المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌شروط صحة عقد النكاح - صحيح فقه السنة وأدلته وتوضيح مذاهب الأئمة - جـ ٣

[كمال ابن السيد سالم]

فهرس الكتاب

- ‌9 - كتاب اللباس والزينة وأحكام النظر

- ‌أولًا: اللباس والزينة للرجال

- ‌ثانيًا: اللباس والزينة للنساء

- ‌لباس المرأة المسلمة

- ‌مسائل تتعلق بأحكام النظر

- ‌الزينة للمرأة المسلمة

- ‌حكم لبس العدسات الملونة للزينة والموضة

- ‌10 - كتاب الزواج ومقدماته وتوابعه

- ‌الأنكحة الفاسدة شرعًا

- ‌الصفات المطلوبة في الزوجين

- ‌الخِطْبة وأحكامها

- ‌أحكام النَّظر في الخِطبة

- ‌عقد الزواج

- ‌شروط صحة عقد النكاح

- ‌الاشتراط في عقد النكاح

- ‌الصداق (المهر)

- ‌إعلان النكاح

- ‌تعدد الزوجات

- ‌من أحكام المولود

- ‌النشوز وعلاجه

- ‌11 - كتاب الفرْق بين الزوجين

- ‌الطلاق وأحكامه

- ‌شروط الطلاق

- ‌أولًا: الشروط المتعلقة بالمطلِّق:

- ‌ثانيًا: الشروط المتعلِّقة بالمطلَّقة:

- ‌ثالثًا: الشروط المتعلقة بصيغة الطلاق:

- ‌الإشهاد على الطلاق

- ‌أنواع الطلاق

- ‌أولًا: الطلاق الرجعي والبائن

- ‌ثانيًا: الطلاق السُّنِّي والبدعي

- ‌ثالثًا: الطلاق المُنجَّز والمضاف والمعلَّق

- ‌التخييرُ في الطلاق

- ‌التوكيل أو التفويض في الطلاق

- ‌العِدَّة

- ‌الخُلْع

- ‌أركان الخلع وما يتعلق بها

- ‌الإيلاء

- ‌الظِّهَار

- ‌اللِّعان

- ‌التفريق القضائي

- ‌الحضانة

- ‌12 - كتاب المواريث

- ‌عِلْم المواريث (الفرائض)

- ‌المُستحقُّون للميراث

- ‌الحَجْبُ

الفصل: ‌شروط صحة عقد النكاح

ثانيًا: شروط في العاقدَيْن (الولي والخاطب)(1):

1 -

أهلية كلٍّ منهما لإجراء العقد: أي أن يكون بالغًا -على خلاف في الصبي المميز إذا أجازه وليه- رشيدًا عاقلًا.

2 -

أن يكون لهما الحق في إنشاء العقد: بأن يعقد البالغ العاقل الرشيد لنفسه، أو يعقد له وكيله بتكليفه بالعقد له، وبتحقق الولاية، بحيث يعطيه الشرع حق إنشاء العقد، وأما الفضولي الذي يعقد لغيره بغير إذنه، فلا يصح عقده.

3 -

رضاهما واختيارهما: فإن عقد العقد من غير رضاهما أو رضا أحدهما لم يصح.

4 -

أن يسمع كل منهما كلام الآخر ويفهمه.

5 -

أن يكون كل واحد من الزوجين معلومًا معروفًا، فلو قال الولي:(زوجتك واحدة من بناتي) ولم يحددها وله أكثر من بنت لم يصح العقد.

6 -

أن لا يكون بين الزوجين سبب لتحريم الزواج، وقد تقدم بيان المحرمات.

‌شروط صحة عقد النكاح

وهي ما يتوقف عليها صحة عقد النكاح وترتب آثاره عليه، ويبطل العقد بتخلُّف أحدها، وهذه الشروط هي:

الشرط الأول: إذنُ وَلِيِّ المرأة:

الولي هو: الذي يلي عقد النكاح على المرأة ولا يدعها تستبد بعقد دونه (2) وقد ذهب الجماهير من السلف والخلف، منهم: عمر وعلي وابن مسعود وأبو هريرة وعائشة رضي الله عنهم ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد والثوري وأهل الظاهر (3)، إلى أن الولي شرط لصحة النكاح، فإذا زوَّجت المرأة نفسها، فنكاحها باطل، واستدلوا بما يلي:

1 -

النصوص القرآنية التي جعلت أمر التزويج والإعضال إلى الرجال، ومنها:

(أ) قوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم

} (4). فخاطب الرجال بإنكاح الأيامى ولو كان أمر التزويج عائد إلى النساء لما وجَّه الخطاب للرجال.

(1)«أحكام الزواج» للأشقر بتصرف (ص: 90).

(2)

«لسان العرب» (3/ 985).

(3)

«المدونة» (2/ 151)، و «بداية المجتهد» (2)، و «الأم» (5/ 166)، و «المغني» (6/ 448)، و «المحلي» (9/ 453)، و «الإنصاف» (8/ 660)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 19).

(4)

سورة النور: 32.

ص: 135

(ب) وقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} (1). مع قوله: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ

} (2).

(ج) قول الشيخ الكبير لموسى عليه السلام: {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين} (3).

(د) قوله تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف} (4).

فنهى الأولياء عن عضل النساء عن العودة إلى أزواجهن، وفي هذا أصرح دليل على اعتبار الولي، وإلا لما كان لعضله معنى، ولأنها لو كان لها أن تزوَّج نفسها لم تحتج إلى أخيها (5).

