الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجزيرة؛ وتأبش إليه جماعة من أهل الشر والفساد؛ فأخرج إليه عبد الرحمن الأجناد. فلما وصلوا إليه، ألقوا البربر قد قصدوا حبييا ومن تأبش إليه؛ فتغلبوا على المعقل الذي كان انضوى إليه، وأخرجوه عنه، وقتلوا عدة كثيرة من أصحابه. وافترق بقيتهم عنه، ودخل حبيب في غمار الناس. فكتب الأمير عبد الرحمن إلى عمال الكور بالبحث عنه.
وفي سنة 237، قام رجل من المعلمين بشرق الأندلس؛ فادّعى النبوءة، وتأول القرآن على غير تأويله؛ فاتبعه جماعة من الغوغاء، وقام معه خلق كثير. وكان من بعض شرائعه النهي عن قص الشعر وتقليم الأظفار، ويقول:[لا تغيير لخلق الله!] فبعث إليه يحيى بن خالد؛ فأتى به. فلما دخل عليه، كان أول ما خاطبه به إن دعاه إلى اتباعه والأخذ بما شرع؛ فشاور فيه أهل العلم؛ فأشاروا بأن يستناب فإن تاب، وإلا قتل. فقال:(كيف أتوب من الحق الصحيح!) فأمر بصلبه. فلما رفع في الخشبة، قال:(أتقتلون رجلا أن يقول: ربي الله!) فصلبه، وكتب إلى الأمير يخبره.
وفي سنة 238، توفي الأمير عبد الرحمن بن الحكم رحمه الله! - ليلة الخميس لثلاث خلون من ربيع الآخر من السنة. وما زال يقتني المآثر، وبيني المكارم والمفاخر، حتى قبضته شعوب، وأرداه مردى القبائل والشعوب.
ذكر بعض أخباره على الجملة وسيره
لما ولي الأمير عبد الرحمن، بعث في اخوته وأهله ووزرائه؛ فبايعوه، وبايعته العامة. ثم صلى على أبيه الحكم. فلما قضى صلاته وواراه، جلس بالأرض متطأطئا، ليس تحته وطاء، وجلس من كان معه. ثم افتتح القول؛ فقال: (الحمد لله، الذي جعل الموت حتما من قضائه، وعزما من أمره، وأجرى الأمور على مشيته؛ فاستأثر بالملكوت والبقاء، وأذل خلقه بالفناء؛ تبارك
اسمه وتعالى جده) ! وصلى الله على محمد نبيه ورسوله، وسلم تسليما! وكان مصابنا بالإمام رحمه الله! - مما جلت به المصيبة، وعظمت به الرزية؛ فعند الله تحتسبه، وإياه نسأل إلهام الصبر، وإليه ترغب في كمال الأجر والذخر! وعهد إلينا فيكم بما فيه صلاح أحوالكم ولسنا ممن يخالف عهده، بل لكم لدينا المزيد إن شاء الله!) ثم قام عنهم، وخرجت لهم الأموال والكسي على قدر أقدارهم.
وكان شاعرا، أديبا، ذا همة عالية. وكانت له غزوات كثيرة، وفتوحات في دار العدو شهيرة، يخرج إليها في العدد الجم، والعسكر الضخم، يخرب ديارهم، ويعفى آثارهم، ويقفل ظاهر الاعتلاء، قاهر الأعداء. لم يلق المسلمون معه بؤسا، ولم يروا في مدته يوما عبوسا. وهو أول من جرى على سنن الخلفاء في الزينة والشكل، وترتيب الخدمة. وكسى الخلافة أبهة الجلالة (فشيد القصور، وجلب إليها المياه، وبنى الرصيف، وعمل عليه السقائف؛ وبنى المساجد الجوامع بالأندلس؛ وعمل السقاية على الرصيف، وأحدث الطرز، واستنبط عملها؛ واتخذ السكة بقرطبة. وفخم ملكه. وفي أيامه دخل الأندلس نفيس الوطاء وغرائب الأشياء؛ وسبق ذلك إليه من بغداد وغيرها. وعندما قتل محمد الأمين، ابن هارون الرشيد، وانتهب ملكه، سبق إلى الأندلس كل نفيس غريب من جوهر ومتاع. وقصد بالعقد المعروف بعقد الشفاء؛ وكان لزبيدة أم جعفر.
