الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المدينة ابن عمه عمرو بن عبد الله بن أبي عامر؛ فسلك في أهل الشر سبيله، بل أربى عليه في ذلك.
وكاتب جعفر غالبا يستخلصه، ويستميله، ويخطب بنته لابنه؛ فتجددت بينهما ألفة، وجرى عقد في المناكحة. وانكشف ذلك لابن أبي عامر؛ فكاتب غالبا ينشده العهد، وألقى أهل الدار عليه في فسخ المصاهرة؛ فكاتبوه في ذلك؛ فانحرف إلى ابن أبي عامر، وحل عقدة جعفر في نكاحه، وأنكح ابن أبي عامر أسماء ابنته؛ فكانت أحظى نسائه.
غزوة ابن أبي عامر الثالثة
فلما تم هذا العقد، خرج إليها؛ فدخل على طليطلة غرة صفر من سنة 367؛ فاجتمع مع صهره غالب؛ فعظمه وجرى إلى موافقته. ونهضا معا؛ فافتتحا حصن المال وحصن زنبق، ودوخا مدينة شلمنقة وأخذا أرباضها. وقفل ابن أبي عامر إلى قرطبة بالسبي والغنائم، وبعدد عظيم من رؤوس المشركين، إلى أربع وثلاثين يوما من خروجه؛ فزاد له السلطان في التنوبه، وأنهضه إلى خطة الوزارتين، سوى فيها بينه وبين غالب، ورفع راتبه إلى ثمانين دينارا في الشهر، وهو راتب الحجابة. واستقدم السلطان غالبا لاستهداء أسماء إلى زوجها محمد؛ فبالغ في إكرامه؛ ووقع زفاف أسماء في مشهد بعد العهد بمثله شهرة وجلالة؛ وزفت إليه ليلة النيروز من قصر الخليفة؛ فهو الذي تولي مع حرمه أمرها. وكانت أسماء هذه توصف بجمال بارع وأدب صالح؛ وحظيت عند ابن أبي عامر؛ فلم يفارقها. وقلده الخليفة خطة الحجابة مع جعفر مشتركا. ثم سخط الخليفة على جعفر بن عثمان المصحفي، وصرفه عن الحجابة يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من شعبان سنة 367؛ وأمر بالقبض عليه وعلى ولده
وأسبابه، وعلى ابن أخيه هشام؛ وصرفوا عما كان بأيديهم من الأعمال، وكلبوا بالأموال. فتوصل ابن أبي عامر بمحاسبتهم إلى استصفاء أموالهم، وانتهاك حرمهم، وترديد النكبات عليهم، حتى مزقهم كل ممزق. وسارع إلى قتل هشام ابن أخي جعفر في المطبق، إذ كان أشد آل عثمان عداوة له؛ وأخرج إلى أهله ميتا. واستمرت النكبة على جعفر سنين عدة، يحبس مرة ويطلق أخرى. ومما حفظ له في ابن أبي عامر، مستعطفا له (متقارب) :
عَفَا الله عَنْكَ ألا رَحمةً
…
تَجُودُ بعَفْوِكَ ان ابعَدَا
لئن جَلَّ ذَنبٌ وَلَمْ أعتَمِدهُ
…
فَأنتَ أجَلُّ وأعلَى بَدَا
ألَمْ تَرَ عَبداً عَدَا طَورُه
…
ومَولي عَفَا ورَشِيدا هَدَى
ومُفسِدَ أمرٍ تلافيتَه
…
فَعَاد فَأصلَحَ ما أفسَدَا
أقِلني أقَالَكَ مَن لم يَزَلْ
…
بَقِيكَ ويَصْرِفُ عَنكَ الرَّدَى
وكان جعفر بن عثمان في محنته أخور الناس، أرأمهم للذل، وأحبهم في الحياة؛ انتهى به الاستحذاء لمحمد بن أبي عامر، والطمع في الحياة، أن كتب إليه بعرض نفسه عليه لتأديب ابنيه عبد الله وعبد الملك؛ فقال ابن أبي عامر:(أراد أن يستجهلني ويسقطني عند الناس، وقد عهدوا مني ببابه مؤملا؛ ثم يرونه اليوم بدهليزي معلما.) ثم جد ابن أبي عامر في مكروهه، وأدق حسابه، وأمر بإحضاره إلى مجلس الوزراء بقصر الخلافة، ليناظر بين أيديهم فيما ادعى عليه من الخيانة؛ فتردد إلى هذا المجلس مرارا، وأقبل آخر مرة إليه، وواثق الضاغط يزعجه، والبهر والسن قد هاضاه، وقصرا خطاه، والموكل به يحذوه ويستحثه؛ فيقول له جعفر:(يا بني رفقا؛ فستدرك ما تريد! ويا ليت أن الموت بيع، فأغلى الله سومه!) حتى انتهى به إلى المجلس، والوزراء جلوس، فجلس في آخر المجلس دون أن
