الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعض سيره وأخباره
كان الأمير المنذر رحمه الله! - يحبُّ إخوته، ويكرمهم، ويدنى مجالسهم، ويصلهم، ويحضرهم مجالس أنسه. وكان يجزل العطاء للشعراء؛ فينشدونه غازيا وراجعا. وكان من شعرائه أحمد بن عبد ربه، والعكي، وغيرهما. ولم يكن أحد من الخلفاء قبله مثله شجاعة وصرامة وعزما وحزما. ولقد بلغ في سنة بذلك ما لم يبلغه غيره في الدهر. ولقد كان أبطال الرجال وأنجادهم من أهل الفتنة يذعنون إليه دون محنة، ويرسلون إليه بالطاعة قبل أن يطلبها. وإن الخبر المستفيض عن الشيوخ أنه، لو عاش المنذر عاما واحدا زائدا، لم يبق برية منافق؛ وأخباره تدل على ذلك. وأول أخباره الدالة على ذلك أنه، لما أتاه موت أبيه، لم يمنعه ذلك من التعريج عن القصد واختصار الطريق، ولا شغله أمر مهم ولا أمر جليل عن آخر؛ فجعل طريقه على رية؛ فهذب أمورها، وولى عليها سليمان بن عبد الملك بن أخطل، وعبد الرحمن بن حريش، وأدخل معهما أهل المعاقل من العرب والحشم. ثم جمع في يوم ولحد مبايعته، وإعطاء الجند، والنظر فيما أسقط من الأزمة عن الرعية، وما فعله من الاستحماد إلى أهل قرطبة بإسقاط العشور عنهم، والنظر في الندب وإخراج القائد. وهكذا كان فعله في جميع أسبابه؛ ويحسب ذلك كان انقياد الأشياء له.
خلافة عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم
كنيته: أبو محمد. مولده: في النصف من ربيع الآخر سنة 229. أمه: تسمى بهار وقيل: عشار. حجابه: اثنان: عبد الرحمن بن شهيد وابن السليم. وزراؤه: ستة وعشرون. كتابه: ثلاثة: عبد الله بن محمد الزجالي، وعبد الله بن محمد بن أبي عبدة، موسى بن زياد. صفته: أبيض، مشرب
بحمرة، أصهب، أزرق، أقنى الأنف، ربعة، يخضب بالسواد. بنوه: أحد عشر، أحدهم محمد المفتول، والد عبد الرحمن الناصر. بناته: ثلاث عشرة. بويع في اليوم الذي مات فيه أخوه المنذر في المحلة على بربشتر، وذلك يوم السبت في النصف من شهر صفر سنة 275. ثم قفل إلى قرطبة بأخيه المنذر ميتا؛ فاستتم البيعة بقرطبة، ودفن أخاه بعدها. وتوفي عبد الله سنة 300، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة؛ فكانت خلافته خمسا وعشرين سنة، وخمسة عشر يوما. ومن قول ابن عبد ربه فيه (طويل) :
خِلافَةُ عَبدِ الله حَجٌ عَلَى الوَرَى
…
فلا رَفَثٌ في عَصِرهِ وفُسُوقُ
تَجَلَّت دَياجِي الحيفِ عَن نُورِ عَدلِهِ
…
كَمَا ذَرَّ في جَنحِ الظَّلامِ شُرُوقُ
ونثَقَّفَ شَهمَ الدينِ بالعَدِل والتُّقَى
…
فهَذَا لَهُ نَصلٌ وذَلِك فُوقُ
وأعلنَ أسبَابَ الهُدَى بضَمِيرهِ
…
فلَبسَ لَهُ إلَاّ بهِنَّ عُلُوقُ
ومَا عَاقَهُ عَنها عَوائقُ مُلكِهِ
…
وأمثالُها عَن مِثلهِنَّ تعُوقُ
وأفضت الخلافة إليه، وقد تحيفها النكث، ومزقها الشقاق، وحل عراها النفاق؛ والفتنة مستولية، والدجنة متكاثفة، والقلوب مختلفة، وعصى الجماعة متصدعة، والباطل قد أعلن، والشر قد اشتهر؛ وقد تمالا على أهل الإيمان حزب الشيطان؛ وصار الناس من ذلك في ظلماء ليل داج، لا إشراق لصباحه، ولا أقول لنجومه. وتألب على أهل الإسلام أهل الشرك ومن ضاهاهم من أهل الفتنة، الذين جردوا سيوفهم على أهل الإسلام؛ فصار أهل الإسلام بين قتيل ومحروب ومحصور، يعيش مجهودا، ويموت هزلا؛ قد انقطع الحرث، وكاد ينقطع النسل. فناضل الأمير بجهده، وحمى بجده، وجاهد عدو اله وعدوه. وانقطع الجهاد إلى دار الحرب، وصارت بلاد الإسلام بالأندلس هي الثغر المخوف؛ فكان قتال المنافقين وأشباههم أوكد بالسنة، وألزم بالضرورة.
