوٍّ عَنْهَا يَتَيَمَّمُ عَنِ الْحَدَثِ وَالْجُنُبِ وَيُجْزِئُهُ تَيَمُّمٌ وَاحِدٌ، كَمَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، كَمَا يُجْزِئُهُ عَنِ الْحَدَثَيْنِ وَكَمَا تَتَدَاخَلُ طَهَارَتَا الْحَدَثِ وَالْجُنُبِ فِي الْمَاءِ، وَفِي الْآخَرِ لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّهُمَا مِنْ جِنْسَيْنِ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ عَجَزَ عَنْهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَجَزَ عَنِ التَّوَضُّؤِ لِمَرَضٍ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ إِزَالَتِهَا لِعَدَمِ الْمَاءِ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُعِيدُهَا؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ نَادِرٌ وَغَيْرُهُ مُتَّصِلٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَجِدْ تُرَابًا تَيَمَّمَ بِهِ عَنْهَا، بِخِلَافِ نَجَاسَةِ الْجُرْحِ فَإِنَّهَا تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى وَتَطُولُ مُدَّتُهَا، وَالْمَنْصُوصُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ كَالتَّيَمُّمِ عَنِ الْحَدَثِ وَنَجَاسَةِ الْجُرْحِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَى مَنْ عَجَزَ عَنْ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَعَنِ التَّيَمُّمِ لَهَا، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، فَإِذَا لَمْ نُوجِبِ الْإِعَادَةَ هُنَاكَ فَهَاهُنَا أَوْلَى، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُخَفِّفَ النَّجَاسَةَ بِمَا أَمْكَنَهُ مِنْ مَسْحٍ أَوْ حَكٍّ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ قَبْلَ التَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّهُ الْمُسْتَطَاعُ، وَتُعْتَبَرُ النِّيَّةُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ وَإِنْ لَمْ تُعْتَبَرْ فِي مُبْدَلِهِ، وَفِي الْآخَرِ لَا تُعْتَبَرُ لَهُ النِّيَّةُ كَمَا لَا تُعْتَبَرُ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
فَصْلٌ
يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ الصَّلَاةُ وَالطَّوَافُ وَمَسُّ الْمُصْحَفِ، فَأَمَّا الصَّلَاةُ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ فَرْضُهَا وَنَفْلُهَا، وَالسُّجُودُ الْمُجَرَّدُ كَسُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَالْقِيَامُ الْمُجَرَّدُ وَهُوَ صَلَاةُ الْجَنَازَةِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا بِحَدَثِهِ أَوْ جَاهِلًا بِهِ، هَذَا إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الطَّهَارَةِ، فَأَمَّا الْعَاجِزُ فَيُذْكَرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي التَّيَمُّمِ، لِمَا رَوَى
أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ، وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ» " رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا الْبُخَارِيَّ. وَأَمَّا الطَّوَافُ فَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِنَّمَا الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ، فَإِذَا طُفْتُمْ فَأَقِلُّوا الْكَلَامَ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ.
لَكِنْ إِذَا خَالَفَ وَطَافَ مُحْدِثًا فَهَلْ يَصِحُّ طَوَافُهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ. وَأَمَّا الْمُصْحَفُ فَإِنَّهُ لَا يَمَسُّ مِنْهُ مَوْضِعَ الْكِتَابَةِ وَلَا حَاشِيَتَهُ وَلَا
الْجِلْدَ أَوِ الدُّفَّ أَوِ الْوَرَقَ الْأَبْيَضَ الْمُتَّصِلَ بِهِ لَا بِبَطْنِ الْكَفِّ وَلَا بِظَهْرِهِ وَلَا شَيْءَ مِنْ جَسَدِهِ؛ لِأَنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ " «أَنْ لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ» " رَوَاهُ مَالِكٌ وَالْأَثْرَمُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُمْ.
وَهُوَ كِتَابٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ مُصْعَبُ بْنُ سَعْدٍ:" كُنْتُ أُمْسِكُ الْمُصْحَفَ عَلَى عَهْدِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَاحْتَكَكْتُ، فَقَالَ: لَعَلَّكَ مَسَسْتَ ذَكَرَكَ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: قُمْ فَتَوَضَّأْ " رَوَاهُ مَالِكٌ.
وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: " «لَا تَمَسَّ الْمُصْحَفَ إِلَّا عَلَى
طَهَارَةٍ» ". وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: " كُنَّا مَعَ سَلْمَانَ، فَخَرَجَ فَقَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ جَاءَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَوْ تَوَضَّأْتَ لَعَلَّنَا نَسْأَلُكَ عَنْ آيَاتٍ، قَالَ: إِنِّي لَسْتُ أَمَسُّهُ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ " رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ.
وَكَذَلِكَ جَاءَ عَنْ خَلْقٍ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ يُعْرَفُ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ، وَقَدِ احْتَجَّ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] كَمَا ذَكَرْنَا عَنْ سَلْمَانَ وَبَنَوْا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ هُوَ الْمُصْحَفُ بِعَيْنِهِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ:{لَا يَمَسُّهُ} [الواقعة: 79] صِيغَةُ خَبَرٍ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ: لِئَلَّا يَقَعَ الْخَبَرُ بِخِلَافِ مُخْبِرِهِ، وَرَدُّوا قَوْلَ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، فَإِنَّهُمْ جَمِيعَهُمْ مُطَهَّرُونَ، وَإِنَّمَا يَمَسُّهُ وَيَطَّلِعُ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ.
وَالصَّحِيحُ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ مُرَادٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ مُرَادُونَ مِنْ قَوْلِهِ:{الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ هَذَا تَفْسِيرُ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ حَتَّى الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ قَالُوا: " لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ " مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ صَرَّحُوا بِذَلِكَ، وَشَبَّهُوا هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ:{كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ - فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ - فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ - مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ - بِأَيْدِي سَفَرَةٍ - كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 11 - 16].
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ جَمِيعَهُ فِي كِتَابٍ، وَحِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَمْ يَكُنْ نَزَلَ إِلَّا بَعْضُ الْمَكِّيِّ مِنْهُ، وَلَمْ يُجْمَعْ جَمِيعُهُ فِي الْمُصْحَفِ إِلَّا بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَالَ: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 78] وَالْمَكْنُونُ: الْمَصُونُ الْمُحَرَّرُ الَّذِي لَا تَنَالُهُ أَيْدِي الْمُضِلِّينَ، فَهَذِهِ صِفَةُ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.
وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] صِفَةٌ لِلْكِتَابِ، وَلَوْ كَانَ مَعْنَاهَا الْأَمْرَ لَمْ يَصِحَّ الْوَصْفُ بِهَا، وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِالْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ.
وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ الْأَمْرَ لَقِيلَ: " فَلَا يَمَسُّهُ "؛ لِتَوَسُّطِ الْأَمْرِ بِمَا قَبْلَهُ.
وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ لَوْ قَالَ: " {الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] " وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ تَطْهِيرُهُمْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَوْ أُرِيدَ طَهَارَةُ بَنِي آدَمَ فَقَطْ لَقِيلَ: الْمُتَطَهِّرُونَ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108].
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].
