الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: وهذا هو الأرجح، لأن الكفارة لزمته قبل الموت، فاستقر في ذمته، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«فدين الله أحق أن يُقضى» (1) والله أعلم.
اللِّعان
تعريف اللِّعان:
اللعان: من اللِّعن، وهو الإبعاد والطرد من الخير، واللِّعان والملاعنة: اللعن بين اثنين فصاعدًا، وتلاعن القوم: لعن بعضهم بعضًا.
واللعان في اصطلاح الشرع: «حلف الزوج - بألفاظ مخصوصة - على زنى زوجته، أو نفي ولدها منه، وحلف الزوجة على تكذيبه فيما قذفها به» (2).
مشروعية اللعان:
ثبتت مشروعية اللعان بالكتاب والسنة والإجماع:
1 -
2 -
وأما السنة فمنها:
(أ) حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: أن عويمر أتى عاصم بن عدي وكان سيد بني عجلان فقال كيف تقولون في رجل وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع سل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم -عن ذلك فأتى عاصم النبي صلى الله عليه وسلم -فقال يا رسول الله - فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم -المسائل - فسأله عويمر فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كره المسائل وعابها قال عويمر والله لا أنتهي حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم -عن ذلك فجاء عويمر فقال يا رسول الله رجل وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع فقال رسول صلى الله عليه وسلم: «قد أنزل الله قرآن فيك وفي صاحبتك» فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم -بالملاعنة بما سمى الله في كتابه فلاعنها ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -إن حبستها فقد ظلمتها فطلقها فكانت سنة لمن كان بعدهما في المتلاعنين ثم قال
(1) صحيح: أخرجه البخاري (6699)، والنسائي (5/ 116).
(2)
«المفصل» (8/ 321) بمعناه.
(3)
سورة النور: 6 - 9.
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انظروا فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين خدلج الساقين فلا أحسب عويمرًا إلا قد صدق عليها وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة فلا أحسب عويمرا إلا قد كذب عليها» فجاءت به على النعت الذي نعت به رسول الله صلى الله عليه وسلم -من تصديق عويمر فكان ينسب إلى أمه (1).
(ب) حديث ابن عباس: أن هذال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم -بشريك ابن سحماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «البينة أو حدٌّ في ظهرك» فقال يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلًا ينطلق يلتمس البينة؟! فجعل النبي صلى الله عليه وسلم -يقول: «البينة وإلا حدٌّ في ظهرك» فقال هلال والذي بعثك بالحق إني لصادق فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد فنزل
جبريل وأنزل عليه {والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} فقرأ حتى بلغ {إن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم -فأرسل إليها فجاء هلال فشهد والنبي صلى الله عليه وسلم -يقول: «إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب» ثم قامت فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا إنها موجبة قال ابن عباس فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ثم قالت لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك ابن سحماء» فجاءت به كذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن» (2).
3 -
وأما الإجماع: فقد نقل الحافظ في «الفتح» (9/ 440 - المعرفة) الإجماع على مشروعيته.
هل يجب على الزوج اللِّعان؟
إذا تيقَّن الزوج أن زوجته زنت - بأن رآها تزني - أو أن حملها أو ولدها الذي جاءت به على فراشه ليس منه - فيجب عليه أن يقذفها بنفي نسب الولد أو ذلك الحمل منه، لأن ترك النفي يستلزم استلحاقه، واستلحاق من ليس منه حرام.
وإنما يُعلم أن الولد ليس منه إذا لم يطأ زوجته أصلًا، أو وطئها ولكن ولدته لأقل من ستة أشهر من الوطء (3).
(1) صحيح: أخرجه البخاري (4745)، ومسلم (1492).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (4747)، وأبو داود (2237)، والترمذي (3229)، وابن ماجه (2067).
(3)
«الدسوقي» (2/ 457)، و «مغنى المحتاج» (3/ 373)، و «المغنى» (7/ 420).
وأما إذا لاعن الزوج بقذف زوجته بناء على شكوك وظنون فاسدة لا تصلح دليلًا شرعيًا ولا قرينة معتبرة على ما يقذفها به من الزنى، فإن اللعان حينئذ يكون محرَّمًا، لأن القذف من الكبائر، فينبغي على الزوج أن يتريَّث ولا يستعجل إذا رأى بعض ما يثير الشكوك والظنون حول سلوك زوجته، وأن يفحص ما يسمعه ويراه فحصًا موضوعيًّا بدون انفعال ولا غضب، حتى يتثبت من الأمر، مستحضرًا أن الأصل في الزوجة المسلمة العفة والنزاهة والبراءة مما يشاع عنها (1).
وإذا كان نفى الولد - بناء على الشكوك والظنون الفاسدة - محرَّمًا، فلا ريب أن جحده لولده مع علمه أنه ولد محرَّم من باب أولى.
شروط صحة اللِّعان (2):
أولًا: شرط يرجع إلى القاذف (الزوج): عدم إقامة البيِّنة:
يشترط في القاذف أن لا يقيم البيِّنة على ما رمى به زوجته من الزنى حتى يجوز اللعان، لأن الله تعالى شرط ذلك في آية اللعان، بقوله تعالى:{والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ولَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إلَاّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (3).
