المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بعض أخباره وسيره - البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب - جـ ٢

[ابن عذاري المراكشي]

فهرس الكتاب

- ‌ذكر صِفة الأندلس وأوَّليَّتها

- ‌ذكر دخول المسلمين إلى الأندلس

- ‌وانتزاعها من أيدي الكفار

- ‌ذكر ما افتتح طارق بن زياد من بلاد الأندلس

- ‌سنة 92 من الهجرة

- ‌فتح قُرطُبة

- ‌فتح مالقة

- ‌فتح غرناطة قاعدة البيزة

- ‌فتح مرسية

- ‌فتح طُليطُلة

- ‌فتح قَرْمُونَة

- ‌فتح إشبيلية

- ‌فتح ماردة

- ‌فتح إشبيلية ثانية

- ‌فتح لبلة

- ‌ذكر اجتماع الأمير أبي عبد الرحمن موسى بن نصير

- ‌مع مولاه طارق بن زياد على طليطلة

- ‌ذكر ما أفاء الله على فاتحي الأندلس

- ‌أخبار الأمير أبي عبد الرحمن موسى بن نصير

- ‌رحمه الله تعالى

- ‌ولاية عبد العزيز بن موسى بن نصير

- ‌ذكر ولاية أيوب بن حبيب الأندلس

- ‌ولاية الحرّ بن عبد الرحمن الثَّقفيّ

- ‌ولاية السَّمح بن مالك الخولانيّ

- ‌ولاية عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي الأندلس

- ‌ولاية عنبسة بن سُحيم الكلبي

- ‌ولاية يحيى بن سلمة الكلبي

- ‌ولاية حذيفة بن الأحوص

- ‌ولاية عثمان بن أبي نسعة

- ‌ولاية الهيثم بن عبيد الكناني

- ‌ولاية محمد بن عبد الله الأشجعي

- ‌ولاية عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي ثانية

- ‌ولاية عبد الملك بن قطن

- ‌ولاية عقبة بن الحجاج السَّلولي

- ‌ولاية عبد الملك بن قطن الفهري ثانية

- ‌ذكر ولاية بلج بن يسر القشيري الأندلس

- ‌مقتل عبد الملك بن قطن الفهري

- ‌ولاية ثعلبة بن سلامة العامليّ الأندلس

- ‌ذكر ولاية أبي الخطار

- ‌الحسام بن ضرار الكلبي الأندلس

- ‌ذكر الصميل بن حاتم وسبب الفتنة

- ‌ولاية يوسف بن عبد الرحمن الفهري الأندلس

- ‌مقتل أبي الخطَّار

- ‌تسمية من ثار على يوسف بن عبد الرحمن الفهري بالأندلس

- ‌جامع أخبار بني أمية بالمشرق

- ‌ذكر دخول عبد الرحمن بن معاوية

- ‌ابن هشام إلى الأندلس وهروبه من الشام

- ‌خلافة عبد الرحمن بن معاوية

- ‌ابن هشام بن عبد الملك

- ‌ذكر بعض أخباره على الجملة

- ‌خلافة هشام الرضي بن عبد الرحمن الداخل

- ‌ذكر بعض أخباره على الجملة

- ‌قصة الكناني مع هشام بن عبد الرحمن

- ‌خلافة الحكم بن هشام بن عبد الرحمن

- ‌مقتل أهل الربض أولا قبل هيجه ثانية

- ‌ذكر دخول الحكم طليطلة حين خالفت عليه

- ‌ذكر هيج أهل الربض ثانية في سنة 202

- ‌بعض أخباره وسيره

- ‌خلافة عبد الرحمن بن الحكم بن هشام

- ‌دخول المجوس إشبيلية في سنة 230

- ‌ذكر بعض أخباره على الجملة وسيره

- ‌خلافة محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام

- ‌وفيها كانت بالأندلس مجاعة عظيمة متوالية

- ‌بعض أخباره وسيره

- ‌بعض سيره وأخباره

- ‌خلافة عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم

- ‌ذكر ثورة بني حجاج بإشبيلية

- ‌أخبار عمر بن حفصون في أيام الأمير عبد الله

- ‌جملة الثُّوَّار ببلاد الأندلس في أيام الأمير عبد الله

- ‌الخارجين عن الجماعة المضرمين لنار الفتنة

- ‌شأن ابني الأمير عبد الله محمد ومطرف

- ‌شأن القاسم أخي الأمير عبد الله

- ‌صفة الإمام عبد الله بن محمد

- ‌بعض أخبار الأمير عبد الله بن محمد على الجملة

- ‌ الناصر لدين الله

- ‌خلافة أمير المؤمنين عبد الرحمن بن محمد

- ‌ذكر موت عمر بن حفصون

- ‌غزوة مطونية

- ‌غزاة الناصر لدين الله إلى بلدة

- ‌غزاة مويش

- ‌غزاة الناصر إلى بنبلونة

- ‌ذكر قتل سليمان بن حفصون

- ‌ذكر افتتاح مدينة ببشتر

- ‌مطالعة أمير المؤمنين الناصر لببشتر في الشتاء

- ‌بعض أخبار الناصر على الجملة

- ‌‌‌حكاية

- ‌حكاية

- ‌ذكر مسجد قرطبة الأعظم