يسلم؛ فأسرع إليه الوزير محمد بن حفص بن جابر، وكان من حزب ابن أبي عامر؛ فعنفه، واستجهله، وأنكر عليه ترك التسليم، وجعفر معرض عنه. فلما أكثر عليه، قال له جعفر:(يا هذا جهلت المبرة، فاستجهلت عالمها وكفرت. اليد، فقصرت بمسديها.) فاضطرب ابن جابر من قوله، وقال:(هذا هو البهت بعينه! وأي أياديك الغراء التي مننت بها؟ أيد كذا أم يد كذا) ؛ وعدد أشياء؛ فأنكرها عليه الحاجب، وقال:(هذا لا يعرف؛ والمعروف دفعي عن يمناك القطع، وشفاعتي فيها إلى الماضي رحمه الله حين استخونك في مال كذا!) فأصر ابن جابر على الجحد؛ فقال جعفر: (أنشد الله من له علم بما ذكرت أن يتكلم!) فقال الوزير ابن عياش: (قد كان بعض منا ذكرته؛ وغير هذا أولى بك، يا أبا الحسن!) فقال: (أحرجني الرجل، فقلت.) ثم أقبل الوزير محمد بن جهور على محمد بن جابر، فقال له:(أوما علمت أنه من كان في سخط السلطان، تحامى السلام على أولىائه لأنهم إن ردوا عليه، أسخطوا السلطان لتأمينهم من أخافه؛ وإن تركوا الرد، أسخطوا الله، وتركوا ما أمر به؟ فكان الإمساك أولى! ومثل هذا لا يخفي على أبي الحسن.) فخجل ابن جابر وأسفر وجه جعفر وتهلل. ثم أخذ القوم في مناظرته على المال؛ فقال: (قد والله استنفدت ما عندي من الطارف والتالد، ولا مطمع فيَّ في درهم، ولو قطعت إرباً إربا!) فصرف إلى محبسه في مطبق الزهراء؛ فكان آخر العهد به.
وله، وقد أودعه المنصور المطبق، والشجون تسرع إليه وتسبق، معزيا لنفسه، ومجتزيا في يومه بإسعاد أمسه؛ فقال (متقارب) :
أجَارِي الزمانَ على حالِهِ
…
مُجَاراةَ نَفسِي لأنفْاسِهَا
إذَا نفَسٌ صاعِدٌ شَفَّهَا
…
توَارَتْ به بَينَ جُرسِها
وإنْ عَكَفَتْ نَكْبَةٌ لِلزَّمانِ
…
عَكَفتُ بِصَدرِي على رَأسِهَا
ومن بديع ما حفظ له في نكبته، قوله رحمه الله يستريح من كربته (طويل) :
صَبَرْتُ عَلَى الأيَّامِ لَمْا تَوَلتِ
…
وألزَمتُ نَفْسِي صَبرَهَا فَاستَمَرَّتِ
فَيَا عَجَباً للقَلبِ كيفَ اصطِبَارُهُ
…
وللنفِسِ بَعدَ العِزِ كيفَ استَذَلتِ
وما النَّفسُ إلَاّ حَيثُ يَجعَلُها الفَتَى
…
فَإن طُمِعَت تَافَت وإلَاّ تَسَلَّتِ
وَكَانَت عَلَى الأيَّامِ نَفسِي عَزيزَةً
…
فَلمَّا رَأتْ صَبرِي عَلَى الذُّلِّ ذَلَّتِ
وَقُلتُ لَهَا نَفسِ مُوتي كَرِيمةً
…
فَقدْ كَانَتِ الدُّنيَا لَنَا ثُمَّ وَلتِ
وكان من هلاكه في محبسه هذا على يقين؛ وذلك أنه لما أمر به إلى المطبق، ودع أهله وولده ووداع الفرقة، وقال:(هذا وقت إجابة الدعوة! وأنا أرتقبه منذ أربعين ينة!) فسئل عما ذكره؛ فقال: (رفع على فلان أيام الناصر وسعى به إليه؛ فأشرفت على أعماله؛ فآل أمره إلى ضربه وتغير نعمته وإطالة حبسه. فبينا أنا نائم ذات ليلة، إذ أتاني آت؛ فقال لي: (أطلق فلانا؛ فقد أجيبت دعوته فيك؛ ولهذا أمر أنت لا بد لاقيه!) فانتبهت مذعورا، وأحضرت الرجل، وسألته إحلالي؛ فامتنع عليَّ؛ فاستحلفته على إعلامي بما خصني به من الدعاء؛ فقال:(نعم! دعوت الله أن يميتك في أضيق السجون كما أعمرتنيه حقبة.) فعلمت أنه قد وجبت دعوته، وندمت حيث لا ينفع الندم، وأطلقت الرجل؛ ولم أزل أرتقب ذلك في السجن.) فما لبث في السجن إلا أياما، وأخرج ميتا، وأسلم إلى أهله. فقيل: قتل خنقا في البيت المعروف ببيت البراغيت في المطبق؛ وقيل: دست إليه شربة مسمومة.