ولذا فلو أقام أربعة من الشهود على المرأة بالزنى لما جاز اللعان، ولوجب إقامة حد الزنى عليها (4).
وإن قدر على إقامة البينة، فإن له أن لا يقدِّم البينة (الشهود) ويطلب اللعان، وإنما كان له ذلك، لأن البيِّنة واللعان، بيّنتان في إثبات حق الزوج، فجاز إقامة كل واحدة منهما مع القدرة على الأخرى (5).
متى يجوز اللعان مع إقامة البيِّنة؟
ما تقدم من اشتراط عدم إقامة البينة لصحة اللعان مختص بما إذا كان اللعان بسبب قذفه لها بالزنى، وأما إذا كان لنفي نسب ولدها منه، فيجوز له - مع إقامة
(1)«المفصَّل» (8/ 325 - 326) بتصرف، وانظر «المجموع» (16/ 385)، و «المغنى» (7/ 420).
(2)
انظر «المفصَّل» (8/ 330 - 363) ففيه بحث مستفيض.
(3)
سورة النور: 6.
(4)
«بديع الصنائع» (3/ 240).
(5)
«المجموع» (16/ 388).
البينة - اللِّعان، لأن النسب لا ينتفي بالبيِّنة، وإنما ينتفي باللعان، إذ الشهود لا سبيل لهم إلى العلم بأن هذا الولد ليس منه، وإن أراد أن يثبت الزنى بالبينة، ثم يلاعن لنفي الولد جاز له ذلك (1).
ثانيًا: شروط ترجع إلى المقذوف (الزوجة):
[1]
إنكارها للزنى: فلو أقرَّت بالزنى، فيلزمها الحد -حدُّ الزنى- لظهور زناها بإقرارها، ولا تلاعن حينئذ، لأن اللعان كالبينة إنما يقام مع الإنكار.
لكن لا يثبت إقرارها إلا إذا أقرت بالزنى أربع مرات (2).
[2]
عفَّتها عن الزنى: فإن لم تكن الزوجة المقذوفة عفيفة لم يجب اللعان بقذفها، لأنها إذا لم تكن عفيفة فقد صدَّقته بفعلها، فصار كما لو صدَّقته بقولها (3).
ثالثًا: شروط ترجع إلى القاذف والمقذوف جميعًا:
[1]
قيام الزوجية: فإن الله تعالى خصَّ الأزواج بهذا الحكم، وجعل لعانهم قائمًا مقام البينة على ما قذف به زوجته، قال تعالى: {والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ
…
} (4). فلذا فإنه يصح اللعان بين الزوجين بنكاح صحيح، سواء كانت الزوجة مدخولًا بها أو غير مدخول بها، وعلى هذا إجماع أهل العلم (5).
فإن كانت زوجته في نكاح فاسد فله أن يلاعن لنفي نسب ولدها منه، على الأرجح، وإن لم يكن ولد يريد نفيه فلا حدَّ في قذفه ولا لعان بينهما، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة (6). ووجه جواز اللعان في هذه الحالة، أن الغرض منه نفي الولد، والنسب يثبت في النكاح الفاسد، فكان - من هذه الجهة - كالنكاح الصحيح، فيجري فيه اللعان من هذه الجهة.
فائدة: المطلَّقة الرجعية، يصح لعانها ما دامت في العدة، لأنها في حكم الزوجة - كما تقدم - وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد، والحنفية (7).
(1)«المجموع» (16/ 389).
(2)
«البدائع» (3/ 241)، و «المغنى» (7/ 446).
(3)
«البدائع» (3/ 241).
(4)
سورة النور: 6.
(5)
«المغنى» (7/ 393)، و «تفسير القرطبي» .
(6)
«البدائع» (3/ 241)، و «المغنى» (7/ 400).
(7)
«البدائع» (3/ 241)، و «المغنى» (7/ 401).
[2]
شروط أخرى في الزوجين اختلف فيها العلماء، بسبب اختلافهم في حقيقة اللعان: هل هو يمين أو شهادة؟ فقال الجمهور: اللعان يمين بلفظ الشهادة ومن ثم قالوا: يصح اللعان من كل الزوجين مكلَّفين سواءً كانا مسلمين أو كافرين، أو عدلين أو فاسقين، أو محدودين في قذف أو كان أحدهما كذلك.
وقال الحنفية - ومعه: الثوري والزهري والأوزاعي-: اللعان شهادة، فلا يصح عندهم إلا من زوجين مسلمين عدلين حرَّين غير محدودين في قذف (1).
قلت: لكل من القولين مأخذه (2)، لكن الذي يبدو أن اللعان يمين مؤكدة بشهادة، لما يأتي:
1 -
أنه يفتقر إلى اسم الله، وإلى ذكر القسم المؤكد وجوابه، كما قال تعالى:{أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (3).
2 -
أنه يستوي فيه الذكر والأنثى بخلاف الشهادة.
3 -
أنه لو كان شهادة لما تكرر لفظه بخلاف اليمين.