وَسَابِعُهَا: أَنَّ هَذَا مَسُوقٌ لِبَيَانِ شَرَفِ الْقُرْآنِ وَعُلُوِّهِ وَحِفْظِهِ، وَذَلِكَ بِالْأَمْرِ الَّذِي قَدْ ثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ أَبْلَغَ مِنْهُ بِمَا يَحْدُثُ، وَيَكُونُ نِعْمَ الْوَجْهِ فِي هَذَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ هُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ كَمَا أَنَّ الَّذِي فِي هَذَا الْمُصْحَفِ هُوَ الَّذِي فِي هَذَا الْمُصْحَفِ بِعَيْنِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَحَلُّ وَرَقًا أَوْ أَدِيَمًا أَوْ حَجَرًا أَوْ لِحَافًا، فَإِذَا كَانَ مِنْ حُكْمِ الْكِتَابِ الَّذِي فِي السَّمَاءِ أَنْ لَا يَمَسَّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ الَّذِي فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهُ كَحُرْمَتِهِ، أَوْ يَكُونَ الْكِتَابُ اسْمَ جِنْسٍ يَعُمُّ كُلَّ مَا فِيهِ الْقُرْآنُ، سَوَاءٌ كَانَ فِي السَّمَاءِ أَوِ الْأَرْضِ، وَقَدْ أَوْحَى إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً - فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة: 2 - 3] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} [عبس: 13]
{مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عبس: 14] فَوَصَفَهَا أَنَّهَا مُطَهَّرَةٌ، فَلَا يَصْلُحُ لِلْمُحْدِثِ مَسُّهَا، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُمَسَّ بِعُضْوٍ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ، وَلَوْ غَسَلَ الْمُتَوَضِّئُ بَعْضَ أَعْضَائِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ مَسُّهَا حَتَّى يُكْمِلَ طَهَارَتَهُ، وَلَوْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ عَلَى عُضْوٍ جَازَ مَسُّهُ بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ النَّجَاسَةِ لَا يَتَعَدَّى مَحَلَّهَا، وَيَجُوزُ بِالتَّيَمُّمِ حَيْثُ يُشْرَعُ كَمَا يَجُوزُ بِالتَّوَضُّؤِ، فَأَمَّا إِنْ حَمَلَهُ بِعَلَاقَتِهِ أَوْ بِحَائِلٍ لَهُ مُنْفَصِلٍ مِنْهُ لَا يَتْبَعُهُ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْإِقْرَارِ وَغَيْرِهِمَا كَغِلَافِهِ أَوْ حَائِلٍ مَانِعٍ لِلْحَامِلِ كَحَمْلِهِ فِي كُمِّهِ مِنْ غَيْرِ مَسٍّ، أَوْ عَلَى رَأْسِهِ، أَوْ فِي ثَوْبِهِ، أَوْ تَصَفَّحَهُ بِعُودٍ أَوْ مَسَّهُ بِهِ - جَازَ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَعَنْهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا مُنِعَ مِنْ مَسِّهِ تَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِ، وَاذَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ بِحَائِلٍ زَالَ التَّعْظِيمُ، وَحَكَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا رِوَايَةً أَنَّهُ إِنَّمَا يَحْرُمُ مَسُّهُ بِكُمِّهِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ؛ لِأَنَّ كُمَّهُ وَثِيَابَهُ مُتَّصِلَةٌ بِهِ عَادَةً، فَأَشْبَهَتْ أَعْضَاءَهُ بِخِلَافِ الْعُودِ وَالْغِلَافِ، وَحَكَى الْآمِدِيُّ رِوَايَةً يَجُوزُ حَمْلُهُ بِعَلَاقَتِهِ وَفِي غِلَافِهِ دُونَ تَصَفُّحِهِ بِكُمِّهِ أَوْ عُودٍ. وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ يَمَسَّهُ، فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ لَا سِيَّمَا وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ» " جَوَازُ مَا سِوَى الْمُبَاشَرَةِ، وَلَيْسَ الْمَسُّ مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ كَالْمُبَاشِرَةِ بِدَلِيلِ نَقْضِ الْوُضُوءِ وَانْتِشَارِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرِ بِهِ وَالْفِدْيَةِ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْعَلَاقَةُ وَإِنِ اتَّصَلَتْ بِهِ فَلَيْسَتْ مِنْهُ، إِنَّمَا يُرَادُ لِتَعْلِيقِهِ، وَهُوَ مَقْصُودٌ زَائِدٌ عَلَى مَقْصُودِ الْمُصْحَفِ، بِخِلَافِ الْجِلْدِ فَإِنَّهُ يُرَادُ لِحِفْظِ وَرَقِ الْمُصْحَفِ وَصَوْنِهِ، وَتَجُوزُ كِتَابَتُهُ مِنْ غَيْرِ مَسِّ الصَّحِيفَةِ كَتَصَفُّحِهِ بِعُودٍ، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ اسْتَكْتَبُوا أَهْلَ الْحِيرَةِ الْمَصَاحِفَ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ الْكِتَابَةُ وَإِنْ أَجَزْنَا تَقْلِيبَهُ بِالْعُودِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ دُونَ الْجُنُبِ كَالتِّلَاوَةِ.
وَمَا فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُصْحَفِ إِنْ كَانَ مُفْرَدًا، فَإِنْ كُتِبَ مَعَ الْقُرْآنِ غَيْرُهُ فَالْحُكْمُ لِلْأَغْلَبِ، فَيَجُوزُ مَسُّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالرَّسَائِلِ الَّتِي فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُصْحَفًا
وَقَدْ كَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ بِكِتَابٍ فِيهِ قُرْآنٌ، وَكَانَ يَكْتُبُ فِي صَدْرِ كُتُبِهِ إِلَى أَهْلِ النَّوَاحِي " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " وَلِأَنَّ مَا فِيهَا مِنَ الْقُرْآنِ لَا يَثْبُتُ لَهَا حُرْمَةُ الْمُصْحَفِ، بِدَلِيلِ جَوَازِ بَيْعِهَا وَشِرَائِهَا وَعُمُومِ الْحَاجَةِ إِلَى مَسِّهَا، وَيَجُوزُ مَسُّ مَا كُتِبَ فِيهِ الْمَنْسُوخُ وَالتَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْوَجْهَيْنِ، وَكَذَلِكَ مَسُّ مَا فِيهِ الْأَحَادِيثُ الْمَأْثُورَةُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ الْقُرْآنَ، وَفِي مَسِّ الدَّرَاهِمِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ رِوَايَتَانِ، وَفِي مَسِّ الصِّبْيَانِ أَلْوَاحَهُمُ الْمَكْتُوبَ فِيهَا الْقُرْآنُ وَجْهَانِ، وَقِيلَ رِوَايَتَانِ، وَوَجْهُ الرُّخْصَةِ عُمُومُ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ تَمْلِيكُهُ مِنْ كَافِرٍ وَلَا السَّفَرُ بِهِ إِلَى بِلَادِهِمْ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ، وَلَوْ مَلَكَ الذِّمِّيُّ مُصْحَفًا بِالْإِرْثِ أُلْزِمَ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَدَيَّنُونَ بِانْتِهَاكِهِ وَانْتِقَاصِ حُرْمَتِهِ.
فَصْلٌ
وَيَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ أَشَدُّ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَحْرُمُ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ، وَلِأَنَّ فِيهَا قِرَاءَةً، وَكَذَلِكَ الطَّوَافُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَلَاةٌ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى الْمُكْثِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَكَذَلِكَ مَسُّ الْمُصْحَفِ، وَيَحْرُمُ أَيْضًا عَلَيْهِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ:" «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَحْجُبُهُ " وَرُبَّمَا قَالَ: لَا يَحْجِزُهُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ شَيْءٌ لَيْسَ الْجَنَابَةَ» " رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَيَجُوزُ بَعْضُ الْآيَةِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ اخْتَارَهَا الْقَاضِي وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ فِي الْخُطْبَةِ وَلَا يَحْصُلُ بِهِ إِعْجَازٌ، فَأَشْبَهَ الْبَسْمَلَةَ وَالْحَمْدَ لَهُ. وَالثَّانِيَةُ: لَا يَجُوزُ وَهِيَ أَقْوَى لِقَوْلِ عَلِيٍّ " اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا لَمْ يُصِبْ أَحَدَكُمْ جَنَابَةٌ، فَإِنْ أَصَابَهُ جَنَابَةٌ فَلَا وَلَا حَرْفًا وَاحِدًا " رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ.
