الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فاستنزل أهلها من الجبال إلى السهل، وحرق ديارها، وسكنهم في الصحراء. ثم ردهم إليها.
وفي سنة 200، أغزى الحكم وزيره عبد الكريم بن مغيث إلى بلاد المشركين؛ فدخلها، وتوسطها، وأهلك معائشها ومرافقها، وحطم زروعها، وهدم منازلها وحصونها، حتى استوفي جميع قرى وادي أرون. فحشدت إليه الطاغية - دمرها الله! - وانجلبت النصرانية من كل مكان، وأقبلت الجموع، ونزلت بعدوة نهر أرون؛ وصار النهر حاجزا بينهم وبين المسلمين. فلما أصبح، نهض عبد الكريم بمن معه إلى مخائض الوادي؛ ونهض أعداء الله إليهم؛ فقاتلوهم على كل مخاضه منها؛ فجالدهم المسلمون عليها مجالدة الصابرين المحتسبين. واقتحم أعداء الله النهر إليهم؛ فاقتتلوا على مخاضته. ثم حمل المسلمون عليهم حملة صادقة؛ فأضغطوهم في المضايق، وأدخلوهم على غير طريق؛ فأخذتهم السيوف والطعن بالرماح والغرق في المياه؛ فقتل من المشركين عدد عظيم لا يحصى كثرة، ومات أكثرهم بالتردي ودرس بعضهم بعضا، وصاروا بعد المطاعنة والمجالدة بالرماح والسيوف إلى القذف بالحجارة؛ وأكثروا الحراس بالمخائض، ووعروها بالخشب، وحفروا الحفائر، وخندقوا الخنادق. ونزلت الأمطار؛ وكان قد فرغ ما كان لأعداء الله من المرافق؛ وضاقت الحال أيضا بالمسلمين؛ فقفل عبد الكريم ظافرا لسبع خلون من ذي القعدة.
ولم يكن في سنة 201 صائفة ولا حركة مشهورة.
ذكر هيج أهل الربض ثانية في سنة 202
كان من أهل ربض قرطبة في هذه السنة ما نستعيذ بالله من الخذلان في مثله، وذهاب التوفيق. وقد اختلفت الروايات في سبب قيام الناس وهيجهم؛ فمنهم
من يقول إن ذلك الهيج كان أصله الأشر والبطر، إذ لم يكن ثم ضرورة من إجحاف في مال، ولا انتهاك لحرمة، ولا تعسف في ملكة، والحال تدل على صحة ذلك: فإنه لم يكن على الناس وظائف، ولا مغارم، ولا سخر، ولا شئ يكون سببا لخروجهم على السلطان، بل كان ذلك أشرا وبطرا، وملالا للعاقبة، وطبعا جافيا، وعقلا غبيا، وسعيا في هلاك أنفسهم - أعاذنا الله من الضلال والخذلان، وأسباب البوار والخسران! ولما اهتاجوا وقاموا على السلطان، ناصبهم الحكم القتال، وواضعهم الحرب. وانحاش إليه حاشيته وجنده، وتألب من كل وجه رجاله. وقامت الحرب بين الجند وعامة قرطبة على ساق. ثم تكاثرت العامة، وهاجت الدهماء السوداء؛ فلم يزيدوا على أن ظهروا في ذلك الحين ظهروا لم يبلغهم إلى أمل فلما اشتغلوا بالقتال، احتيل عليهم بمثل حيلة يوم الحرة، وهم لا يشعرون لاشتغالهم بالقتال؛ فخرج عبيد الله بن عبد الله البلنسي المعروف بصاحب الصوائف، وإسحاق بن المنذر القرشي إلى باب الجسر، مع من أمكنهما من الفرسان والرجالة، والتقوا مع العامة، وجالدوهم حتى أزاحوهم وأدخلوهم الجسر؛ وفتح باب المدينة عند الجسر، ودخل الذين سمينا على باب الحديد؛ ثم اقتحموا على الزقاق الكبير، وخرجوا على الرملة إلى مخاضة هناك، وجازوا النهر، واجتمعوا مع من توافى عليهم من حشود الكور، إذ كانوا قد أنذروا قبل ذلك بما كان بدا منهم، وظهر من علاماتهم. فلما اجتمعوا، أقبل بعضهم من وراء الربض، وشرع بعض في طرح النار في الدور، ودسوا من أخبر العامة بما نزل بهم في دورهم وذراريهم وعيالهم؛ فلم يبق أحد منهم دون أهله ومنزله، وانصرفوا راجعين نحوها. فأخذتهم السيوف من أمامهم وورائهم؛ فقتلوا قتلا ذريعا، وتتبعوا في الأزقة والطرق، يقتلون؛ ونجا منهم من تأخر أجله، ففرَّ، فلم يلو على
أهل ولا ولد. وأخذ منهم ثلاثمائة رجل؛ فصلبوا على الوادي، صفا واحدا من المرج إلى المصارة.
وكان الحكم قد عزم على تتبعهم بالأندلس، وقتلهم حيث وجدوا؛ فكسر عليه بعض أصحابه، وذكره صنع الله له فيهم؛ فارعوى وكف. فخرجوا أفواجا بأهاليهم وأولادهم. ولم يعرض لأحد منهم في شئ من بلاد الأندلس، وهي طاعته وملكه، ولا نالهم ضر بعد وقت المعركة وغليان الحال، كرما وعفوا من الأمير الحكم رحمه الله! - وعف الحكم عن الأموال والحرم. وتفرق أهل الربض في جميع أقطار الأندلس؛ ومنهم من جاز البحر إلى العدوة بالأهل والواد؛ فاحتلوا بعدوة فاس، فهم عدوة الأندلس منها؛ فصيروها مدينة. ومنهم أهل جزيرة إقربطش؛ فذكر أنه لم يخرج منهم طائفة بناحية من نواح الدنيا إلا وتغلبوا عليها، واستوطنوها على قهر من أهلها. وأكثر من هرب من أهل العلم والخير ممن اتهم أو خاف على نفسه إلى ناحية طليطلة، ثم أمنهم الحكم، وكتب لهم أمانا على الأنفس والأموال، وأباح لهم التفسح في البلدان حيثما أحبوا من أقطار مملكته، حاشى قرطبة أو ما قرب منها.
وفي سنة 206، اشتد مرض الحكم بن هشام؛ فأخذ البيعة لابنه عبد الرحمن، ثم للمغيرة من بعده. وانعقدت البيعة يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة من السنة. فبويع له ذلك اليوم في القصر؛ واختلف الناس بعد ذلك اليوم إلى دار عبد الرحمن بن الحكم يبايعونه؛ وبايعوا المغيرة في دار أخيه عبد الرحمن أيضا؛ ثم ركب المغيرة إلى الجامع، ونزل فيه يوما بعد يوم لمبايعة الناس له؛ وكانوا يبايعونه عند المنبر؛ ثم بايعوه في داره. ولما انقضت البيعة لعبد الرحمن والمغيرة بعده، أمر الحكم بن هشام بهدم الفندق الذي كان بالربض؛ وكان متقبله من أهل الإضرار والفسق؛ فهدم. وتوفي الأمير الحكم يوم الخميس لأربع بقين من ذي الحجة من السنة؛ وصلى عليه ابنه عبد الرحمن؛ ودفن بالقصر.