4 -
أن حاجة الزوج التي لا تصحُّ منه الشهادة إلى اللعان ونفي الولد، كحاجة من تصح منه الشهادة سواء، والأمر الذي ينزل به مما يدعو إلى اللعان كالذي ينزل بالعدل الحر، والشريعة لا ترفع ضرر أحد النوعين، وتجعل له فرجًا ومخرجًا مما نزل به، وتدع الآخر في الآصار والأغلال، ولا فرج له مما نزل به، ولا مخرج، إن تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثله، قد ضاقت عنه الرحمة التي وسعت من تصح شهادته، وهذا تأباه الشريعة الحنيفية السمحة.
قلت: ويدل على هذا عموم قوله: {والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} (4).
وأما تسمية اللعان شهادة، فلقول الملاعن في يمينه:«أشهد بالله» فسمى ذلك شهادة وإن كان يمينًا، كما قال تعالى:{إذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} (5).
(1)«البدائع» (3/ 242)، و «المبسوط» (7/ 40)، و «نهاية المحتاج» (7/ 97). و «المغنى» (7/ 392)، «المحلى» (10).
(2)
انظر «زاد المعاد» لابن القيم (5/ 359) وما بعدها ففيه بحث نفيس.
(3)
سورة النور: 6.
(4)
سورة النور: 6.
(5)
سورة المنافقون: 1
يصح لعان الأخرس والخرساء: إذا كانت إشارتهما مفهومة ويحسنان التعبير بها قذفًا ولعانًا، وكذا بكتابتهما إن كانا يحسنان الكتابة؛ لأن الحاجة تدعو الزوج إلى اللعان، ولا سبيل إليه إلا بإشارته أو كتابته، فينبغي قبول ذلك منه كما في طلاقه، وبهذا قال الجمهور خلافًا للحنفية (1).
رابعًا: شروط ترجع إلى المقذوف به: يجري اللعان بسبب قذف الرجل لزوجته بأحد شيئين:
[1]
بالزنى فقط (بغير نفي الولد):
فيشترط أن يقذفها بلفظ صريح في دلالة على الزنا كقوله (يا زانية- أو: أنت زنيت- أو: رأيتك تزنين) ونحو ذلك، فإن قذفها بلفظ كنائي كقوله: يا فاسقة أو يا خبيثة مما يحتمل الزنى وغيره، لم يعتبر قذفًا ولم يستوجب حدًّا ولا لعانًا.
ويشترط في الفعل الذي قذفها من أجله أن يكون زنى شرعًا، بمعنى أنه فعل يجب به الحد أو القذف.
[2]
بنفي الولد أو الحمل:
ويشترط في القذف بنفي النسب أن يكون بصيغة صريحة الدلالة عليه، كأن يقول:(هذا الولد من الزنى- أو: هذا الولد ليس منِّي).
فإن عرَّض بذلك ولم يصرِّح فلا يعتبر قذفًا لزوجته بنفي ولدها، لحديث أبي هريرة قال:«جاء رجل من بني فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم -فقال: إن امرأتي ولدت غلامًا أسود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هل لك من إبل؟» قال: نعم، قال:«ما ألوانها؟» قال: حُمر، قال:«هل فيها من أورق؟» (2) قال: إن فيها لورقًا، قال:«فأني آتاها ذلك؟» قال: «عسى أن يكون نزعه عِرْق» (3)، قال:«وهذا عسى أن يكون قد نزعه عِرق» (4).
قال النووي: فيه أن التعريض بنفي الولد ليس نفيًا وأن التعريض بالقذف ليس قذفًا، وهو مذهب الشافعي وموافقيه. اهـ. ونسب ابن حجر في «الفتح» (9/ 443) هذا القول إلى الجمهور.
(1)«البدائع» (3/ 241)، و «مغنى المحتاج» (3/ 376)، و «كشاف القناع» (3/ 242)، و «المحلي» (10/ 143).
(2)
أي: الذي فيه سواد ليس بصاف.
(3)
يعني: هذا اللون موجود في أصوله البعيدة، فأشبهه.
(4)
صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم.
ويصحُّ قذف الزوج زوجته بنفي حملها حال الحمل، كما يصحُّ ملاعنتها أثناء الحمل - في أصح قولي العلماء- لما تقدم في حديث سهل بن سعد في قصة لعان عويمر-: «قال سهل: وكانت - أي زوجة عويمر - حاملًا، وكان ابنها يدعي إلى أمه
…
» الحديث (1) وكذلك في حديث لعان هلال ابن أمية (2).
وبهذا قال الشافعية والمالكية واختاره ابن قدامة من الحنابلة (3)، لكن لو أخرَّ قذفه ولعانة إلى أن تضع حملها، حتى يتيقَّن من حملها فقد يكون انتفاخ بطنها لعلة غير الحمل، لكان أولى، إلا أنه لو تيقَّن من حملها عن طريق الكشف بالوسائل الحديثة، فالحكم كما تقدم.