- ‌ذكر بناء مدينة الزهراء بقرطبة

- ‌أعادها الله للإسلام بفضله

- ‌خلافة الحكم بن عبد الرحمن المستنصر بالله

- ‌ذكر الحبس الذي حبس المستنصر بالله على الجامع بقرطبة

- ‌ذكر اتصال محمد بن أبي عامر بخدمة الحكم المستنصر

- ‌خلافة هشام بن الحكم

- ‌ابن عبد الرحمن الناصر والدولة العامرية

- ‌بعض أخبار المنصور محمد بن أبي عامر في ابتدائه

- ‌مقتل المغيرة بن عبد الرحمن الناصر

- ‌بعض أخبار الصقالبة مع ابن أبي عامر

- ‌غزوة محمد بن أبي عامر الأولى

- ‌ذكر نكبة الحاجب جعفر بن عثمان

- ‌غزوة ابن أبي عامر الثانية

- ‌غزوة ابن أبي عامر الثالثة

- ‌استبداد ابن أبي عامر بالملك وتغلبه عليه

- ‌ذكر تدبير عبد الرحمن بن مُطرف

- ‌مع عبد الله بن المنصور في القيام عليه

- ‌ذكر مقتل عبد الله المنصور

- ‌غزوة شنت ياقوب على سبيل الاختصار

الفصل: ‌بعض أخباره وسيره

‌بعض أخباره وسيره

كان الأمير محمد رحمه الله! - فصيحا، بليغا، عظيم الأناة، متنزها عن القبح، يؤثر الحق وأهله، لا يسمع من باغ، ولا يلتفت إلى قول زائغ. وكان عاقلا، على أخلاق جميلة ومكارم حميدة، ذا بديهة وروية، يرى كل من باشره وحدثه أن له الفضل المستبين في إدراكه، وفهمه، ودقة ذهنه، ولطيف فطنته، وجزالة رأيه. وكان أعلم الناس بالحساب وطرق الخدمة. وكان متى أعضل منها شئ، رجع إليه فيه؛ وإذا أخل أحد من خزانه وأهل خدمة الحساب بشيء من ذلك، لم يجز عليه بأدنى لحظة أو نظرة. ولقد استدرك على بعض خزانه في صك يشتمل على مائة ألف دينار خُمُسَ درهم؛ فرد الصك، وأمر بتصحيحه؛ فتجمع الخدمة والكتاب عليه؛ فلم يقعوا على ذلك النقصان لدقته وخفائه؛ فرجعوا إليه معترفين بالتقصير، وأعلموا الرسول؛ فرد الصك إليه وأعلمه باعترافهم؛ فعلم لهم على موضع الخطاء؛ فإذا هو خُمُسَ درهم.

وقال هاشم بن عبد العزيز: كان الأمير محمد رحمه الله! - أصح الناس عقلا، وأحسنهم تمييزا، وأبصرهم بوجه الرأي. وكان يستشيرنا؛ فنجتهد ونقول ونحصل؛ فإن أصبنا، أمضى ذلك؛ وإن كان في الرأي خلل، قام فيه بالحجة، وأبانه بما تعجز الأوهام عنه تنقيحا وتهذيبا.

ومما يحفظ عنه أنه قال لهاشم في شئ أنكره عليه من عدم التثبت: (يا هاشم! من آثر السرعة أمضت به إلى الهفوة. ولو أنا أصغينا إلى محو زلاتك، وأصخنا إلى هفواتك، لكنا شركاءك في الزلة، وقسماءك في العجلة! فمهلا عليك، ورويدا بك! فإنك إن يعجل يعجل لك!) وكان، مع تشبثه وأناته، وافيا لمواليه في أنفسهم وأعقابهم، لا يكدح عنده كادح في شئ عن أحدهم، فيسمعه أو يسمِعه.

ولقد ولي الكناية عبد الملك بن عبد الله بن أمية اصطناعا له، وعائدة

ص: 107

عليه؛ فرد عليه يوما جوابا يقول فيه: (قد فهمنا عنك، ولم نأت ما أتيناه عن جهل بك، لكن اصطناعا لك، وعائدة عليك. وقد أبحنا لك الاستعانة بأهل اليقظة من الكتاب. فتخير منهم من تثق به وتعتمد عليه. ونحن نعينك على أمرك بتفقد كتبك والإصلاح عليك، إلى أن تركب الطريقة وتبصر الخدمة إن شاء الله تعالى!) فحسده على الخطة لشرفها من رأى نفسه أولى بها لاستكمال أدواتها؛ فطولب عليها. وكان أشد الناس في ذلك هاشم بن عبد العزيز، يثير سقطانه، ويتتبع هفواته، ويشنع عليه؛ والأمير محمد بفطنته يتغافل له. فلما طال عليه الصبر، دعا هاشما، وقال له:(قد أكثر أهل خدمتنا وأكثرت في هذا الكاتب: تذكرون جهله وفدامته، وقد ضممنا إليه من الكتاب من يستعين به، ويستظهر على خدمته بمكانه؛ وإنما تقفو بخدمتنا، وننسلك بمراتبنا طريق من ابتدأها وأسسها ووضع أهلها فيها. وإذا كنا لا نخلف آباءكم بكم، ولا نخلفكم بأبنائكم، فعند من نصنع إحساننا ونرب أيادينا؟ أعند أبناء القرانين أو الجزارين أو أمثالهم من الممتهنين) ؟ وأنت كنت أحق بالحص على هذا، وتصويب الرأي فيه، لما ترجو من مثله في أولادك وعقبك!) فرجع هاشم إلى الشكر له وتقبيل يده ورجله.

وكان رحمه الله! - مأمولا محبوبا في جميع البلدان. وكان محمد بن أفلح صاحب ناهرات لا يقدم ولا يؤخر في أموره ومعضلاته إلا عن رأيه وأمره؛ وكذلك بنو مدرار بسجلماسة. وكان قرولش ملك إفرنجة يسترجح عقله؛ فيهاديه ويتحفه؛ وهو (أعني قرولش) الذي عمل صورة عبسي من ثلاثمائة رطل من ذهب خالص، وصفها بالياقوت والزبرجد، وجعل لها كرسيا من ذهب خالص مفصص بالياقوت والزبرجد أيضا؛ فلما اكمل ذلك، سجد له وأسجد له جميع أهل إفرنجة في ذلك التاريخ؛ ثم دفعه إلى صاحب كنيسة الذهب برومة.

ص: 108

وكان الأمير محمد رحمه الله! - مهتبلا بأمور رعيته، مراقبا لمصالحها. ووضع عن أهل قرطبة ضريبة الحشود والبعوث. وقال ابن حبان: كانت عدة الفرسان المستنفرين لغزو الصائفة المجردة إلى جليقية في مدة الأمير محمد مع الولد عبد الرحمن ابنه على هذه التسمية المفصلة: من ذلك كورة إلبيرة: ألفان وتسعمائة؛ جيان: ألفان ومائتان؛ قبرة: ألف وثمانمائة؛ باغه: تسعمائة؛ تاكرنا: مائتان وتسعة وتسعون؛ الجزيرة: مائتان وتسعون؛ إسنجة: ألف ومائتان؛ قرمونة: مائة وخمسة وثمانون؛ شذونة: ستة آلاف وسبعمائة وتسعون؛ رية: ألفان وستمائة؛ فحص البلوط: أربعمائة؛ مورور: ألف وأربعمائة؛ تدمير: مائة وستة وخمسون؛ ربينة: مائة وستة؛ قلعة رباح وأوربط: ثلاثمائة وسبعة وثمانون. قال: ونفر من أهل قرطبة لهذه الغزوة عدد لم يوقف على قدره. وكان هذا العدد الذي غزا به بعد أن رفع الضريبة التي كانت على أهل قرطبة وأقاليمها وغيرها من البلاد؛ وقطع عنهم الحشود التي كانوا يؤخذون بتجديدها في كل سنة للصوائف الغازية لدار الحرب، وأسقطها منهم ووكلهم إلى اختيار أنفسهم في الطواعية للجهاد من غير بعث. فحسن موقع ذلك منهم، وتضاعف حمدهم له وشكرهم واغتباطهم بدولته.

وذكر جماعة من المؤرخين، عن بقى بن مخلد، أنه قال: ما كلمت أحدا من ملوك الدنيا أكمل عقلا ولا أبلغ فضلا من الأمير محمد. دخلت عليه يوما في مجلس خلافته؛ فافتتح الكلام بحمد الله والثناء عليه والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ ثم ذكر الخلفاء خليفة خليفة؛ فحلى كل واحد منهم بتحليته، ووصفه بصفته، وذكر مآثره ومناقبه بأفصح لسان وأبلغ بيان، حتى انتهى إلى نفسه؛ فسكت.

وفي صدر دولته سعى ببقى بن مخلد إلى الأمير محمد؛ وذلك أنه لما قدم بقى بن مخلد من المشرق عن رحلته الطويلة بما جمع من العلوم الواسعة والروايات العالية والاختلافات النقهية، أغاظ ذلك فقهاء قرطبة أصحاب الرأي والتقليد،