وَقَالَ عَلِيٌّ: " أَعْلَمُ بِهَا " حَيْثُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " «أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ عَلَى كُلِّ حَالٍ إِلَّا الْجَنَابَةَ وَالْحَرْفُ مِنَ الْقُرْآنِ» فَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَرْوِيهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ يَذْكُرَانِ اللَّهَ وَلَا يَقْرَآنِ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا، قِيلَ: وَلَا آيَةً؟ قَالَ: وَلَا نِصْفَ آيَةٍ " رَوَاهُ حَرْبٌ؛ وَلِأَنَّ بَعْضَ الْآيَةِ كَالْآيَةِ فِي مَنْعِ الْمُحْدِثِ مِنْ مَسِّ كِتَابَتِهَا، فَكَذَلِكَ فِي مَنْعِ الْجُنُبِ مِنْ تِلَاوَتِهَا. وَأَمَّا ذِكْرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَدُعَاؤُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ:" «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ» " رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا.
وَلِأَنَّ الْمَنْعَ إِنَّمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ، وَغَيْرُهُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ لَا يُسَاوِيهِ فِي الْحُرْمَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ الْمُحْدِثُ مِنْ مَسِّ صَحِيفَتِهِ، وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِهِ إِلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْقُرْآنِ، وَإِنَّ التِّلَاوَةَ أَفْضَلُ مِنَ الذِّكْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " «أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ وَهُنَّ مِنَ الْقُرْآنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ،
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ» ". وَقَالَ:" «فَضْلُ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ» " وَقَالَ: " «مَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ إِلَى اللَّهِ بِأَفْضَلَ مِمَّا خَرَجَ مِنْهُ» ". فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ مِنَ الْكَلَامِ مَا يُوَافِقُ نَظْمُهُ نَظْمَ الْقُرْآنِ إِذَا لَمْ يُقْصَدُ بِهِ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ، وَإِنْ بَلَغَ آيَةً كَقَوْلِ الْآكِلِ وَالْمُتَوَضِّئِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَقَوْلِ الشَّاكِرِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَقَوْلِ الْمُسْتَغْفِرِ:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا} [الأعراف: 23] الْآيَةَ.
لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ قَدْ يُقْصَدُ بِهِ الْقُرْآنُ وَيُقْصَدُ بِهِ غَيْرُهُ وَإِنِ اتَّفَقَتْ أَلْفَاظُهَا، وَمَتَى كَانَ شَيْئًا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْقُرْآنُ عَنْ غَيْرِهِ فَقَدْ قِيلَ: لَا يَجُوزُ قِرَاءَتُهُ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا قُرْآنًا، وَقِيلَ: يَجُوزُ إِذَا قُصِدَ بِهِ مَعْنَى عَيْنِ التِّلَاوَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى الرُّومِ فِي رِسَالَةٍ: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا} [آل عمران: 64] الْآيَةَ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهَا التَّبْلِيغَ لَا الْقِرَاءَةَ وَالتِّلَاوَةَ.
وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ، فَأَمَّا الْعُبُورُ فِيهِ فَلَا بَأْسَ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «لَا أُحِلُّ
الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "«إِنَّ الْمَسْجِدَ لَا يَحِلُّ لِجُنُبٍ وَلَا حَائِضٍ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَلِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَنْزِلُ الْمَلَائِكَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الذِّكْرِ، "«وَالْمَلَائِكَةُ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا جُنُبٌ وَلَا تِمْثَالٌ» " كَذَلِكَ رَوَاهُ عَلِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. فَفِي لُبْثِ الْجُنُبِ فِي الْمَسْجِدِ إِيذَاءٌ لِلْمَلَائِكَةِ، فَأَمَّا الْمُرُورُ فَيَجُوزُ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "«نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَقُلْتُ: إِنِّي حَائِضٌ، فَقَالَ: إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَتْ مَيْمُونَةُ: "«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ عَلَى إِحْدَانَا وَهِيَ حَائِضٌ، فَيَضَعُ رَأْسَهُ فِي حِجْرِهَا، فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهِيَ حَائِضٌ، ثُمَّ تَقُومُ إِحْدَانَا بِخُمْرَتِهِ فَتَضَعُهَا فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ حَائِضٌ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ.
وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ " كَانَ أَحَدُنَا يَمُرُّ فِي الْمَسْجِدِ جُنُبًا مُجْتَازًا " رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: " «كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْشُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمْ جُنُبٌ» " رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ.
وَقَدِ احْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ وَابْنَ عَبَّاسٍ وَغَيْرَهُمَا " فَسَّرُوا ذَلِكَ بِعُبُورِ الْجُنُبِ فِي الْمَسْجِدِ " قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ: يَكُونُ الْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ مَوَاضِعَ الصَّلَاةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج: 40] وَقَدْ فَسَّرَهَا آخَرُونَ بِأَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ تَيَمَّمَ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ هِيَ الْأَفْعَالُ أَنْفُسُهَا. الْقَوْلُ عَلَى ظَاهِرِهِ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ قَدْ ذُكِرَ فِي تَمَامِ الْآيَةِ، فَيَكُونُ تَكْرِيرًا، وَلِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَا تَجُوزُ لَهُ صَلَاةٌ مَعَ الْجَنَابَةِ إِلَّا فِي حَالِ عَدَمِ الْمَاءِ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ:{إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43](مُعْتَرَضٌ) كَذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ كَمَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ مَعَ الْجَنَابَةِ لِلْمُسَافِرِ فَكَذَلِكَ لِلْمَرِيضِ، وَلَمْ يُسْتَثْنَ كَمَا اسْتُثْنِيَ الْمُسَافِرُ، فَلَوْ قَصَدَ ذَلِكَ لِيُبَيِّنَ كَمَا بَيَّنَ فِي آخِرِ الْآيَةِ الْمَرِيضَ وَالْمُسَافِرَ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ، وَلِأَنَّ فِي حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ لُزُومُ التَّخْصِيصِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] وَيَكُونُ الْمَخْصُوصُ أَكْثَرَ مِنَ الْبَاقِي، فَإِنَّ وَاجِدَ الْمَاءِ أَكْثَرُ مِنْ عَادِمِهِ، وَلَا قَوْلِهِ:{وَلَا جُنُبًا} [النساء: 43] لِاسْتِثْنَاءِ الْمَرِيضِ أَيْضًا، وَفِيهِ تَخْصِيصُ أَحَدِ السَّبَبَيْنِ بِالذِّكْرِ مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُكْمِ، وَلِأَنَّ عُبُورَ السَّبِيلِ حَقِيقَتُهُ الْمُرُورُ وَالِاجْتِيَازُ.