خامسًا: شروط ترجع إلى وصف القذف:
فيشترط أن يكون القذف منجزًا: لا معلقًا على شرط ولا مضافًا إلى وقت مستقبل، لأن ذكر الشرط أو الوقت يمنع وقوعه قذفًا في الحال، وعند وجود الشرط أو الوقت يجعل كأنه نجَّز القذف، كما في سائر التعليقات، والإضافات، فكان قاذفًا تقديرًا مع انعدام القذاف حقيقة، فلا يجب الحد - أي حد القذف - وبالتالي لا يجب اللعان (4).
فلو قال لزوجته (إن دخلت الدار فأنت زانية، أو: أنت زانية من الغد) لم يعتبر قذفًا يستوجب اللعان، لأنه غير مُنجَّز.
سادسًا: أن يُجرَى اللعان بحضرة القاضي وأمره:
فلا يصحُّ اللعان إلا بحضرة القاضي وأمره أو من يقوم مقامه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم -أمر هلال أبن أمية أن يأتي بزوجته، فتلاعنا بحضرته صلى الله عليه وسلم، ولأن اللعان إما يمين وإما شهادة - وقد تقدم تحريره- فأيهما كان فمن شروطه أن يكون أمام القاضي، لأن اليمين والشهادة لا تؤديَّان إلا بحضرته، وبهذا قال الشافعية والحنابلة (5).
وإن تراضيا بغير القاضي ليلاعن بينهما صح عند الشافعية -إذا لم يكن ينفي الولد - ولم يصحَّ عند الحنابلة بحال، وهو الأقرب، والله أعلم.
(1)، (5) تقدم الحديثان في أول الباب.
(2)
«البدائع» (3/ 240)، و «الصاوي» (1/ 492)، و «المغني» (7/ 423)، و «المجموع» (16/ 415) ..
(3)
«بدائع الصنائع» (3/ 243)، و «المبسوط» (7/ 46).
(4)
(5)
«مغنى المحتاج» (3/ 376)، و «المغنى» (7/ 434).
كيفية إجراء اللِّعان (1):
المتحصَّل من النصِّ القرآني، والأحاديث الثابتة في الباب، أن صفة اللعان كالآتي:
1 -
يُسنُّ التلاعن بمحضر جماعة من الناس يشهدونه: فإن ابن عباس وسهل ابن سعد وابن عمر، حضروه مع حداثة أسنانهم، فدلَّ على أنه حضره جمع كثير، فإن الصبيان إنما يحضرون مثل هذا تبعًا للرجال، وقد قال سهل: «
…
فتلاعنا وأنا مع الناس عند النبي صلى الله عليه وسلم
…
» (2).
وحكمة هذا - والله أعلم - أن اللعان بُني على التغليظ مبالغة في الردع والزجر، وفعله في الجماعة أبلغ في ذلك.
2 -
ويكون الزوجان قائمين عند التلاعن، ليشاهدهما الحاضرون فيكون أبلغ في شهرته وأوقع في النفوس، وفي حديث المرأة الملاعنة: «
…
ثم قامت فشهدت
…
» (3).
3 -
يبدأ القاضي بتذكيرهما بالتوبة قبل الشروع في التلاعن، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم -للمتلاعنين - كما في حديث ابن عباس -:«إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟» فإن امتنع الزوج عن اللعان: حُدَّ حَدَّ القذف عند الجمهور خلافًا للحنفية، فقالوا: يُحبس حتى يُلاعن أو يكذِّب نفسه (4) وقول الجمهور أصحُّ، لأن الحدَّ عام في كل قاذف أجنبيًّا كان أو زوجًا إذا لم يكن له شهود، لكن الله تعالى أقام اللعان للزوج مقام الشهود - كما في الآية الكريمة - فوجب إذا نكل الزوج أن يكون بمنزلة
من قذف ولم يكن له شهود، أي أنه يُحدُّ، وإن كذَّب نفسه ورجع عما رماها به حُدَّ بلا خلاف، فإذا أصر على اللعان:
4 -
يبدأ القاضي بالزوج فيقيمه، ويقول له: قل أربع مرات: (أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي هذه من الزنا)، ولو كان اللعان بنفي الولد، أمره أن يقول أربع مرات:(أشهد بالله لقد زنت، وما هذا الولد بولدي) ويعيِّن الولد.
(1)«المحلى» (10/ 143)، و «المغنى» (7/ 436)، و «الزاد» (5/ 376 - وما بعدها).
(2)
صحيح: تقدم تخريجه.
(3)
صحيح: وهذا في حديث ابن عباس المتقدم في قصة لعان هلال ابن أمية.
(4)
«فتح القدير» (3/ 251)، و «الأم» (5/ 292)، و «بداية المجتهد» (2)، و «المغنى» (7/ 444)، و «المحلى» (10/ 143).
والبداءة بالزوج قبل الزوجة شرط عند الجمهور خلافًا لأبي حنيفة، فلو بدأ القاضي بالزوجة ثم الزوج، فعليه أن يعيد لعان المرأة - عندهم- لأن المرأة بشهادتها تقدح في شهادة الرجل فلا تصح قبل وجود شهادته (1).
5 -
يقول الزوج - أربع مرات -: (أشهد بالله إني لمن الصادقين
…
).