فأول ما تناوله، ونظر فيه، أن وجه إبراهيم بن خمير لأخذ بيعة ابن حفصون وبيعة من قبله. فقصد إبراهيم إليه، وطلب طاعته؛ فظهر منه حسن
مذهب؛ فأخذ بيعته، وصدر عنه؛ وقدم معه حفص ابنه وجماعة من أصحابه؛ فأخذت عليهم البيعة، وردهم الأمير محبوين بالكرامة والرعاية. فبقى ابن حفصون سامعا مطيعا منتهيا عما نهى عنه، واقفا عندما أمر به. ثم تعدى بعد ذلك حده، ومد يده إلى ما نهى عنه؛ فلم يدع مالا عند من أمكنه، واستحوذ على أهل الكور في أموالهم، وأمضى نفسه على عادته الذميمة من الفساد وقطع السبل، وذلك في سنة ولاية الأمير عبد الله.
وفي سنة 276، خرج الأمير عبد الله بنفسه إلى بربشتر وحصون رية؛ فانتسف معايشها، وقفل عنها، وقد شد تلك الناحية؛ وأبقى بحاضرة رية محمد بن ذنين من أهل قرطبة؛ فخرج ابن حفصون في إثره، وتألف إليه المفسدون؛ فأتوا إلى إسنجة، فاحتلوها، ثم إلى حصن إستبة، فأخذوه؛ فأخرج إليهم الأمير جيشا؛ فنزل ابن حفصون، واعترف بذنبه؛ فعقد له الأمير أمانا.
وفي هذه السنة، ولي محمد ابن الأمير عبد الله كورة إشبيلية؛ فخرج في أيامه بعض عرب إشبيلية إلى قرمونة؛ فضبطوها.
وفيها، ثار أبو يحيى محمد بن عبد الرحمن بن عبد العزيز النجيبي المعروف بالأنقر.
وفيها، نقض ابن حفصون وقصد بيانة؛ فحارب أهلها، ثم أعطاهم العهد؛ فلما نزلوا إليه، غدرهم، وقتلهم، وأخذ أموالهم، وسبى ذراريهم.
وفيها، انتفض أهل جيان، وأخرجوا عاملها عباس بن لقيط، وملكها ابن شاكر.
وفي سنة 277، ولد عبد الرحمن الناصر.
وفيها، غزا القائد ابن أبي عبدة إلى جيان، وفيها ابن شاكر مخالفا؛ فحاربه، وحاصره، وقتل جماعة من أصحابه، وأحرق كثيرا من دور جيان.
وفيها، خرج حفص بن المرة إلى سوار، وكمن له الكمائن، وأغار عليه؛ فلما خرج سوار في طلبه، خرجت عليه الكمائن؛ فقتل: وفيها، قتل ابن شاكر الثائر بجيان. وسبب قتله أن ابن حفصون أزاد أن يراجع طاعة الأمير، وأن يتقرب إليه بقتل ابن شاكر؛ فبعث إليه خيلا يريه أن يمده على عدوه؛ فأقبل المدد إليه؛ فلما خرج إليهم، فتكوا به وقتلوه، وبعثوا برأسه إلى ابن حفصون؛ فبعث به إلى الأمير عبد الله. وعند ذلك توجه ابن حفصون إلى جيان؛ فأغرم أهلها الأموال الجسيمة. وأقامت جيان وإلبيرة مدة دون عامل من الأمير.