ص: 109

الزاهدين في الحديث، الفارين عن علوم التحقيق، المقصرين عن التوسع في المعرفة؛ فحسدوه، ووضعوا فيه القول القبيح عند الأمير، حتى ألزموه البدعة، وشنؤوه إلى العامة. وتخطى كثير منهم برميه إلى الإلحاد والزندقة، وتشاهدوا عليه تغليظ الشهادة، داعين إلى سفك دمه؛ وخاطبوا الأمير محمدا في شأنه، يعرفونه بأمره، ويكثرون عليه بكل ما يرجون به الوصول إلى سفك دمه، ويسألونه تعجيل الحكم فيه. فاشتد خوف بقي بن مخلد جدا، واستتر خوفا على دمه، وعمل على الفرار عن الأندلس إن أمكنه ذلك. فأرشده الله إلى التعلق بحبل هاشم بن عبد العزيز، وسؤاله الأخذ بيده؛ وكتب إلى الأمير محمد، ينشده الله في دمه، ويسأله التثبت في أمره، والجمع بينه وبين خصومه، وسماع حجته، فيأتي في ذلك بما يوفقه الله له. فألقى الله في نفس هاشم الإصغاء إلى شكواه، والاعتناء بأمره؛ فشمر له عن ساعده، وأوصل كتابه إلى الأمير محمد يشرح حاله؛ فعطف عليه، وإنهم الساعين به إليه؛ فأمر بتأمين بقي بن مخلد، وإحضاره مع الطالبين له؛ فتناظروا بين يديه؛ فأدلى بقي بحجته، وظهر على خصومه؛ واستبان الأمير محمد حسدهم إياه لتقصيرهم عن مداه. فدفعهم عنه، وتقدم إليه يطأطأه قدمه، ونشر علمه. وأمر بإيصاله إليه في زمرة من الفقهاء، والرفع من منزلته؛ فاعتلى ذروة العلم، ولم يزل عظيم القدر عند الناس وعند الأمير محمد إلى أن مات رحمه الله! وفي صدر دولته، توفي عالم الأندلس عبد الملك بن حبيب، وذلك في رمضان سنة 239. وهو عبد الملك بن سليمان بن مروان بن جيهلة بن عباس ابن مرداس السُّلميُّ، يُكنى أبا هارون؛ أوله من كورة إلبيرة، ونقله الأمير محمد إلى قرطبة، بل نقله أبوه عبد الرحمن بن الحكم. وكان محمد بن عمر بن لبابة يقول: عالم الأندلس عبد الملك بن حبيب، وعاقلها يحيى بن يحيى، وفقيهها عيسى بن دينار. قال ابن وضاح وغيره: لم يقدم الأندلس أحد أفقه

ص: 110

من سحنون، إلا أنه قدم علينا من هو أطول لسانا منه، يعني ابن حبيب. وكان ابن حبيب أديبا، نحويا، حافظا، شاعرا، متصرفا في فنون العلم من الأخبار والأنساب والأشعار. وله مؤلفات حسان في الفقه والأدب والتواريخ كثيرة. قال ابن العزبى: بضاعته في الحديث مزجاة. وكانت علته التي مات منها الحصى. وتوفي وسنه أربع وستون سنة. وكتب إلى الأمير عبد الرحمن بن الحكم في ليلة عاشوراء (بسيط) :

لا تَنْسَ، لا يَنسَكَ الرَّحْمنُ، عَاشُورَا

وَأذْكُرهُ لا زلْتَ في الأخبارِ مّذكُورَا

مَنْ بَاتَ في لَيْلِ عَاشُوراء ذَا سَعةٍ

يَسكُنْ بعِيِشَتِهِ في الحَولِ مَحسُورَا

فأرغَبْ، فَديتُكَ، فِيمَا فيِهِ رَغبَنَا

خَيرُ الوَرَى كُلّهِمْ حَيِّا وَمَقبُورَا

وخرج الأمير محمد بن عبد الرحمن إلى الرصافة يوما متنزها، ومعه هاشم ابن عبد العزيز؛ فكان بها صدر نهاره على لذته؛ فلما أمسى، واختلط الظلام انصرف إلى القصر، وبه اختلاط. فأخبر من سمعه وهاشم يقول له:(يا ابن الخلائف! ما أطيب الدنيا لولا الموت!) فقال له الأمير: (يا ابن اللخناء! لحنت في كلامك! وهل ملكنا هذا الملك الذي نحن فيه إلا بالموت؟ فلولا الموت، ما ملكناه أبدا!) وكان الأمير محمد رحمه الله! - غزاه لأهل الشرك والاختلاف. وربما أوغل في بلاد العدو الستة الأشهر والأكثر، بحرق وبنسف. وله وقعة وادي سليط، وهي من أمهات الوقائع؛ ولم يعرف بالأندلس قبلها مثلها. وفيها يقول عباس بن فرناس، وشعره يكفينا من صفتها؛ وهو (طويل) :