6 -
يأمر القاضي من يضع يده على فمه، ثم يقول له: اتق الله فإنها موجبة، حتى لا يبادر بالخامسة قبل أن يعظه، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة.
وهذا في حديث ابن عباس:
7 -
فإن رجع عما رماها به حُدَّ حَدَّ القذف.
8 -
فإن أصرَّ الزوج، فإنه يقول في الخامسة:(وعليَّ لعنة الله إن كنتَ من الكاذبين).
ويسقط به حدُّ القذف.
9 -
يقول القاضي للزوجة: إن التعنت وإلا حُدِدْتِ حدَّ الزنى، فإن امتنعت من اللعان حُدَّت حدَّ الزنا عند الجمهور، خلافًا للحنفية والحنابلة فقالوا: تُحبس حتى تُلاعن أو تصدق زوجها فيما قذفها به، والأول أصحُّ، لأن الواجب على المرأة إذا لاعنها هو حد الزنى، لكن لها أن تخلص نفسها منه باللعان كما قال تعالى: {ويَدْرَأُ عَنْهَا العَذَابَ أَن تَشْهَدَ
…
} (2). فإذا امتنعت من اللعان لم يوجد الدافع لما وجب عليها بلعان الزوج، وهو الحد فيجب عليها (3).
10 -
وإن أصرت على اللعان قالت: (أشهد بالله إنه لمن الكاذبين) أربع مرات.
11 -
ثم يأمر القاضي من يوقفها ليعظها ويخبرها بأنها موجبة لغضب الله، قبل أن تشهد الخامسة.
12 -
فإن رجعت واعترفت بالزنى: حُدَّت حدَّ الزنى.
13 -
وإن مضت في إنكارها: أُمرت أن تقول: (غضب الله عليَّ إن كان من الصادقين) فإذا قالت ذلك سقط عنها حدُّ الزنا، وتم اللعان، وترتَّبت عليه آثاره.
(1)«مغنى المحتاج» (3/ 374)، و «المغنى» (7/ 436)، و «الزاد» (5/ 377).
(2)
سورة النور: 8.
(3)
«فتح القدير» (3/ 251)، و «الأم» (5/ 292)، و «المغنى» (7/ 444) وما بعدها.
آثار اللِّعان (ما يترتَّب عليه):
إذا تم التلاعن بين الزوجين على الصفة السابق ذكرها، فإنه يترتَّب عليه أمور، وهي:
[1]
إسقاط الحَدِّ عنهما (1):
قال الله تعالى: {والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ولَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إلَاّ أَنفُسُهُمْ ..... والْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (2).
وفي الآيات الكريمة دلالة على سقوط حد القذف عن الزوج، إذا قام باللعان، وسقوط حد الزنى عن الزوجة إذا لاعنت زوجها، وبهذا قال أهل التفسير.
ويدل على هذا كذلك ما جاء في حديث ابن عباس - في ملاعنة امرأة هلال بن أمية-:
فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا: إنها موجبة، قال ابن عباس: فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابع الأليتين خَدَلج الساقين فهو لشريك ابن سحماء» فجاءت به كذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن» (3).
[2]
أن الملاعنة لا تُرمي بالزنا، ومن رماها حُدَّ (4):
وهذا لأن لعانها نفى عنها تحقيق ما رُميت به، فيُحدُّ قاذفها وقاذف ولدها، وهذا دلَّت عليه رواية أبي داود (2256) لحديث ابن عباس:«..... فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يُدعى ولدها لأب، ولا تُرمى، ولا يُرمى ولدُها، ومن رماها أو رمى ولدها، فعليه الحدُّ، وقضى ألا بيت لها عليه ولا قوت، من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق، ولا متوفى عنها» .
قلت: وسندها ليِّن وقد ذكر الحافظ في التلخيص (3/ 227) لها شاهدًا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهذا مذهب الجمهور.
(1)«مغنى المحتاج» (3/ 380)، و «المغنى» (7/ 444).
(2)
سورة النور: 6 - 9.
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (4747) وغيره وقد تقدم.
(4)
«زاد المعاد» لابن القيم (5/ 402) ط. الرسالة.
[3]
التفريق بين المتلاعنَيْن:
لحديث ابن عمر رضي الله عنه قال: «لاعن النبي صلى الله عليه وسلم بين رجل وامرأة من الأنصار، وفرَّق بينهما» (1).
وهنا مسألتان:
الأولى: متى تقع الفرقة بينهما؟ (2) هل تقع بمجرد القذف؟ أم بلعان الزوج وحده؟ أم تقع بلعنهما جميعًا؟ أم بلعانهما وتفريق القاضي؟
والجواب: أما وقوع الفرقة بمجرد القذف فهو قول شاذ لأبي عبيد خالفه معه الجماهير من أهل العلم، وأما وقوعها بلعن الزوج وحده: فمما تفردَّ به الشافعي رحمه الله واحتج له بأنها فرقة حاصلة بالقول، فحصلت بقول الزوج وحده كالطلاق!! وهو ضعيف:«لأن الشرع إنما ورد بالتفريق بين المتلاعنين، ولا يكونان متلاعنين بلعان أحدهما فقط، وإنما فرَّق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما بعد تمام اللعان منهما، فالقول بوقوع الفرقة قبله تحكُّم يخالف مدلول السنة النبوية، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن لفظ اللعان لا يقتضي فرقة فإنه: إما إيمان على زناها أو شهادة على ذلك، ولولا ورود الشرع بالتفريق بينهما لم يحصل التفريق، وإنما ورد الشرع به بعد لعانها فلا يجوز تعليقه على بعضه» (3).
