المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

حفصون؛ فأسلم الحصن إلى رجال أمير المؤمنين الناصر لدين الله، - البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب - جـ ٢

[ابن عذاري المراكشي]

فهرس الكتاب

- ‌ذكر صِفة الأندلس وأوَّليَّتها

- ‌ذكر دخول المسلمين إلى الأندلس

- ‌وانتزاعها من أيدي الكفار

- ‌ذكر ما افتتح طارق بن زياد من بلاد الأندلس

- ‌سنة 92 من الهجرة

- ‌فتح قُرطُبة

- ‌فتح مالقة

- ‌فتح غرناطة قاعدة البيزة

- ‌فتح مرسية

- ‌فتح طُليطُلة

- ‌فتح قَرْمُونَة

- ‌فتح إشبيلية

- ‌فتح ماردة

- ‌فتح إشبيلية ثانية

- ‌فتح لبلة

- ‌ذكر اجتماع الأمير أبي عبد الرحمن موسى بن نصير

- ‌مع مولاه طارق بن زياد على طليطلة

- ‌ذكر ما أفاء الله على فاتحي الأندلس

- ‌أخبار الأمير أبي عبد الرحمن موسى بن نصير

- ‌رحمه الله تعالى

- ‌ولاية عبد العزيز بن موسى بن نصير

- ‌ذكر ولاية أيوب بن حبيب الأندلس

- ‌ولاية الحرّ بن عبد الرحمن الثَّقفيّ

- ‌ولاية السَّمح بن مالك الخولانيّ

- ‌ولاية عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي الأندلس

- ‌ولاية عنبسة بن سُحيم الكلبي

- ‌ولاية يحيى بن سلمة الكلبي

- ‌ولاية حذيفة بن الأحوص

- ‌ولاية عثمان بن أبي نسعة

- ‌ولاية الهيثم بن عبيد الكناني

- ‌ولاية محمد بن عبد الله الأشجعي

- ‌ولاية عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي ثانية

- ‌ولاية عبد الملك بن قطن

- ‌ولاية عقبة بن الحجاج السَّلولي

- ‌ولاية عبد الملك بن قطن الفهري ثانية

- ‌ذكر ولاية بلج بن يسر القشيري الأندلس

- ‌مقتل عبد الملك بن قطن الفهري

- ‌ولاية ثعلبة بن سلامة العامليّ الأندلس

- ‌ذكر ولاية أبي الخطار

- ‌الحسام بن ضرار الكلبي الأندلس

- ‌ذكر الصميل بن حاتم وسبب الفتنة

- ‌ولاية يوسف بن عبد الرحمن الفهري الأندلس

- ‌مقتل أبي الخطَّار

- ‌تسمية من ثار على يوسف بن عبد الرحمن الفهري بالأندلس

- ‌جامع أخبار بني أمية بالمشرق

- ‌ذكر دخول عبد الرحمن بن معاوية

- ‌ابن هشام إلى الأندلس وهروبه من الشام

- ‌خلافة عبد الرحمن بن معاوية

- ‌ابن هشام بن عبد الملك

- ‌ذكر بعض أخباره على الجملة

- ‌خلافة هشام الرضي بن عبد الرحمن الداخل

- ‌ذكر بعض أخباره على الجملة

- ‌قصة الكناني مع هشام بن عبد الرحمن

- ‌خلافة الحكم بن هشام بن عبد الرحمن

- ‌مقتل أهل الربض أولا قبل هيجه ثانية

- ‌ذكر دخول الحكم طليطلة حين خالفت عليه

- ‌ذكر هيج أهل الربض ثانية في سنة 202

- ‌بعض أخباره وسيره

- ‌خلافة عبد الرحمن بن الحكم بن هشام

- ‌دخول المجوس إشبيلية في سنة 230

- ‌ذكر بعض أخباره على الجملة وسيره

- ‌خلافة محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام

- ‌وفيها كانت بالأندلس مجاعة عظيمة متوالية

- ‌بعض أخباره وسيره

- ‌بعض سيره وأخباره

- ‌خلافة عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم

- ‌ذكر ثورة بني حجاج بإشبيلية