ومُختَلِفِ الأصواتِ مؤتَلفِ الزَّحفِ

لهومِ الفَلَا عَبلِ القَنَابل مُلتَفِ

إذَا أومَضت فِيهِ الصَّوَارِمُ خِلتَهَا

بُرُوقاً تَرَاءى في الجَهَامِ وتَسْتَخْفِي

ص: 111

كأنَّ ذُرَى الأعلامِ في مَيَلَانِهِ

قَرَاقِيرُ في يَمِّ عَجَزْنَ عن القَذْفِ

وإن طحَنَت أرحاؤها كان قُطبُها

حِجَى مَلِكٍ نَدبٍ شَمَائُله عَفِّ

سَمِيُّ ختام الأنبياء مُحمِّدٌ

إذا وُصِفَ الأملاكُ جَلَّ عَن الوَصفِ

فَمِن أجله يومَ الثلاثاء غُدْوةً

وقد نفضَ الإصبَاحُ حَبلَ عُرى السِّجْفِ

بَكَى جبلاً وادي سَلِيطِ فَأعوَلَا

على النَّفَرِ العُبدَانِ والعُصبةِ الغُلفِ

دَعَاهُم صريخ الحينِ فاجتمَعَوا لًهُ

كَمَا اجتمَعَ الجُعلانُ للبَعرِ في وَقفِ

فَمَا كَانَ إلا أن رَمَاهم ببعضِها

فَوَلوا على أعقَابِ مهزولة كُشفِ

كانَّ مسَاعيرَ الموَالي علَيهِمُ

شَوَاهِينُ جادت للغرانيِقِ بالنَّسفِ

بنفِسي تنانيِنَ الوَغى حيِنَ صمَّمَت

إلى الجَبَلِ المسحونِ صفَّا عَلَى صَفِّ

يَقُول ابن بُولبش لمُوسَى وَفَدوَني:

أرى المَوتَ قُدَّامِي وتَحتيِ ومن خَلفي

قتلنا لَهُم ألفاً وألفاً وَمِثلَهَا

وألفا وألفاً بَعدَ ألفٍ إلى ألفٍ

سِوَى مَن طواهُ النَّهرُ في مُسلحِبهِ

فأغِرقَ فيه أو تذأذأ مِن جُرفٍ

قال أبو عمر السالمي: كانت أول غزواته إلى بلد العدو، وقد حشد لها وجند، وصوب كيف شاء وصعد، ألقى العدو وقد ضاق بخيله الفضاء الواسع، والمكان الداني والشاسع، وهو متأهب للقائه! متوجه إلى تلقائه. فخامر الأمير محمدا الجزع، وشابه الروع والفزع، وظن أن لا منجاة من الكفار، وأن المسلمين هناك طعن الشفار؛ فرأى من الحزم الأوكد، والنظر الأحمد الأرشد، الرجوع عن تلك الحركة، لقوله تعالى: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة؛ فقام رجل؛ فقال: (أيها الأمير! قال الله تبارك وتعالى: الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم الآية. فقال له الأمير محمد: (والله! ما جبنت نفسي، إلا أنه لا زأى لمن لا يطاع، ولست أستطيع أن أجاهد وحدي!) فقال له العتبي: (والله! ما أراه قذف بها على لسانه إلا ملك! فأستخر الله في ليلك

ص: 112

هذا وفي يومك!) فأراه الله في مقابلة العدو الرشاد، وألهمه التوفيق والسداد. فندب الناس إلى لقاء أعداء الله ونصر دينه، وأن يكون كلُّ على حسن ظنه من الظفر ويقينه. فلما انعقدت راياتهم، وتأكدت على المقارعة نياتهم. قدَّم عليهم الأمير محمد ابنه المنذر، إذ كان مشهورا بالبأس، محبوبا في الناس. فسار المسلمون إلى أن التقى الجمعان، والتفَّ الفريقان فأعقب الله لأوليائه ظفرا ونصرا، وجعل بعد عسر يسرا. قال: ولم يؤذن مؤذن الظهر إلا ومن رؤوس الأعداء جملة آلاف مقطوعة لأعداء الله؛ وذلك من فضل الله. وفي هذا الفتح يقول العنبي، يمدح الأمير محمدا في قصيد طويل أذكر هنا بعضه، وهو (كامل) :

سَايِلْ عَنِ الثَّغرِ الصَّوارِمَ تَصدُقِ

واستَنطِقِ السُّمرَ العوَاليِ تنَطِقِ

تَرَكَتْ وَقَائعَ في الثُّغورِ وَقَد غَدَتْ

مَثَلاً بِكُلِّ مُغَرِبٍ ومُشَرِّقِ

وأدّاخَ أرْضَ المُشْرِكِينَ بِوقعَةٍ

تَرَكَتهُمْ مِثلَ الأشاء المُحرَقِ

جَادَت عَليهِم حَربُهُ بِصَوَاعقٍ

تَرَكَتهُم مِثلَ الرَّمَادِ الأزرَقِ

خلافة المنذر بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم كُنيته: أبو الحكم. مولده: سنة 229. أمه: تسمى أثل، ولدته لسبعة أشهر. وزراؤه: أحد عشر. كتابه: اثنان: سعيد بن مبشر، وعبد الملك بن عبج الله بن أمية بن شهيد. حاجبه: عبد الرحمن بن أمية بن شهيد. قوَّاده: سبعة. قاضبه: أبو معاوية عامر بن معاوية اللخمي. نقش خاتمه: المنذر بقضاء الله راض. صفته: أسمر، جعد الشعر، بوجهه أثر جدري، يخضب بالحناء والكتم. أولاده الذكور: خمسة، والإناث: ثمان. بويع يوم الأحد لثمان خلون من ربيع الأول سنة 273، وهو ابن أربع وأربعين سنة، وسبعة عشر يوما؛ وتوفي في

ص: 113

غزاة له على بربشتر يوم السبت للنصف من صفر سنة 275. عمره: ستة وأربعون سنة. خلافته: سنتان إلا سبعة عشر يوما. ودفن بقصر قرطبة، وصلى عليه أخوه عبد الله، جد الناصر.