وفي سنة 278، خرج الأمير عبد الله إلى بلاي من عمل قبرة، وبها عدو الله ابن حفصون مع جماعة كبيرة من أصحابه أهل الفساد والارتداد. وكانوا قد أضروا بأقاليم قرطبة، وضيقوا عليهم حتى أغاروا على أغنام قرطبة. فخرج إليهم الأمير مستهل صفر، واحتل به؛ فناهضه وصادقه القتال؛ فانهزم هو ومن معه، ولجأ إلى حصنه مع ملأ من أصحابه، وعوجل عشيره عن الدخول معه، واتبعوا؛ فلم يخلص منهم أحد. فبات الأمير قرير عين، والمسلمون كذلك، وقد أخذوا عليه تلك الليلة الباب رجاء أن يأتي الصباح، فيؤخذ داخل الحصن. ثم خرج منه مع بعض أصحابه، ونجا ونجوا. ولما أصبح، أعلم السلطان بخبره؛ فأرسل الخيل في أثره؛ فلم يعلم له خبر. ودخل الأمير الحصن يوما آخر؛ فوجده مترعا بالذخر، ملآن من العدد؛ وكان عدد عسكر الأمير ثمانية عشر ألف فاري. وقيل إن ابن حفصون ألب أهل حصون الأندلس كلها، وأقبل إليه في ثلاثين ألفا. ووقعت الحرب بينهم؛ فانهزم عدو الله، وقتل أكثر من كان معه. ودخلت جملة منهم في محلة الأمير؛ فأمر بالتقاطهم؛ فأتى بألف رجل منهم؛ فقتلوا صبرا بين يديه. هكذا ذكر في (بهجة النفس) .
ثم قصد الأمير إستجة؛ فنازلهم؛ وحاربهم، وقتل لهم عددا كثيرا. فلما أخذهم
الجهد، رفعوا الأطفال على الأيدي في الأسوار، مستصرخين، ضارعين، راغبين في العفو؛ فعفا عنهم.
وفي سنة 279، غدر أهل ارجذونة بأحمد بن هاشم. ونقض ابن حفصون ما كان انعقد من السلم والطوع.
وفي سنة 280، توجه المطرف بن الأمير عبد الله بالجيش إلى ابن حفصون ببرنشتر؛ فحاصرها، وهتك جميع ما حواليها.
وفيها، أمر الأمير عبد الله ببنيان حصن لوشة، وأبقى عليه إدريس بن عبيد الله.
وفيها، دخل إذفونش بن أردون مدينة سمورة وبناها؛ وكانت من بنيان عجم طليطلة.
وفي سنة 281، أغزى الأمير عبد الله عبد الملك بن أمية؛ فتقدم إلى حصون ابن مستنة، ونازل حصن آشر، وحاربه، وقتل من أهله عددا كثيرا، وهدم حصن السهلة. ثم قفل إلى قرطبة.
وفي سنة 282، غزا بالصائفة المطرف ابن الأمير عبد الله. وقاد الصائفة عبد الملك بن أمية. فلما كان بمقربة من إشبيلية، قبض على القائد عبد الملك، وقتله، وقدم على قيادة العسكر أحمد بن هاشم. وأقام العسكر في الموضع أربعة أيام، وكتب أمانا لأهل إشبيلية، وأمانا لأهل شذونة؛ فدانت له، وقبض جبايتها، ودوخ تلك البلاد. ثم رحل إلى إشبيلية؛ فناشبهم الحرب؛ فانهزم أهل إشبيلية، ووقع فيهم القتل إلى سور المدينة. ثم أجاز الوادي؛ فتتبع القرى بالنسف والتغيير.
وفي هذه السنة، ضمَّ المطرف ابن الأمير عبد الله إبراهيم بن حجاج وابن