قال محمد بن إسماعيل، كاتب المنصور:(سرت مع محمد بن مسلمة إلى الزهراء لتسليم جسد جعفر إلى أهله وولده، والحضور على إنزاله في ملحده؛ فنظرت إليه ولا أثر فيه، وليس عليه شئ يواريه غير كساء خلق لبعض البوابين، ستره به. فدعا له محمد بن مسلمة بغاسل؛ فغسله (والله!) على فرد باب اقتلع من ناحية الدار، وأنا أعتبر من تصرف الأقدار؛ وخرجنا بنعشه إلى قبره، وما معنا إلا إمام المسجد المستدعي للصلاة؛ وما تجاسر أحد على النظر إليه.) ثم قال: (وإن لي في شأنه لخبرا ما سمع بمثله طالب وعظ، ولا وقع في مسمع
ولا تصور للحظ؛ وقفت له في طريقه، أيام نهبه وأمره، أروم أن أناوله قصة كانت به مختصة؛ فوالله ما تمكنت من الدنو منه بحيلة، لكثافة موكبه، وكثرة من حفَّ به؛ وأخذ الناس السكك عليه وأفواه الطرق، ينظرون إليه ويسلمون عليه، حتى ناولت قصتي بعض كتابه الذين نصبهم جناحي موكبه لأخذ القصص؛ فانصرفت، وفي نفسي ما فيها من الشرق بحاله والغصص، فلم تطل المدة حتى غضب عليه المنصور، واعتقله، ونقله معه في الغزوات ذليلا وحمله. واتفق أن نزلت بجليقية في بعض المنازل إلى جانب خبائه في ليلة نهى فيها المنصور عن وقد النيران ليخفي على العدو أثره، ولا ينكشف له خبره؛ فرأيت - والله - ابنه عثمان يسفه دقيقا قد خلطه نماء يقيم به أوده، ويمسك به رمقه بضعف حال، وعدم زاد ومال، وسمعته يقول (طويل) :
تأمْلتُ صَرْفَ الحادِثاتِ فلَم أزَلْ
…
أراها تُوافي عِندَ مَقَدِها الحُرَّا
فلله أيَّام مَضَتْ لسيلها
…
فإنِّيَ لا أنسَى لها أبداً ذِكرَا
تجَافَت بها عَنَّا الحوادِثُ بُرهَةً
…
وأبدَتْ لنا منها الطلاقةَ والبشْرَا
ليَالِيَ لَم يَدرِ الزَّمانُ مَكانَنَا
…
وَلا نَظَرتْ منَّا حَوَادِثُهُ الشَّزرَا
وَمَا هّذِهِ الأيَّامُ إلا سَحَائبٌ
…
عَلَى كُلِّ أرضٍ تُمطرُ الخَيْرَ والشَّرَّا
وكان مما أعين به ابن أبي عامر على جعفر بن عثمان المصحفي ميل حلية الوزراء إليه وإيثارهم له عليه، وسعيهم في ترقيه، وأخذهم بالعصيبة فيه؛ فإنهم، وإن لم تكن لهم حمية أعرابية، فقد كانت سلفية سلطانية، يقتفى القوم فيها آثار سلفهم، ويمنعون بها ابتذال شرفهم؛ غادروها سيرة، وخلفوها عادة أثيرة، تشاح الخلف فيها تشاحَّ أهل الديانة، وصانوا بها مراتبهم أعظم صيانة؛ ورأوا أن أحدا من التوابع لا يدرك فيها غاية، ولا يلحق لها راية. فلما أحظى المستنصر بالله جعفر بن عثمان واصطنعه، ووضعه من أثرته حيث وضعه، حسدوه وذموه، وخصوه بالمطالبة وعموه. وكان أسرع هذه الطائفة إلى مهاودة المنصور عليه، والانحراف