وَالْمُسَافِرُ قَدْ يَكُونُ لَابِثًا وَمَاشِيًا، فَلَوْ أُرِيدَ الْمُسَافِرُ لَقِيلَ إِلَّا مِنْ سَبِيلٍ كَمَا فِي الْآيَاتِ الَّتِي عَنَى بِهَا الْمُسَافِرِينَ، وَالتَّوْجِيهُ الْمَذْكُورُ عَنْ أَصْحَابِنَا عَلَى ظَاهِرِهِ ضَعِيفٌ أَيْضًا؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ صَلَّوْا بَعْدَ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِنَّمَا كَانَ فِي بَيْتِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ؛ وَلِأَنَّهُ جَوَّزَ الْقُرْبَانَ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ إِذَا عُدِمَ الْمَاءُ بِشَرْطِ التَّيَمُّمِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ فِي الْمَسَاجِدِ غَالِبًا، وَإِنَّمَا الْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ عَامَّةً فِي قُرْبَانِ الصَّلَاةِ وَمَوَاضِعِهَا، وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ عُبُورَ السَّبِيلِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي مَوْضِعِهَا خَاصَّةً، وَهَذَا إِنَّمَا فِيهِ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى مَنْعِ اللُّبْثِ، أَوْ تَكُونُ الصَّلَاةُ هِيَ الْأَفْعَالُ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ:{إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا، وَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى مَنْعِ اللُّبْثِ؛ لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْعُبُورِ بِالذِّكْرِ يُوجِبُ اخْتِصَاصَهُ بِالْحُكْمِ، وَلِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ كَلَامٍ فِي حُكْمِ النَّفْيِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَلَا مَوَاضِعَهَا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ. وَإِذَا تَوَضَّأَ الْجُنُبُ جَازَ لَهُ اللُّبْثُ؛ لِمَا رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ: ثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ:" كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَحَدَّثُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَكُونُ جُنُبًا فَيَتَوَضَّأُ ثُمَّ يَدْخُلُ فَيَتَحَدَّثُ ". وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ: " رَأَيْتُ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَجْلِسُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمْ مُجْنِبُونَ إِذَا تَوَضَّئُوا وُضُوءَ الصَّلَاةِ " رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَهَذَا لِأَنَّ الْوُضُوءَ يَرْفَعُ الْحَدَثَيْنِ عَنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، وَيَرْفَعُ حُكْمَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ عَنْ سَائِرِ الْبَدَنِ فَيُقَارِبُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَدَثُ الْأَصْغَرُ فَقَطْ؛ وَلِهَذَا أُمِرَ الْجُنُبُ إِذَا أَرَادَ النَّوْمَ وَالْأَكْلَ بِالْوُضُوءِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ مُجَرَّدَ عَبَثٍ، يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي نَهْيِ الْجُنُبِ أَنْ يَنَامَ قَبْلَ أَنْ
يَتَوَضَّأَ أَنْ لَا يَمُوتَ فَلَا تَشْهَدَ الْمَلَائِكَةُ جَنَازَتَهُ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ شَهِدَتْ جِنَازَتَهُ وَدَخَلَتِ الْمَكَانَ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَنَهَى الْجُنُبَ عَنِ الْمَسْجِدِ؛ لِئَلَّا يُؤْذِيَ الْمَلَائِكَةَ بِالْخُرُوجِ، فَإِذَا تَوَضَّأَ أَمْكَنَ دُخُولُ الْمَلَائِكَةِ الْمَسْجِدَ، فَزَالَ الْمَحْذُورُ، وَهَذَا الْعُبُورُ إِنَّمَا يَجُوزُ إِذَا كَانَ لِحَاجَةٍ وَغَرَضٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضَرُورِيًّا، فَأَمَّا (لِمُجَرَّدِ) الْعَبَثِ فَلَا، فَإِنِ اضْطُرَّ إِلَى اللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ إِلَى الدُّخُولِ ابْتِدَاءً، أَوِ اللُّبْثِ فِيهِ لِخَوْفٍ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ - جَازَ ذَلِكَ، وَلَزِمَهُ التَّيَمُّمُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ كَمَا يَلْزَمُ إِذَا لَبِثَ فِيهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ وَقَدْ عَدِمَ الْمَاءَ، وَالْمَنْصُوصُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ مَلْجَأٌ إِلَى اللُّبْثِ، وَالْمَقَامُ غَيْرُ قَاصِدٍ لَهُ، فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْعَابِرِ الْمُجْتَازِ، كَالْمُسَافِرِ لَوْ حَبَسَهُ عَدُوٌّ أَوْ سُلْطَانٌ كَانَ فِي حُكْمِ الْمُجْتَازِ فِي رُخَصِ السَّفَرِ؛ وَلِهَذَا لَوْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ بِنِيَّةِ اللُّبْثِ أَثِمَ وَإِنْ لَمْ يَلْبَثْ؛ اعْتِبَارًا بِقَصْدِ اللُّبْثِ كَمَا يُعْتَبَرُ قَصْدُ الْإِقَامَةِ، وَلَا يُكْرَهُ لِلْجُنُبِ أَنْ يَحْتَجِمَ أَوْ يَأْخُذَ مِنْ شَعْرِهِ أَوْ ظُفْرِهِ أَوْ يَخْتَضِبَ - نَصَّ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْحَائِضُ؛ لِأَنَّ هَذَا نَظَافَةٌ فَأَشْبَهَ الْوُضُوءَ، وَلَا يُقَالُ:" إِنَّ الْجَنَابَةَ تَبْقَى عَلَى الشَّعْرِ وَالظُّفْرِ "؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْجَنَابَةِ إِنَّمَا ثَبَتَ لَهُمَا مَا دَامَا مُتَّصِلَيْنِ بِالْإِنْسَانِ، فَإِذَا انْفَصَلَا لَحِقَا بِالْجَمَادَاتِ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَذِكْرُ اللَّهِ تبارك وتعالى فَيَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ، وَلِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " «أَنَّهُ لَمَّا قَامَ اللَّيْلَ قَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ الْأَوَاخِرَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّأَ» ".
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ فَأُتِيَ بِطَعَامٍ، فَذُكِرَ لَهُ الْوُضُوءُ، فَقَالَ " مَا أَرَدْتُ صَلَاةً فَأَتَوَضَّأُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ: «إِنَّمَا أَمَرْتُ بِالْوُضُوءِ إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْوُضُوءُ كَذَلِكَ لِمَا رَوَى الْمُهَاجِرُ بْنُ قُنْفُذٍ أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ وُضُوئِهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ وَقَالَ:«إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ إِلَّا أَنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ إِلَّا عَلَى طَهَارَةٍ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ.
وَعَنْ أَبِي جُهَيْمِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: «أَقْبَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عليه السلام حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَارِ فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ثُمَّ رَدَّ عليه السلام» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِكُلِّ صَلَاةٍ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَفِي الْأُخْرَى لَا فَضْلَ فِيهِ كَمَا لَوْ تَوَضَّأَ مِرَارًا وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا؛ وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ إِنَّمَا يُرَادُ لِرَفْعِ الْحَدَثِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُ، بِخِلَافِ الْغُسْلِ، فَإِنَّهُ
يُشْرَعُ لِلتَّنْظِيفِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ بِوُضُوءٍ، وَمَعَ كُلِّ وُضُوءٍ سِوَاكٌ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: " «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ " قِيلَ لَهُ: فَأَنْتُمْ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ مَا لَمْ نُحْدِثْ». رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا مُسْلِمًا. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ تَوَضَّأَ عَلَى طُهْرٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِيهِ لِينٌ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ " يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ طَاهِرًا وَغَيْرَ طَاهِرٍ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ. وَلِأَنَّ قَوْلَهُ:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] أَمْرٌ لِكُلِّ قَائِمٍ طَاهِرٍ أَوْ غَيْرِ طَاهِرٍ، لَكِنْ فَسَّرَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الْأَمْرَ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُحْدِثِ لَيْسَ لِلْإِيجَابِ، فَيَبْقَى النَّدْبُ، وَيُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِمَنْ يُرِيدُ الْمَنَامَ؛ لِمَا رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَإِنْ كَانَ جُنُبًا كَانَ الِاسْتِحْبَابُ فِي حَقِّهِ أَوْكَدَ بِحَيْثُ يُكْرَهُ لَهُ تَرْكُ الْوُضُوءِ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ " يُسَنُّ " لَهُ أَنْ يَغْسِلَ فَرْجَهُ وَيَتَوَضَّأَ، وَفِي كَلَامِهِ ظَاهِرُهُ وُجُوبُ ذَلِكَ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ «أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَنَامُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ؟ قَالَ:" نَعَمْ إِذَا تَوَضَّأَ» " رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ غَسَلَ فَرْجَهُ وَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ» " رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنَامُ وَهُوَ جُنُبٌ وَلَا يَمَسُّ مَاءً» " رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ - فَقَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَكَذَلِكَ ضَعَّفَهُ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا، مَعْنَاهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - لَا يَمَسُّ مَاءَ الِاغْتِسَالِ، أَرَادَتْ أَنْ
تُبَيِّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَغْتَسِلُ قَبْلَ النَّوْمِ، كَمَا جَاءَ عَنْهَا فِي رِوَايَةِ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ. وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ فِي ذَلِكَ إِذَا أَصَابَتْهَا الْجَنَابَةُ، وَعَنْهُ: إِنَّهُ لَمْ يَرِدْ ذَلِكَ عَلَى النِّسَاءِ وَرَآهُ عَلَى الرِّجَالِ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْ عَنْهُ بِالْوُضُوءِ وَلَمْ تَذْكُرْ أَنَّهَا كَانَتْ تَفْعَلُ ذَلِكَ وَلَا أَنَّهُ أَمَرَهَا، مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْجَنَابَةِ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَمْكُثُ مُدَّةً حَائِضًا لَا يُشْرَعُ لَهَا وُضُوءٌ، فَمُكْثُهَا جُنُبًا أَخَفُّ، وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِلْجُنُبِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُجَامِعَ ثَانِيًا، أَوْ يَأْكُلَ، أَوْ يَشْرَبَ؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتَوَضَّأْ» " رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا الْبُخَارِيَّ.