(هـ) قوله تعالى: {فانكحوهن بإذن أهلهن} (6). فاشترط إذن ولي الأمة لصحة النكاح، فدلَّ على أنه لا يكفي عقدها لنفسها.

(و) قوله تعالى: {الرجال قوَّامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض} (7). والولاية من القوامة المنصوص عليها.

(ز) عن عائشة في قوله تعالى: {وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن} (8). قالت: "هذا في اليتيمة التي تكون عند الرجل لعلها أن تكون شريكته في ماله -وهي أولى به- فيرغب عنها أن ينكحها، فيعضلها لمالها ولا يُنكحها غيره كراهية أن يشركه أحد في مالها"(9).

(1) سورة البقرة: 221.

(2)

سورة البقرة: 221.

(3)

سورة القصص: 27.

(4)

سورة البقرة: 232.

(5)

سبب نزول الآية ما أخرجه البخاري (5130) وغيره من معقل بن يسار قال: «زوَّجت أختًا لي من رجل فطلَّقها حتى إذا أنقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك وأفرشتك وأكرمتك فطلقتها ثم جئت تخطبها لا والله لا تعود إليك أبدًا، وكان رجلًا لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله هذه الآية {فلا تعضلوهن} فقلت: الآن أفعل يا رسول الله، قال: فزوِّجها إياه» .

(6)

سورة النساء: 25.

(7)

سورة النساء: 34.

(8)

سورة النساء: 127.

(9)

صحيح: أخرجه البخاري (5128).

ص: 136

(ح) وقالت عائشة -في وصف نكاح الجاهلية-: "

فنكاح منها كنكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيُصدقها ثم ينكحها .. " (1).

2 -

وأصرح من كل ما تقدم ما يلي:

(أ) حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نكاح إلا بوَليٍّ"(2).

(ب) حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة نكحت بغير إذا مواليها فنكاحها باطل -ثلاثًا- ولها مهرها بما أصاب منها، فإن اشتجروا فإن السلطان ولي من لا ولي له"(3) وهما صريحان في الشرطية.

(جـ) وقد ثبت هذا المعنى من قول عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس (4).

(د) وعن أبي هريرة قال: "لا تنكح المرأة نفسها، فإن الزانية تُنكح نفسها"(5).

وقد نقل الحافظ في "الفتح"(9/ 187 - المعرفة) عن ابن المنذر أنه لا يُعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك.

* بينما ذهب أبو حنيفة إلى أن المرأة الحرة العاقلة البالغة لا يشترط لصحة العقد عليها وجود الولي، وإنما يشترط في إنكاح الصغيرة!! (6) وحجته في هذا ما يلي:

1 -

قوله تعالى: {فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف} (7).

2 -

وقوله سبحانه: {حتى تنكح زوجًا غيره} (8).

قالوا: فأضاف النكاح إليهن فدلَّ على جواز النكاح بعبارتهن من غير شرط الولي.

(1) صحيح: أخرجه البخاري (5127).

(2)

صحيح: أخرجه أبو داود (2085)، والترمذي (1101)، وابن ماجة (1879)، وأحمد (4/ 394) وغيرهم، وانظر «الإرواء» (6/ 243).

(3)

صحيح: أخرجه أبو داود (2083)، والترمذي (1101)، وابن ماجة (1879)، وأحمد (6/ 156).

(4)

انظر «جامع أحكام النساء» لشيخنا - حفظه الله - (3/ 327 - 328).

(5)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (6/ 200)، وابن أبي شيبة (4/ 135).

(6)

«ابن عابدين» (3/ 55)، و «المبسوط» (5/ 10)، و «فتح القدير» (3/ 157)، و «البدائع» (2/ 248).

(7)

سورة البقرة: 234.

(8)

سورة البقرة: 230.

ص: 137

3 -

قوله تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} (1). قالوا: الاستدلال بها من وجهين.

(أ) أنه أضاف النكاح إليهن.

(ب) أن النهي عن العضل في الآية يحتمل أن يكون للأزواج، فنهتهم عن منع أزواجهم المطلقات -بعد قضاء عدتهن- من التزوُّج بمن شئن من الأزواج!!

قلت: وقد تقدم سبب نزول الآية وأنه يردُّ هذا التأويل.

4 -

حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأيم أحق بنفسها من وليِّها، والبكر تُستأذن في نفسها، وإذنها صماتها"(2).

قلت: ولا يصفو لهم الاستدلال بهذا الحديث على عدم اشتراط الولي لأمرين:

(أ)"أن غاية ما يدل عليه أن للولي حقًا في تزويج الثيب، وللثيب حق في تزويج نفسها، وحقها أرجح من حقِّه، فلم يجز تزويجها بدون استئمارها، وموافقتها، أما البكر فحق الولي أعظم من حقها، ولذا اكتفى بصمتها"(3).

وهذا كله في حالة الإجبار فلا يجوز للولي أن يجبر الأيِّم على ما تكره.

(ب) أنه لو كان معنى الحديث ما أرادوا، للزم أفضلية الزواج بدون الولي، وهذا يخالف ما عليه الحنفية من استحباب وجود الولي.

فالصحيح الذي لا يجوز خلافه أن الولي شرط في صحة النكاح كما ذهب إليه الجماهير، والله أعلم.

* فوائد:

1 -

أجاز أبو حنيفة -كما تقدم- للمرأة أن تزوِّج نفسها، لكنه جعل للولي حق فسخ العقد إذا تزوَّجت بغير كفءٍ!!