فعُلم أن الفرقة لا تقع إلا بلعان الزوجين، لكن يبقى الخلاف: هل تحصل الفرقة بمجرد لعانهما أو لابد أن يفرِّق القاضي؟
(أ) فذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين والظاهرية - ونسبه النووي للجمهور - إلى أنه إذا تمَّ لعان الزوجين وقعت الفرقة، ولا يُعتبر تفريق الحاكم واستدلوا بما يلي:
1 -
حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم -قال للمتلاعنين: «حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها» قال: مالي، قال: «لا مال لك، إن كنت صدقت عليها فهو بما
استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك» (4) قالوا: فقوله (لا سبيل لك عليها) يدل على حصول الفرقة بمجرد اللعان، لأنها نكرة في سياق النفي فأفادت العموم، والعبرة بعموم اللفظ.
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5314)، ومسلم (1494).
(2)
«البدائع» (3/ 244)، و «الشرح الصغير» (1/ 496)، و «مغنى المحتاج» (3/ 380)، و «المغنى» (7/ 411)، «المحلى» (10/ 144)، و «زاد المعاد» (5/ 388 - وما بعدها).
(3)
«المغنى» (7/ 411).
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (1/ 5311)، ومسلم (1493).
2 -
ما تقدم في حديث سهل: «.... فلما فرغا، قال: كذبتُ عليها يا رسول الله إن أمسكتُها، فطلَّقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغا من التلاعن، ففارقها عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «ذاك تفريق بين كل متلاعنين» (1). وأجيب بان الجملة الأخيرة مدرجة من كلام الزهري.
3 -
أن اللعان يقتضي التحريم المؤبَّد - كما سيأتي بعده - فلم يقف على تفريق الحاكم كالرضاع.
4 -
ولأن الفرقة لو لم تحصل إلا بتفريق الحاكم لساغ ترك التفريق إذا كرهه الزوجان، كالتفريق بالعيب والإعسار، ولبقي الزواج مستمرًّا، وهذا لا يجوز.
(ب) بينما ذهب أبو حنيفة وأصحابه وهو الرواية الأخرى عن أحمد إلى أن الفُرقة لا تحصل - بعد التلاعن- إلا بتفريق الحاكم، واحتجوا بما يلي:
1 -
ما في رواية أبي داود لحديث سهل بن سعد قال: «شهدت المتلاعنين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن خمس عشرة ففرَّق بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تلاعنا» (2).
2 -
وحديث ابن عمر المتقدم: «لاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجل وامرأة من الأنصار ففرَّق بينهما» (3).
وأجيب عنهما: بأن تفريق النبي بينهما، يحتمل ثلاثة أمور، أحدها: إنشاء التفريق، والثاني: الإعلام به، والثالث: إلزامه بموجبه من الفرقة الحسية، وليس هذا بقاطع في المسألة.
3 -
ما جاء في حديث سهل بن سعد من قول الملاعن: «كذبتُ عليها يا رسول الله إن أمسكتُها، فطلَّقها ثلاثًا قيل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم» (4) قالوا: فهذا يقتضي إمكان إمساكها، وأنه وقع طلاقه، ولو كانت الفرقة وقعت قبل ذلك لما وقع طلاق ولما أمكنه إمساكها.
وأجيب: بأن قوله (كذبت عليها إن أمسكتها) لا يدل على أن إمساكها بعد اللعان مأذون فيه شرعًا، بل هو بادر إلى فراقها، وإن كان الأمر صائرًا إلى ما بادر إليه، وأما طلاقها ثلاثًا فما زاد الفرقة إلا تأكيدًا، فإنها حرمت عليه تحريمًا مؤبدًا.
(1) صحيح: تقدم قريبًا.
(2)
أخرجه أبو داود (2251) وأصله في الصحيحين كما تقدم.
(3)
صحيح: تقدم قريبًا.
(4)
صحيح: تقدم قريبًا.
4 -
برواية أبي داود لحديث سهل بن سعد قال: «فطلَّقها ثلاث تطليقات عند رسول الله، فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
» (1) وأجيب: بأن إنفاد الطلاق عليه تقرير لموجبه من التحريم، فإذا لم تحل له باللعان أبدًا كان الطلاق الثلاث تأكيدًا للتحريم الواقع باللعان، فهذا معنى إنفاذه، فلما لم ينكره عليه، وأقَرَّه على التكلم به على موجبه، جعل سهلٌ هذا إنفاذًا من النبي صلى الله عليه وسلم، وسهلٌ لم يحك لفظ النبي صلى الله عليه وسلم -وإنما شاهد القصة وعدم إنكار النبي صلى الله عليه وسلم -فظنَّ ذلك تنفيذًا.
