الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفيها كانت بالأندلس مجاعة عظيمة متوالية
وفي سنة 254، خرج الأمير محمد إلى ماردة، وأظهر أن استعداده لطليطلة. وكان بماردة قوم من المنتزين. فلما فصل من قرطبة، وتقدم بالمحلات إلى طريق طليطلة، نكب إلى ماردة؛ فاحتل بهم، وهم في أمن وعلى غفلة. فتحصنوا في المدينة أياما. ثم ناهض القنطرة؛ فوقع القتال، واشتد الحرب حتى غلبوا عليها؛ فأمر الأمير بتخريب رجل منها؛ فكان ذلك سببا إذعان أهل ماردة؛ فطاعوا على أن يخرج فرسانهم، وهم يومئذ عبد الرحمن بن مروان، وابن شاكر، ومكحول، وغير هؤلاء؛ وكانوا أهل بأس ونجدة وبسالة مشهورة. فخرج المذكورون ومن هو مثلهم إلى قرطبة بعيالهم وذراريهم. وولى عليها سعيد ابن عباس القرشي، وأمر بهدم سورها؛ ولم تبق إلا قصبتها لمن برد من العمال.
وفي سنة 255، خرج الحكم ابن الأمير محمد، وقصد مدينة سرية. وكان قد تغلب بها سليمان بن عبدوس، وخالف فيها؛ فبادرته الصائفة، وحلت به العساكر، وأحدقت بالمدينة، ورميت بالمجانيق، حتى هتكت أسوارها. فقام أهلها على سليمان بن عبدوس؛ فطاع، ونزل؛ فقدم به قرطبة؛ فسكنها.
وفي سنة 256، غدر عمروس عامل وشقة وملكها، وظهرت عاديته في الثغر؛ فأخرج الأمير إليه قطيعا من الحشم والعدة، وقصد بها لاردة ابن مجاهد المعروف بالتدميري؛ فلزمها. وحشد عبد الوهاب بن مغيث الحشود، وقدم عليهم عبد الأعلى العريف، وبعثه إلى وشقة. فلما بلغ عمروس خبره، خرج عن وشفة، وأسر بها لب بن زكرياء بن عمروس؛ وكان أحد قتلة عامل السلطان بها موسى بن غلند؛ فقتل لب وعلق من السور.
وفي سنة 257، خرج إلى الثغر عبد الغافر بن عبد العزيز؛ وكان بتطيلة. فقبض على زكريا. بن عمروس وعلى أولاده وجماعة من أهل بيته، ونزل بهم على باب مدينة سرقسطة، وقتلهم بها. وقفل إلى قرطبة بالرؤوس.
وفي سنة 258، كانت في الثغر ثورات وحركات، منها أن مطرفا وإسماعيل ابني لبّ، ويونس بن زنباط غدروا بعبد الوهاب بن مغيث، عامل تطيلة، وابنه محمد عامل سرقسطة. فتقبضوا عليهما، وملكوا في هذا العام الثغر. وكان توفي مطرف في صفر، ودخل إسماعيل سرقسطة في ربيع الأول.
وفي سنة 259، خرج الأمير محمد بنفسه إلى الثغر، وحل في وجهته بطليطلة، وأخذ رهائنهم، وعقد أمانهم، وقاطعهم على قطيع من العشور يودونه في كل عام، وهو الأمان الثاني. واختلفت أهواؤهم في عمالهم؛ فطلب قوم منهم تولية مطرف بن عبد الرحمن، وطلب آخرون تولية طربيشة؛ فولى كل واحد منهما جانبا، وتقسما المدينة وأقاليمها على حدود مفهومة معلومة؛ ثم تنازعا، وأراد كل واحد منهما الانفراد بملك طليطلة. ثم غلب الداعون إلى تقديم طربيشة ابن ماسوية، وتأخير مطرف المذكور. وكان الأمير محمد تتلقاه في وجهته هذه، في الارتحال والاحتلال، طلائع الظفر، وبوادر النجح والنصر. وتجول في الثغر محاصرا لبني موسى، ومضيقا عليهم. ثم تقدم إلى بنبلونة؛ فوطئ أرضها، وأذل أهلها، وخربها؛ قم قفل؛ فحل بقرطبة، ومعه جماعة من الثوار الناكثين المفسدين. فلما أخذ راحته، أمر بقتل مطرف بن موسى وبنيه، وأمر بإطلاق كاتبهم، وكان لا ذنب له. فلما أخرج مطرف وبنوه للقتل، وأخرج كاتبهم للإطلاق، وكان يعرف بالأصبحي، قال:(لا خير في العيش بعد هؤلاء!) فقدم للقتل قبلهم، ورفعت رؤوسهم.
