الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الترجيح:
بعد هذا العرض لطرف من أدلة الفريقين وما نوقشت به، فإنه يتبيَّن للباحث أن المسألة من المسائل الاجتهادية التي يسوغ فيها الخلاف، ولا ينبغي لأحد من الطائفتين أن يشدد النكير على الآخر.
وإن كان الذي يبدو لي أن أقوى الأدلة على الإطلاق حديث ابن عباس المتقدم، ولم يأت من حاول التخلص منه بحجة تُنفق، فالذي يترجَّح لدي هو أن طلاق الثلاث - ولو بالتكرار لقوله (أنت طالق) - لا يقع إلا واحدة رجعية، على أنني أقول: هذا هو الأصل، لكن لو رأى القاضي المصلحة في إيقاع هذا النوع ثلاثًا من باب التعزير ونحوه، فله في فعل عمر وإقرار الصحابة متنفَّس وهذا هو الذي تُعمل فيه جميع الأدلة حسب مواردها، والله تعالى أعلم بالصواب.
ثانيًا: الطلاق السُّنِّي والبدعي
ينقسم الطلاق من حيث وصفه الشرعي (أو من حيث كيفية إيقاعه) إلى سُنِّي وبدعي.
والمراد بالسُّني: ما وافق السنة في كيفية إيقاعه، وليس المراد بهذا أن الطلاق بهذه الكيفية سنة!! فإن الطلاق تتناوله الأحكام الشرعية الخمسة كما تقدم.
(1)«السابق» (33/ 97 - 98).
(2)
«السابق» (33/ 32).
والبدعي: ما خالف السنة في ذلك.
[1]
طلاق السنة:
وهو الطلاق الذي وافق أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وأُوقع على الوجه المأذون به شرعًا، والوجه الشرعي يتعلق بأمرين: وقت إيقاعه، وعدد الطلاق.
(أ) الطلاق السني من حيث (وقت إيقاعه):
أولًا: بالنسبة للمرأة المدخول بها ممن تحيض: يشترط لكون طلاق المرأة المدخول بها من ذوات القروء (ممن تحيض) شروط:
1 -
أن يطلقها في طهر، لا في حيض ولا نفاس.
2 -
أن لا يكون جامعها في هذا الطهر قبل طلاقها.
قال تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة} (1).
قال ابن مسعود: {فطلقوهن لعدتهن} : بالطهر في غير جماع» (2).
وقال ابن عباس: «فطلقوهن لقُبل عدَّتهن» (3).
فالمراد من الآية الكريمة: أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه، وسيأتي في حديث ابن عمر تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الآية.
وعن نافع وسالم وعبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مُرْهُ فليراجعْها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمسَّ، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلَّق لها النساء» (4).
وقد دلَّ الحديث على أن الرجل ينتظر أن تطهر المرأة طهرين - بعد الحيضة التي طلَّقها فيها - حتى يحلَّ له طلاقها.
(1) سورة الطلاق: 1.
(2)
صحيح: أخرجه النسائي (6/ 140)، وعبد الرزاق (6/ 302)، وابن أبي شيبة (5/ 1).
(3)
صحيح: أخرجه النسائي (6/ 139)، وعبد الرزاق (6/ 303)، وابن أبي شيبة (5/ 2).
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (5251 - 7160)، ومسلم (1471).
وقد رواه أكثر الرواة عن ابن عمر أنه يمكث حتى تطهر ثم يكون له أن يطلقها، ومن ذلك ما رواه يونس بن جبير عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم «أمره أن يراجعها فإذا طهرت فأراد أن يُطلقها فليطلقها
…
» (1).
ولذا اختلف أهل العلم في الانتظار للطهر الثاني (2) فذهب مالك - وهو أصح الوجهين عند الشافعية والأرجح عند الحنفية - والحنابلة في ظاهر المذهب - إلى وجوب ذلك وتحريم تطليقها الذي يعقب الحيضة التي طلقها فيها وهو اختيار شيخ الإسلام.