2 -

لا تزوِّج المرأة غيرها: ولا ينعقد العقد بعبارتها، لأنه لم يصحَّ منها عقدها وتزويجها لنفسها، فلا يصحُّ تزويجها لغيرها من باب أولى، ويؤيد هذا ما جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها أنكحت رجلًا من بني أخيها جارية من بني أخيها فضربت

(1) سورة البقرة: 232.

(2)

صحيح: أخرجه مسلم.

(3)

«أحكام الزواج» للأشقر (ص: 138).

ص: 138

بينهما بستر ثم تكلمت حتى إذا لم يبق إلا النكاح، أمرت رجلًا فأنكح ثم قالت:"ليس إلى النساء نكاح"(1).

3 -

ليس للوليِّ إجبار المرأة البالغة على الزواج:

(أ) إجبار الثيِّب:

"البالغ الثيِّب لا يجوز تزويجها بغير إذنها، لا للأب ولا لغيره، بإجماع المسلمين"(2).

ومما يدل على ذلك:

1 -

حديث خنساء بنت خذام الأنصارية "أن أباها زوَّجها، وهي ثيِّب، فكرهت، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فردَّ نكاحها"(3).

2 -

حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنكح الأيِّم حتى تستأمر ولا تنكح حتى تستأذن" قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال:"أن تسكت"(4).

3 -

حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس للولي مع الثيِّب أمر، واليتيمة تستأمر، وصمتها إقرارها"(5).

* فائدتان:

الأولى: من زالت بكارتها بالزنا فهي كالثيب في الزواج: فلا يجوز لوليِّها أن يجبرها على النكاح، وهذا مذهب الشافعي وأحمد وصاحبي أبي حنيفة، ومذهب أبي حنيفة نفسه ومالك أنها كالبكر، وسيأتي حكم إجبارها.

وإن زالت بكارتها بغير الوطء (بوثبة أو بإصبع أو نحو ذلك) فهي كالبكر عند الأئمة الأربعة (6).

(1) صححه الحافظ: أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 135)، والطحاوي في «شرح المعاني» (3/ 10)، وصححه في «الفتح» (9/ 186).

(2)

«مجموع فتاوى ابن تيمية» (32/ 39)، و «فتح الباري» (9/ 194 - المعرفة).

(3)

صحيح: أخرجه البخاري (5138)، وأبو داود (2101)، والنسائي (6/ 86)، وابن ماجة (1873).

(4)

صحيح: أخرجه البخاري (5136)، ومسلم (1419).

(5)

صحيح: أخرجه أبو داود (2100) وغيره، وهو في مسلم بلفظ «الأيم أحق بنفسها

» وقد تقدم.

(6)

«مجموع الفتاوى» (32/ 29)، وانظر:«فتح القدير» (3/ 270)، و «روضة الطالبين» (7/ 54)، و «المغني» (6).

ص: 139

الثانية: إذا زوَّج الولي الثيب بغير إذنها ثم أجازت العقد: فالعقد صحيح لا يحتاج إلى استئنافه من جديد، عند أكثر العلماء منهم أبو حنيفة ومالك ورواية عن أحمد.

وعند الشافعية -وهو رواية عن أحمد-: لا يصح العقد السابق بغير إذنها، ولابد من استئنافه (1).

(ب) إجبار البكر البالغة:

اختلف العلماء في البكر البالغة العاقلة، هل لوليِّها إجبارها؟ على قولين، أصحهما أنه لا يجوز له إجبارها كالثيب، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه ورواية عن أحمد، والأوزاعي والثوري وأبي عبيد وأبي ثور وابن المنذر، واختاره شيخ الإسلام (2) ودليلهم:

1 -

حديث ابن عباس أن جارية بكرًا أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له أن أباها زوَّجها وهي كارهة، فخيَّرها النبي صلى الله عليه وسلم" (3).

ونحوه من حديث جابر، وفيه: "

ففرَّق بينهما" (4).

2 -

قوله صلى الله عليه وسلم: "

ولا تنكح البكر حتى تستأذن .. " (5) وما في معناه.

3 -

ولأن تصرف الولي في بُضع وليته كتصرفه في مالها، فكما لا يتصرف في مالها إذا كانت رشيدة إلا بإذنها -وبُضعها أعظم من مالها- فكيف يجوز أن يتصرف في بُضعها مع كراهتها ورشدها؟! (6).

4 -

أن تزويجها مع كراهتها للنكاح مخالف للأصول والعقول، والله لم يُسوِّغ لوليها أن يُكرهها على بيع أو إجارة إلا بإذنها، ولا على طعام ولا شراب ولا

(1)«مجموع فتاوى شيخ الإسلام» (32/ 29).

(2)

«المغني» (16/ 491)، و «فتح الباري» (9/ 193)، و «المحلي» (9/ 458)، و «مجموع الفتاوى» (2/ 39).

(3)

حسن لشواهده: أخرجه أبو داود (2099)، وابن ماجة (1875)، وله شواهد عند الدارقطني (3/ 233 - 236)، والبيهقي (7/ 117)، قال الحافظ (9/ 196): إن طرقه يقوي بعضها بعضًا. اهـ.

(4)

يشهد له ما قبله: أخرجه النسائي في «الكبرى» .

(5)

صحيح: تقدم قريبًا.

(6)

«مجموع الفتاوى» (32/ 39).

