الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيها على الناصر رحمه الله فأخرج عبد الحميد بن بسيل قائدا إلى الثغر الأقصى، بعد أن استوزره؛ وكان على خزانة المال؛ فنهض حتى احتل الثغر بجيوش كثيفة، أخرجت معه، وحشدت إليه من الثغر وغيره؛ فدخل مدينة تطيلة وملكها.
وفيها، افتتحت قصبة مورور.
وفيها، ولي محمد بن أحمد بن حدير خطة العرض، وعزل محمد بن محمد ابن أبي زيد عن الشرطة الصغرى، ووليها يحيى بن يونس القبرسي.
وفيها، توفي عبد الرحمن ابن الإمام المنذر رحمه الله. وتوفي جهور بن عبد الملك، وهو قائد شذونة. وفيها، قتل عبد الله بن محمد بن مروان الجليقي، صاحب بطليوس، دخل عليه بعض أهل الموضع، فقتلوه. وفيها هلك أرذون بن إذفنش صاحب جليقية، وولي مكانه فلوبرة.
غزاة الناصر إلى بنبلونة
وفي سنة 312، كان غزاة أمير المؤمنين الناصر لدين الله رضي الله عنه إلى دار الحرب، وهي الغزوة المعروفة ببنبلونة؛ فبرز رحمه الله لهذه الصائفة مبكرا قبل ميقات الصوائف، إذ أحفظه ما دار على بني لب وبنى ذي النون بحصن بقيرة؛ فبرز لغزاته هذه يوم الخميس لليلتين خلتا من ذي الحجة، وهو اليوم الثاني عشر من شباط سنة 311. وفصل من قرطبة يوم السبت لأربع عشرة ليلة بقيت من المحرم سنة 12، وهو اليوم السابع عشرين من نيسان، وذلك بعد بروزه بثلاثة وأربعين يوما. فاحتل لأول خروجه بمحلة بالش، وكسر بها يومين، متلوما على المجاهدين معه من أجناده ورعيته، والمحشودين من أقطار كورة. وتخلف رحمه الله بالقصر بقرطبة وليَّ عهده الحكم المستنصر بالله - أبقاه الله -، ومن الوزراء أحمد بن محمد بن حدير. وأم الناصر رضه
في أول خروجه كورة تدمير وكورة بلنسية، واستصلح أحوال أهلهما، واستنزل عبد الرحمن بن وضاح، ويعقوب بن أبي خالد التوبري، وعامر بن أبي جوشن، وغيرهم، من مواضعهم التي كانوا متأمرين فيها، ومتعاصين عن النزول منها. وأرتب القواد والجيوش على محمد بن عبد الرحمن بن الشيخ، إذ يمنع من النزول إليه والغزو معه؛ وكان يمدينة العسكر من أحواز بلنسية.
ثم نهض أمير المؤمنين الناصر رحمه الله في عساكر كعدد الحصى، حتى دخل ثغر تطيلة. وخرج إليه النجيبيون وغيرهم، وتلقاه عمال الثغر في جنود عظيمة، وعدة كاملة؛ فدخل رحمه الله بلاد المشركين يوم السبت لأربع خلون من ربيع الآخر بأنقذ عزم، وأوكد حزم، وأقوى نية في الانتقام لله عز وجل ولدينه من الأرجاس، الكفرة الأنجاس. فحل من أول بلادهم حصن قلهرة؛ وكان العلج شانجه قد أخلاه؛ فأمر بهدمه وإحراق جميع ما فيه وحوله؛ ثم تنقل عنه إلى موضع يعرف ببيطرة التة؛ وكانت حوله حصون مانعة؛ فأخلاها الكفرة، وتخلقوا في بسيطها جميع أمتعتهم وأطعمتهم، إذ عوجلوا عن انتقالها. ولجأ علوج منهم بأهلهم وولدهم إلى ثلاثة غيران في شفير جرف على النهر؛ فلم يزل أهل العسكر يتعلقون إليهم فيها، ويتسورون عليهم من أعاليها، حتى فتح الله تلك الغيران عليهم؛ فقتلوا العلوج وسبوا الذرارى، وغنموا الأمتعة. وكان ذلك أول ما أفاء الله عز وجل على أهل العسكر، وغنمهم إياه. وهدمت حصون الكفرة التي كانت في تلك الجهة؛ ولم يبق منها صخرة قائمة.
