المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌10 - كتاب الزواج ومقدماته وتوابعه - صحيح فقه السنة وأدلته وتوضيح مذاهب الأئمة - جـ ٣

[كمال ابن السيد سالم]

فهرس الكتاب

- ‌9 - كتاب اللباس والزينة وأحكام النظر

- ‌أولًا: اللباس والزينة للرجال

- ‌ثانيًا: اللباس والزينة للنساء

- ‌لباس المرأة المسلمة

- ‌مسائل تتعلق بأحكام النظر

- ‌الزينة للمرأة المسلمة

- ‌حكم لبس العدسات الملونة للزينة والموضة

- ‌10 - كتاب الزواج ومقدماته وتوابعه

- ‌الأنكحة الفاسدة شرعًا

- ‌الصفات المطلوبة في الزوجين

- ‌الخِطْبة وأحكامها

- ‌أحكام النَّظر في الخِطبة

- ‌عقد الزواج

- ‌شروط صحة عقد النكاح

- ‌الاشتراط في عقد النكاح

- ‌الصداق (المهر)

- ‌إعلان النكاح

- ‌تعدد الزوجات

- ‌من أحكام المولود

- ‌النشوز وعلاجه

- ‌11 - كتاب الفرْق بين الزوجين

- ‌الطلاق وأحكامه

- ‌شروط الطلاق

- ‌أولًا: الشروط المتعلقة بالمطلِّق:

- ‌ثانيًا: الشروط المتعلِّقة بالمطلَّقة:

- ‌ثالثًا: الشروط المتعلقة بصيغة الطلاق:

- ‌الإشهاد على الطلاق

- ‌أنواع الطلاق

- ‌أولًا: الطلاق الرجعي والبائن

- ‌ثانيًا: الطلاق السُّنِّي والبدعي

- ‌ثالثًا: الطلاق المُنجَّز والمضاف والمعلَّق

- ‌التخييرُ في الطلاق

- ‌التوكيل أو التفويض في الطلاق

- ‌العِدَّة

- ‌الخُلْع

- ‌أركان الخلع وما يتعلق بها

- ‌الإيلاء

- ‌الظِّهَار

- ‌اللِّعان

- ‌التفريق القضائي

- ‌الحضانة

- ‌12 - كتاب المواريث

- ‌عِلْم المواريث (الفرائض)

- ‌المُستحقُّون للميراث

- ‌الحَجْبُ

الفصل: ‌10 - كتاب الزواج ومقدماته وتوابعه

‌10 - كتاب الزواج ومقدماته وتوابعه

ص: 71

* الترغيب في الزواج (1)، والحث عليه:

1 -

قال الله تعالى: {ولقد أرسلنا رسلًا من قبلك وجعلنا لهم أزواجًا وذرية} (2).

2 -

وقال تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم} (3).

3 -

وقال سبحانه: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} (4).

4 -

وقال سبحانه: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} (5).

5 -

وعن أنس رضي الله عنه في قصة الثلاثة الذين قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا -فجاء رسول الله صلى الله عيه وسلم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سُنَّتي فليس منِّي"(6).

6 -

وعن معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تزوَّجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم"(7) والودود: التي تحب زوجها، والولود: التي تكثر ولادتها.

7 -

وعن ابن مسعود قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوَّج، فإنه أغضُّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء"(8).

والمراد بالباءة هنا: مؤنة الزواج، وتكاليفه، فإن الخطاب، موجَّه لمن له قدرة على الجماع، وبالوجاء: ما يقطع الشهوة.

(1) ويطلق عليه: النكاح، والنكاح: الوطء، والعقد له، وهو حقيقة في الوطء والعقد في أصح الأقوال، وقيل: هو حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر على اختلاف في هذا، وهو خلاف لفظي لا طائل من تحقيقه.

(2)

سورة الرعد: 38.

(3)

سورة النور: 32.

(4)

سورة النساء: 3.

(5)

سورة الروم: 21.

(6)

صحيح: أخرجه البخاري (5063)، ومسلم (1401).

(7)

صحيح: أخرجه أبو داود (2050)، والنسائي (6/ 65) وغيرهما.

(8)

صحيح: أخرجه البحاري (5065)، ومسلم (1400).

ص: 72

8 -

وفي حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "

وفي بضع (1) أحدكم صدقة". قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه فيها وِزرٌ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال، كان له أجر" (2).

9 -

وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا: المرأة الصالحة"(3).

10 -

وعن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس: "هل تزوجت؟ " قلت: لا، قال:"فتزوَّجْ، فإن خير هذه الأمة أكثرها نساءً"(4).

* تحريم الاختصاء (5):

1 -

عن سعد بن أبي وقَّاص قال: "لقد ردَّ ذلك -يعني النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون، ولو أجاز له التبتُّل (6) لاختصينا"(7).

2 -

وعن عبد الله بن مسعود قال: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لنا شيء، فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخَّص لنا أن ننكح المرأة بالثوب (8) ثم قرأ علينا {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} (9)(10).