قلت: القول بوقوع الفرقة بمجرد تلاعنهما من غير احتياج إلى تفريق القاضي هو الأقوى، على أنني أتصورَّ أن المشترطين لتفريق القاضي يُلزمونه بإيقاع الفرقة بعد اللعان اتباعًا للسنة فيكون الخلاف صوريًّا، والله أعلم.
المسألة الثانية: التفريق باللعان، هل هو طلاق أو فسخ؟ (2)
فرقة اللعان فسخ، وليست بطلاق، في أصحِّ قولي العلماء، وبه قال مالك والشافعي، وأحمد وابن حزم ويدل على ذلك:
1 -
أنها فرقة تُوجب تحريمًا مؤبدًا - كما سيأتي - فكانت فسخًا.
2 -
أن اللعان ليس صريحًا في الطلاق، ولا نوى الزوج به طلاقًا، فلا يقع به الطلاق.
3 -
أنه لو كان اللعان صريحًا في الطلاق أو كفاية فيه لوقع بمجرد لعان الزوج ولم يتوقف على لعان المرأة.
4 -
أنه لو كان طلاقًا، فهو طلاق من مدخول بها بغير عوض لم ينو به الثلاث، فيكون رجعيًا!!
5 -
أن الطلاق بيد الزوج إن شاء أمسك وإن شاء طلَّق، وهذا الفسخ حاصل بالشرع وبغير اختياره.
6 -
ولأنه قد ترجَّح بالسنة وأقوال الصحابة - كما تقدم - أن الخلعَ ليس بطلاق، بل هو فسخ مع كونه بتراضيهما، فكيف تكون فرقة اللعان طلاقًا؟.
(1) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (2250) وفيه عياض بن عبد الله الفهري: ضعيف.
(2)
«الشرح الصغير» (1/ 496)، و «مغني المحتاج» (3/ 380)، و «المغنى» (7/ 411)، و «المحلى» (10/ 144)، و «الزاد» (5/ 390).
[4]
أن تحرَّم عليه زوجته المُلاعنة أبدًا:
لا خلاف بين أهل العلم في حصول الحرمة المؤبَّدة بين الزوجين المتلاعنين بسبب اللعان إذا لم يكذب أحدهما نفسه ويصدق الآخر:
1 -
ففي حديث سهل بن سعد في قصة المتلاعنين: «فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغا من التلاعن، ففارقها عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «ذاك تفريق بين كل متلاعنين» قال ابن جريج: قال ابن شهاب: فكانت السنة بعدهما أن يفرق بين المتلاعنين .. الحديث (1).
2 -
ورُوي عن ابن عمر مرفوعًا: «المتلاعنان إذا تفرَّقا لا يجتمعان أبدًا» (2).
3 -
ما رُوي عن عمر رضي الله عنه قال: «لا يجتمعان المتلاعنان أبدًا» (3).
4 -
ما رُوي عن عليًّ وابن مسعود أنهما قالا: «مضت السنة في المتلاعنين أن لا يجتمعا أبدًا» (4).
قلت: قوله: (فكانت سنة المتلاعنين) الراجح أنها مدرجة من قول الزهري كما صرَّح بذلك غير واحد من أهل العلم، وباقي هذه الآثار في كلٍّ منها مقال إلا أنها بمجموعها تثبت أن المتلاعنين تحصل بينهما حرمة أبدية وعلى هذا اتفاق أهل العلم.
إلا أن أبا حنيفة رحمه الله ومحمد ذهبا إلى أن الحرمة المؤبَّدة تسقط إن أكذب أحد الزوجين نفسه، وقد صحَّ هذا عن ابن المسيب، وخالفهم الجمهور (5) فقالوا: لا تأثير لإكذاب أحدهما نفسه في إسقاط الحرمة المؤبدة، وهذا هو الذي تقتضيه حكمة اللعان، ولا تقتضي سواه:
1 -
فإن لعنة الله تعالى وغضبه قد حلَّ بأحدهما لا محالة، ونحن لا نعلم عين من حلَّت به يقينًا، ففرَّق بينهما خشية أن يكون هو الملعون فيعلو على امرأة غير ملعونة وحكمة الشرع تأبى ذلك.
2 -
وإن باءت هي بالغضب بتصديق زوجها، لم يجز له نكاح زانية، وإلا كان ديُّوثًا.
(1) صحيح: تقدم كثيرًا.
(2)
ضعيف الإسناد: أخرجه الدارقطني (3/ 276).
(3)
إسناده منقطع ورجاله ثقات: أخرجه عبد الرازق (12433)، والبيهقي (7/ 410).
(4)
إسناده ضعيف: أخرجه الدارقطني (3/ 276)، والبيهقي (7/ 410).
(5)
«البدائع» (3/ 355)، و «الشرح الصغير» (1/ 496)، و «مغني المحتاج» (3/ 380)، و «المغنى» (7/ 414)، و «المحلى» (10/ 414)، و «المحلى» (10/ 144)، و «الزاد» (5/ 391).