ثم تنقل رحمه الله من هذه المحلة، بعد أن كسر بها يوما، إلى حصن فالجش؛ فأضرمت أرباضه نارا، واستقصيت زروعه ونعمه انتساقا وتغييرا. ثم ارتحل رضه إلى حصن نفالية؛ وكان من حصونهم الشريفة؛ فألقيت الأطعمة به كثيرة، والنعم فيه فائضة؛ فانتهب المسلمون جميع ذلك، ودأبوا في تخريب الديار، وتغيير الآثار. ثم ارتحل منه إلى حصن قرقستال على وادي أرغون؛ ثم استعزم الناصر رضي الله عنه على الإيغال في بلدهم، والتوصل إلى موضع قرارهم،
ومجتمع كفارهم، ونكايتهم في عقر دارهم، ومكان أمنهم؛ فأخذ في الحزم، وعهد بضبط مجنيات العسكر، وتقدم من فج المركوبر في أمكّ تعبئة وأهذب ترتيب، وذلك يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر؛ فدخلت الجيوش مواضع لم تدخل قبل ذلك، وأحرقت الحصون، وهدمت الديار، حتى نزل بقرية بشكونشة، التي إليها ينسب العلج، ومنها أصله؛ فهدمت مبانيها، أحرق كلُّ شئ كان فيها.
فجمع العلج شانجه كفرته، واستمد بنصرانيته من كل مكان، طمعا أن بغاث منه حتى توافى له جمع رجا أن يكافح المسلمين به؛ فتطلعت له خيل على تلك الأجبل المنيفة على العسكر، وذلك ليلة الأربعاء للنصف من شهر ربيع الآخر؛ فأمر الناصر رحمه الله بالتعبئة للرجال، وشك العسكر، وإتقان النظر؛ وصابح النهوض والتقدم لوجهته، واثقا بالله عز وجل ومتوكلا عليه؛ فسلكت الجيوش بين أجبل شامخة وشواهق منقطعة. ورجا أعداء الله مع ذلك بانتهاز الفرصة والاعتراض للمسلمين في مجنبة أو ساقة؛ فلما توسط الجيش بعض تلك المواضع المتضايقة على واد يعرف بوادي هيغة، هبطت للمشركين خيل من الأجبل؛ فحالت بينهم وبين أهل العسكر مناوشة يسيرة. فعهد أمير المؤمنين رحمه الله برفع المظل والتعبئة للحرب، ونهض المسلمون إلى أعدائهم نهوض الأسود؛ فعبروا النهر إليهم، وصمموا بالحملة عليهم، حتى اقتلعوهم عن موضعهم، وهزموهم، ووضعوا سيوفهم ورماحهم فيهم، حتى اضطروهم إلى مرتقى وعر وجبل منقطع؛ فتقحم المسلمون عليهم، وسهل الله وعره لهم؛ فقتلوا جملة منهم، وبسطت الأرض بأجسادهم. واستمرت الخيل المغيرة في بسيطهم؛ فأصابت الغنائم والسوام وضروب النعم، وانصرفوا سالمين، لم يصب منهم غير يعقوب بن أبي خالد التوبري، ونفر يسير من الحشم فازوا بالشهادة، وختم الله لهم بالسعادة.
واجتمع من رؤوس المشركين عدد عظيم منع من البعثة بها إلى قرطبة بمنع الطريق وبعد المسافة.
ثم ارتحل أمير المؤمنين رضه إلى محلة لتبيرة؛ ثم إلى محلة لغين؛ والجيوش لا تمر بموضع إلا اصطلمته، وتعلقت زروعه، وهدمت قراه وحصونه، إلى أن بلغ رضه مدينة بنبلونة؛ فوجدها خالية مقفرة؛ فدخلها رحمه الله وجال بنفسه عليها، وأمر بهدم جميع بنيانها، وتخريب كنيسة الكفرة بها، التي كانت يبعثهم موضع نسكهم، حتى لقد جعلت قاعا صفصفا. ثم تنقل رضي الله عنه منها إلى صخرة قبس؛ وكانت بها كنيسة قد شيدها العلج، وأتقنها، وطاول الأيام بالتأنق فيها، والتحصين لها؛ فلما حلت بها الجيوش وأخذت في هدمها، تطلع الكلب من جبل كان أسد إليه، طامعا في حمايتها؛ فداخله أولياء الله بأسرع من لحظة الطرف. حتى اقتلعوه مهزوما موليا، وصرع من فرسانه ووجوه أصحابه من كان عنه محاميا ودونه مستهلكا؛ وأخربت الكنيسة وما أحاط بها، وعادت القرية نارا موقدة.