واتصل به موت أبيه، وهو على حصن الحامة يقاتل المرتد اللعين عمر ابن حفصون؛ فقفل إلى قرطبة. وتمت له البيعة في اليوم الثاني من وصوله؛ ففرق العطاء في الجند، وتحبب إلى أهل قرطبة والرعايا بأن أسقط عنهم عشر العام وما يلزمهم من جميع المغرم.

وكانت أكثر حصون رية قد حصلت في طوع ابن حفصون؛ فبعث إليها الإمام المنذر الأجناد؛ فانصرفت إلى الطاعة.

ولما بلغ ابن حفصون موت الأمير محمد، وانصرف عنه المنذر على ما تقدم، نهض من فوره؛ فراسل الحصون التي بينه وبين الساحل كلها؛ فأجابته وطاعت له. ونهض إلى باغه وجبل شيبة؛ فأخذ من الأموال ما لا يوصف، كل ذلك منه بلا قوة، ولا كثرة من مال، ولا عدد؛ ولكنه كان عذابا من الله ونقمة انتقم بها من عبيده. وانفق له زمان هرج وقلوب قاسية فاسدة ونفوس خبيثة، متطلعة إلى الشرّ، مشرئبة إلى الفتنة. فلما ثار، وجد من الناس انقيادا وقبولا للمشاكلة والموافقة؛ فتألبت له الدنيا، ودخل إلى الناس من جهة الألفة، وقال:(طال ما عنَّف عليكم السلطان، وانتزع أموالكم، وأخرجكم من عبوديتكم!) فكان ابن حفصون لا يورد هذا على أحد إلا أجابه وشكره. فكانت طاعة أهل الحصون بهذا الوجه. وكان أتباعه شطار الناس وشرارهم. فكان يمنيهم بفتح البلاد، وغنائم الأموال. وكان مع ذلك متحببا لأصحابه، متواضعا لألافه. وكان، مع شره وفسقه، شديد الغيرة، حافظا للحرمة؛ فكان ذلك مما يميل النفوس إليه. ولقد كانت المرأة في أيامه تجئ بالمال والمتاع من بلد إلى بلد منفردة، لا يعترضها أحد من خلق الله. وكانت عقوبته السيف، يصدق المرأة

ص: 114

والرجل والصبي أو من كان على من كان، لا يطلب على ذلك شاهدا أكثر من الشكوى. وكان يأخذ الحق من ابنه، ويبر الرجال، ويكرم الشجعان؛ وإذا قدر عليهم، عفا عنهم. وكان يسورهم بأسورة الذهب إذا اختصلوا. فكانت هذه الأشياء كلها عونا له. وانتهى ابن حفصون بعاديته إلى قبرة وما أمامها إلى قرية الجالية، وأغار على القبذيق من إلبيرة، وعلى أحواز جيان، وأسر عبد الله ابن سماعة عامل باغه.

وكان اجتمع إلى حصن آشر من حوز رية وبمقربة من قبرة جمع الشر من أصحاب ابن حفصون. فراع أهل قبرة أمرهم وهابوهم. واتصل بالأمير المنذر خبرهم؛ فأرسل أصبغ بن فطيس في خيل كثيفة إلى حصن آشر؛ فحاصرهم حتى افتتحه، وقتل من كان فيه. وأخرج الأمير المنذر عبد الله بن محمد بن مضر وأبدون الفتى بخيل إلى ناحية لجانة من قبرة؛ وكان بها مسلحة لابن حفصون؛ فنازلوهم وقاتلوهم حتى أفنوهم.

قال الرازيّ: وفي سنة ولاية الإمام المنذر، غزا محمد بن لبّ إلى ألبة والقلاع ومعه جموع المسلمين؛ ففتح الله للمسلمين، وقتلوا المشركين قتلا ذريعا.

وفي هذه السنة، أعني سنة 273، في جمادى الأولى، أمر الأمير المنذر بسجن هاشم بن عبد العزيز وزير أبيه وخاصته، وأمر بقتله في جمادى الأولى؛ وسبب ذلك أن هاشما كان يجسد لمكانه من الأمير محمد وخاصته به؛ فكانوا يسعون به عند المنذر، ويكررون ذلك عليه، حتى تنافرت النفوس. فلما مات الأمير محمد، وولى المنذر، أراد أن يفي له ويتبع فيه فعل أبيه؛ فولاه الحجابة. ثم تمالئوا عليه، وأمثروا، وحرفوا عليه الكلام، وتأولوا عليه أقبح التأويل، حتى نفذ قضاء الله فيه. وكان مما تأولوا عليه أن هاشما أنشد عند مواراة الأمير محمد رحمه الله! - (وافر) :

ص: 115

أعَزّى يَا مُحَمِّدُ عَنكَ نَفسِي

أمين الله ذَا المِنَنِ الجِسَامِ

فَهَلاً مَاتَ قَومٌ لَم يَمُوتُوا

وَدُوفِعَ عَنكَ لِي كاسُ الحِمَام

فتأوَّلوا أنه يريد بقوله (لم يموتوا) المنذر. وكتب هاشم من حبسه إلى جاريته عاج (طويل) :

وَإنّي عَدَاني أن أزُورَكِ مَطبَقٌ

وبَابٌ مَنِيعٌ بالحديدِ مُضّبَّبُ

فإن تَعجبِي يا عَاجُ ممَّا أصابني

فَفِي رَيبِ هذا الدَّهرِ مَا يُتعَجبُ

تَرَكتُ رَشادَ الأمِر إذ كنتُ قادِراً

عَليهِ فَلاقَيتُ الذِي كُنت أرهَبُ

وكم قَائِلٍ قَالَ: أنجُ وَيحَكَ سَالماً

فَفِي الأرضِ عَنهمُ مسترادٌ ومذهبُ

فَقُلتُ لَهُ: إنَّ الفِرارَ مّذَلةٌ

ونَفسِي علَى الأسواء أحلَى وأطيَبُ

سأرضَى بِحُكمِ الله فِيمَا يَنُوبُنِي

ومَا مِن قضَاء اللهِ للِمَرء مَهرَبُ

فَمَن يَكُ أمسَى شَامِناً بي فإنَّهُ

سَيَنهَلُ في كاسِي وَشِيكاً وَيشرَبُ

ثم بعث فيه الأمير ليلا؛ فقتله، وسجن أولاده وحاشيته، وانتهب ماله، وهدم داره، وألقى أولاده في السجن، وألزمهم غرم مائتي ألف دينار؛ فلم يزالوا في السجن والغرم إلى موت المنذر وولاية أخيه عبد الله؛ ثم أطلقهم عبد الله، وصرف عليهم ضياعهم، وولى أحدهم الوزارة والقيادة.

وفيها، كانت الوقعة على أهل طليطلة وكانوا قد جيشوا البربر المنفيين من ترجيله، فقتل منهم ألوف.

وفي سنة 274، خرج الأمير المنذر بجيوشه إلى عمر بن حفصون؛ فافتتح حصونه برية، والحصون التي بجهة قبرة؛ ثم توجه إلى حضرته بربشتر؛ فحاصره فيها، وأفسد ما حواليه، وضيق عليه؛ ثم انتقل عنه إلى أرجذونة، وبها عيشون؛ فأقام عليها محاصرا لها ومضيقا على أهلها، إلى أن نبذوا عيشونا وأهله، وأسلموه بذنبه؛ فدخلها الأمير المنذر، وقبض على عيشون وأصحابه. وظفر أيضا ببني مطروح، وهم: حرب، وعون، وطالوت، وافتتح حصونهم بجبل باغه، وأتى بهم

ص: 116

إلى الأمير أسارى؛ فبعث ببني مطروح إلى قرطبة، وأمر بقتلهم وصلبهم؛ وكانوا اثنين وعشرين رجلا؛ فصلبوا بأجمعهم؛ وصلب مع عيشون في الخشبة خنزير وكلب. وكان السبب في ذلك أن عيشونا كان يقول:(إذا ظفر بي، فليصلبني وليصلب عن يميني خنزيرا وعن يساري كلبا!) وكان يثق بنفسه في القتال ثقة شديدة، ويأمن من أن يؤخذ لشدته وشجاعته. فلما يئس الأمير منه، دس إلى بعض أهل أرجذونة بأن يتحيل في أخذ عيشون؛ فأجابه، ووعده بأخذه. فلما كان في يعض الأيام، دخل بيت أحدهم بغير سلاح، وقد استعد له بكبل؛ فأوثق به وبعث به إلى الأمير المنذر.

شأن عمر بن حفصون في أيام المنذر رحمه الله! ولما كان في العام الثاني من ولايته وهي هذه السنة المؤرخة، خرج في عديده الأكثر، وقصد بربشير. فحل عليها أحفل احتلال، وقاتل ابن حفصون بها أشد قتال؛ وانتشرت خيله في تلك الأقطار، واستولت على السهول والأوعار. ثم عطف الأمير إلى مدينة أرجذونة ليتبرها تتبيرا، ويولي أهلها يوما عبوسا قمطريرا، لدخولهم في طاعة ابن حفصون، ونزوعهم إلى ما نزع إليه أهل تلك الحصون، فخرجت رسلهم إلى الأمير؛ فتلقته بالسمع والطاعة، والدخول في جمهور الجماعة؛ فتقبل نزوعهم، وأنس جميعهم. وتغلب على القصبة إثر ذلك؛ وأسر عامل ابن حفصون هنالك. واستمر اللعين ابن حفصون على ضلالته وغيه، ولم يئن عنانا عن عاديته وبغيه. فخرج إليه الأمير ثانية وحاصره حصارا، وقد عدم ابن حفصون أعوانا وأنصارا. فلما رأى الأمير أخذ بمخنقه، وسدَّ أفواه طرقه، أعمل سوانح الفكر، في الخديعة والمكر، ليعتصم بذلك من تلك الجبال المنصوبة، والأشراك المعترضة المضروبة؛ فأظهر الإنابة إلى الطاعة، وشهر النصيحة جهد الاستطاعة، على أن يكون عند الأمير من خاصة جنده، ويسكن قرطبة بأهله وولده، وأن يلحق أبناءه في الموالي، ويتابع الإحسان قبله ويوالي. فأجابه