ص: 140

لباس لا تريده، فكيف يكرهها على مباضعة ومعاشرة من تكره مباضعته وتكره معاشرته، والله قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة، فإذا كان لا يحصل إلا مع بغضها له ونفورها عنه، فأي مودة ورحمة في ذلك؟! (1).

5 -

"أن المرأة قد شُرع لها -إذا كرهت زوجها- الخلاصُ منه، فكيف يجوز تزويجها إياه ابتداء؟! "(2).

* فائدة: هذا إذا كان الولي هو الأب أو الجد، فإن كان الولي غيرهما كأخيها أو عمِّها فقد نقل شيخ الإسلام إجماع المسلمين على أن البكر البالغ ليس لغير الأب والجد تزويجها بدون إذنها (3).

(ج) إجبار الصغيرة:

اتفق العلماء -إلا من شذَّ (4) - على أن البكر الصغيرة التي لم تبلغ يجوز لأبيها أن يزوجها بدون إذنها، إذ لا معنى لاستئذان من لا تدري ما الإذن، ومن يستوي سكوتها وسخطها.

واستدلوا بأن أبا بكر رضي الله عنه زوَّج عائشة رضي الله عنها وهي صغيرة لم تبلغ، وحملوا قوله صلى الله عليه وسلم:" .. ولا تنكح البكر حتى تستأذن" على أن المراد بالبكر التي أمر باستئذانها: البالغ.

ولأن الصغر سبب الحَجْر بالنص والإجماع، فكان هو مناط الإجبار (5).

لكن إذا كانت الصغيرة ممن تعقل الزواج وتدري عنه وتفهم، فالظاهر أنها تستأذن كذلك، لدخولها في عموم الأبكار مع حصول المصلحة باستئذانها، والله أعلم.

* فائدة: هل يجبر الصغيرة غير الأب؟

ذكر شيخ الإسلام أن "الشرع لا يمكِّن غير الأب والجد من إجبار الصغيرة باتفاق الأئمة" اهـ (6).

(1)«السابق» (32/ 25).

(2)

«أحكام الزواج» (ص: 146) بتصرف يسير.

(3)

«مجموع الفتاوى» (32/ 24).

(4)

«فتح الباري» (9/ 98 - سلفية)، و «المغني» (6/ 487)، و «بداية المجتهد» (2/ 27).

(5)

«مجموع الفتاوى» (32/ 24).

(6)

«مجموع الفتاوى» (32/ 57).

ص: 141

قلت: لعله أراد الأئمة الثلاثة، فقد قال أبو حنيفة -والأوزاعي- في الثيب الصغيرة:"يزوِّجها كل ولي، فإذا بلغت ثبت لها الخيار"(1).

ويُستدل للجمهور بحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تُستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها"(2).

فاليتيمة: الصغيرة التي لم تحض، إذ لا يُتْم بعد احتلام، والتي مات أبوها.

4 -

عَضْل الولي عن النكاح:

تقدم أنه لا يجوز للولي أن يجبر المرأة على الزواج بمن تكره، وكذلك لا يجوز له عضلها، أي: منعها من الزواج بمن ارتضته المرأة إذا كان كُفؤًا لها.

قال الله تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف} (3). وقد تقدم ذكر سبب نزولها.

"وإذا عضل الولي موليته فإن الولاية تنتقل عنه إلى غيره، وقد ذهب الشافعي وأحمد في رواية عنه إلى أن الولاية تنتقل في حالة العضل إلى الحاكم، وذهب أبو حنيفة في المشهور عنه إلى أنها تنتقل إلى الأبعد بشرط أن يكون كُفؤًا، فإن امتنع الأولياء جميعًا عن تزويجها وعضلوها، فإن الولاية تنتقل إلى الحاكم قولًا واحدًا" اهـ (4).

قلت: الأقرب قول أبي حنيفة لما في حديث عائشة مرفوع: "فإن اشتجروا فإن السلطان ولي من لا ولي له"(5).

5 -

من هم الأولياء؟

أولياء المرأة الذين يحق له تزويجها هم العصبة، وهم أقاربها الذكور من جهة أبيها لا من جهة أمِّها، وهذا مذهب الجمهور، خلافًا لأبي حنيفة فعنده: أقارب أمها من الأولياء.

وقد اختلف أهل العلم في أحق الأولياء وترتيبهم (6):

(1)«فتح الباري» (9/ 98 - سلفية)، و «بداية المجتهد» (2/ 29).

(2)

صحيح: أخرجه أبو داود (2093)، والترمذي (1109)، والنسائي (6/ 85).

(3)

سورة البقرة: 232.

(4)

«مجموع الفتاوى» (32/ 37).

(5)

صحيح: وقد تقدم قريبًا.

(6)

«المحلي» (9/ 451)، و «البدائع» (2/ 251)، و «الكافي» لابن عبد البر (2/ 525)، و «روضة الطالبين» (7/ 87)، و «الإنصاف» (8/ 87)، و «فتح الباري» (9/ 187).

ص: 142

فعند الحنفية: أحقهم: أبناء المرأة ثم أبناءهم، ثم الأب ثم الجد، ثم الإخوة ثم أبناء الإخوة، ثم الأعمام ثم أبناء الأعمام.

وعند المالكية: أحقهم: الأبناء ثم أبناؤهم، ثم الأب، ثم الإخوة ثم أبناؤهم، ثم الجد.

وعند الشافعية: الأب ثم الجد، ثم الإخوة ثم أبناؤهم، ثم الأعمام ثم أبناؤهم.

وعند الحنابلة: الأب ثم الجد، ثم الأبناء ثم أبناؤهم، ثم الإخوة ثم أبناؤهم، ثم الأعمام ثم أبناؤهم.