- ‌أخبار عمر بن حفصون في أيام الأمير عبد الله

- ‌جملة الثُّوَّار ببلاد الأندلس في أيام الأمير عبد الله

- ‌الخارجين عن الجماعة المضرمين لنار الفتنة

- ‌شأن ابني الأمير عبد الله محمد ومطرف

- ‌شأن القاسم أخي الأمير عبد الله

- ‌صفة الإمام عبد الله بن محمد

- ‌بعض أخبار الأمير عبد الله بن محمد على الجملة

- ‌ الناصر لدين الله

- ‌خلافة أمير المؤمنين عبد الرحمن بن محمد

- ‌ذكر موت عمر بن حفصون

- ‌غزوة مطونية

- ‌غزاة الناصر لدين الله إلى بلدة

- ‌غزاة مويش

- ‌غزاة الناصر إلى بنبلونة

- ‌ذكر قتل سليمان بن حفصون

- ‌ذكر افتتاح مدينة ببشتر

- ‌مطالعة أمير المؤمنين الناصر لببشتر في الشتاء

- ‌بعض أخبار الناصر على الجملة

- ‌‌‌حكاية

- ‌حكاية

- ‌ذكر مسجد قرطبة الأعظم

- ‌ذكر بناء مدينة الزهراء بقرطبة

- ‌أعادها الله للإسلام بفضله

- ‌خلافة الحكم بن عبد الرحمن المستنصر بالله

- ‌ذكر الحبس الذي حبس المستنصر بالله على الجامع بقرطبة

- ‌ذكر اتصال محمد بن أبي عامر بخدمة الحكم المستنصر

- ‌خلافة هشام بن الحكم

- ‌ابن عبد الرحمن الناصر والدولة العامرية

- ‌بعض أخبار المنصور محمد بن أبي عامر في ابتدائه

- ‌مقتل المغيرة بن عبد الرحمن الناصر

- ‌بعض أخبار الصقالبة مع ابن أبي عامر

- ‌غزوة محمد بن أبي عامر الأولى

- ‌ذكر نكبة الحاجب جعفر بن عثمان

- ‌غزوة ابن أبي عامر الثانية

- ‌غزوة ابن أبي عامر الثالثة

- ‌استبداد ابن أبي عامر بالملك وتغلبه عليه

- ‌ذكر تدبير عبد الرحمن بن مُطرف

- ‌مع عبد الله بن المنصور في القيام عليه

- ‌ذكر مقتل عبد الله المنصور

- ‌غزوة شنت ياقوب على سبيل الاختصار

الفصل: حفصون؛ فأسلم الحصن إلى رجال أمير المؤمنين الناصر لدين الله،

حفصون؛ فأسلم الحصن إلى رجال أمير المؤمنين الناصر لدين الله، ودخل قرطبة؛ فأنزل ووسع عليه. وكان غير داخل في الحرب والفتنة مدخل أبيه؛ وإنما كان صاحب كتب، وكان حسن الخط ضعيف العقل. قال عريب: وقد صار بعد ذلك وراقا.

وفيها، ولي أمير المؤمنين الناصر محمد بن عبد الله بن محمد الزجالي خزانة المال لتسع خلون من شهر رمضان.

وفيها، توفي محمد بن أحمد بن زياد، يوم السبت لأربع عشرة خلت من رجب؛ وكان جارا لمحمد بن وضاح الفقيه؛ فأوصى أن يصلي عليه؛ فقام له بذلك ذكر. وفيها، مات محمد بن سليمان بن وانسوس الوزير، يوم الجمعة لعشر خلون من شهر رمضان. وفيها، مات حمدون بن بسيل وفيها، أمر الناصر بقتل موسى بن زياد، ليلة السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من صفر؛ وكان قد ولي الوزارة في أيام الإمام عبد الله، وكثرت مطالبته للناس، ورفعه عليهم، وتحككه بهم؛ وكان يجاهر بكراهة أمير المؤمنين الناصر، ويرفع عليه إلى جده - رحمهما الله -، ويغري الإمام عبد الله برجاله؛ فحبسه أمير المؤمنين الناصر في يوم بيعته؛ ولم يزل محبوسا إلى أن أمر بقتله؛ وقتل معه حبيب بن عمر بن سوادة، وولداه، ومحمد بن وليد المعروف بالغليلي؛ وكانت لهم ذنوب وجرائم أحردته عليهم.

‌غزاة مويش

وفي سنة 308، كان غزاة أمير المؤمنين الناصر إلى دار الحرب، وهي غزاة مويش؛ فبرر رحمه الله لهذه الغزاة يوم الخميس لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة سنة 307؛ ثم فصل غازيا من قصر قرطبة يوم السبت لثلاث عشرة ليلة خلت من المحرم سنة 308، وهو اليوم الثالث من شهر حزيران،

ص: 175

ذلك بعد بروزه بثلاثين يوما. وتخلف في القصر ولي عهده الحكم أمير المؤمنين المستنصر بالله - أيده الله -. ومن الوزراء موسى بن محمد بن حدير. فلما كان في اليوم الرابع من فصوله، ونزل بمخاضة الفتح، ورد عليه بها كتاب فتح من قبل عامل مدينة الفرج، يذكر أن المشركين من أهل جليقية أتوهم في جمع كثير؛ فأغاروا على ما لاقوه في بسيطهم من الدواب والسوام، ثم عرجوا على حصن بقربهم، يعرف بالقليعة؛ فأحدقوا به طامعين في التغلب عليه؛ فانحشد إليهم جميع أهل المدينة بفارسهم وراجلهم، وواضعوهم القتال بأثبت بصائرهم؛ فمنحهم الله عز وجل أكتاف الكفرة، وأطال أيديهم عليهم؛ فقتلوا وأسروا كثيرا منهم، واتبعوهم من أول النهار إلى آخره، والسيف يعمل فيهم، وبعثوا بجملة من رؤوسهم؛ فاستبشر الناصر بما ورده وتفأل باسم المحلة التي كان فيها عند ورود الفتح عليه.

ونهض آما لوجهته، والحشود والعساكر تتلاحق به من سائر أقطار الأندلس، وجميع جهاتها. ونزل رحمه الله على مدينة طليطلة، وخرج إليه لبُّ بن الطربيشة صاحبها، مبادرا إليه، وغازيا معه؛ وكان يظهر طاعة تحتها معصية. ثم تنقل رحمه الله في مناقله، حتى نزل بمدينة الفرج؛ فنظر لأهلها، وعزل بني سالم عنهم، إذ شكوا بهم. واستوزر رضي الله عنه في هذه المحلة سعيد بن المنذر، وقدمه قائدا وضابطا لمدينة الفرج، وأغزاه مع نفسه، واستعمل على الموضع ابن غزلان القرشي صهره، واستقصى عليهم محمد بن مسور الفقيه. فصلحت أحوالهم، وعم الرضى جميعهم؛ وخرج للجهاد أكثرهم. ونهض أمير المؤمنين الناصر رحمه الله في جيوش تغص بها السبل، ويضيق بها القضاء الأوسع، حتى احتل بثغر مدينة سالم، وأظهر رحمه الله التوجه إلى الثغر الأقصى. وقدمت المقدمة نحوه. ثم عرج بالجيوش إلى طريق آلية والقلاع، وطوى من نهاره ثلاث مراحل، حتى احتل بوادي دوبر؛ فاضطربت العساكر

ص: 176

فيه، وباتت عليه. ثم أخرج صباح تلك الليلة سعيد بن المنذر الوزير، في جرائد الخيل وسرعان الفرسان، إلى حصن وخشمة؛ فأغدَّ السير حتى قرب من الحصن، وسرح الخيل المغيرة يمنة ويسرة، والمشركون في سكون وغفلة، إذ كان العلج الذي يلي أمورهم قد كاتب أمير المؤمنين رحمه الله، مكايدا له في إزاحته عن بلده بمواعيد وعدها من نفسه؛ فأظهر أمير المؤمنين رحمه الله قبول ذلك منهم، وأضمر الكيد بهم؛ فغشيتهم الخيل المغيرة على حين غفلة، وأصابوا نعمهم وسوامهم ودوابهم مسرحة مهملة؛ فاكتسحوا جميع ذلك، وانصرفوا إلى العسكر سالمين غانمين. فلما كان في صباح يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر، اندفعت الخيل في أكمل تعبئة، وأهذب ترتيب، وأوكد ضبط، وأبلغ حزم وعزم، إلى حصن وخشمة؛ ففر عنه الكفرة، وأخلوه، ولاذوا بالغياض الأشبة، والصخور المنقطعة. ودخل المسلمون الحصن، وغنموا جميع ما فيه وأضرموه نارا. وبات أمير المؤمنين رحمه الله في محلته على وخشمة ليلة السبت؛ ثم رحل عنها في اليوم الثاني إلى حصن قاشتر مورش، وهي شنت أشتبين، بيضة المفرة، وقاعدتهم، والموضع الذي كانوا تعودوا فيه الاستطالة على من وردهم. فلما رأوا أن أنصار دين الله قد أطلوهم، وأولياءه قد يمدوا نحوهم، أخلوا الحصن وخرجوا هاربين عنه؛ فدخله المسلمون، وغنموا جميع ما فيه؛ وخربوا حصن القبيلة المجاور له، ولم يترك لأعداء الله في تلك الجهة نعمة يأوون إليها.

واضطرب العسكر بشرقي حصن قاشتر مورش. وبات المسلمون ليلة الأحد بأسر ليلة كانوا بها، والحمد لله. ثم انتقل أمير المؤمنين رضي الله عنه في صبيحة اليوم الثاني من مكان المضطرب شرقي الحصن إلى غربيه، ولم يكن بين الموضعين إلا قدر ميل؛ فكسر العسكر في ذلك المكان يوم الأحد متقصيا لآثار الكفرة، ومستبيحا لنعمهم. ثم ارتحل إلى مدينة لهم أولية تعرف بقلونية، وكانت من أمهات مدنهم؛ فلم تمر الجيوش إليها إلا على قرى منتظمة وعمارة بسيطة؛ فغنمت جميع ما كان بها، وقتلت من أدركت فيها، حتى أوفت العساكر على المدينة؛ فألقيت

ص: 177

خالية، قد شرد عنها أهلها إلى الأجبل المجاورة لهم؛ فغنم المسلمون جميع ما أصابوا فيها، وعملت الأيدي في تخريب ديارها وكنائسها. وكسر الناصر رحمه الله عليها ثلاثة أيام، مطاولا لنكاية المشركين، وانتساف نعمهم. ثم ارتحل رحمه الله من مدينة قلونية يوم السبت لخمس بقين من صفر إلى ثغر تطيلة، لغياث صريخ المسلمين به، إذ كان العلج شانجه قد ضايقهم، وتردد بكفرته عليهم؛ فأخذ الناصر رحمه الله بالرفق في نهوضه، لئلا يعنف على المسلمين بحث السير مع اتصال سفرهم؛ فاستقبل بالجيوش قطع المفاز الأعظم، مسايرا لوادي دوير، وقطع في ذلك خمس محلات، حتى احتل حوز تطيلة؛ ثم قدم الخيل مع محمد ابن لبّ عاملها إلى حصن قلهرة الذي كان اتخذه شانجه على أهلها. فلما قصدته الخيل، أخلاه من كان فيه، وضبطه المسلمون.

ثم نهض رحمه الله إلى حصن قلهرة. وكان شانجه قد اتخذه معقلا، وتبوَّأه مسكنا. فلما فجأته العساكر، أخلاه العلج، وزال عنه؛ فغنمه المسلمون بأسره؛ وكسر الناصر رحمه الله عليه يومين حتى خرب جميعه، وانتسف كل ما كان حواليه. ثم رحل بالجيوش يوم الأحد لأربع خلون من ربيع الأول إلى دي شره، وأجاز إليها وادي إبره؛ فخرج شائجه من حصن أرنيط في جموعه وكفرته، متعرضا لمن كان في مقدمة العسكر؛ فتبادر إليه شجعان الرجال، تبادر رشق النبال؛ فانهزم الكفرة، وركبتهم الخيل، تقتل وتجرح، حتى تواروا في الجبال، ولاذوا بالشعاب وأيقنوا بالدمار والهلاك. وحيز كثير من رؤوس المشركين؛ فتلقوا بها أمير المؤمنين رحمه الله، ولا علم عنده المعركة التي دارت بينهم وبين أعداء الله. واضطرب العسكر بهذا الموضع، وبات المسلمون ظاهرين على عدوهم، ومنبسطين في قراهم ومزارعهم.

وورد الخبر على الناصر رحمه الله باجتماع العلجين أرذون وشانجه، واستمداد بعضهما ببعض، طامعين في اعتراض المقدمة، أو انتهاز فرصة في

ص: 178

الساقة. فأمر الناصر رحمه الله بتعبئة العساكر، وضبط أطرافها؛ ثم نهض بها موغلا في بلاد الكفرة؛ فتطللوا على كدّي مشرفة وأجبل منيعة؛ ثم تعرضوا من كان في أطراف الجيش، وجعلوا يتصابحون، ويولولون ليضعنوا من قلوب المسلمين؛ فعهد الناصر رحمه الله بالنزول والاضطراب وإقامة الأبنية. ثم تبادر الناس إلى محاربة الكفرة، وقد أسهلوا من تلك الأجبل؛ فواضعوهم القتال، واقتحم عليهم حشم أمير المؤمنين ورجاله وأبطال الثغر وحماته، ويضعون أسلحتهم فيهم، ويمطرون رماحهم عليهم، حتى انهزم المشركون، لا يلوون على مكان مضطربهم، ولا يهتدون لوجه متقلبهم، والمسلمون على آثارهم، يقتلون من أدركوا منهم، حتى حجز الظلام بينهم.

ولجأ عند الهزيمة أزيد من ألف علج إلى حصن مويش، ورجوا التمتع فيه. فأمر الناصر بتقديم المظل وأبنية العسكر إلى الحصن؛ فأحبط به من جميع جهاته، وحوربوا داخله حتى تغلب عليه، واستخرج جميع العلوج منه، وقدموا إلى الناصر رحمه الله؛ فضربت رقاب جميعهم بين يديه، وأصيب في الحصن والمحلة التي كانت للكفرة بقربه من الأمتعة والأبنية والحلية المتقنة والآنية ما لا يحصى كثرة؛ وأصيب لهم نحو ألف وثلاثمائة فرس. وكسر أمير المؤمنين رحمه الله بهذه المحلة أربعة أيام، يغير جميع ما حواليها من نعم المشركين وثمراتهم ومزارعهم؛ ثم انتقل رحمه الله يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول إلى حصن كان أتخذه شانجه على أهل بقيرة؛ فألقاه خاليا، قد فرَّ عنه أهله؛ فعهد بهدمه، ولم يبرح أمير المؤمنين رحمه الله من محلته هذه حتى انتقل إلى حصن بقيرة من أطعمة الكفرة ألف مُدي تقوية لأهله.

ثم انتقل إلى حصون المسلمين يسكنها وينظر في مصالح أهلها؛ فكلما ألفى بقربها معقلا للمشركين، هدمه وأحرق بسيطه، حتى لقد اتصل الحريق في بلاد المشركين عشرة أميال في مثلها. واجتمع عند الناس من الأطعمة والخيرات ما عجزوا عن حمله، ولم يجدوا لها ثمنا تباع بع؛ وكان القمح في العسكر تبذل

ص: 179

ستة أقفزة بدرهم؛ فلا يوجد من يشتريه؛ فجمعت الأطعمة وأدخلت النار إليها حتى أخرجت عن آخرها. وقفل الناصر رحمه الله يوم الثلاثاء. لثلاث بقين من ربيع الأول، حتى انتهى إلى مدينة أنتيشة؛ فكسر رحمه الله بها يوما، ووصل رجال الثغر، وكساهم، وحملهم، وأذن لهم في الرجوع إلى مواضعهم. وبعث إلى قرطبة من رؤوس الكفرة التي أصيبت في المعارك المذكورة أعدادا عظيمة، حتى لقد عجزت الدواب عن استيفاء حملها. ودخل رحمه الله القصر بقرطبة يوم الخميس الثالث عشر من ربيع الآخر، وقد استكمل في غزاته هذه تسعين يوما.

وفي هذه السنة، بعد القفل، عزل الناصر رحمه الله محمد بن محمد بن أبي زيد عن الشرطة العليا، وولاها دريا مولاه.

وفي هذه السنة، قتل جعفر بن عمر بن حفصون بجبل ببشتر، قتله أصحابه غيلة، ودخله أخوه سليمان وضبطه.

وفيها، ولي العرض عبد الرحمن بن عبد الله الزجالي.

وفيها، افتتحت المندات بحذر فرطمة من كورة رية، وبنى حصن فاشتره ذكوان، وألزمه الرجال والقوة.

وفي هذه السنة، توفي أبو عمرو سعد بن معاذ بن عثمان بن حسان بن بخامر الشعباني الفقيه بقرطبة في جمادى الأولي؛ وكان معظما في أهل العلم؛ وفيها، توفي عبد الغافر بن هاشم بن عبد العزيز.

وفي سنة 309، كان غزاة أمير المؤمنين الناصر رحمه الله إلى كورة رية، وهي غزاة طرُّش. وبرز لها رحمه الله يوم الخميس لسبع خلون من ذي الحجة سنة 308، وهو اليوم العاشر من أيار. وفصل من قصر قرطبة غازيا يوم السبت لثمان خلون من المحرم سنة 309، وهو اليوم العاشر من حزيران بعد بروزه إلى أحد وثلاثين يوما. وتخلف في النصر ولي عهده أمير المؤمنين المستنصر

ص: 180

بالله - أطال الله بقاءه - فسار رضي الله عنه في احتفال من جيوشه، وطبقات من رجاله، حتى احتل على حصن طرُّش؛ وكانت النصرانية قد احتشدت إليه، وتحصنت فيه؛ فأحدقت العساكر به من جميع جهاته، وعهد بمحاربتهم والتضييق عليهم ونصب المجانيق على مرتقى تصل منه حجارته إلى الكفرة. وكانوا في أول المنازلة لهم يبرزون للحرب، ويظهرون المدافعة، حتى مزقتهم الحرب، وقللت عددهم، وقلت حدهم؛ فعاذوا بالاستغلاق في داخل حصنهم. ثم تمادى التضييق عليهم، والحصار لهم، حتى أخذهم الجهد، وأشفوا على الهلاك؛ فخاطبوا أمير المؤمنين ضارعين إليه في تأمينهم، على أن يسلموا الحصن، ويخرجوا عنه؛ فأجابهم إلى ذلك، وقيل إنابتهم؛ ودخل رجاله الحصن، وخرج عنه جميع من كان به من النصرانية داخله. وهدمت قصابه وألقيت أحجارها في النهر؛ وبني في موضع الكنيسة مسجد جامع. ونظر الناصر رحمه الله أيام محاصرته لحصن طرش في توجيه القوَّاد والأجناد إلى حصن ببشتر وحصن أقوط وجبل الحجارة، لمحاربة سليمان وحفص ابني عمر بن حفصون، والتضييق عليهم، والانتقاص لعددهم. ثم قفل الناصر رحمه الله من محلته على حصن طرش يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، ودخل قصر قرطبة يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة بقيت منه، وقد استتم في غزاته هذه تسعة وستين يوما.

وفي هذا العام، استنزل بنو سعيد بن ناصح بن مستنة من حصون باغه المعروفة بعالية وربرش. واستنزل موسى بن يزيد، أخو حمصي، من الصخرة التي كان بها. واستنزال بنو مهلب من حصونهم المعروفة بقرذبرة وإشبرغيرة وغيرهما، وهدم جميعها.

وفي هذه السنة، أمر الناصر رحمه الله بقتل العاصي ابن الإمام عبد الله، ومحمد بن عبد الجبار ابن الإمام محمد - رحمهما الله -، إذ شهد كلُّ واحد منهما

ص: 181

على صاحبه بمطالبة الخلافة ونقض البيعة، وكثرا في ذلك؛ وكان لهما غليان. فقتلا ليلة الأربعاء لثلاث خلون من رجب.

وفي ليلة الجمعة لست خلون من رجب، مات الحاجب بدر بن أحمد وولي الحجابة موسى بن أحمد بن حدير.

وفيها، مات محمد بن عبد الله بن أمية الوزير؛ وعبد الواحد بن محمد بن عبد الواحد بن يزيد الإسكندراني في شوال؛ وفيها، توفي الفقيه محمد بن أحمد المعروف بابن الزراد، ليلة الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة.

وفي سنة 310، كان غزو أمير المؤمنين الناصر رحمه الله إلى كورة إلبيرة، وهي غزاة منت روبي، وبرز لهذه الغزاة يوم الخميس لثلاث خلون من ذي الحجة سنة 309، وهو الرابع من نيسان، وفصل غازيا من قصر قرطبة يوم السبت لعشر خلون من المحرم، وهو اليوم الحادي عشر من أيار، بعد بروزه بسبعة وثلاثين يوما. وتخلف في القصر ولي عهده الحكم المستنصر بالله - أبقاه الله -، ومن الوزراء أحمد بن محمد بن حدير. وغزا معه في هذه السنة الحاجب موسى بن محمدا؛ فسار رضي الله عنه حتى احتل بحصن منت روبي يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من المحرم؛ وكان جبلا ممتنعا، بعيد المرام، كثير السكان من عجمة، قد لاذت به، وامتنعت فيه؛ وهو متوسط بين كورة إلبيرة وكورة جيان، وعلى طريق مدينة بجانة. فكان من سلك السبيل من وارد أو صادر لا يسلم من عادية ذلك الحصن. وكانوا يسفكون الدماء، ويسلبون الأموال، ويخيفون السبل. فأقام عليهم أمير المؤمنين رحمه الله خمسة وثلاثين يوما محاصرا، حتى أباد كثير منهم، وقطع ثمراتهم، وغير نعمهم. ثم أبقى على الحصن من رجاله وأجناده من استمر على محاصرتهم، حتى كان لا يدخل إليهم داخل، ولا يخرج عنهم خارج. وتقدم عنه إلى حصون كورة إلبيرة؛ فعم جميعها بالنكاية. ثم عرج منها إلى كورة رية، ونزل على جبل ببشتر يوم السبت لسبع خلون من ربيع الأول؛ فحاربهم أشد محاربة، ونكاهم أبلغ نكاية

ص: 182

وقطع ما كان بقي في أسناد الجبل من الثمار، ورتب لمحاصرتهم أكابر القواد. وقصد رحمه الله كورة تاكُرُنَّا؛ فاستصلح أحوال أهلها، واستوثق من طاعتهم ونقل من رأى نقله إلى قرطبة من وجوههم. ثم وصل نظره فيها بالنظر في كورة مورور، وطالع في طريقه كورة إشبيلية وقرمونة، وقفل بعد إحكامه جميع الأمور في تلك الجهات؛ فاحتل قصره يوم السبت لست خلون من ربيع الآخر، وقد استكمل في غزاته هذه خمسة وثمانين يوما.

وفي هذه السنة، ولي الوزارة أبو سعيد عبد الملك بن محمد الشذونيُّ، يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر. وولي فيها الوزارة أيضا يحيى بن إسحاق؛ وكانت بيده الشرطة الصغرى؛ فوليها مكانه محمد بن محمد بن أبي زيد، وذلك يوم السبت لخمس بقين من شوال.

وفيها، عزل أفلح بن عبد الرحمن عن الخيل، ووليها صاحب المدينة محمد ابن عبد الله الخروبي أياما يسيرة؛ ثم أعيد إليها أفلح.

