الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقلد ابن أبي عامر قضاء القضاة بالغرب، وجعله عينا على العسكر، وأوعز إليه في مهماته؛ فسار ابن أبي عامر إلى هنالك؛ فحمدت سيرته، وصحب حينئذ وجوه العسكر وأشياخ القبائل وملوكهم؛ فكانت تلك الحركة أول ظهوره، وبعد رجوعه منها، لم يزل يزداد نبلا، ويرتقى منزلة، وهو مع ذلك كله يغدو إلى دار جعفر بن عثمان المصحفي وزير الدولة ويروح، ويختص به، ويدعى نصيحته.
وفي سنة 366، توفى الحكم المستنصر بالله بعد اتصال علته؛ وجعفر بن عثمان يدير سلطانه إلى حين وفاته، ليلة الأحد لثلاث خلون لرمضان من السنة المؤرخة.
خلافة هشام بن الحكم
ابن عبد الرحمن الناصر والدولة العامرية
نسبه: تقدم في خلافة أبيه وجده. كنيته: أبو الوليد. لقبه: المؤيد بالله. أمه: صبح البشكنشية، أم ولد، وكان سيدها الحكم يسميها بجعفر، وكانت مغنية حظية عنده، وتوفيت في خلافة ابنها هشام. بويع له يوم الاثنين لأربع خلون من صفر سنة 66 بعهد من أبيه، وهو ابن إحدى عشرة سنة وثمانية أشهر؛ وخلع يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة، سنة 399؛ فكانت خلافته الأولى، إلى أن قامت الفتنة، ثلاثا وثلاثين سنة وأربعة أشهر وعشرة أيام. وفي الخلافة الثانية سنتين وعشرة أشهر؛ الجميع الذي كمل له في المؤتين ستة وثلاثون سنة وشهران وعشرة أيام. صفته: أبيض، أشهل، أعين، خفيف العارضين، لحيته إلى الحمرة، حسن الجسم، قصير الساقين، مائل إلى العبادة والانقباض، مقبل على تلاوة القرآن ودرس العلوم، كثير الصدقات على أهل الستر من الضعفاء والمساكين.
قضاته: محمد بن السليم، ألقاه قاضيا لأبيه فأقره على ولايته؛ ثم أبو بكر ابن زرب؛ ثم محمد بن يحيى التميمي عرف بابن برطال، وغيرهم.
نقش خاتمه: (هشام بن الحكم، بالله يعتصم) . وتولي عقد الشهادة على الناس في البيعة بين يديه وكيله وصاحب شرطته الوسطى والسكة والمواريث أبو عامر محمد بن أبي عامر، بعدما كان قاضي الجماعة محمد بن إسحاق بن السليم يأخذها على من شهد المجلس من الأعمام وأبنائهم والوزراء وطبقات أهل الخدمة ورجالات قريش وأعلام أهل الحضرة.
فلما كان يوم السبت السادس من جلوس هشام، وهو العاشر لصفر سنة 366، قلد الخليفة هشام حجابته وزير أبيه الأخص أبا الحسن جعفر بن عثمان المصحفي. وفي هذا اليوم، أنهض الخليفة هشام محمد بن أبي عامر إلى خطة الوزارة، نقله إليها عن شرطته الوسطى وأجراه رسيلا لحاجبه جعفر في تدبير دولته؛ فماده محمد شأوا، وجرى إلى غاية برز فيها دونه، سابقا في الحلية، وتخلف جعفر عن مداه.
ومن أخبار جعفر بن عثمان المصحفي: هو أبو الحسن جعفر بن عثمان بن نصر بن فوز بن عبد الله بن كسيلة القيسي. كان لطيف المنزلة من الحكم المستنصر بالله، قديم الصحبة، قريب الخاصة؛ وكان أول سبب ذلك تأديب والده عثمان بن نصر للحكم في صباه، واستخدمه في أيام والده الناصر، واستكتبه، ورقاه إلى خطة الشرطة الوسطى والنظر في عدة من الأعمال والكور. فلما أفضت الخلافة إلى الحكم، قلده، بعد ثلاثة أيام من خلافته، خطة الوزارة، وأمضاه على الكتابة الخاصة؛ ثم جمع له الكتابة العليا بالخاصة، وولي ابنيه الأعمال الكبار. وكان جعفر بن عثمان أحد شعراء الأندلس المحسنين، المتصرفين في أنواع الشعر من المديح والأوصاف والغزل، غاية في كل ذلك في الرقة والإبداع والحسن. وقد تقدم قوله مرتجلا:(هنيا للإمام والأنام) وقوله مرتجلا: (تطلع البدر من حجابه) وغير ذلك.
قال ابن بسام: كان جعفر بن عثمان رجلا بلغ المنتهى، وسوغ برهة من دهره ما اشتهى، دون مجد تفرع من دوحته، ولا فخر نشأ بين مغداه وزوجته. فسما دون سابقة، وارتقى إلى رتبة لم تكن لبينته مطابقة؛ فلم يزل يستقل ويضطلع، وينتقل من مطلع إلى مطلع، حتى التاح في أفق الخلافة، وارتاح إليها بعطفها كنشوان السلافة؛ وحجب الإمام، وانسكب برأيه ذلك الغمام. فأدرك بذلك ما أدرك، ونصب لأمانيه الحبائل والشرك، واقتنى وادخر، وأزرى بمن سواه وسخر. واستعطفه محمد بن أبي عامر، ونجمه غابر لم يلح، وسره مكتوم لم يبح؛ فما أقبل عليه ولا عطف، ولا جنا من روضة دنياه زهرة أمل ولا قطف؛ وأقام في تدبير الأندلس، وهو يجري من السعد في ميدان رحب، ويكرع من العز في مشرب عذب. وكان له أدب بارع، وخاطر إلى نظم المحاسن مسارع. فمن ذلك ما بعثه عليه إيناس دهره وإسعاده، وقاله حين ألهته سلماه وسعاده (طويل) :
لِعَيْنِكِ في قَلبِي على عُيُونُ
…
وبَيْنَ ضُلُوعِي للشُجُونِ فُنُونُ
لَئِنْ كان جِسْمي مُخلَقاً في يَدِ ألَوَى
…
فحُبُّكِ غَضٌ في الفُؤادِ مَصُونُ
وله، وقد أصبح يوما عاكفا على حمياه، هاتفا بإجابة دنياه، مرتشفا ثغور الأنس متنسما رياه، والملك يغازله بطرف عليل، ويبرم من أنسه كل نحيل، والسعد قد عقد عليه أيَّ إكليلي، يصف لون مدامه، وما يعرف منها دون ندامه؛ فقال (كامل) :
صَفْراءُ تَبْرُقُ في الزُّجاج فإِنْ سَرَتْ
…
في الجسم دبَّت مِثلَ صِّلٍ لادِغِ
عَبَثَ الزمانُ بحُسنِها فتستَّرَتْ
…
عن عَيْنه ثَوْبِ نُورٍ سابِغِ
خَفِيَتْ على شُرَّابِها فكأنَّما
…
يَجِدُونَ رِيِّا في إِناءِ فارِغِ
واستمر في حجابته، ومر بين سمع الدهر وإجابته، والنفوس العلية من تناهي حاله متغيرة، وفي تكيف سعده متحيرة. ولم يزل لنجاد تلك الخلافة معتقلا، وفي