قلت: الضابط في الولي: القرابة والحرص على مصلحة المرأة ورعايتها، ولا ريب أنَّ "الأب أقرب الأولياء، وهو أكثرهم حنوًا وشفقة ورأفة، ويليه الجد فإنه كالأب في مزيد حنوه ورأفته على بنات ابنه، وقد يزيد على الأب في ذلك"(1).

وقد كان الأب هو الذي يعقد نكاح ابنته في زمن النبوة -إذا كان موجودًا- كما فعل أبو بكر وعمر في تزويجهما عائشة وحفصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما كان منه صلى الله عليه وسلم في تزويج بناته، وهكذا كان عمل سائر الصحابة، ثم إذا عدم الأب والجد تولى ذلك الأقرب فالأقرب إلى المرأة.

فأرجح الأقوال -في نظري- قول الشافعية رحمهم الله ثم الحنابلة رحمهم الله لما تقدم ولأن الابن قد يأنف من تزويج أمه بخلاف الأخ والعم، والله أعلم.

* فائدة: إذا اختلف الأولياء الذين في رتبة واحدة:

كأن تَنَازَعَ أخوان للمرأة على الرجل الذي يريد كل واحد منهما أن يزوِّجه، فإن وافقت المرأة على أيٍّ من الزوجين فالحكم لمن سبق بالتزويج منهما، لحديث سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أيما امرأة زوَّجها وليان، فهي للأول منهما"(2).

أما إذا رفضت المرأة أحدهما فنكاحه لا يصح: لأن رضاها شرط.

فإن تمادى التنازع بين الأولياء، فللمرأة أن ترفع أمرها إلى القضاء، وللقاضي حق التزويج حينئذٍ كما قال صلى الله عليه وسلم:"فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له"(3).

(1)«السيل الجرار» (2/ 21).

(2)

ضعيف: أخرجه أبو داود (2088)، والترمذي (1110)، والنسائي (7/ 314).

(3)

صحيح: تقدم قريبًا.

ص: 143

* تزويج الولي الأبعد عند غيبة الأقرب أو عَضْلِه (1):

الأصل أنه لا يجوز إنكاح الولي الأبعد مع وجود الأقرب، فإن غاب الأقرب وكان في انتظاره تفويت لمصلحة المخطوبة، فإن الولاية تنتقل إلى الأبعد، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد ومالك.

وكذلك لو عضلها الولي الأقرب فمنعها من نكاح الكفء، فإن الولاية تنتقل إلى الأبعد في مذهب أبي حنيفة.

وإذا أذن الولي الأبعد وزوَّج المرأة، فليس من حق الولي الأقرب -بعد ذلك- الاعتراض على الزواج أو المطالبة بفسخه.

* هل يجوز للولي أن يوكِّل غيره، أو يوصيه بالتزويج؟

1 -

يجوز للولي أن يوكِّل غيره في تزويج من يلي أمرها من النساء، ويثبت للوكيل -حينئذٍ- ما يثبت للولي.

2 -

وأما وصيته بالتزويج بعد موته لغيره، فأصحُّ قولي العلماء أنه لا يجوز له ذلك، فلا تستفاد الولاية بالوصية "لأن المُوصي قد انقطعت ولايته بموته، مع كون الحنو والرأفة اللذين هما سبب جعل الولي وليّا معدومين فيهما"(2).

وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي ورواية عن أحمد والثوري والنخعي وابن المنذر وابن حزم والشوكاني (3).

6 -

ما يشترط في الولي (4):

(أ) الإسلام: إذ لا ولاية لكافرٍ على مسلمة، قال الله تعالى:{والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} (5).

وقال سبحانه: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} (6).

(1)«المغني» (9/ 385) ط. الكتاب العربي، و «بداية المجتهد» (2/ 37)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 31).

(2)

«السيل الجرار» (2/ 21).

(3)

«المحلي» (9/ 463)، و «المغني» (9/ 365)، و «بداية المجتهد» (2/ 36)، و «السيل الجرار» (2/ 21).

(4)

«البدائع» (2/ 239)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 36) والمراجع السابقة.

(5)

سورة التوبة: 71.

(6)

سورة الأنفال: 73.

ص: 144

وقال عز وجل: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا} (1).

وهذا قول عامة أهل العلم، قال ابن المنذر:"أجمع كل من نحفظ عنه على هذا" اهـ.

(ب) الذكورة: وهي شرط بالإجماع.

(جـ) العقل: لأن من لا عقل له لا يستطيع أن يراعي مصلحة نفسه، فكيف يمكنه أن يراعي مصلحة غيره.

(د) البلوغ: وهو شرط عند أكثر أهل العلم.

(هـ) الحرية: شرط عند أكثر أهل العلم، لأن العبد لا ولاية له على نفسه فعدم ولايته على غيره أولى.

وقد اشترط الشافعي -وهو رواية عن أحمد- العدالة في الولي، قال: لأنه لا يؤمَن مع عدم العدالة أن لا يختار لها الكفء.

وقال الجمهور: لا تشترط العدالة، لأن الحالة التي يختار فيها الولي الكفء لموليته غير حالة العدالة، وهي خوف لحوق العار بهم، وهذه هي موجودة بالطبع.

ثم إن هذه ولاية نظر، والفسق لا يقدح في القدرة على تحصيل النظر، ولا في الداعي إليه وهو الشفقة، وكذا لا يقدح في الوراثة فلا يقدح في الولاية على غيره كالعدل.