وفي سنة 260، خرج المنذر بن الأمير محمد إلى سرقسطة وبنبلونة؛ وكان القائد هاشم بن عبد العزيز. فاحتل سرقسطة، وانتهب زروعها، وأذهب ثمارها وأشجارها، ونقل أطعمتها إلى وشفة، وتقدم إلى بنبلونة؛ فجال في أرضها، وأتلف معايش أهلها.
وفيها، كانت المجاعة التي عمت الأندلس؛ ومات فيها أكثر الخلق.
وفي سنة 261، هرب ابن مروان الجليقي من قرطبة مع رجال ماردة المنزلين منها، واستقروا بقلعة الحنش. فغزاه الأمير محمد، وحاصره حصارا قطعه وضيق عليه مدة من ثلاثة أشهر، ألجأه فيها إلى أكل الدواب؛ وقطع عنه الماء، ورماه بالمجانيق، حتى أذعن، وطلب الأمان، وشكى ثقل الظهر وضيق الحال؛ فأباح له الأمير محمد الرحيل إلى بطليوس والحلول بها؛ وهي يومئذ قرية؛ فخرج إليها، وقفل عنه.
وفي سنة 262، خرج المنذر بن الأمير محمد إلى ابن مروان؛ وكان القائد هاشم بن عبد العزيز؛ وهو الذي كان سبب هروب ابن مروان، لأنه قال له من بين الوزراء:(الكلب خير منك!) وأمر يصفع قفاه، واستبلغ في خزيه؛ فهرب مع أصحابه، وذلك في خبر طويل. وكان ابن مروان قد ابتنى بطليوس حصنا، وجعله موطنا، وأدخل فيه أهل ماردة وغيرهم من أهل المكانفة له على الشر. فلما انتهى إلى ابن مروان تحرك العسكر إليه، تنقل عن بطليوس، وحل بحصن كركي؛ واجتمع أهل ماردة إليه فيه؛ فنزل العسكر بمقربة من الحصن. وكان هاشم قد يعث إلى منت شلوط خيلا ورجلا لضبطه. وكان سعدون الرماري قد دخل إلى بلاد الشرك مستمدا؛ فجاء بمدد من المشركين، وأظهر أنه في قلة؛ فكتب بذلك عامل حصن منت شلوط إلى
هاشم؛ فرأى هاشم أن ذلك فرصة في سعدون؛ فبادر بالخروج من العسكر على غير تعبئة ولا أهبة، في خيل قليلة. وأفحص هاشم، وجاوز الوعر، وأبعد عن العسكر؛ فأخذت المضايق عليه، وناشبوه القتال؛ فأخذته جراح، وقتل من أصحابه جماعة؛ وأسر هاشم المذكور. ولما اتصل خبر هاشم بالأمير محمد، وقع في جانبه، وقال:(هذا أمر جناه على نفسه بطيشه وعجلته!) ثم رد ولده عوضا منه. وحصل هاشم أسيرا بيد ابن مروان الذي صنعه في أسره في قرطبة؛ فبره ابن مروان، وأكرمه، وأحسن إليه، ولم يعاقبه بما فعل معه.
وفي سنة 263، خرج المنذر بن الأمير محمد، وجعل طريقه على ماردة فلما انتهى ذلك إلى ابن مروان، زال عن بطليوس؛ واحتل بها قائد المنذر الوليد بن غانم؛ فخرب ديارها. وتقدم ابن مروان إلى بلاد العدو.
وفي سنة 264، حارب المنذر سرقسطة، وأفسد ما ألقى من زروعها؛ ثم تقدم إلى تطيلة والمواضع التي صار فيها بنو موسى؛ فانتسقها، وأجال العسكر عليها.
وفيها، دخل البراء بن مالك من باب فلنبرية إلى جليقية بحشود الغرب، وتردد هنالك حتى أذهب نعيمهم.
وفيها، أطلق هاشم من الأسر.
وفي سنة 265، ظهرت الفتنة وظهر الشر في جانب كورة ربة والجزيرة وتاكرنا؛ وظهر يحيى المعروف بالجزيري؛ فغزاه هاشم؛ فأذعن له، وقدم به إلى قرطبة.
وفي سنة 266، خرج عبد الله بن الأمير محمد إلى كورة ربة ونواحي الجزيرة، وبنى حصونا في تلك النواحي؛ ثم قفل.
وفيها، أمر الأمير محمد بإنشاء المراكب بقرطبة ليتوجه بها إلى البحر
المحيط عبد الحميد الرُّعبطي المعروف بابن مغيث؛ وكان قد رفع إليه رافع أن جليقية من ناحية البحر المحيط لا سور لها، وأن أهلها لا يمتنعون من جيش إن غشيهم من تلك الناحية. فلما كملت المراكب بالإنشاء، قدم عبد الحميد بن مغيث عليها. فلما دخل البحر، تقطعت المراكب كلها وتفرقت، ولم يجتمع بعضها إلى بعض. ونجا ابن مغيث.
وفي سنة 267، التاثت الحصون المبتناة برية وتاكرنا وجهة الجزيرة. وفيها، ابتدأ شر اللعين عمر بن حفصون، الذي أعبى الخلفاء أمره، وطالت في الدنيا فتنته، وعظم شره؛ فقام في هذه السنة على الأمير محمد بناحية رية. فتقدم إليه عامر بن عامر؛ فانهزم عامر وأسلم قبته؛ فأخذها ابن حفصون، وهو أول رواق ضريه؛ فاستكن إليه أهل الشر. وعزل الأمير عامرا عن كورة رية، وولاها عبد العزيز بن عباس؛ فهادنه ابن حفصون، وسكنت الحال بينهما. ثم عزل عبد العزيز، وتحرك ابن حفصون، وعاد إلى ما كان عليه من الشر. وخرج هاشم بن عبد العزيز إلى كورة رية يطلب كل من كشف وجهه في الفتنة وأظهر الخلاف، وأخذ رهائن أهل تاكرنا على إعطاء الطاعة.
ومن العجائب في هذا العام، ما ذكره الرازي وغيره. قالا: زلزلت الأرض بقرطبة زلزالا شديدا، وهاجت ريح عند صلاة المغرب؛ فأثارت سحابا فيه ظلمات ورعد وبرق؛ فصعق ستة نفر، وانقلبوا على ظهورهم، مات اثنان؛ وخر جميع الناس سجدا إلا الإمام، فإنه ثبت قائما؛ وكان الرجلان اللذان ماتا أقرب الناس إلى الإمام؛ فاحترق شعر أحدهما واسود وجهه وشقه الأيسر؛ والآخر ظهر بشقه الأيمن سواد؛ والأربعة الصرعى مكثوا حتى فرغ الإمام؛ فسئلوا عما أحسوا؛ فقالوا:(أحسسنا نارا كأنها الموج الثقيل.) ووجد أهل المسجد رائحة النار، ولم يوجد للصاعقة أثر في سقف ولا حائط. واهتزت لهذا
الزلزال القصور والجبال، وهرب الناس إلى الصحارى، ضارعين إلى الله تعالى. وعم هذا الزلزال من البحر الشامي إلى آخر الجوف وإلى آخر أرض الشرك، لم يختلف في ذلك مختلف.