والنهي عن الخصاء نهي تحريم -بلا خلاف- في بني آدم.

* بعض فوائد الزواج (11):

1 -

امتثال أمر الله تعالى.

(1) المراد به: الجماع.

(2)

صحيح: أخرجه مسلم (1006)، وأبو داود (1286).

(3)

صحيح: أخرجه مسلم (1467).

(4)

إسناده صحيح: أخرجه البخاري (5069).

(5)

الاختصار والخصاء: الشق على الأنثيين (الخصيتين) وانتزاعهما (الفتح 9/ 118).

(6)

هو هنا: الانقطاع عن النساء وترك النكاح انقطاعًا للعبادة (نووي 3/ 549).

(7)

صحيح: أخرجه البخاري (5074)، ومسلم (1402).

(8)

المراد به هنا (نكاح المتعة) وهو منسوخ كما سيأتي.

(9)

سورة المائدة: 87.

(10)

صحيح: أخرجه البخاري (5075)، ومسلم (1404).

(11)

مستفاد من «جامع أحكام النساء» (3/ 28).

ص: 73

2 -

اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهدي المرسلين.

3 -

كسر الشهوة وغض البصر.

4 -

تحصين الفرج وإعفاف النساء.

5 -

عدم ذيوع الفاحشة في المسلمين.

6 -

تكثير النسل الذي تتم به مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم لسائر الأنبياء والأمم.

7 -

تحصيل الأجر من الجماع في الحلال.

8 -

حُبُّ ما أحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: "حُبِّب إليَّ من دنياكم الطيب والنساء

" (1).

9 -

إيجاد الولد الذي ينتفع -بعد الموت- بدعائه.

10 -

الانتفاع بشفاعة الولدان في دخول الجنة، فعن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"يقال للولدان يوم القيامة: ادخلوا الجنة، قال: فيقولون: يا رب حتى يدخل آباؤنا وأمهاتنا، قال: فيأتون، قال: فيقول الله عز وجل: "ما لى أراهم محبنطئين (2) ادخلوا الجنة". قال: فيقولون: يا رب آباؤنا وأمهاتنا، قال: فيقول: ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم"(3).

11 -

إيجاد الذرِّيَّة المؤمنة التي تذبُّ عن ديار المسلمين وتستغفر للمؤمنين.

12 -

ما في الزواج من سكن ومودة ورحمة بين الزوجين، وغير ذلك من المنافع التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.

* حكم الزواج:

أجمع المسلمون على أن الزواج مشروع (4)، ثم اختلف أهل العلم في حكمه على ثلاثة أقوال:

الأول: أنه واجب على كل قادر عليه في العمر مرة: وهو مذهب داود الظاهري وابن حزم وهو مروي عن أحمد، وأبي عوانة الإسفراييني من أصحاب

(1) محتمل للتحسين: أخرجه النسائي (7/ 61)، وأحمد (3/ 285) وغيرهما، وفي سنده كلام، ولتحسينه وجه، والله أعلم.

(2)

أي: ممتنعين.

(3)

حسن: أخرجه أحمد (4/ 105).

(4)

«المغني» (6/ 446)، و «الإفصاح» لابن هبيرة (2/ 110).

ص: 74

الشافعي وهو قول جماعة من السلف (1)،

واستدلوا بظاهر الأوامر الواردة في بعض النصوص المتقدمة في "الترغيب في الزواج" قالوا: الأصل في الأمر أنه للوجوب ولم يصرفه صارف.

الثاني: أنه مستحب: وهو مذهب أكثر أهل العلم وجمهورهم من الأئمة الأربعة وغيرهم (2).

وقد حملوا الأوامر بالنكاح على الاستحباب، فقالوا في قوله تعالى:{فانكحوا ما طاب لكم من النساء} (3). إن الله تعالى علَّق الأمر بالنكاح على الاستطابة فمن لم تطب نفسه أن يتزوج فلا حرج عليه وقال: {مثنى وثلاث ورباع} ولا يجب ذلك بالاتفاق فدل على أن الأمر هنا للندب، وأجيب: بأن المعلق على الاستطابة إنما هو الأمر بالتعدد لا بأصل النكاح.

وقال الجمهور: وكذلك قوله تعالى: {فواحدة أو ما ملكت أيمانكم} (4). لما كان التسري ليس بواجب اتفاقًا فيكون التزويج غير واجب، إذ لا يقع التخيير بين واجب ومندوب وتُعقِّب: بأن الذين قالوا بوجوبه قيَّدوه بما إذا لم يندفع التوقان إلى الجماع بالتسرِّي.