* هل للولي أن يزوِّج نفسه من مُوليته؟ (2)

* ذهب الجمهور، منهم: الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالك والليث وابن حزم وغيرهم إلى أن من وَلِيَ أمر امرأة -ولم يكن من محارمها- يجوز له أن يزوِّجها من نفسه إذا رضيت به، ولا يحتاج إلى غيره ليزوجه، ويُستدل لهم بما يأتي:

1 -

قول الله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم

} (3).

فمن أنكح أيِّمة نفسه برضاها فقد فعل ما أمره الله به، ولم يمنع الله عز وجل من أن يكون المُنكح لأيمة هو الناكح لها.

2 -

حديث أنس بن مالك "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها"(4).

(1) سورة النساء: 141.

(2)

«المحلي» (9/ 473)، و «بداية المجتهد» (2/ 40)، و «فتح الباري» (9/ 94 - سلفية).

(3)

سورة النور: 32.

(4)

صحيح: أخرجه البخاري (4200)، ومسلم (1365).

ص: 145

فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم زوَّج مولاته من نفسه، وهو الحجة على من سواه!!

3 -

عن عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن

} (1): "هي اليتيمة تكون في حجر الرجل قد شركته في ماله فيرغب عنها أن يتزوجها، ويكره أن يزوِّجها غيره فيدخل عليه في ماله، فيحبسها، فنهاهم الله عن ذلك"(2).

فقولها "فرغب عنها أن يتزوجها" أعم من أن يتولى ذلك بنفسه أو يأمر غيره فيزوِّجه.

4 -

عن سعيد بن خالد أن أم حكيم بنت قارظ قالت لعبد الرحمن بن عوف: إنه قد خطبني غير واحد، فزوجني أيهم رأيت، قال: وتجعلين ذلك إليَّ؟ قالت: نعم، قال: قد تزوجتك (3).

* وذهب الشافعي وداود إلى أنه لا يجوز أن يزوِّج نفسه من موليته، بل يزوِّجه غيره، ووجه ذلك:

1 -

أن الأصل عند الشافعي في أنكحة النبي صلى الله عليه وسلم أنها على الخصوص حتى يدل الدليل على العموم، لكثرة خصوصياته صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى، فلا يتم -على أصله- الاستدلال بحديث صفية.

2 -

لا يجوز أن يكون الناكح هو المنكح قياسًا على الحاكم والشاهد!!

قلت: والقول بالجواز أظهر لعدم الدليل على المنع، وأما زواج صفية، فعلى فرض أن أنكحة النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوص -وهذا مُسلَّم- فأحاديث الترغيب في الزواج بالأمة بعد تأديبها وإعتاقها مقتضية لعموم الحكم.

وأما دعوى عدم جواز أن يكون الناكح هو المنكح، فقال ابن حزم: "ففي هذا نازعناهم، بل جائز أن يكون الناكح هو المنكح، فدعوى كدعوى!!، وأما قولهم: كما لا يجوز أن يبيع من نفسه، فهي جملة لا تصح كما ذكروا، بل جائز إن وكل ببيع شيء أن يبتاعه لنفسه إن لم يُحابها بشيء

" اهـ.

(1) سورة النساء: 127.

(2)

صحيح: أخرجه البخاري (5131) وغيره وقد تقدم.

(3)

علَّقه البخاري بصيغة الجزم (9/ 94 - سلفية) ووصله ابن سعد في «الطبقات» (8/ 472) بسند لا بأس به إلى أم حكيم، وليس لها رواية عن النبي ق وإنما عن أزواجه ولم يزد ابن سعد في التعريف بها على ما في الخبر وذكرها في أزواج عبد الرحمن بن عوف.

ص: 146

قلت: وأما القياس على الحاكم والشاهد فقياس مع الفارق

الشرط الثاني: رضا المرأة قبل الزواج:

وقد تقدم فيما مضى أنه ليس للولي أن يجبر المرأة على الزواج بمن تكره -علي تفصيل ذكرناه- فإن أكرهها ولم تكن راضية، فلها أن ترفع أمرها إلى القاضي، وله أن يفسخ العقد.

الشرط الثالث: الصَّداق (المهر) إمَّا مفروضًا أو مسكوتًا عنه:

فلو اتفق الزوجان على إسقاط المهر، فهو نكاح فاسد، فالمهر لابد منه في النكاح إما مسمَّى مفروضًا أو مسكوتًا عن فرضه، وفي هذه الحالة يكون للمرأة مهر مثلها وجوبًا.

واشتراط المهر في النكاح هو مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام (1). ووجه ذلك ما يلي:

1 -

قوله تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} (2). ومعنى نحلة: وجوبًا وحتمًا، في قول أكثر المفسِّرين (3).

2 -

قوله تعالى: {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة

} (4).

3 -

قوله سبحانه: {ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن

} (5).

فعلَّق إباحة النكاح بإتيانهن المهور، وهو يفيد الشرطية.

4 -

قوله تعالى: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين} (6).

فجعل الزواج بلا مهر من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وليس لأحد غيره.

(1)«القوانين» (174)، و «الخرشي» (3/ 172)، و «بداية المجتهد» (2/ 43)، ونقل هناك الاتفاق على أنه شرط!! ولعله أراد المالكية، و «الإنصاف» (8/ 165)، و «مجموع الفتاوى» (29/ 344).

(2)

سورة النساء: 4.

(3)

انظر «القرطبي» ، و «ابن كثير» (سورة النساء: 40).