وَرَوَى إِبْرَاهِيمُ عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ جُنُبًا وَأَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ أَوْ يَنَامَ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ " «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِلْجُنُبِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ أَوْ يَنَامَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ
حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ " «أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَحْضُرُ جَنَازَةَ الْكَافِرِ بِخَيْرٍ، وَلَا الْمُتَضَمِّخَ بِالزَّعْفَرَانِ، وَلَا الْجُنُبَ» ".
وَيُكْرَهُ لَهُ تَرْكُهُ هُنَا كَتَرْكِهِ لِلنَّوْمِ عِنْدَ الْقَاضِي، لِحَدِيثِ عَمَّارٍ هَذَا، وَالْمَنْصُوصُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ، لَكِنْ يَكْفِيهِ أَنْ يَغْسِلَ يَدَيْهِ وَفَمَهُ لِلْأَكْلِ، وَأَمَّا الْجِمَاعُ فَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى مَاءٍ، وَلَوْ تَرَكَ غَسْلَ الْيَدَيْنِ وَالْفَمِ عِنْدَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لَمْ يُكْرَهْ عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِهِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:" «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ يَغْسِلُ يَدَيْهِ ثُمَّ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَلَيْسَ فِيهِ غَسْلُ الْفَمِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَلَغَ أَحْمَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَعَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:" «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى أَهْلِهِ أَتَاهُمْ ثُمَّ يَعُودُ وَلَا يَمَسُّ مَاءً» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَجْعَلُ الْمَسْأَلَةَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا اسْتِحْبَابُ الْوُضُوءِ، وَالثَّانِيَةُ: اسْتِحْبَابُ غَسْلِ الْيَدَيْنِ وَالْمَضْمَضَةِ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْوُضُوءَ كَمَالُ السُّنَّةِ، وَأَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى غَسْلِ الْيَدَيْنِ أَدْنَى السُّنَّةِ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَالْمَنْصُوصُ أَنَّهَا كَالرَّجُلِ فِيمَا يُشْرَعُ لَهَا عِنْدَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنْ وُضُوءٍ أَوْ غَسْلِ الْيَدِ وَالْفَمِ، وَأَمَّا عِنْدَ مُعَاوَدَةِ الرَّجُلِ لَهَا فَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ كَالنَّوْمِ.
فَصْلٌ
وَالْوَاجِبُ فِي الْغُسْلِ الْإِسْبَاغُ كَالْوُضُوءِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ فِي
غُسْلِهِ مِنْ صَاعٍ وَلَا فِي وُضُوئِهِ مِنْ مُدٍّ؛ لِمَا رَوَى سَفِينَةُ قَالَ: " «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ وَيَتَطَهَّرُ بِالْمُدِّ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ:" «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «يُجْزِئُ فِي الْغُسْلِ الصَّاعُ وَمِنَ الْوُضُوءِ الْمُدُّ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَثْرَمُ. وَلَوْ أَسْبَغَ بِدُونِ ذَلِكَ جَازَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ إِذَا أَتَى بِالْغُسْلِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى مُجَرَّدِ الْمَسْحِ كَالدَّهْنِ؛ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَحَدِيثِ أَمِّ سَلَمَةَ، وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ، وَأَسْمَاءَ، فَإِنَّهُ عَلَّقَ الْإِجْزَاءَ بِالْإِفَاضَةِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ، وَعَنْ عَائِشَةَ " «أَنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ هِيَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ يَسَعُ ثَلَاثَةَ أَمْدَادٍ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْهَا أَيْضًا قَالَتْ: " «لَقَدْ رَأَيْتَنِي أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ هَذَا، فَإِذَا بِتَوْرٍ مَوْضُوعٍ مِثْلَ الصَّاعِ أَوْ دُونَهُ، فَنَشْرَعُ فِيهِ جَمِيعًا، فَأُفِيضُ بِيَدِيَّ عَلَى رَأْسِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَمَا أَنْقُضُ لِي شَعْرًا» " رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَطَاءٍ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: " إِنَّ لِي
رَكْوَةً - أَوْ قَالَ: قَدَحًا - مَا تَسَعُ إِلَّا نِصْفَ الْمُدِّ أَوْ نَحْوَهُ، ثُمَّ أَبُولُ ثُمَّ أَتَوَضَّأُ، وَأُفْضِلُ مِنْهُ فَضْلًا " قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ فَقَالَ: وَأَنَا يَكْفِينِي مِثْلُ ذَلِكَ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَهَكَذَا سَمِعْنَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: " كَانُوا أَشَدَّ اسْتِبْقَاءً لِلْمَاءِ مِنْكُمْ، وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ رُبْعَ الْمُدِّ يُجْزِئُ مِنَ الْوُضُوءِ " رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ زِيَادَةً يَسِيرَةً جَازَ. فَأَمَّا السَّرَفُ فَمَكْرُوهٌ جِدًّا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْوُضُوءِ، وَالصَّاعُ هُنَا كَصَاعِ الطَّعَامِ الْمَذْكُورِ فِي الْكَفَّارَاتِ وَالصَّدَقَاتِ، وَهِيَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ بِالْعِرَاقِيِّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَاعَ الْمَاءِ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ وَالْمُدُّ رِطْلَانِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي فِي الْخِلَافِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ أَنَسًا قَالَ: "«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ بِإِنَاءٍ يَكُونُ رِطْلَيْنِ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَلَفْظُهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "«يُجْزِئُ فِي الْوُضُوءِ رِطْلَانِ مِنْ مَاءٍ» " وَهَذَا يُفَسِّرُ رِوَايَتَهُ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا: "«كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ» ". وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "«كُنْتُ أَغْتَسِلْ أَنَا وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ قَدَحٍ يُقَالُ لَهُ: الْفَرَقُ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالْفَرَقُ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا بِالْعِرَاقِيِّ.
فَصْلٌ
يَنْبَغِي لِلْمُغْتَسِلِ الْغُسْلَ الْوَاجِبَ وَالْمُسْتَحَبَّ وَغَيْرَهُمَا التَّسَتُّرُ مَا أَمْكَنَهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسِّتْرَ، ثُمَّ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَضْرَتِهِ أَحَدٌ مِنَ الْآدَمِيِّينَ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ أَحَدٌ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ مِنْهُ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30] وَرَوَى بَهْزُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْقُشَيْرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَالَ: " احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ " قُلْتُ: فَإِذَا كَانَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ قَالَ: " إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا يَرَاهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَيْنَهَا " قُلْتُ: فَإِذَا كَانَ الْقَوْمُ أَحَدُنَا خَالِيًا قَالَ: " فَاللَّهُ تبارك وتعالى أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ» " رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ.
وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، وَهَذَا يَعُمُّ حِفْظَهَا مِنَ النَّظَرِ وَالْمَسِّ فَقَالَ: " «لَا تَبْرِزْ فَخْذَكَ، وَلَا تَنْظُرْ إِلَى فَخْذِ حَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ» وَقَالَ: «لَا تَمْشُوا عُرَاةً»
رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ اللَّذَيْنِ يَضْرِبَانِ الْغَائِطَ. وَنَهَى عَنْ دُخُولِ الْحَمَّامِ إِلَّا بِالْأُزُرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ أَحَدٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَتِرَ بِسَقْفٍ أَوْ حَائِطٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنْ يَأْتَزِرَ كَمَا أَنْ يَسْتَتِرَ عِنْدَ الْخَلَاءِ وَالْجِمَاعِ، وَأَنْ لَا يَرْفَعَ ثَوْبَهُ حَتَّى يَدْنُوَ مِنَ الْأَرْضِ وَأَوْكَدَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَحَقُّ أَنْ يَسْتَحْيَ مِنْهُ النَّاسُ، فَيَأْتِي مِنَ السِّتْرِ بِقَدْرِ مَا يُمْكِنُهُ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم " «أَنَّهُ كَانَ يَسْتَتِرُ عِنْدَ الْغُسْلِ» ".
وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: " إِنِّي لَأَغْتَسِلُ فِي الْبَيْتِ الْمُظْلِمِ فَأَحْنِي ظَهْرِي حَيَاءً مِنْ رَبِّي عز وجل " رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ. فَإِنِ اغْتَسَلَ فِي فَضَاءٍ وَلَا إِزَارَ عَلَيْهِ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ، لِمَا رَوَى يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «رَأَى رَجُلًا يَغْتَسِلُ بِالْبَرَازِ فَقَالَ:" إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسِّتْرَ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ عَنِ التَّعَرِّي فَاسْتَحْيُوا مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ الَّذِينَ لَا يُفَارِقُونَكُمْ إِلَّا عِنْدَ
الْغَائِطِ وَالْجَنَابَةِ وَالْغُسْلِ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ بِالْعَرَاءِ فَلْيَسْتَتِرْ بِثَوْبِهِ أَوْ بِجِذْمِ حَائِطٍ» " رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ. وَرَوَاهُ ابْنُ بَطَّةٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ صَحَّ ذَلِكَ مِنْ مَرَاسِيلِ مُجَاهِدٍ، وَقِيلَ: لَا يُكْرَهُ كَمَا لَوِ اسْتَتَرَ بِحَائِطٍ أَوْ سَقْفٍ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَجَرَّدَ؛ لَأَنَّ بِهِ حَاجَةً إِلَى ذَلِكَ، فَأَشْبَهَ حَالَ الْجِمَاعِ وَالتَّخَلِّي. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي كَرَاهَةِ كَشْفِ الْعَوْرَةِ لِلِاغْتِسَالِ فِي الْخَلْوَةِ رِوَايَتَيْنِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُكْرَهْ لَهُ التَّجَرُّدُ مَعَ الِاسْتِتَارِ؛ لِأَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "«أَنَّ مُوسَى عليه السلام اغْتَسَلَ عُرْيَانًا» " وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "«أَنَّ أَيُّوبَ عليه السلام اغْتَسَلَ عُرْيَانًا» وَلِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ؛ «وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَجَرَّدَ لِأَهْلِهِ وَاغْتَسَلَ، وَكَانَ يُسْتَرُ بِالثَّوْبِ وَيَغْتَسِلُ،» وَحَدِيثُ بَهْزٍ
فِي قَوْلِهِ: " «فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَ مِنْهُ» "(فَإِذَا) لَمْ يَكُنْ حَاجَةً كَالْغُسْلِ وَالْخَلَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُنْهَى عَنْ كَشْفِ السَّوْءَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الِاتِّزَارُ فِي حَالِ الْغُسْلِ وَغَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يُكْرَهُ دُخُولُ الْمَاءِ بِغَيْرِ مِيزَرٍ لَكِنْ يُحَبُّ الِاتِّزَارُ، لِمَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ مُوسَى عليه السلام كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْمَاءَ لَمْ يُلْقِ ثَوْبَهُ حَتَّى يُوَارِيَ عَوْرَتَهُ فِي الْمَاءِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَلِأَنَّهُ كَشْفٌ لِلِاغْتِسَالِ حَيْثُ لَا يَرَاهُ آدَمِيٌّ، فَجَازَ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَاءِ، وَعَنْهُ أَنَّهُ يُكْرَهُ، وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ نُصُوصِهِ وَكَرِهَهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، وَإِنَّمَا رَخَّصَ فِيهِ لِمَنْ لَا إِزَارَ مَعَهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ:" «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَدْخُلَ الْمَاءَ إِلَّا بِمِئْزَرٍ» " رَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ، وَرَوَى أَيْضًا عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ:" خَرَجْتُ إِلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ، فَرَأَيْتُ بِغَالًا، فَقُلْتُ لِرَجُلٍ: لِمَنْ هَذِهِ الْبِغَالُ؟ فَقَالَ: لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ. قُلْتُ: وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: فِي الْفُرَاتِ يَتَغَاطُونُ، قَالَ: فَأَتَيْتُهُمْ فَرَأَيْتُهُمْ فِي سَرَاوِيلَاتٍ، فَقُلْتُ لِلْحَسَنِ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَغَاطُونَ فِي الْمَاءِ وَعَلَيْكُمْ سَرَاوِيلَاتٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ لِلْمَاءِ سُكَّانًا، وَأَنَّ أَحَقَّ مَنِ اسْتَتَرَ مِنْ سُكَّانِ الْمَاءِ لَنَحْنُ ".
وَذَكَرَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ قِيلَ لَهُمَا وَقَدْ دَخَلَا الْمَاءَ وَعَلَيْهِمَا بُرْدَانِ فَقَالَا: " إِنَّ لِلْمَاءِ سُكَّانًا " وَاحْتَجَّ بِهِ إِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ بِمَعْنَاهُ؛ وَلِأَنَّهُ كَشْفٌ لِلْعَوْرَةِ بِحَضْرَةِ مَنْ يَرَاهُ مِنَ الْخَلْقِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَشَفَهَا بِحَضْرَةِ
آدَمِيٍّ؛ وَلِذَلِكَ كَرِهْنَا لَهُ التَّكَشُّفَ فِي الْخَلْوَةِ إِلَّا بِقَدَرِ الْحَاجَةِ وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْ كَشْفِهَا فِي الْمَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَصِلُ إِلَى الْأَرْفَاغِ وَنَحْوِهَا مِنْ غَيْرِ تَكَشُّفٍ، وَحَدِيثُ مُوسَى شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وَكَانَ التَّسَتُّرُ فِي شَرْعِهِمْ أَخَفَّ، وَلَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمُ النَّظَرُ إِلَى الْعَوْرَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى عَوْرَةِ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا كَانَ مُوسَى يَجْتَنِبُ ذَلِكَ حَيَاءً، وَالتَّكَشُّفُ فِي الْمَاءِ أَهْوَنُ مِنْهُ بَيْنَ النَّاسِ، فَمَا كَانَ مَكْرُوهًا فِيهِمْ صَارَ مُحَرَّمًا فِينَا وَمَا كَانَ مُبَاحًا صَارَ مَكْرُوهًا، أَوْ يُحْمَلُ حَدِيثُ مُوسَى عَلَى كَشْفِهَا فِي الْمَاءِ لِحَاجَةٍ، وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ إِذَا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى كَشْفِهَا كَمَا فِي كَشْفِهَا خَارِجَ الْمَاءِ، وَيَكُونُ مَقْصُودُ الْحَدِيثِ بَيَانَ أَنَّ الْمَاءَ لَيْسَ بِسَاتِرٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ سُكَّانًا.