ثم تنقل منها إلى محلة اسارية؛ وكان في ممره إليها فج يقال له هرقلة ضيق المسلك، وعر المجاز؛ فرام الكفرة انتهاز فرصة من المسلمين فيه؛ فأمر الناصر رحمه الله بالتعبئة والاحتراس، ونهض على أتم التحفظ والضبط، حتى جاورت العساكر ذلك المضيق، وخرجت عنه وتظاهر أعداء الله لأخل الساقة، متسنمين لأعلى جبل؛ فنهضت الخيل إليهم، وهزمتهم، وقتلت طائفة منهم. وانقشعوا مدبرين لا يلوون ولا يعرجون. وتقدم المسلمون بعزة القهر، وسرور النصر، حتى نزلوا محلة إسارية. ثم ارتحل الناصر رحمه الله منها إلى محلته بقرية منيير؛ ثم تنقل إلى محلته بدى شره المجاورة لشنت اشتبين؛ وكان موضع " استركاح " العلج شانجه، ومكان طمأنينته؛ فحلت الجيوش بهذه المحلة يوم الأربعاء لثمان بقين من ربيع الآخر، وتظاهر الكلب على الجبل، قد جمع جموعه، وحشد رجاله، واستجاش بمدود انته من آلبة والقلاع، طامعا في معارضة المسلمين، يقيم
بها عذره عند كفرته، وأهل ملته؛ فناشبهم المسلمون الحرب، والتحم بينهم القتال؛ فهزم الله جموع المشركين، وانقبضوا إلى أعلى جبلهم، وتفرقوا في شعراء متصلة بهم. وبات أهل العسكر في مجلتهم. وانبسطت العلاقة في القرى؛ فانتسفت ما فيها. ثم انتقل الناصر إلى محلته بموضع يعرف بربية سرته، وهو يريد فلهرة. وتظاهر العلج بجموعه مرة ثانية في الموضع الذي كان مشرفا فيه، ومعتصما به؛ فتبادر إليه الفرسان؛ فانهزم أقبح انهزام. وقتل له رجال وعقرت له خيل.
وتنقل الناصر رحمه الله إلى حصن قلهرة؛ فألقاه خاليا، وأمر بهدمه ثم تنقل إلى حصن بلتميرة، وهو من حصون المسلمين المجاورة للمشركين؛ فعهد بادخار الأطعمة عندهم، وتفريق الأموال فيهم. واحتل بمدينة تطيلة. وكسر بها، وذلك يوم الأثنين لثلاث بقين من ربيع الآخر، ورحل عنها قافلا، وجعل مروره ببني ذي النون؛ وكان يحيى بن موسى قد استراب، وتوقف عن الجهاد، فدارت عليه معرة الجيش، حتى أذعن منقادا، وخرج خائفا وجلا، وتلقى أمير المؤمنين معترفا بذنبه؛ فأوسعه عفوه؛ وفعل مثل ذلك يحيى بن أبي الفتح ابن أخيه، ودخل أمير المؤمنين رحمه الله قرطبة يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الأولي، وقد استتم في غزاته هذه أربعة أشهر.
وفي سنة 313، كان غزاة أمير المؤمنين الناصر رحمه الله إلى كورة إلبيرة، ومنازلته حصن اشتين، وإستصلاحه الأحوال بكورة جيان وما والاها؛ فبرز رحمه الله لهذه الغزاة يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرم سنة 313، وهو اليوم السابع من نيسان، وفصل غازيا يوم الخميس لثمان بقين من صفر، وهو اليوم السابع من أيار، وذلك بعد بروزه بإثنتين وأربعين يوما؛ وتخلف في القصر بقرطبة وليَّ عهده الحكم المستنصر بالله. ومن الوزراء أحمد بن محمد بن حدير، وعلى المدينة محمد بن عبد الله الخرَّوبي؛
واستقدم سعيد بن المنذر الوزير من كورة تدمير، ليغزو معه. وأخرج محمد ابن إسحاق مديلا له؛ فاحتل في طريقه بحصن المنتلون من كورة جيان، وأنزل عنه عبد الله بن سعيد بن هذيل، وعزله عن سائر الحصون التي كانت بيده؛ واستعمل على الجميع عبد العزيز بن مسلمة وعبد الله بن عمرو بن مسلمة؛ وعهد بهدم أكثر حصون جيان وقصابها، إذ كانت مستركحا لأهل الشر والخرف، وضررا على أهل الطاعة والاستقامة؛ وكذلك ما فعل بحصون إلبيرة، حتى احتل بحصن اشنين يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول؛ وكان أهله على مكايدة باطنة، وإظهار طاعة تحتها مداهنة؛ فعرض عليهم الناصر النزول عن حصنهم إلى البسيط حوله؛ فاضطربوا في أمرهم، ولاذوا عن رشدهم؛ فاحتلت العساكر بهم، وأخذ بالجد والعزم في محاصرتهم، وأحيط بهم من جميع جهاتهم، وبنيت عليهم ستة حصون يقابل بعضها بعضا، حتى عادوا في مثل حلقة الخاتم ضيقا وحصارا. وبقى الناصر على محاصرتهم خمسة وعشرين يوما، وهو يدأب مع ذلك في استصلاح أمور رعيته، وتأمين سبلهم، وقطع المخاوف عنهم، ويشخص بنفسه إلى مل جهة من جهاتهم.