(4)

سورة النساء: 24.

(5)

سورة الممتحنة: 10.

(6)

سورة الأحزاب: 50.

ص: 147

5 -

حديث ابن عباس أن عليًّا قال: تزوَّجتُ فاطمة رضي الله عنها فقلت: يا رسول الله، ابْنِ بي، قال:"أعطها شيئًا" قلت: ما عندي من شيء، قال:"فأين درعك الحطمية؟ ". قلت: هي عندي، قال:"فأعطها إياه"(1).

6 -

حديث سهل بن سعد -في قصة الواهبة- وفيه: فقام رجل فقال: يا رسول الله، زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هل عندك من شيء تصدقها إياه؟ ". فقال: ما عندي .. فقال صلى الله عليه وسلم: "التمس ولو خاتمًا من حديد"

[ثم قال في آخره]: "زوجتكها بما معك من القرآن"(2).

7 -

ما روي عن عائشة قالت: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أُدخل امرأة على زوجها قبل أن يعطيها شيئًا"(3).

فهذه النصوص تفيد ظواهرها أن تسمية المهر وقبضه شرط في صحة النكاح، لكن لما قال الله تعالى:{لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} (4). دلَّ ذلك على صحة النكاح بدون تسمية المهر وقبل قبضه -وهذا مجمع عليه (5) - وبقي اشتراط المهر -وإن لم يُفرض- على الأصل.

* وذهب الجمهور: أبو حنيفة والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى إلى أن اشتراط نفي المهر لا يُبطل النكاح، ويجب للمرأة حينئذٍ مهر المثل!! (6).

قلت: ولعلَّ وجه هذا عندهم أنه يصح العقد بلا تقدير للمهر، فيصح مع نفي المهر!!

لكن الأظهر القول الأول، قال شيخ الإسلام (29/ 344): "من قال: المهر ليس بمقصود، فإنه قول لا حقيقة له، فإنه ركن في النكاح، وإذا شُرط فيه كان

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (3125)، والنسائي (6/ 129).

(2)

صحيح: أخرجه البخاري (5149)، ومسلم (1425).

(3)

فيه ضعف: أخرجه أبو داود (2128) من طريق خيثمة بن عبد الرحمن عن عائشة وفي سماعه منها نظر.

(4)

سورة البقرة: 236.

(5)

نقله شيخ الإسلام (29/ 352)، وابن قدامة في «المغني» (6/ 680).

(6)

«فتح القدير» (3/ 324)، و «مغني المحتاج» (3/ 229)، و «الإنصاف» (8/ 165)، و «كشاف القناع» (5/ 144).

ص: 148

أوكد من شرط الثمن لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن أحق الشروط أن توفوا به: ما استحللتم به الفروج"(1).

والأموال تُباح بالبدل، والفروج لا تُستباح إلا بالمهور، وإنما ينعقد النكاح بدون فرضه وتقديره -لا مع نفيه- والنكاح المطلق ينصرف إلى مهر المثل .... فلابد من مهر مسمى مفروض أو مسكوت عن فرضه" اهـ.

قلت: وسيأتي مزيد بيان لبعض المسائل المتعلقة بالصداق قريبًا، إن شاء الله.

الشرط الرابع: الإشهاد أو الإعلان:

وبهذا الشرط يتميَّز النكاح من السفاح، وقد اختلف أهل العلم فيما يشترط في صحة النكاح: الإشهاد أم الإعلان؟ أم كلاهما؟ أم أحدهما؟ أم لا شيء منهما؟ فهذه خمسة أقوال (2):

الأول: الإشهاد شرط، والإعلان مستحب: وهذا مذهب الجمهور: أبي حنيفة ومالك -والمعتمد عند المتأخرين- والشافعي ورواية عن أحمد، وبه قال النخعي والثوري والأوزاعي.

1 -

واحتجوا بزيادة وردت في حديث: "لا نكاح إلا بولي [وشاهدي عدل] " لكن زيادة "وشاهدي عدل" ضعيفة من كل الطرق لكن صححها بعض العلماء (3).

لكن قال الشافعي رحمه الله (4): "وهذا وإن كان منقطعًا دون النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أكثر أهل العلم يقول به، ويقول: الفرق بين النكاح والسفاح الشهود" اهـ.

وقال الترمذي عقب الحديث: "والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين وغيرهم، قالوا: لا نكاح إلا بشهود، لم يختلف في ذلك من مضى منهم، إلا قومًا من المتأخرين من أهل العلم

" اهـ المقصود.

(1) صحيح: أخرجه البخاري (5151)، ومسلم (1418).

(2)

«فتح القدير» (3/ 199)، و «البدائع» (3/ 376)، و «ابن عابدين» (3/ 8)، و «بداية المجتهد» (2/ 42)، و «الدسوقي» (2/ 216)، و «روضة الطالبين» (7/ 45)، و «نهاية المحتاج» (6/ 217)، و «المغني» (7/ 239)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 127)، و «الاستذكار» (16/ 214)، و «المحلي» (9/ 465).

(3)

انظر هذه الطرق ووجه ضعفها في «جامع أحكام النساء» (3/ 322)، وقد صححها العلامة الألباني في «الإرواء» (6/ 258) فليراجع.

(4)

«الأم» (2/ 168).

ص: 149

2 -

وبما يُروى عن عائشة مرفوعًا: "كل نكاح لم يحضره أربعة فهو سفاح: خاطب، وولي، وشاهدان"(1) وهو منكر لا يحتج به.