وفي سنة 268، خرج المنذر ابن الأمير محمد، والقائد هاشم بن عبد العزيز؛ فقصد الثغر الأقصى، وحطم سرقسطة، وافتح حصن روطة؛ ثم تقدم إلى ألبة والقلاع، وافتتح حصونا كثيرة، وأخلى حصونا كثيرة، خوفا من مهرة العسكر، وتوقعا من تغلبه.
وفيها، فسد ما بين المنذر وبين الوزير هاشم بن عبد العزيز.
وفي سنة 269، قال الرازي: وفي سنة 269، غزا محمد بن أمية بن شهيد إلى كورة رية وكورة إلبيرة. وكانوا بحال توحش ونفار؛ فسكن أحوال أهلها، وهدن الناس بها، ونظر في استنزال رجال بجبال رية وغيرها من بني رفاعة وغيرهم.
وفي سنة 270، استتم محمد بن أمية بن شهيد استنزال بني رفاعة. وأتاه في هذه الغزاة كتاب الأمير محمد بتولية عبد العزيز بن العباس كورة إلبيرة؛ فولاه، وقفل.
وفيها، غزا هاشم كورة رية، وإستنزل عمر بن حفصون من جبل بربشتر وقدم به قرطبة؛ فأنزله الإمام، وأوسع له في الإكرام.
وفي سنة 271، هرب عمر بن حفصون من قرطبة، ولجأ إلى جبل بربشتر؛ فانتدب الأمير محمد إلى حربه؛ وحوصر في السنة الآتية.
وفي سنة 272، خرج عبد الله ابن الأمير محمد، والقائد هاشم بن عبد العزيز. وقصد الغرب إلى ابن مروان، وهو بجبل اشبرغزة؛ فنازله وحاربه.
قال حيان بن خلف في عمر بن حفصون: هو كبير الثوار بالأندلس ونسبه: عمر بن حفص، المعروف بحفصون، بن عمر بن جعفر بن شتيم بن ذيبان ابن فرغلوش بن إذفونش، من مسالمة الذمة، من كورة تاكرنا من عمل رندة. وكان الذي أسلم منهم جعفر بن شتيم؛ ففشا نسله في الإسلام. وكان له من الولد الذكور عمر وعبد الرحمن؛ فولد عمر بن جعفر حفصا. وولد حفصون هذا عمر هذا الثائر الملعون؛ فعمر هذا هو الذي ثار على الأمير محمد أولا، ثم بلغ بعد ذلك في الشقاق والفتن مبلغا لم يبلغه ثائر بالأندلس. واستوطن لأول نفاقه حصن بربشتر قاعدة وحضرة، وهي أمنع قلاع الأندلس قاطبة، وذلك في هذه السنة، وهو تأريخ صعوده الآخر إليها الذي توطد له ملكه فيه، وخالف على السلطان حتى رضى عنه بالمناركة. واتصلت أيامه في ظهور وعزة حتى قدم فيها ثلاثة من خلفاء المروانيين أئمة الجماعة بالأندلس رحمهم الله! - أولهم هذا الأمير محمد؛ وتخلف بعدهم إلى أن هلك على يد الرابع منهم، وهو عبد الرحمن الناصر، على ما يأتي مفسرا.
وفي سنة 273، خرج المنذر بن الأمير محمد إلى كورة رية، والقائد محمد ابن جهور. فقصد مدينة الحامة، وفيها حارث بن حمدون من بني رفاعة؛ وكان مظاهرا لعمر بن حفصون، وكانا قد اجتمعا بالحامة. فنازلهم، وناهضهم، وأحدق بهم من كل ناحية؛ وأقام محاصرا لهم شهرين. فلما وصل إليهم الضيق، برزوا إلى باب المدينة خارجا، مستقبلين للحرب. وقام بها؛ فنالته جراح، وشلت يده؛ ثم انهزم هو وأصحابه، وصاروا بين قتيل وفليل. ودخل باقيهم في الحامة. فبينا المنذر في هذه الحال من السرور، إذ أتاه الخبر بموت أبيه الأمير محمد بن عبد الرحمن، ليلة الخميس لليلة بقيت من شهر صفر من السنة؛ ودفن في القصر. وأدركه المنذر قبل مواراته وصلى عليه.