3 -
أن النفرة الحاصلة من إساءة كل منهما إلى صاحبه لا تزول أبدًا، فإن الرجل إن كان صادقًا عليها فقد أشاع فاحشتها وفضحها على رؤوس الأشهاد وأقامها مقام الخزي وحقق عليها الخزي والغضب وقطع نسب ولدها، وإن كان كاذبًا، فقد أضاف إلى ذلك بَهتها بهذه الفرية العظيمة، وإحراق قلبها بها.
والمرأة إن كانت صادقة فقد أكذبته على رؤوس الأشهاد، وأوجبت عليه لعنة الله، وإن كانت كاذبة فقد أفسدت فراشه وخانته في نفسها، وألزمته العار والفضيحة.
فحصل لكلٍّ منهما من صاحبه من النفرة، والوحشة وسوء الظن ما لا يكاد يلتئم معه شملها أبدًا، فاقتضت حكمة من شَرْعُه كلُّه حكمةٌ ومصلحة وعدل ورحمة تحتُّم الفرقة بينهما، وقطع الصحبة المتمحِّضة مفسدة (1) قلت: ولا تأثير لرجوع أحدهما وتكذيبه نفسه في إصلاح شيء من هذه المفاسد، لاسيما ولا دليل مع القائلين بذلك، بل الدليل على خلافه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم -للمُلاعن:«لا سبيل لك عليها» (2) وهذا عموم يشمل جميع أفراده وجميع حالاته حتى يدلَّ الدليل على تخصيصه، ولا دليل، والله أعلم.
[5]
استحقاق المرأة صداقها وليس للرجل أن يأخذ منه شيئًا:
إذا وقع اللعان بعد الدخول فإن المرأة لا يسقط صداقها به، لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم -قال للمتلاعنين:«حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها» قال: مالي، قال:«لا مال لك، إن كنت صدقتَ عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبتَ عليها فذاك أبعد لك» (3).
أما إذا وقع اللعان قبل الدخول، فقيل: لها نصف المهر، وقيل: يسقط مهرها جملة.
ومأخذ القولين: أن الفُرقة إذا كانت بسبب من الزوجين كلعانهما، فهل يسقط الصداق تغليبًا لجانبه كما لو استقل بسبب فرقتها؟ (4).
(1) مستفاد من «زاد المعاد» (5/ 392 - 394) مع شيء من التصرف والزيادة.
(2)
صحيح: تقدم قريبًا.
(3)
صحيح: وهو السابق.
(4)
«زاد المعاد» (5/ 394) بتصرف يسير.
[6]
عدم استحقاق المرأة نفقة ولا سكنى عليه:
هكذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في حديث ابن عباس: «.... وقضى ألا بيتَ لها عليه، ولا قوت، من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ولا متوفى عنها» (1).
وهو وإن كان في سنده لين إلا أنه «موافق لحكمه صلى الله عليه وسلم في المبتوتة التي لا رجعة عليها، بل سقوط النفقة والسكنى للملاعنة أولى من سقوطها للمبتوتة، لأن المبتوتة له سبيل إلى نكاحها في عدَّتها، وهذه لا سبيل له إلى نكاحها لا في العدة ولا بعدها، فلا وجه أصلًا لوجوب نفقتها وسُكناها، وقد انقطعت العصمةُ انقطاعًا كليًّا» (2).
[7]
انقطاع نسب الولد من جهة أبيه، وإلحاقه بأمِّه:
ففي حديث ابن عباس المشار إليه آنفًا: «وقضى أن لا يُدعى ولدها الأب
…
»، وبهذا قال الجمهور:
وفي حديث ابن عمر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم -لاعن بين رجل وامرأته، فانتفى من ولدها، ففرَّق بينهما، وألحق الولد بالمرأة» (3).
وفي حديث سهل بن سعد - في آخره -: «فكان بعدُ يُنسب لأمه» (4).
[8]
ثبوت التوارث بين الملاعنة وولدها:
ففي حديث سهل - بعد ذكر قصة عويمر -: «
…
فكانت السنة بعدهما أن يفرَّق بين المتلاعنين، وكانت حاملًا، وكان ابنها يُدعى لأمِّه، قال: ثم جرت السنة في ميراثها أنها ترثه، ويرث منها ما فرض الله له» (5) وهذا يحتمل أنه من قول الزهري أو سهل بن سعد رضي الله عنه، وقد قال بعض أهل العلم بأن تحويل النسب الذي كان لأبيه إلى أمه، جعل الأم قائمة مقام الأب في ذلك، فهي عصبته وعصابتها أيضًا عصبته، فإذا مات حازت ميراثه، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس ويُروى عن عليٍّ، وهو مذهب أحمد وإسحاق، ويشهد له حديث واثلة بن الأسقع عن
(1) إسناده لين: أخرجه أبو داود (2256)، وأحمد (2131) وذكر له الحافظ في التلخيص (3/ 227) شاهدًا.
(2)
«زاد المعاد» (5/ 396).
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (5315)، ومسلم (1494).
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (4745)، ومسلم (1492).
(5)
صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1492).