3 -

ما يُروى عن ابن عباس مرفوعًا: "البغايا: اللاتي يزوِّجن أنفسهن بغير بيِّنة"(2).

4 -

قول ابن عباس: "لا نكاح إلا بشاهدي عدل وولي مرشد"(3).

قلت: فرأوا أن هذه الأحاديث يقوِّي بعضها بعضًا، وأن النفي في قوله:"لا نكاح" يتوجَّه إلى الصحة، وذلك يستلزم أن يكون الإشهاد شرطًا.

الثاني: الإعلان شرط، والإشهاد مستحب: وهذا هو الصحيح عن مالك ورواية عن أحمد وبعض الأحناف، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، قالوا: فلو زوَّجها الولي ولم يكن بحضرة شهود، ثم أُعلن النكاح وشاع بين الناس فقد صحَّ النكاح وحصل المقصود:

1 -

لأن المأمور به هو الإعلان، كما قال صلى الله عليه وسلم:"أعلنوا النكاح"(4). والمقصود من النكاح: الإظهار والإعلان ليتميز من السر الذي هو الزنا، وهذا أعمُّ من الإشهاد فإذا تحقق الإعلان فليس ثم حاجة إلى الإشهاد، فإن تعذَّر الإعلان -على هذا النحو الواسع- كان الإشهاد واجبًا لأنه القدر الممكن من الإعلان.

2 -

ولأن المسلمين ما زالوا يزوِّجون النساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم بالإشهاد، وليس في اشتراط الشهادة في النكاح حديث ثابت، ولا في الصحاح، ولا في السنن ولا في المسانيد.

3 -

من الممتنع أن يكون الذي يفعله المسلمون دائمًا له شروط لم يبيِّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مما تعم به البلوى، فجميع المسلمين يحتاجون إلى معرفة هذا، وإذا كان شرطًا كان ذكره أولى من ذكر المهر وغيره، مما لم يكن له ذكر في كتاب الله ولا حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

4 -

أن الشهود قد يموتون، أو تتغير أحوالهم، وهم يقولون: مقصود الشهادة

(1) منكر: أخرجه الدارقطني (3/ 224) وفي سنده مجهول.

(2)

أخرجه الترمذي.

(3)

صححه الألباني موقوفًا. وانظر «الإرواء» (6/ 235، 251).

(4)

صححه الألباني بهذا اللفظ: وأخرجه الترمذي بسياق أطول وهو في «الضعيفة» (978) وعلى كل فاللفظ المذكور كذلك يحتاج تصحيحه إلى شيء من النظر فليحرر.

ص: 150

إثبات الفراش عند التجاحد، حفظًا لنسب الولد، فيقال: هذا حاصل بإعلان النكاح، ولا يحصل بالإشهاد مع الكتمان مطلقًا.

5 -

واستُدل لهم بإعتاق النبي صلى الله عليه وسلم صفية وزواجه بها بغير شهود، فعن أنس قال: "اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم جارية بسبعة أرؤس، فقال الناس: ما ندري أتزوَّجها رسول الله

صلى الله عليه وسلم أم جعلها أم ولد؟ فلما أراد أن يركب حجبها، فعلموا أنه تزوجها" (1) وأجاب الأولون:

بأن زواجه صلى الله عليه وسلم من غير شهود خصوصية له، فقد أباح الله له الزواج من الواهبة بغير مهر، فلأن يتزوج بغير شهود أصح من باب أولى.

6 -

أن البيوع التي أمر الله فيها بالإشهاد قد قامت الأدلة على أنه ليس من فرائض البيع، فالنكاح الذي لم يذكر الله فيه الإشهاد أحرى أن لا يكون الإشهاد فيه من شروطه.

الثالث: يُشترط الإعلان والإشهاد: وهو الرواية الثالثة عن أحمد.

الرابع: يُشترط أحدهما: وهو الرواية الرابعة عن أحمد وبه قال ابن حزم.

الخامس: لا يشترط الإعلان ولا الإشهاد: وهو قول شاذ منقول عن ابن أبي ليلى وأبي ثور وغيرهما.

قلت: خلاصة ما تقدم أن يقال:

1 -

اتفق أهل العلم على بطلان النكاح الذي يتم بغير شهود ولا إعلان (2).

2 -

واتفقوا على صحة النكاح الذي يشهد عليه رجلان فصاعدًا، ويتم الإعلان عنه (3).

3 -

اختلفوا في صحة النكاح الذي شهد عليه الشهود ولم يُعلن للناس، وفي الذي أعلن عنه ولم يحضره الشهود، على النحو المتقدم، والأقرب: أن الشرط هو الإعلان إن لم يحضر الشهود، لكن الإشهاد أحوط لما فيه من الحفاظ على حقوق الزوجة والولد، لئلا يجحده أبوه فيضيع نسبه، لاسيما وأن هذه الشهادة تدوَّن في "قسيمة الزواج" ولا تُسجل وتوثَّق -رسميًّا- في هذه الأيام -إلا إذا أُشهد على العقد، ولا يخفى أهمية هذا التوثيق في هذا الزمان الذي خربت فيه الذمم وضعف فيه الإيمان في النفوس.

(1) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1365).

(2)

، (2) انظر «مجموع الفتاوى» (32/ 130)، (33/ 158).

(3)

«البدائع» (2/ 253)، و «الحاوي» (11/ 86)، و «المغني» (9/ 349)، و «المحلي» (9/ 465)، وانظر «أحكام الزواج» للأشقر (ص: 170 - 173).

ص: 151