الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعض أخباره وسيره
كان الحكم رحمه الله! - شديد الحزم، ماضي العزم، ذا صولة تتقى. وكان حسن التدبير في سلطانه، وتوليه أهل الفضل والعدل في رعيته؛ وكان مبسوط اليد. وكان له قاض كفاه بورعة وعلمه وزهده؛ فمرض مرضا شديدا؛ فاغتم الحكم لمرضه؛ فذكر بعض خاصته أنه أرق ليلة أرقا شديدا، وجعل يتململ على فراشه؛ فقيل له:(أصلح الله الأمير! ما الذي عرض؟) فقال: (ويحكم! إني سمعت في هذه الليلة نادبة، وقاضينا مريض، وما أراه إلا وقد قضى نحبه. فأين لي بمثله، ومن يقوم بالرعية مقامه؟) فمات القاضي في تلك الليلة، وهو المصعب بن عمران قاضي أبيه. فولى بعده محمد بن بشير.
فكان أقصد الناس إلى حق، وأبعدهم من جور، وأنقذهم بحكم. ورفع إليه رجل من أهل كورة جيان أن عاملا للحكم اغتصبه جارية، وصيرها إلى الحكم؛ فوقعت من قلب الحكم كل موقع؛ فأثبت الرجل أمره عند القاضي، وأتاه بينة تشهد على معرفة ما تظلم منه ويملكه للجارية وبمعرفتهم بها. فأوجبت السنة أن تحضر الجارية؛ فاستأذن القاضي على الحكم؛ فأذن له؛ فلما دخل عليه، قال له:(أيها الأمير! أنه لا يتم عدل في العامة دون إقامته في الخاصة!) وحكى له أمر الجارية، وخيره بين إبرازها للبينة ليشهد على عينها، أو عزله. فقال له الحكم:(أولا. أدعوك إلى خير من ذلك! تبتاع الجارية من صاحبها بأبلغ ما يطلب فيها.) فقال القاضي: (إن الشهود قد شهدوا من كورة جبان، وأتى الرجل يطلب الحق في مظامه؛ فلما صار ببابك، تصرفه دون إنفاذ الحق له؛ ولعل قائلا يقول: باع ما لا يملك بيع مقور!) فلما رأى عزمه على ذلك، أمر بإخراج الجارية من قصره؛ فشهد الشهود عنده على عينها، وقضى بها لصاحبها. وكان هذا القاضي محمد بن بشير، إذا خرج للمسجد، وجلس للأحكام،
جلس في رداء معصفر، وشعر مفرق؛ فإذا طلب ما عنده، وجد أفضل الناس وأورعهم.
وكان الحكم يقول: (ما تحلى الخلفاء بمثل العدل!) وكانت فيه بطالة، إلا أنه كان شجاع النفس، باسط الكف، عظيم العفو. وكان يسلط قضاته وحكامه على نفسه، فضلا عن ولده وخاصته. وكانت للحكم ألف فرس مرتبطة بباب قصره على جانب النهر، عليها عشرة من العرفاء، تحت يد كل عريف مائة فرس؛ فإذا بلغه عن ثائر ثار في أطرافه، عاجله قبل استحكام أمره؛ فلا يشعر حتى يحاط به. وجاءه الخبر يوما أن جاب بن لبيد محاصر لجيان، وهو يلعب بالصولجان في القصر؛ فدعا بعريف من أولئك العرفاء، وأسر إليه أن يخرج بمن تحت يده إلى جابر بن لبيد؛ ثم فعل كذلك مع أصحابه من العرفاء. فلم يشعر ابن لبيد حتى تساقطوا عليه مسربلين في الحديد؛ فلما رأى العدو ذلك، سقط في يده، وظن أن الدنيا قد حشرت إليه؛ فولى بمن معه منهزما.
وكان الحكم فصيحا بليغا شاعرا مجيدا. فمن شعره رحمه الله! - يتغزل، وذلك أنه كان له خمس جوار قد استخلصهن لنفسه وملكهن أمره؛ فذهب يوما إلى الدخول عليهن؛ فأبين عليه، وأعرضن عنه. وكان لا يصبر عنهن. فقال (البسيط) :
قُضْب من البازِ مَلسَت فَوقَ كُثْبانِ
…
أعْرَضْنَ عَنّي وقد أزْمَعْنَ هِجْرانِي
ناشَدتُّهَنَّ بحقِي فاعْتزَمْن علي
…
الهِجْرانِ حتَّى خَلا مِنْهنَّ هيْمانِي
مَلكنني مُلكَ مَنْ ذَلتْ عَزِيمَتُهُ
…
للحبِّ ذُلَّ أسِير موثَّقٍ عانِي
مَنْ لي بُمغْتَصباتِ الرُّوح من بَدنِي
…
عصبنب في الهوى عِزّي وسلطانِي
ثم إنهنَّ عدن عليه بالوصل؛ فقال (خفيف) :
نِلْتُ كُلَّ الوصال بعد البِعَادِ
…
فكأنِي مَلكْتُ كُلَّ العِبادِ
وتَنَاهَى السُّروُر إذْ نِلتُ مَا لَمْ
…
يُغنِ فيه تَكاشُفُ الأجْنَادِ