واستندوا للرواية الأولى.
بينما ذهب أحمد في رواية - ونسبه الصنعاني إلى أبي حنيفة - إلى أن الانتظار للطهر الثاني مستحب وليس بواجب، واستندوا للرواية الثانية. قلت: الرواية الأولى يرويها أثبت الناس في ابن عمر، والثانية يرويها الأكثرون، فيصعب ترجيح إحداهما، فالأَوْلى أن يجمع بينهما بما ذكره ابن قدامة في المغني من أنه:«إن راجعها وجب إمساكها حتى تطهر، واستحب إمساكها حتى تحيض حيضة أخرى ثم تطهر» . اهـ، ثم إن هذا القول يتأيَّد بحديث ابن عمر:«مرة فليراجعها، ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملًا» (3).
وليس فيه التقييد بالانتظار للطهر الثاني، ثم لأن التحريم إنما كان لأجل الحيض، فإذا طهرت زال فوجب التحريم فجاز طلاقها في هذا الطهر كما يجوز في الذي بعده وكما يجوز في الطهر الذي لم تقدمه طلاق في الحيض والله أعلم.
فائدة: وجه استحباب الانتظار للطهر الثاني: أنه إذا أمسكها إلى الطهر الثاني، فإن مقامها معه سيطول، وقد يجامعها في هذه الفترة، فيذهب ما في نفسه من سبب طلاقها، فيُقلع عن رغبته في طلاقها ويستقر على إرادة إمساكها.
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5258)، ومسلم (1471).
(2)
«ابن عابدين» (3/ 230)، و «المدونة» (2/ 70)، و «فتح الباري» (9/ 349 - المعرفة)، و «سبل السلام» (ص 1078)، و «المغني» (7/ 101)، و «كشاف القناع» (3/ 143)، و «جامع أحكام النساء» (4/ 31 - 32).
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (1471)، وأبو داود (2181)، والترمذي (1176)، والنسائي (6/ 141) وابن ماجة (2023).
3 -
أن لا يطلقها - إذا طهرت - إلا بعد أن تغتسل:
ففي رواية من حديث ابن عمر: أنه طلق امرأته وهي حائض تطليقة، فانطلق عمر فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«مُرْ عبد الله فليراجعها، فإذا اغتسلت فليتركها حتى تحيض، فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى فلا يمسَّها حتى يطلقها، فإن شاء أن يمسكها فليمسكها، فإنها العدة التي أمر الله عز وجل أن تُطلَّق لها النساء» (1).
قال الحافظ في قول: «فإذا اغتسلت من حيضتها» : هذا مفسِّر لقوله «فإذا طهرت» فليحمل عليه. اهـ (2).
ثانيًا: بالنسبة لغير المدخول بها:
إذا تزوَّج الرجل المرأة فلم يدخل بها - وكانت ممن تحيض أو لا تحيض - فإنه يُباح له أن يطلِّقها متى شاء، وفي الطهر أو الحيض، قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} (3).
فغير المدخول بها ليس عليها عدة تطلق لها وتراعى في تطليقها فلا يشملها قوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} (4).
ثالثًا: بالنسبة لمن لا تحيض (لصغرها أو كبرها):
وهذه يطلقها زوجها متى شاء سواء كان وطئها أو لم يكن وطئها، فإن هذه عدتها ثلاثة أشهر ففي أي وقت طلقها لعدتها، فإنها لا تعتد بقروء ولا بحمل (5)، قال الله تعالى:{واللَاّئِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ واللَاّئِي لَمْ يَحِضْنَ} (6).
فدلت على أنه لا عدة لهما بالقروء حتى يُطلقها لعدتهما، فمتى وقع الطلاق ابتدأ حساب العدة وهي ثلاثة أشهر من تاريخ وقوع الطلاق.
(1) صحيح: أخرجه النسائي (6/ 140).
(2)
«فتح الباري» (9/ 350) وهذا منصوص قول مالك كما في «المدوَّنة» (2/ 70).
(3)
سورة الأحزاب: 49.
(4)
سورة الطلاق: 4.
(5)
«مجموع الفتاوى» (33/ 5)، وانظر «الأم» (5/ 181).
(6)
سورة الطلاق: 4.
ولو جامع الصغيرة التي لم تحض أو الآيسة فالطلاق مشروع لأن العلة في تحريم الطلاق في الطهر الذي حصل فيه الجماع - في ذوات الأقراء - احتمال أن تحبل بالجماع فيندم، وهذا المعنى لا يوجد في الآيسة والصغيرة ولو وُجد الجماع، ولأن الإياس والصغير في الدلالة على براءة الرحم فوق الحيضة - في ذوات الأقراء - فلما جاز الإيقاع ثمة عقيب الحيضة فلأن يجوز هنا عقيب الجمع أولى» (1).
رابعًا: بالنسبة للحامل التي تبيَّن حملُها: فإنها تُطلق في أي وقت شاء زوجها كذلك لما يأتي:
1 -
قوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} (2). فجعل عدة الحامل وضع الحمل، ووقت وضع الحمل مجهول لاختلاف النساء وأحوالهن، فلا يمكن تحديد وقت معيَّن تطلق فيه الحامل (3).
2 -
حديث ابن عمر: أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «مره فليراجعها، ثم ليطلِّقها طاهرًا أو حاملًا» (4).
قال الخطابي: «فيه بيان أنه إذا طلَّقها وهي حامل فهو مطلق للسنة، ويطلقها في أي وقت شاء في الحمل، وهو قول كافة العلماء» اهـ (5).
3 -
ويُروى عن ابن عباس أن قال: «الطلاق على أربعة منازل: منزلان حلال، ومنزلان حرام، فأما الحرام: فأن يطلقها حين يجامعها لا يدري أيشتمل الرحم على شيء أم لا، وأن يطلقها وهي حائض، وأما الحلال: أن يطلقها لأقرائها طاهرًا من غير جماع، وأن يطلقها حاملًا مستبينًا حملها» (6).
4 -
ولأن مطلق الحامل التي استبان حملها قد طلق على بصيرة، فلا يخاف ظهور أمر يتجدد به الندم، كما أنها ليست مرتابة في عدَّتها، لعدم اشتباه الأمر عليها أنها حامل» (7).
(1)«بدائع الصنائع» (3/ 89).
(2)
سورة الطلاق: 4.
(3)
«المفصل في أحكام المرأة» (8/ 100).
(4)
صحيح: أخرجه مسلم (1471) وغيره وقد تقدم قريبًا.
(5)
معالم السنن (6/ 163) ط. المكتبة العلمية.
(6)
ضعيف: أخرجه عبد الرزاق (6/ 303)، والدارقطني (4/ 5 - 37)، والبيهقي (7/ 325) ومعناه صحيح.
(7)
«المغني» لابن قدامة (7/ 105) ونحوه في «فتح الباري» (9/ 350 - المعرفة).
(ب) الطلاق السني من حيث العدد: والجامع له أن يطلِّق طلقة واحدة، ولا يُتْبِعُها بأخرى أثناء العدة.
أولًا: بالنسبة للمدخول بها ممن تحيض: يتحقق طلاق السنة بإيقاع طلقة واحدة على المرأة في طهر لم يجامعها فيه - كما تقدم - ويتركها حتى تنقضي عدتها (ثلاثة قروء) فتبين منه، ولا يتبعها طلاقًا آخر قبل انقضاء عدتها، فإن فعل فهو طلاق بدعة عند الجمهور خلافًا للشافعي وابن حزم وقد تقدمت أدلة ذلك في مسألة «طلاق الثلاث المجموعة» .
ولو طلقها ثلاثًا في ثلاثة أطهار [عند كل طهر طلقة واحدة] كان حكمه حكم جمع الثلاث في طهر، عند أحمد ومالك، وبه قال الأوزاعي وأبو عبيد.
وعند الحنفية: لا بأس بذلك وهو (حسن) عندهم (1).
ثانيًا: بالنسبة لغير المدخول بها: فهي كالمدخول بها، فإذا طلق غير المدخول بها ثلاثًا كان طلاقه خلاف طلاق السنة (2).
ثالثًا: بالنسبة لمن لا تحيض (لصغر أو كبر): فهذه عدَّتها تكون بالأشهر كما قال تعالى: {واللَاّئِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ واللَاّئِي لَمْ يَحِضْنَ} (3).
فطلاق السنة لها أن يطلقها طلقة واحدة ويتركها حتى تنقضي عدتها بمضي ثلاثة أشهر من وقت طلاقها عند الجمهور، وعند الحنفية إن طلقها واحدة كل شهر فهو حسن، وهذا جائز عند الشافعية على قاعدتهم في إباحة جمع الثلاث كما تقدم.
رابعًا: بالنسبة للحامل: فطلاق السنة أن تُطلق طلقة واحدة، لا تُتْبَعُ بأخرى حتى تنقضي عدتها وهي وضع الحمل، لقوله تعالى:{وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} (4).
(1)«الهداية» (3/ 23 - مع فتح القدير)، و «الشرح الصغير» للدردير (2/ 361)، و «المغني» (7/ 98).
(2)
«الهداية» (3/ 23).
(3)
سورة الطلاق: 3.
(4)
سورة الطلاق: 4.
[2]
طلاق البدعة: وهو المخالف لطلاق السنة، سواء كانت المخالفة من جهة وقت إيقاع الطلاق، أو من جهة عدد التطليقات التي يوقعها.
فإن طلق امرأته وهي حائض، أو طلقها بعدما طهرت لكن جامعها في هذا الطهر، أو طلقها ثلاثًا في طهر فهو طلاق بدعة، وهو محرم، يأثم فاعله في قول عامة أهل العلم.
حكم الطلاق البدعي:
1 -
هل يقع طلاق البدعة؟ تقدم فيما مضى تحرير حكم وقوع طلاق البدعة من حيث العدد، والمراد هنا تحرير:«هل يقع الطلاق في الحيض؟ وهل يحسب الطلاق في الحيض تطليقة؟» فأقول:
اختلف أهل العلم في وقوع الطلاق في الحيض - بعد الاتفاق على أنه مُحرَّم يأثم فاعله - على قولين:
الأول: أن الطلاق في الحيض يقع ويُحسب: وهو قول عامة أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم (1)، وحجتهم ما يلي:
1 -
حديث ابن عمر في تطليقه امرأته وهي حائض وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: «مُرْه فليراجعها
…
» (2) والمراجعة لا تكون إلا من طلاق قد وقع.
وأجاب المخالفون: بأن الأمر بالمراجعة لا يستلزم وقوع الطلاق، بل لما طلقها طلاقًا محرَّمًا حصل منه إعراض عنها ومجانبة لها، لظنه وقوع الطلاق، فأمره أن يردَّها إلى ما كانت عليه.
2 -
عن أنس بن سيرين قال: سمعت ابن عمر قال: طلق ابن عمر امرأته وهي حائض فذكر عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ليراجعها» قلت - أي أنس لابن عمر -: تحتسب؟ قال: «فمه؟!» (3).
قال الحافظ في «الفتح» (9/ 265 سلفية): قوله (فمه) أصله (فما) وهو استفهام فيه اكتفاء، أي: فما يكون إن لم تحتسب، ويحتمل أن تكون الهاء أصلية وهي كلمة تقال للزجر، أي: كفَّ عن هذا الكلام فإنه لابد
من وقوع الطلاق
(1)«ابن عابدين» (3/ 232)، و «المبسوط» (6/ 57)، و «الشرح الصغير» (2/ 308)، و «المجموع» (15/ 398)، و «المغني» (7/ 366).
(2)
صحيح: تقدم مرارًا.
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (5252)، ومسلم (1471).
بذلك. قال ابن عبد البر: معناه: فأي شيء يكون إذا لم يعتد بها؟ إنكارًا لقول السائل: (أيعتد بها؟) فكأنه قال: وهل من ذلك بد؟ (1). اهـ.
3 -
وعن يونس بن جبير قال سألت ابن عمر فقال: طلق ابن عمر امرأته وهي حائض فسأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مُره أن يراجعها ثم يطلق من قُبل عدتها» قلت - أي: يونس لابن عمر -: أفتعتد بتلك التطليقة؟ قال: «أرأيت إن عجز واستحمق» (2).
قال ابن عبد البر في «التمهيد» (5/ 66) في قوله (أرأيت إن عجز واستحمق): بمعنى تعاجز عن فرض آخر من فرائض الله فلم يُقمه، واستحمق فلم يأت به، أكان يعذر فيه؟! اهـ.
وقال النووي: معناه: أفيرتفع عنه الطلاق وإن عجز واستحمق؟ وهو استفهام إنكار وتقديره: نعم، تُحسب ولا يمتنع احسابها لعجزه وحماقته. اهـ.
واعترض ابن القيم على هذا الاستدلال فقال: هذا رأي محض، ومعناه: أنه ركب خطة عجز، واستحمق، أي: أتى أحموقة وجهالة فطلق في زمن لم يؤذن له في الطلاق فيه
…
وهذا ليس بدليل على وقوع الطلاق. اهـ (3).
وقد يجاب عن الاعتراض: بأنه في رواية أحمد (2/ 43) بسند صحيح قال يونس: فقلت لابن عمر: أيحسب طلاقه ذلك طلاقًا؟ قال: «نعم» ، أرأيت إن عجز واستحنق» وفي رواية عنده أيضًا (2/ 79) أنَّه قال:«ما يمنعه؟ نعم أرأيت إن عجز واستحمق؟» .
4 -
وأصرح مما تقدم، حديث ابن عمر قال:«حُسبتْ عليَّ بتطليقة» (4).
وفي رواية قال ابن عمر: «فراجعتها، وحَسَبْتُ لها التطليقة التي طلقتها» (5).
واعتُرض: بأنه ليس فيه ما يفيد رفع ذلك للنبي ظ، فقوله (حُسبت عليَّ) من الذي حسب؟ النبي صلى الله عليه وسلم أو عمر رضي الله عنه؟ أو أنه هو الذي حسبه؟ (6).
(1)«التمهيد» لابن عبد البر (15/ 66).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (5258)، ومسلم (1471).
(3)
«تهذيب السنن» (3/ 102 - مع مختصر المنذري).
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (5253).
(5)
صحيح: أخرجه مسلم (1471، والنسائي رقم (3391).
(6)
«تهذيب السنن» (3/ 101 - 102).
وأجاب الحافظ عن الاعتراض فقال: وإذا أخبر ابن عمر أن الذي وقع منه حُسبت عليه بتطليقة كان احتمال أن يكون الذي حسبها عليه غير النبي صلى الله عليه وسلم بعيدًا جدًّا، مع احتفاف القرائن في هذه القصة بذلك، وكيف يُتخِيَّل أن ابن عمر يفعل في القصة شيئًا برأيه، وهو ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم تغيَّظ من صنيعه، كيف لم يشاوره فيما يفعل في القصة المذكورة؟! اهـ (1).
قلت: وهذا الذي ذكره الحافظ يتأيد في الحديث الآتي:
5 -
عن نافع عن ابن عمر: «أنه طلق امرأته وهي حائض، فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فجعلها واحدة» (2) وهو نصٌ في موضع النزاع فيجب المصير إليه ثم يتأيد كله بفتوى ابن عمر في هذه المسألة:
6 -
فعن نافع قال: «
…
فكان ابن عمر إذا سئل عن الرجل يطلق امرأته وهي حائض يقول: «أنا أنت طلقتها واحدة أو اثنتين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجعها ثم يمهلها حتى تحيض حيضة أخرى، ثم يمهلها حتى تطهر، ثم يطلقها قبل أن يمسَّها، وأما أنت طلَّقتها ثلاثًا فقد عصيب ربَّك فيما أمرك به من طلاق امرأتك، وبانت منك» (3).
7 -
ولأنَّه طلاق من مكلَّف في محل الطلاق فوقع، كطلاق الحامل.
8 -
ولأن الطلاق ليس مما يتقرب به إلى الله تعالى فيُعتبر لوقوعه موافقة السنة، وإنما هو زوال عصمة فها حق لآدمي، فكيفما أوقعه وقع، فإن أوقعته لسنة هُدِىَ ولم يأثم، وإن أوقعه على غير ذلك أثم ولزم ذلك، ومحال أن يلزم المطيع ولا يلزم العاصي (4).
القول الثاني: أن الطلاق في الحيض لا يقع ولا يُحسب: وهو قول طاووس وعكرمة وخلاس بن عمرو، ومحمد بن إسحاق وأهل الظاهر: داود وابن حزم، وهو مذهب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم (5)، وحجة هذا القول:
1 -
حديث أبي الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة يسأل ابن
(1)«فتح الباري» (9/ 266 - سلفية).
(2)
صحيح: أخرجه الطيالسي (68)، والدارقطني (4/ 9)، والبيهقي (7/ 326).
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (1471)، والنسائي (6/ 213).
(4)
«التمهيد» (15/ 59)، و «المغني» (7/ 366) بنحوه.
(5)
«الإنصاف» (8/ 448)، و «مجموع الفتاوى» (33/ 66) ومواضع، و «الزاد» (5/ 218 - وما بعدها).
عمر قال: كيف ترى في رجل طلَّق امرأته حائضًا؟ قال: طلق ابن عمر امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
- فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض، قال عبد الله: فردَّها عليَّ [ولم يرها شيئًا] وقال: «إذا طهرت فليطلق أو ليمسك» (1).
وأُجيب عنه: بأن زيادة (ولم يرها شيئًا) شاذة، وقد أطبق العلماء على تضعيفها منهم أبو داود والخطابي والشافعي وابن عبد البر (2).
2 -
روي ابن حزم - ونقله عنه ابن القيم - عن نافع عن ابن عمر أنه قال - في الرجل يطلق امرأته وهي حائض -: «لا يعتد بذلك» (3).
وقد أُجيب: بأن هذا الأثر قد أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (5/ 5) من نفس الطريق عن نافع عن ابن عمر - في الذي يطلق امرأته وهي حائض - قال: «لا تعتد بتلك الحيضة» !! فذكرها ابن حزم مختصرة وفرق بين اللفظين، فهذا معناه: لا يعتد بتلك الحيضة من أقرائها الثلاثة التي في قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} (4). وليس فيه تعرض لاحتساب التطليق أو عدمه (5).
3 -
عن طاووس قال: «وجه الطلاق أن يطلقها طاهرًا من غير جماع وإذا استبان حملها» (6).
4 -
عن خلاس بن عمرو أنه قال - في الرجل يطلق امرأته وهي حائض -: «لا يعتد بها» (7).
قلت: لا يخفى أن قول طاووس وخلاس رحمهما الله - إن ثبت - إنما يفيد في إثبات الخلاف بين السلف في المسألة، لكنه لا يُعدُّ دليلًا يستدل به.
(1) أخرجه أبو داود (2185) وغيره وقد جمع شيخنا - حفظه الله - طرقه وأبان علَّته في «جامع أحكام النساء» (4/ 42).
(2)
«السنن الكبرى» للبيهقي (7/ 327)، و «الفتح» (9/ 354 - المعرفة)، و «جامع أحكام النساء» (4/ 45 - 47).
(3)
إسناده ليِّن: أخرجه ابن حزم في «المحلي» (10/ 163).
(4)
سورة البقرة: 228.
(5)
نبَّه عليه شيخنا - رفع الله مقامه - في «جامع أحكام النساء» (4/ 47 - 48).
(6)
إسناده ضعيف: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (10923).
(7)
إسناده ضعيف: أخرجه ابن حزم (10/ 163).