ومن مآثره أنه كان ورد عليه يوما أموال من بلاده، لعطبات أجناده؛ فأدخلت إليه، وجعلت الخرائط بين يديه. وكان بعث فتيانه؛ فخلا مجلسه إذ ذاك، ولم يبق أحد هناك، حاشى فتى كان بين يديه واقفا، وعلى خدمته الخاصة عاكفا؛ فغشيت الأمير عبد الرحمن نعسة، ظنها الفتى تهزة وخلسة؛ فقبض على خريطة من ذلك المال، وأسدل عليها كمة أسبغ إسدال، والأمير يلاحظه بطرف خفيّ، ويصمت عنه صمت برّ حفيّ؛ ففاز الفتى بماله، وناط به أسباب
آماله. فلما رجع الفتيان، أمرهم الأمير عبد الرحمن برفع تلك الخرائط المبسوطة؛ فوجدوا نقصان تلك الخريطة؛ فتدافعوا فيها إذ ذاك، كل يقول لصاحبه:(أنت أخذتها من هناك!) فقال لهم الأمير: (أسكنوا عن هذا! فقد أخذها من لا يردها، وعاينه من لا يقولها!) فكان هذا مما عدَّ من كرمه وفضله.
وكانت له جارية تسمى طروب، كان بها دنفا؛ فصدت عنه يوما، وأبدت هجرانه. فأرسل فيها؛ فامتنعت عليه، وأغلقت على نفسها بيتا. فأمر ببنيان الباب بالخرائط المملؤة من الدراهم، استرضاء لها، واستعطافا لوصلها. فلما فتحت الباب، تساقطت الخرائط من كل جانب؛ فأخذتها؛ فألفت فيها نحوا من عشرين ألفا؛ وأمر لها يعقد قيمته عشرة آلاف دينار؛ فجعل بعض من حضر من وزرائه يعظم الأمر عليه؛ فقال له الأمير عبد الرحمن:(إن لابسه أنفس منه خطرا وأرفع قدرا! ولئن راق من هذه الحصباء منظرها، ورصف في النفس جوهرها، فلقد برأ الله من خلقه جوهرا يغشى الأبصار، ويذهب بالألباب. وهل على وجه الأرض من زبرجدها وشريف جوهرها أقر لعين، وأجمع لزين، من وجه أكمل الله فيه الحسن ونضرته، وألقى عليه الجمال بهجته؟) ثم قال لعبد الله بن الشمر الشاعر وكان حاضرا: (هل يحضرك شئ في المعنى؟) فأنشد (طويل) :
أتُقرَنُ حَصباءُ البواقِيت والشذرِ
…
بِمَنْ يتَعَالى عن سَنَا الشَمسِ والبَدْرِ
بِمَن قَد بَرَت قِدما يَدُ الله خلقَهُ
…
وَلَم يَكُ شيئاً قَبَلهُ أبَداً يَبْرِى
فأكْرِمْ به مِنْ صَنْعةٍ اللهِ جَوهراً
…
تَضَاءلَ عنه جَوَهَرُ البَرِّ والبحرِ
فأعجبت الأمير الأبيات وطرب لها طربا شديدا. وأنشد الأمير مرتجلا (طويل) :
فَريضُكَ يَا ابن الشَّمر عني على الشِعرِ
…
وجَلَّ عن الأوهامِ والذِّهْنِ والفِكرِ
إذا شافَهتْهُ الأذنُ أدَّى بسحرها
…
إلى القلب إبداعاً فجَلَّ عن السِحرِ
وَهَل بَرأ الرّحْمنُ من كلِّ ما برأ
…
أقرَّ لعِينٍ من منَهمةٍ بِكرِ
تَرَى الوردَ فوقَ اليَاسَمينِ بخدِّها
…
كَمَا فوق الرَّوْضُ المُنَعَّمُ بالزَّهرِ
فَلَو أنَّني ملكتُ قَلبي وناظِري
…
نَظَمُتُهما مِنها على الجِيدِ والنَّحرِ