وفي هذه الغزاة، استجلب الناصر وليَّ عهده وعماد أنسه الحكم المستنصر بالله من قصر قرطبة إلى معسكره، وهو في ذلك الوقت ابن عشرة أعوام وثمانية أشهر ونصف، إذ استوحش له، وتاقت نفسه الكريمة إليه؛ فقدم عليه - أبقاه الله - بهذه المحلة مع ثقات رجاله وفتيانه؛ واستخلف له في القصر أخوه عبد العزيز لينفذ الكتب باسمه إلى وقت منصرفه. فأنس رحمه الله به، وسر بقربه. وقفل الناصر من هذه الغزاة يوم الجمعة لست خلون من ربيع الآخر، بعد أن أرتب الوزيرين سعيد بن المنذر وعبد الحميد بن بسيل على حصن اشتين، محاصرين لأهله في كثف من الحشم. ودخل القصر بقرطبة يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر، وقد استتم في غزاته خمسين يوما.
وفي هذه السنة، ولي خلف الفتى الكبير الطراز.
وفي شوال منها، ولي يحيى بن يونس القبرسي السوق. إذ اعتل أحمد بن بهلول على أبطلته عن الحركة؛ ثم ولي يحيى بن يونس المواريث في ذي القعدة، وولي عبد الله بن محمد الخروبي خزانة السلاح.
وفيها، صلب على الرصيف بباب قصر قرطبة الرامي المعروف بأبي نصر؛ وكان قد ذهب به الصوت في الرماية والإصابة أيام عمر بن حفصون؛ فصلب؛ ثم رمى بالنبل حتى أصيبت جوارحه ومقاتله؛ وبقي في الجذع أياما؛ ثم أحرق.
وفيها، توفي ابن الناصر يسمى بمحمد. وفيها، مات بن حزم العوفي من أهل سرقسطة، في شهر رمضان؛ وكان كثير الرواية، بصيرا باللغة؛ وله رحلة سمع فيها من بعض الفقهاء بالمشرق. وفيها، هلك فلويرة صاحب جليقية، وولي إذفنش؛ ثم ترهب، وولي أخاه رذمير مكانه في سنة 19.
وفي سنة 314، كان إغزاء الناصر رحمه الله قواده بالصوائف؛ ولم يكن له غزو بنفسه في هذا العام لمحل كان فيه، وقحط شديد؛ فأخرج عبد الحميد بن بسيل الوزير إلى الثغر الذي كان به بنو ذي النون؛ فأوقع بهم إذ كانوا قد مرقوا عن الطاعة، وأكثروا الفساد في الأرض، والاستطالة على من جاورهم من المسلمين؛ فقتل منهم من استحق القتل، وافتتحت مدينة سرتة؛ وكان أهلها على خلاف وخلعان للطاعة؛ فدرت جبايتها من ذلك الوقت، وصارت بسيل سائر الكور المستقيمة الأحوال. ثم صدر عبد الحميد بن بسيل من ذلك الثغر، وقد استقامت على يديه أحوال أهله؛ فأخرجه الناصر إلى مدينة ببشتر، محاصرا لسليمان بن حفصون في جملة القواد المحاصرين له؛ وأخرج رحمه الله أفلح صاحب الخيل مولاه إلى سليمان بن حفصون أيضا؛ فنازله وحاصره، وفتح حصن منت روبي؛ وكان من أمنع معاقله.