فَصْلٌ
وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحَمَّامِ وَغَيْرِهِ، فَلَا يَحِلُّ دُخُولُهَا إِلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ وَيَغُضَّ نَظَرَهُ عَنْ عَوْرَاتِهِمْ، وَلَا يَمَسَّ عَوْرَةَ أَحَدٍ، وَلَا يَدَعَ أَحَدًا يَمَسُّ عَوْرَتَهُ مِنْ قَيَّمٍ وَلَا غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ وَالنَّظَرَ إِلَيْهَا وَمَسَّهَا حَرَامٌ، ثُمَّ إِنَّ مَنْ " عَدِمَ " النَّظَرَ إِلَى عَوْرَةِ غَيْرِهِ بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنْ فِي الْحَمَّامِ مُؤْتَزِرًا أَوْ لَا يَكُونَ فِيهِ غَيْرُهُ فَلَا بَأْسَ بِدُخُولِهِ، وَإِنْ خَشِيَ النَّظَرَ إِلَى عَوْرَاتِهِمْ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:" إِنْ عَلِمْتَ أَنَّ كُلَّ مَنْ فِي الْحَمَّامِ عَلَيْهِ إِزَارٌ فَادْخُلْهُ وَإِلَّا فَلَا تَدْخُلْ " وَقَالَ أَيْضًا: " ادْخُلْ إِذَا اسْتَتَرْتَ، وَاسْتُتِرَ مِنْكَ، وَلَا أَظُنُّكَ تَسْلَمُ إِلَّا أَنْ تَدْخُلَ بِاللَّيْلِ أَوْ وَقْتًا لَا يَكُونُ فِي الْحَمَّامِ أَحَدٌ ".
قَالَ الْقَاضِي: " إِنْ كَانَ لَا يَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الدُّخُولُ " يَعْنِي إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ رُؤْيَةُ الْعَوْرَاتِ، هَذَا إِذَا قَامَ بِفَرْضِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِيهَا، مِثْلَ تَغْيِيرِ مَا يَكُونُ فِيهَا مِنَ التَّمَاثِيلِ الْمُحَرَّمَةِ وَأَمْرِ الْمُتَعَرِّينَ
بِالتَّسَتُّرِ، وَنَهْيِ الْقَيِّمِ عَنْ مَسِّ عَوْرَاتِ النَّاسِ عِنْدَ تَدْلِيكِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُغَيِّرَ الْمُنْكَرَ بِلِسَانِهِ وَلَا بِيَدِهِ، فَلَا يَدْخُلْهَا إِلَّا لِحَاجَةٍ كَمَا لَوْ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْعَوْرَاتِ كَمَا قُلْنَا؛ وَلِأَنَّ فِيهَا الْمُنْكِرَاتِ وَالْقُعُودَ مَعَ قَوْمٍ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، أَوْ قَوْمٍ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَوْ يَغْتَابُونَ، فَإِنَّ الْأُمُورَ الْمُحَرَّمَةَ إِنَّمَا يُبَاحُ مِنْهَا مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ؛ وَلِهَذَا حَرُمَتْ عَلَى النِّسَاءِ إِلَّا لِحَاجَةٍ.
لِأَنَّ الْمَرْأَةَ كُلَّهَا عَوْرَةٌ وَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَضَعَ ثِيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِ زَوْجِهَا، وَمَتَى دَخَلَهَا لِحَاجَةٍ أَوْ غَيْرِ حَاجَّةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِفَرْضِ التَّغْيِيرِ إِمَّا بِيَدِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ، وَالْأَفْضَلُ اجْتِنَابُهَا بِكُلِّ حَالٍ مَعَ الْغِنَى عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا مِمَّا أَحْدَثَ النَّاسُ مِنْ رَقِيقِ الْعَيْشِ؛ وَلِأَنَّهَا مَظِنَّةُ النَّظَرِ فِي الْجُمْلَةِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ، وَلَا الْمَرْأَةُ إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ، وَلَا يُفْضِي الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ كَانَتْ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مِنْ إِنَاثِ أُمَّتِي فَلَا تَدْخُلِ الْحَمَّامَ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَعَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَدْخُلِ الْحَمَّامَ إِلَّا بِمِئْزَرٍ» " رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِنَّهَا سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ أَرْضُ الْعَجَمِ وَسَتَجِدُونَ فِيهَا بُيُوتًا يُقَالُ لَهَا: الْحَمَّامَاتُ فَلَا
يَدْخُلْهَا الرِّجَالُ إِلَّا بِالْأُزُرِ، وَامْنَعُوا النِّسَاءَ إِلَّا مَرِيضَةً أَوْ فِي نُفَسَاءَ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ.
وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «نَهَى الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ عَنِ الْحَمَّامَاتِ، ثُمَّ رَخَّصَ لِلرِّجَالِ أَنْ يَدْخُلُوهَا فِي الْمَيَازِرِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ. «وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ نِسَاءً مِنْ أَهْلِ الشَّامَ أَوْ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ دَخَلْنَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: أَنْتُنَّ اللَّاتِي يَدْخُلْنَ نِسَاؤُكُنَّ الْحَمَّامَاتِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " مَا مِنَ امْرَأَةٍ تَضَعُ ثِيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِ زَوْجِهَا إِلَّا هَتَكَتِ السِّتْرَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَبِّهَا» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَالْحَاجَةُ الَّتِي نُبِيحُهَا مَعَ قِيَامِ الْحَاظِرِ: الْمَرَضُ وَالنِّفَاسُ، فَإِنَّ الْحَمَّامَ يُذْهِبُ الدَّرَنَ وَيَنْفَعُ الْبَدَنَ، وَكَذَلِكَ الْحَاجَةُ إِلَى الْغُسْلِ مِنْ جَنَابَةٍ أَوْ حَيْضٍ أَوْ غَيْرِهِ مَعَ تَعَذُّرِهِ فِي الْمَنْزِلِ وَخَشْيَةِ التَّضَرُّرِ بِهِ لِبَرَدٍ أَوْ غَيْرِهِ.
فَصْلٌ
وَبِنَاءُ الْحَمَّامِ مِنَ الْآمِرِ وَالصَّانِعِ وَبَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ وَكِرَاؤُهُ مَكْرُوهٌ، نَصَّ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ: " مَنْ لَهُ حَمَّامٌ لَا يَبِيعُهُ عَلَى أَنَّهُ حَمَّامٌ، يَبِيعُهُ عَلَى أَنَّهُ عَقَارٌ
وَيَهْدِمُ الْحَمَّامَ " وَكُرِهَ غَلَّتُهُ، وَإِنِ اشْتُرِطَ عَلَى الْمُكْتَرِي أَنْ لَا يُدْخِلَهُ أَحَدًا إِلَّا بِمِئْزَرٍ إِذَا كَانَ الشَّرْطُ لَا يَنْضَبِطُ، وَقَالَ: " فَمَنْ بَنَى حَمَّامًا لِلنِّسَاءِ لَيْسَ بِعَدْلٍ "؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ غَالِبًا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ مِثْلَ نَظَرِ الْعَوْرَاتِ وَكَشْفِهَا وَدُخُولِ النِّسَاءِ، وَهَذِهِ الْكَرَاهَةُ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ الْقَاضِي: " لَا يَجُوزُ بِنَاؤُهَا وَبَيْعُهَا وَإِجَارَتُهَا، كَمَا لَمْ يَجُزْ عَمَلُ آلَةِ اللَّهْوِ وَبَيْعُهَا وَإِجَارَتُهَا، وَعَمَلُ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَعَمَلُ بَيْتِ النَّارِ وَالْبَيْعُ " وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى بِلَادٍ لَا يَضْطَرُّونَ إِلَى الْحَمَّامَاتِ كَالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَمِصْرَ، فَأَمَّا الْبِلَادُ الْبَارِدَةُ كَالشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ وَأَرْمِينِيَّةَ وَتَشَاءَمَ عَنْهَا وَغَيْرِهَا فَإِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الِاغْتِسَالِ فِي الشِّتَاءِ إِلَّا فِي الْحَمَّامَاتِ؛ وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ: " عَلَيْكُمْ بِالشَّمْسِ فَإِنَّهَا حَمَّامُ الْعَرَبِ " وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم "«أَنَّهَا سَتُفْتَحُ بِلَادُ الْعَجَمِ، وَأَنَّ فِيهَا بُيُوتًا يُقَالُ لَهَا: الْحَمَّامَاتُ، لَمْ يَأْمُرْ بِهَدْمِهَا» ".
وَتُكْرَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِيهِ، نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ:" كَتَبَ عُمَرُ إِلَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ عِنْدَكَ بُيُوتًا يُقَالُ لَهَا: الْحَمَّامَاتُ، فَلَا يُقْرَأُ فِيهَا آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ".
وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي الْقِرَاءَةِ قَالَ: " لَيْسَ لِذَلِكَ بُنِيَ " وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: " بِئْسَ الْبَيْتُ الْحَمَّامُ، نُزِعَ مِنْ أَهْلِهِ الْحَيَاءُ وَلَا يُقْرَأُ فِيهِ الْقُرْآنُ " رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَاحْتَجَّ بِهِ إِسْحَاقُ. وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ اللَّهِ فِيهِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ دَخَلَ
الْحَمَّامَ فَقَالَ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " وَعَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " دَخَلْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْحَمَّامَ، فَضَرَبَ يَدَهُ فِي الْحَوْضِ فَقَالَ: نِعْمَ الْبَيْتُ هَذَا لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَذَكَّرَ، وَبِئْسَ الْبَيْتُ هَذَا لِمَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْهُ الْحَيَاءَ ".
وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ إِذَا دَخَلُوا الْحَمَّامَ أَنْ يَقُولُوا: يَا بَرُّ يَا رَحِيمُ، مُنَّ وَقِنَا عَذَابَ السَّمُومِ ".
وَأَمَّا السَّلَامُ فِيهِ فَقَالَ أَحْمَدُ: " لَا أَعْلَمُ أَنِّي سَمِعْتُ فِيهِ شَيْئًا " وَكَرِهَهُ أَبُو حَفْصٍ وَالْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما قَالَ: " لَيْسَ فِي الْحَمَّامِ سَلَامٌ وَلَا تَسْلِيمٌ ".
وَرَخَّصَ فِيهِ بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّهُ كَالذِّكْرِ وَأَوْلَى مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ أَشْبَهَ الْخَلَاءَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَظِنَّةُ ظُهُورِ الْعَوْرَاتِ وَصَبُّ الْأَقْذَارِ وَالنَّجَاسَاتِ وَمُحْتَضَرُ الشَّيَاطِينِ.
قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِينَا: قَالَ إِبْلِيسُ: يَا رَبِّ اجْعَلْ لِي بُيُوتًا، قَالَ: بُيُوتُكَ الْحَمَّامَاتُ. رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ.
وَفَارَقَهُ مِنْ حَيْثُ وُجُودِ الِاسْتِتَارِ فِيهِ وَتَطَهُّرِهِ مِنَ الْأَوْسَاخِ، فَمَنَعَ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِيهِ دُونَ الذِّكْرِ؛ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْهُ، وَلِذَلِكَ مُنِعَهَا الْجُنُبَ، وَأَمَّا مَاؤُهَا إِذَا كَانَ مُسَخَّنًا بِالنَّجَاسَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهُ، وَإِنْ كَانَ مُسَخَّنًا بِالطَّاهِرِ فَلَا بَأْسَ
بِهِ، قَالَ الْخَلَّالُ:" ثَبَتَ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي فِي رِوَايَتِهِمْ عَنْهُ - أَنَّهُ يُجْزِئُ أَنْ يُغْتَسَلَ بِهِ وَلَا يُغْتَسَلَ مِنْهُ " قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه: " مَاءُ الْحَمَّامِ عِنْدِي طَاهِرٌ " وَقَالَ أَيْضًا: " هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْجَارِي ".
وَقَالَ أَيْضًا: " لَا بَأْسَ بِالْوُضُوءِ مِنْ مَاءِ الْحَمَّامِ "، وَقَالَ أَيْضًا:" يُجْزِئُهُ مَاءُ الْحَمَّامِ وَفِي هَذَا اخْتِلَافٌ ".
وَرَوَى حَنْبَلٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ " أَنَّ أَصْحَابَ عَبْدِ اللَّهِ كَانُوا لَا يَغْتَسِلُونَ مِنْ مَاءِ الْحَمَّامِ، وَكَانَ أَصْحَابُ عَلِيٍّ يَغْتَسِلُونَ مِنْهُ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: أَذْهَبُ إِلَى فِعْلِ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ " وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: " إِذَا كَانَ يُوقَدُ بِالْعَذِرَةِ لَا تَدْخُلْهُ، إِلَّا إِذَا دَخَلْتَ فَخَرَجْتَ، يَكُونُ لَكَ مَا تَصُبُّهُ عَلَيْكَ " وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّهُ إِذَا سُخِّنَ بِالطَّاهِرَاتِ وَجَرَى فِي مَوْضِعٍ طَاهِرٍ فَلَا وَجْهَ لِلْكَرَاهَةِ، وَإِنْ سُخِّنَ بِالنَّجَاسَاتِ مَعَ وِثَاقَةِ الْحَاجِرِ بَيْنَ النَّارِ وَالْمَاءِ فَكَلَامُهُ هُنَا يَقْتَضِي رِوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ كَرِهَهُ فِي رِوَايَةٍ وَذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَاخْتَارَ الرُّخْصَةَ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَحْمِلُ الرُّخْصَةَ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْوَقُودُ طَاهِرًا، وَالْكَرَاهَةُ فِي الْوَقُودِ النَّجِسِ، وَمَنْ كَرِهَهُ فَلِكَرَاهَتِهِ سَبَبَانِ:
أَحَدُهُمَا: كَوْنُهُ سُخِّنَ بِالنَّجَاسَاتِ.
وَالثَّانِي: كَوْنُهُ مَاءً قَلِيلًا تَقَعُ فِيهِ يَدُ الْجُنُبِ، وَذَلِكَ مُخْتَلَفٌ فِي نَجَاسَتِهِ وَفِي طَهُورِيَّتِهِ، وَرُبَّمَا كَانَتِ الْيَدُ نَجِسَةً، وَقَدِ احْتَاطَ لِذَلِكَ فَقَالَ:" يَأْخُذُ مِنَ الْأُنْبُوبَةِ وَلَا يُدْخِلُ يَدَهُ إِلَّا طَاهِرَةً " وَقَالَ أَيْضًا: " مِنَ النَّاسِ مَنْ يُشَدِّدُ فِيهِ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَقُولُ: " هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْجَارِي " لِأَنَّهُ يَنْزِفُ وَيَخْرُجُ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ، وَإِنَّمَا احْتَاطَ بِذَلِكَ لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُ كَالْمَاءِ الدَّائِمِ، وَذَلِكَ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِوَضْعِ الْجُنُبِ يَدَهُ فِيهِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ عَلَّلَ ذَلِكَ بِخَوْفِ نَجَاسَةِ الْيَدِ، فَأَمَّا مَا يَأْخُذُهُ مِنَ الْأُنْبُوبَةِ فَإِنَّهُ جَارٍ بِلَا تَرَدُّدٍ، وَمَذْهَبُهُ أَنَّ الْجَمِيعَ كَالْمَاءِ الْجَارِي إِذَا كَانَ فَائِضًا، وَكَذَلِكَ الْمِيَاهُ الَّتِي تَجْتَمِعُ فِي الْبِرَكِ وَنَحْوِهَا وَيُغْتَضُّ مِنْ بَعْضِ جَوَانِبِهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ نَزْفٌ، وَكُلَّمَا خَرَجَ شَيْءٌ ذَهَبَ شَيْءٌ؛ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ مُتَغَيِّرًا بِشَيْءٍ مِنَ الطَّاهِرَاتِ وَالنَّجَاسَاتِ زَالَ التَّغَيُّرُ بَعْدَ زَمَانٍ يَسِيرٍ، فَأَشْبَهَ الْحَفَائِرَ الَّتِي تَكُونُ فِي أَثْنَاءِ الْأَنْهَارِ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ.