الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وخرج إليه بهذا الأمان يحيى بن يحيى وابن أبي عامر؛ فعقد الصلح على ذلك وعلى أن يسكن عبد الله بلنسية. وقدم يحيى وابن أبي عامر بولد عبد الله على الحكم؛ فزوجه أخته شقيقته.
مقتل أهل الربض أولا قبل هيجه ثانية
وفي سنة 189، صلب الإمام الحكم اثنين وسبعين رجلا بقرطبة، منهم أبو كعب بن عبد البر، ويحيى بن مضر، ومسرور الخادم. وكان السبب في ذلك أنهم أرادوا الغدر به، وهموا بالخلاف عليه؛ وطلبوا رئيسا يقومون به. فوقع الخبر علي محمد بن القاسم عم هشام بن حمزة، وأطلعوا على أمرهم، ودعوه للقيام معهم؛ فخذلهم، وأفشى سرهم، وتقرب إلى الحكم بدمائهم. فتثبت الحكم، وسأله تصحيح ما رفع إليه؛ فقال له:(هات أمناءك!) فأخفاهم عنده، ووجه عنهم لميعاده؛ ثم قال لهم:(هذا الذي تدعونني إليه لا أثق بمن سميتم، دون أن أسمع منهم كما سمعت منكم؛ فتطيب نفسي، وأدخل في الأمر على قوة وبصيرة!) فأتوه، وسمه مقالتهم، والأمناء بحيث يرون ويسمعون. فلما صح عند الحكم أمرهم بشهادة الأمناء عليهم، أخذهم وصلبهم جميعا بمردة واحدة. ثم أتقن سور قرطبة وحفر خندقها، وتوجه غازيا إلى بلاد المشركين.
ومن قوله (طويل) :
رأيتُ صُدُوعَ الأرضِ بالسيفِ رافِعاً
…
وقِدماً لأمتُ الشعثَ مُذْ كُنتُ يافعاَ
فَسَائلْ ثغوري هل بها الآن ثُغْرةٌ
…
أبادرها مستنْضِيَ السيف دارعاَ
وشَافِه على الأرض الفضاء جماجِماً
…
كأقحاف شريان الهبيدِ لَوامِعاَ
تُنَبِئك أني لم أكُن عن قراعِهم
…
بِوانِ وأنِي كنتُ بالسيف قارِعَا
فإني إذا حادوا جِزاعا عن الرَّدَى
…
فلم أكُ ذا حيدٍ عن الموت جازِعَا
حَمَيتُ ذماري وانتهكتُ ذِمارَهم
…
ومَنْ لا يحامي ظلَّ خَزيان ضَارِعَا
ولما تساقينا سِجالُ حُروبِنَا
…
سقَيْتُهُمُ سَمَّا من الموت نافِعَا
وهل زِدتُ أن وقَّيتُهُمْ صاعَ قرضِهم
…
فوافوا مَنَاياَ قُدّرَت ومَصَارِعَا
فَهَاكَ بِلادي إنّني قد تركتُها
…
مِهَاداً ولم أتْرُكْ عليها مُنَازِعَا
وفي سنة 190، خرج الأمير الحكم غازيا إلى ماردة. فلما وصلها، احتلها وحاصرها (وكان بها أضبغ بن عبد الله بن وانسوس ثائرا) وإذا بالخبر وصله أن سواد أهل قرطبة أعلنوا بالنفاق، وتداعوا إلى صاحب السوق بالسلاح؛ وكتب المخلفون إلى الحكم بما حدث بعده وبما ظهر من ضمائر السفلة؛ فصدر قافلا، وطوى المراحل، وقطع الطريق في ثلاثة أيام، ودخل القصر. فهدأ الناس، وسكنت الأحوال، وصار الناس في هدوء وسكون من سنة 190 إلى سنة 202، والتزموا الدعة اثني عشر سنة.
وترددت الغزوات سبعة أعوام إلى ماردة، وبها أصبغ بن عبد الله ثائرا متمنعا. وكان سبب ثورته أن عدوا لأصبغ طالبه عند الحكم وأغراه عليه. ثم مشى إلى أصبغ بمثل ذلك، وروعه منه؛ فتوقع العقوبة والسطوة به. فكان ذلك سبب دخوله ماردة وقيامه بها. وتكررت الغارات عليه سبعة أعوام؛ فافتتحت في العام السابع بمحاولة انجلت عن طلب الأمان لأصبغ فأمن، وخرج من ماردة، وصار في مصف الحكم؛ فسكن قرطبة؛ ثم فسح له في الاختلاف إلى ضياعه بماردة حتى التاث أمرها، واضطربت حالها.
وفي سنة 192، خرج رذريق صاحب إفرنجة إلى جهة طرطوشة؛ فأغزى الحكم ابنه عبد الرحمن في جيش كثيف، وكتب إلى عمروس وعبدون عاملي الثغر بالغزو معه بجميع أهل الثغر. فتقدم عبد الرحمن بالجنود، وتوافت عليه الحشود، وحفت به المطوعة. فألفوا الطاغية خارجا إلى بلاد المسلمين. ودارت
بينهم حروب شديدة، ثبت الله فيها أقدام المسلمين. فانهزم المشركون؛ وكانت فيهم مقتلة عظيمة؛ ففنى أكثرهم.
وفي سنة 194، غزا الحكم إلى أرض الشرك. وكان السبب في هذه الغزاة أن عباس بن ناصح الشاعر كان بمدينة الفرج (وهي وادي الحجارة) . وكان العدو، بسبب اشتغال الحكم بماردة وتوجيه الصوائف إليها مدة من سبعة أعوام، قد عظمت شوكته، وقى أمره. فشن الغارات في أطراف الثغور، يسبي ويقتل. وسمع عباس بن ناصح امرأة في ناحية وادي الحجارة، وهي تقول:(واغوثاه يا حكم! قد ضيعتنا وأسلمتنا واشتغلت عنا، حتى استأسد العدو علينا!) فلما وفد عباس على الحكم، رفع إليه شعرا يستصرخه فيه، ويذكر قول المرأة واستصراخها به؛ وأنهى إليه عباس ما هو عليه الثغر من الوهن والتياث الحال. فرثى الحكم للمسلمين، وحمى لنصر الدين، وأمر بالاستعداد للجهاد، وخرج غازيا إلى أرض الشرك؛ فأوغل في بلادهم، وافتتح الحصون، وهدم المنازل، وقتل كثيرا، وأسر كذلك، وقفل على الناحية التي كانت فيها المرأة، وأمر لأهل تلك الناحية بمال من الغنائم، يصلحون به أحوالهم ويفدون سباياهم؛ وخص المرأة وآثرها، وأعطاهم عددا من الأسرى عونا. وأمر بضرب رقاب باقيهم، وقال لأهل تلك الناحية وللمرأة:(هل أغاثكم الحكم؟) قالوا: (شفا والله الصدور، ونكى في العدو، وما غفل عنا إذ بلغه أمرنا! فأغاثه الله وأعز نصره!) وفي سنة 196، غزا الحكم إلى بلاد المشركين، وأوغل فيها، وأوقع بهم، وقفل. وفيها، مات تمام بن علقمة الثقفي.
وفي سنة 199، كانت المجاعة التي عمت الأندلس؛ ومات أكثر الخلق جهدا.