الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر دخول المسلمين إلى الأندلس
وانتزاعها من أيدي الكفار
أما دخول المسلمين لها، فذكر فيه أربعة أقوال: أحدها أنَّ الأندلس، أول من دخلها عبد الله بن نافع بن عبد القيس، وعبد الله بن الحصين الفهريان. من جهة البحر، في زمن عثمان رضي الله عنه قال الطبري: أتوها من برها وبحرها؛ ففتحها الله تعالى على المسلين هي وإفرنجة، وازداد في سلطان المسلمين مثل إفريقية؛ ولم يزل أمر الأندلس لإفريقية، حتى كان زمن هشام بن عبد الملك؛ فمنع البربر أرضهم، وبقى من في الأندلس على حالهم. هذا نصه. وإنَّ ذلك كان سنة 27 من الهجرة الكريمة. وثانيها أنَّ موسى بن نصير افتتحها عام 91. وهو قول الطَّبري أيضاً. فيظهر منه أنه جاز بنفسه، وتولى هذه الغزوة والفتح. وثالثها أنَّ طريقاً دخلها وفتحها في عام 91. ورابعها أن طارقا أوَّل من دخلها، سنة 91، ودخل موسى بعده سنة 92.
فهذا الخلاف واضح في هؤلاء الأربعة مواضع: قيل إن أول من دخلها الفهريان؛ ثمّ ابن نصير؛ ثم طريف؛ ثم طرايق؛ فظهر من هذا إن الفهريين أثرا فيها في زمن عثمان رضي الله عنه وغنما من جهة البحر، وطريفا دخلها سنة 91 مغيراً ومخربا، ونسب فعله إلى موسى بن نصير، نسبة فعل المأمور إلى الآمر؛ فصدق عليه إضافته لموسى، فيكون قول الطبري صادقا؛ وصدَّق عليه أيضا قول الرازي بأخرى وأولى، وطارق دخلها دخول المستفتح لها، المكافح، سنة 92، وموسى دخلها بعد ذلك متمما للفتح.
وقال عَرِيب: إن العلج يُليان، صاحب الجزيرة الخضراء، داخل موسى ابن نصير، صاحب إفريقية، عام 91، على يد طارق بن زياد عامل موسى على طنجة وما والاها؛ فراسل يليان موسى، يُزين عنده دخول الأندلس، ويُقرب
له أمرها، وقيل: بل، سار إليه بنفسه في البحر، حتى اجتمع به في ذلك؛ فاستشار موسى الوليد بن عبد الملك، إمَّا مراسلة (وهو الأكثر الأظهر) وإما بأن نهض بنفسه إليه؛ فأشار الوليد بأن يختبرها بالسرايا، ولا يغرر بالمسلمين؛ فبعث موسى بن نصير عند ذلك رجلا من البربر، يسمّى طريفا ويكنى أبا زرعة، في مائة فارس وأربعمائة راجل؛ فجاز في أربعة مراكب، حتى نزل في ساحل البحر بالأندلس، فيما يحاذي طنجة، وهو المعروف اليوم بجزيرة طريف، سميت باسمه لنزوله هنالك؛ فأغار منها على ما يليها إلى جهة الجزيرة الخضراء، وأصاب سبيا ومالا كثيرا، ورجع سالما. وكانت إجازته في شهر رمضان من سنة 91.
وقد اتفق الجميع فيما يظهر على أنَّ مُتولي كبر فتح الأندلس وجله ومعظمه طارق بن زياد. وقد اختلف في نسبه؛ فالأكثرون على أنه بربري من نفزة، وأنه مولى لموسى بن نصير، من سبى البربر. وقال آخرون إنه فارسي.
قال صالح بن أبي صالح: هو طارق بن زياد بن عبد الله بن رفهو بن ورفجوم بن ينزغاسن بن ولهاص بن يطوفت بن نفزاو، وكأنهم أيضا انفقوا على أنَّ طارقا كان عاملا لموسى، قبل محاولة الأندلس، على المغرب الأقصى، وترك عنده رهائن برابر المغرب في سنة 86 من الهجرة. وقيل أيضا إن طارقا جاز إلى الأندلس برهائن البربر سنة 92.
قال ابن القطان: فالأكثرون يقولون: كان مستقره بطنجة، ومنهم من يقول سجلماسة، وإن سلا وما وراءها من فاس وطنجة وسبتة كانت للنصارى؛ وكانت طنجة ليليان منهم؛ فكان طارق إذا نائبا عن موسى بن نصير. واختلفوا أيضاً هنا هل إنما سار إلى الأندلس عن أمر موسى، أو سار إليها لأمر دهمه، لم يمكنه إلا إنفاذه. والقول الأول هو المشهور المتفق عليه.
قال الرازي عن الواقدي: إنَّ الوليد بن عبد الملك استعمل موسى بن نصير على إفريقية، واستعمل موسى بن نصير طارق بن زياد على طنجة. وكان يليان مجاورا له بالجزيرة الخضراء التي تلي طنجة؛ فداخله طارق حتى صار معه إلى الرضى، ووعده يليان بإدخاله الأندلس هو وجنوده. وكان اجتمع لطارق اثنا عشر ألفا من البربر؛ فأجمع طارق على غزو الأندلس، بعد أن أخذ إذن ابن نصير مولاه في ذلك؛ فكان يليان يحتمل أصحاب طارق في مراكب التجار التي تختلف إلى الأندلس: ولا يشعر أهل الأندلس بذلك، ويظنون أن المراكب تختلف بالتجار. فحمل الناس فوجا بعد فوج إلى الأندلس. فلما لم يبق إلَاّ فوج واحد، ركب طارق ومن معه، حتى أجاز البحر إلى أصحابه وتخلف يليان بالجزيرة الخضراء، ليكون أطيب لنفسه ونفوس أصحابه. فنزل طارق جبلا من جبال الأندلس، يوم الاثنين لخمس خلون من رجب سنة 92، كما تقدَّم ذكر ذلك. فسمّي ذلك الجبل باسمه إلى اليوم.
وذكر عيسى بن محمد من ولد أبي المهاجر، في كتابه السبب في دخول طارق الأندلس، وهو أنَّ طارقا كان واليا لموسى على طنجة؛ وكان يوما جالسا، إذ نظر إلى مراكب قد طلعت في البحر؛ فلما أرست، خرجوا إليها، فنزعوا ارجلها، وأنزلوا أهلها؛ فقالوا:(إليكم جئنا عامدين!) وعظيمهم معهم يقال له يليان. فقال طارق: (ما جاء بك؟) فقال له (إنَّ أبي مات. فوثب على مملكتنا بطريق يقال له لذريق؛ فأهانني، وأذلَّني؛ وبلغني أمركم؛ فجئت إليكم أدعوكم إلى الأندلس، وأكون دليلا لكم!) فأجابه طارق إلى ذلك، واستقر اثني عشر ألفا من البربر. فحملهم يليان في المراكب فوجا بعد فوج، كما تقدم ذكره.
وذكر غير هؤلاء أنَّ السبب في ذلك أنَّ طنجة وسبتة والخضراء وتلك النواحي كانت في مملكة صاحب الأندلس، على نحو ما كانت السواحل كلها
بالعدوة وما قرب منها الروم، يسكنونها، إذ كان البربر يرغبون عن سكنى المدن والقرى، وإنما بغيتهم سكنى الجبال والصحارى، إذ كانوا أصحاب إبل وسائم. وكان النصارى في صُلحهم. وكانت السنة في الأندلس في ملوك النصارى أن يستخدموا بني بطارقتهم وكبار رجالهم: فالرجال منهم يخدمون خارجا، والنساء جوار يخدمن داخلا. وها كذا سنتهم إلى اليوم في الرجال خاصة، يخدمون صبيانا يتأدبون بأدبهم. ويتعلمون سنتهم؛ فإذا أدركوا وكبروا، ألحقوا برجالهم وأهليهم. وكان ملك الأندلس من القوطيين يسمى رذريق، قد مدَّ يده إلى ابنة يليان، وكانت عنده؛ فاغتصبها نفسها؛ فأرسلت إلى أبيها، ودست إليه. فلما بلغه ذلك، أحفظه، وكتمه، وارتصد به الأيام، ونصب له الغوائل، حتى كان من دخول العرب المغرب ما كان. وأرسل رذريق إلى يليان في بزاة وطيور وغيرها، فأرسل إليه:(لأوردن عليم طيرا لم تسمع قطُّ بمثلها) ، وهو ينوي الغدر به؛ فحينئذ دعا طارقا إلى ما كان من جواز البحر.
واختلفت الروايات في قتال طارق أهل الأندلس. فقيل إن رذريق زحف إلى طارق بجميع أهل القوة من أهل مملكته بنفسه، وهو على سرير ملكه على بغلين يحملانه، وعليه تاجه وجميع الحلية التي كانت تلبسها الملوك، حتى انتهوا إلى الجبل الذي فيه طارق. فخرج إليهم طارق بجميع أصحابه رجالة، ليس فيهم راكب إلا القليل؛ فاقتتلوا قتالا شديدا حتى ظنوا أنه الفناء. ثم صرف الله وجوه أعدائه؛ فانهزموا؛ وأدرك رذريق؛ فقتل في وادي الطين. ومضى حتى دخل قرطبة. وفتح الله الأندلس على المسلمين. هكذا ذكر عيسى في كتابه.
وذكر الواقدي أنهم اقتتلوا من حين طلعت الشمس إلى أن غربت؛ فلم تكن قطُّ بالمغرب مقتلة أعظم منها، بقيت عظامهم في المعركة دهراً طويلا لم تذهب.
وذكر الواقدي أيضاً، عن عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، قال: سمعت
رجلا من أهل الأندلس يحدث سعيد بن المسيب ويذكر له قصتهم. فقال: (لم يرفع المسلمون السيف عنهم ثلاثة أيام، حتى أوطئوهم غلبة.) ثم ارتحل المسلمون إلى قرطبة، وهي مدينة الأندلس التي كان بها رذريق؛ وبينها وبين الساحل مسيرة خمسة أيام. وكان سلطان رذريق إلى ازيونة ثغر الأندلس، وهي إذ ذاك أقصى مملكة الأندلس. مما يلي إفرنجة؛ ومن أرثونة إلى قرطبة ألف ميل. وكان الذي أصابه طارق ومن معه من السَّبي، في أوَّل فتح لهم، عشرة آلاف رأس؛ وكان سهمانهم من الذهب والفضة لكل واحد من الرجال مائتا دينار وخمسون ديناراً.
وذكر الرازي أنه، لما بلغ رذريق خبر طارق ومن معه، ومكانهم الذي هم فيه، بعض إليهم الجيوش جيشاً بعد جيش؛ وكان قد قوَّد على أحدهم ابن أخت له يسمى بنج، وكان أكبر رجاله؛ فكانوا عند كل لقاء يهزمون ويقتلون؛ وقتل بنج، وهزم عسكره؛ فقوى المسلمون، وركب الرجاَّلة الخيل، وانتشروا بناحيتهم التي جازوا بها؛ ثم زحف رذريق إليهم بجميع عساكره ورجاله وأهل مملكته، وهو على سرير ملكه كما تقدَّم. فلما انتهى إلى الموضع الذي فيه طارق، خرج إليه؛ فاقتتلوا على وادي لكُّه من كورة شذونة يومهم ذلك، وهو يوم الأحد لليلتين بقيتا من رمضان، من حين بزغت الشمس إلى أن توارت بالحجاب؛ ثمَّ أصبحوا يوم الاثنين على الحرب، حتَّى إلى المساء. وتمادت أيامهم كذلك إلى يوم الأحد الثاني؛ فتمت ثمانية أيَّام. وقتل الله رذريق ومن معه، وفتح للمسلمين الأندلس، ولم يعرف لرذريق موضع، ولا وجدت له جثة، وإنما وجد له خف مفضض؛ فقالوا إنه غريق، وقالوا إنه قتل؛ والله أعلم.
ثم تحرك طارق إلى مضيق الجزيرة؛ ثم نهض إلى مدينة إسنجة؛ فوجد فيها فلَّ العسكر؛ فقاتلوه فتالا شديداً، حتى كثر القتل والجراح في المسلمين؛ ثمَّ نصرهم الله، وقطع دعوة العجمة، وقذف الله الرعب في قلوب المشركين، إذ