وفيها، ولي أحمد بن موسى بن حدير، ونمارة بن سليمان الخزانة، في شوال.

وفيها، ولي أحمد بن عبد الله الخروبي العرض.

وفيها، مات سالم بن عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بن أبا الفقيه؛ وعبد الله بن أبي الوليد ابن أخت محمد بن الصفار الفقيه، وكانت له رواية عن سحنون؛ ومحمد بن عبد الحكم؛ وفيها، توفيت علية بنت الإمام عبد الرحمن ابن الحكم رحمه الله.

وفي سنة 311، كان غزو أمير المؤمنين الناصر لدين الله رضي الله عنه إلى مدينة ببشتر وحصون رية؛ فبرز لغزاته هذه يوم الخميس لست خلون من ذي الحجة سنة 310، وهو اليوم السابع عشرين من أذار؛ وفصل غازيا يوم الاثنين مستهل المحرم، وهو اليوم الثاني عشرين من نيسان، بعد بروزه بخمسة وعشرين يوما؛ فسار رحمه الله حتى احتل على حصن ببشتر؛ وبادر سليمان بن عمر بن حفصون بمكاتبته، راجيا لصرف عزمه عنه؛ فأعرض الناصر عن محاربته،

ص: 183

وقبول ما تعرض له من مكايدته، وأخذ بالجد والعزم في محاصرته، وقطع باقي ثمراته وكرماته، واصطلام معائشه. وأقام عليه سبعة أيام، يصل الغدو بالرواح في التغيير والتدمير والنكاية والاستبلاغ؛ وفعل كذلك فيما بقى من حصونه، كحصن قرذارش، وحصن نجارش، وحصن ألجش، وشنت ببطر؛ فخرج إليه حفص بن عمر بن حفصون، وتبرأ من حصن قامرة؛ فأمنه أمير المؤمنين الناصر رحمه الله، وأقره في بعض حصونه، لما رآه من السياسة ووجه المصلحة فيه وفي سليمان أخيه. ثم تقدم إلى مرسى شاط والمنكب، وحصن مشكريل، ونهض بعساكره في وعر لم يقتحمه جيش قبله؛ فاستنزل جميع أهل تلك الحصون، واستصلح تلط الجهات. ثم قصد جبل ببشتر، وقد كان أهله أرادوا الفتك بسليمان بن حفصون، وضبطوا القصبة دونه، وأطلقوا من كان في حبسه، وانتهبوا أكثر أمتعته؛ ثم إنه احتال مع بقية أصحابه، حتى دخلوا المدينة، وفتحوا له بابها؛ فدخل منه متلثما، وأطمع السواد في أموال القائمين عليه؛ فثاروا معه، وبادروا إلى قتل من ظفر به منهم؛ فأفنى أكثرهم؛ وسلط الله بعض الكفرة على بعض، ليمحو آثارهم. وبقى سليمان بجبل ببشتر مشغولا بنفسه، مرتابا ممن حوله؛ فاحتل به أمير المؤمنين مرَّة ثانية في غزاته هذه، وذلك يوم الأحد لأربع خلون من ربيع الأول؛ فلم يكن لأحد من الكفرة إطلال عند اضطراب العسكر على ما كانوا تعودوا من قبل؛ وأرتب على الجبل أمير المؤمنين من وثق به من رجاله، وألزمهم مواضع في جميع جهاته. ثم قفل، ودخل القصر بقرطبة يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأول، وقد استتم في غزاته تسعة وستين يوما.

وفي هذه السنة، كانت وقيعة بقيرة ومحاصرة أهل بنبلونة لعبد الله محمد ابن لب، حتى تغلب عليه وعلى من كان معه، وأسرهم العلج شانجه؛ ثم قتلهم. وكان مع ابن لب في حصن بقيرة مطرف بن موسى بن ذي النون، ومحمد بن محمد ابن عمه، ووجوه رجالهم؛ فذهبوا في هذه الوقيعة بأجمعهم. وشنع الحادث

ص: 184