ص: 117

الأمير إلى مطلبه بأكبد الأيمان؛ وكتب له بذلك مبادرا عقد أمان، وقطع لأولاده أرفع الثياب؛ وأوفرت لهم الدواب، بالأموال والأسباب، إسباغا عليهم بالإفضال، وتوسيعا لهم في الأماني والآمال. وسألا اللعين مائة بغل يحمل عليها جملة متاعه وعياله، وجعل طلبها قوة لمكره واحتياله. فأمر الأمير بالبغال أن تحمل إليه، وتوضع بين يديه؛ وقد جعل عليها عشرة من العرفاء بمائة وخمسين فارسا إتماما للإكرام، وإنعاما على إنعام. فأرسل عمر بن حفصون جميعهم إلى بربشتر حيث أهله وولده، وطريفة من المال ومتلده. وانحل العسكر عن الحصن إذ ذاك، وقفل القاضي والفقهاء عن تمام الصلح من هناك، وظنهم قد غلب أن لا كذب ولا مين، وأن قد نيل من الراحة من شغبه أملا وقرة عين. فلما انفض جمع ذلك العسكر، وانتفض ذلك المعسكر، ودخل الليل، وامتد للفاتك الذَّبل، هرب عمر بن حفصون من ذلك الحصن، وسار إلى بربشتر في ظل الأمن. فلقي العرفاء؛ فناصبهم القتال، وأخذ تلك البغال، وعاد إلى سيرته الأولى، وقال لشيعته:[أنا ربكم الأعلى!] فأقسم الأمير المنذر أن يقصده ويحل عليه، ولا يقبل منه أو يلقى بيده إليه؛ فأعمل الغزو إلى بربشتر، وجمع لها الجمع الأكبر. فلما احتل عليها، أمر أن يحدق بها، ويحاط بجوانبها، وأن يعتزم لقتالها اعتزاما، ويلتزم محاصرتها التزاما.

فظهر من حزم الأمير المنذر وعزمه ما يئس معه ابن حفصون، من البقاء في تلك الحصون. فبقى الأمير على حصن بربشتر، برومه روما، مدة من ثلاثة وأربعين يوما. وكان قد أصابته علة أكرثت نفسه، وكدرت أنسه؛ فبعث في أخيه عبد الله لينوب منابه، وينتدب في تلك الحال انتدابه. فلما وصل إليه، وحصل في المظلة لديه، خرجت في الحين روحه، وبكاه من كان يغدوه ويروحه. فوقع الخرم في العسكر إثر موته، وتفرق الناس عند فوته. ولم يقدر أخوه عبد الله على ضبطهم، وعقد ما انحل من ربطهم. واستطال عمر بن حفصون

ص: 118

في المحلة، وانتهبها بالجملة. وحمل الأمير المنذر على جمل إلى قرطبة؛ فدفن مع أجداده هنالك، وصار عند الناس أهون مفقود وأيسر هالك، إذ كان قد اضطرهم في ذلك المقام، وندبهم إلى الثبات هنالك والمقام.

وفي هذه السنة، كان القحط الشديد بالأندلس؛ فاستسقى الناس. فنزل ثلج كثير في أول يوم من ينير، ولم ينزل غيث. ثم استسقوا مرارا؛ فلم يمطروا؛ فخامر الناس القنط. فلما دخل من فبرير بعض أيام، سقى الناس، وارتفع الناس؛ فاستبشروا بفضل الله، وأعلنوا بشكره. فقال العكي في ذلك، يمدح الأمير المنذر (كامل) :

نَزَلَ الحَيَا المُحيي وطابَتْ أنفُسُ

إذ كان سُوء الظَّنِّ فيها يَهجِسُ

أحْيَى الإلهُ عِبَادَهُ من بَعْدِ ما

كانت من القنطِ النفوسُ تُوسَوِسُ

مُتلافياً فيه بعائدِ رَحمةٍ

لَولا عَوَائدُها طَوَتنَا الأبْؤُسُ

مَلِك الملوك تقدَّسَت أسماؤهُ ال

حُسنى وعَزَّ جَلالَه المُتَقَدِّسُ

ومنها:

بالمنُذرِ المَيمُونِ طَلبَ زَمانُنا

ويِطيبِ دَولَتِهِ تِطيبُ الأنفُسُ

إلى قوله:

خُذْها أمِين الله وابن أمِينِهِ

من شاكِرٍ في الشُّكرِ لَيْسَ يُدَلِسُ

وفي سنة 275، توفي الأمير المنذر رحمه الله! - وقد ذكر موته على حصن بربشتر محاصرا للخبيث ابن حفصون. وكانت وفاته منتصف شهر صفر من السنة المذكورة، وهو ابن ست وأربعون سنة. وملك سنتين إلا أياما.

ص: 119