الثالث: يختلف حكمه باختلاف حال الشخص، وهذا هو المشهور عند المالكية، وهو واقع في كلام الشافعية والحنابلة (5)، قالوا:

(أ) الزواج يكون واجبًا: في حق التائق إلى الجماع الذي يخاف على نفسه الوقوع في الفاحشة بتركه، لأنه يلزمه إعفاف نفسه وصونها عن الحرام وطريقه النكاح، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

(ب) ويكون مستحبًا: في حق من له شهوة يأمن معها الوقوع في الفاحشة، فهذا يكون الزواج له أولى من التخلي لنوافل العبادة، وبهذا قال الجمهور، إلا الشافعي فالتخلي للنوافل عنده أولى لأن الزواج عنده في حال الاعتدال مباح (!!).

(1)«المحلي» (9/ 440)، و «المغني» (6/ 446)، و «فتح الباري» (9/ 110)، و «البدائع» (2/ 228)، و «روضة الطالبين» (7/ 18).

(2)

«ابن عابدين» (3/ 7)، و «الدسوقي» (2/ 214)، و «بداية المجتهد) (2/ 23)، و «المغني» (6/ 446)، و «الإنصاف» (8/ 6).

(3)

سورة النساء: 3.

(4)

سورة النساء: 3.

(5)

المراجع السابقة بالإضافة إلى: «البدائع» (2/ 228)، و «القوانين الفقهية» (ص 193)، و «مغني المحتاج» (3/ 125)، و «فتح الباري» (9/ 110).

ص: 75

(ج) ويكون مُحرَّمًا: في حق من يخلُّ بالزوجة في الوطء والإنفاق، مع عدم قدرته عليه وتوقانه إليه.

(د) ويكون مكروهًا: في حق مثل هذا حيث لا إضرار بالزوجة فاشتغاله بالطاعة من العبادة أو الاشتغال بالعلم أولى.

قلت: الزواج من آكد السنن، فهو سنة المرسلين، كما تبيَّن من مجموع الآيات والأحاديث المرغبة في الزواج -والتي تقدم بعضها- ولا شك في وجوبه عند الخوف من الوقوع في الزنا مع القدرة عليه، وأما جعل بعض أقسامه مباحًا ففيه دفع في وجه الأدلة، وردٌّ للترغيبات الكثيرة المتقدمة، وكذلك لا ينبغي أن يجعل الزواج محرمًا في حق من لا شهوة له، فإن في الزواج مقاصد أخرى يمكن أن تتحقق فإن رضيت الزوجة بذلك ولم يكن قد دلَّس عليها فلا حرمة فيه، والله أعلم.

* ولا يجب على المرأة الزواج (1):

لحديث أبي سعيد قال: إن رجلًا أتى بابنة له إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابنتي قد أبت أن تزوج، قال: فقال لها: "أطيعي أباك" فقالت: لا، حتى تخبرني ما حق الزوج على زوجته؟ فردّدتْ عليه مقالتها، فقال:"حق الزوج على زوجته: أن لو كان به قُرحة فلحستها أو ابتدر منخراه صديدًا أو دمًا ثم لحسته ما أدَّت حقَّه" قالت: والذي بعثك بالحق، لا أتزوَّج أبدًا، فقال صلى الله علي وسلم:"لا تُنكحوهُنَّ إلا بإذنهن"(2).

قلت: فدَّل الحديث على جواز ترك الزواج لعذر، لكن الأولى الزواج لما تقدم من المرغبات فيه وما فيه من الفوائد، فإن خشيت المرأة الوقوع في الفاحشة وجب عليها الزواج بلاشك، والله أعلم.

* المحرَّمات زواجهن من النساء:

وهن النساء اللاتي يحرُم على الرجل أن يتزوَّج بهنَّ، وقد ذكرهن الله تعالى في كتابه بقوله عز وجل: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتًا وساء سبيلًا* حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا

(1)«جامع أحكام النساء» (3/ 30)، وبه قال ابن حزم (9/ 441) رغم قوله بفرضية التزويج على الرجال القادرين.

(2)

حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (17116).

ص: 76

دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورًا رحيمًا* والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذالكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} (1).

والمحرمات من النساء على النوعين:

1 -

محرمات مؤبَّدًا: فلا يجوز للرجل زواجها في كل وقت.

2 -

محرمات مؤقتًا: لا يجوز للرجل زواجهن في حالة خاصة فإذا زالت هذه الحالة صار زواجهن حلالًا.

1 -

المحرمات مؤبدًا:

(أ) محرمات بالنسب (وهن سبع):

1 -

الأمهات: وهن كل من بين الرجل وبينها إيلاد من جهة الأمومة أو الأبوة، كأمهاته وأمهات آبائه وأجداده من جهة الرجال والنساء وإن علون.

2 -

البنات: وهن كل من انتسب إلى الرجل بإيلاد، كبنات صلبه وبنات بناته وأبنائهن وإن نزلن (2).

3 -

الأخوات: من كل جهة.

4 -

العمَّات: وهن أخوات آبائه وإن علون، فيدخل فيه عمة أبيه وعمة أمه.

5 -

الخالات: وهن أخوات أمهاته وأمهات آبائه.

6، 7 - بنات الأخ وبنات الأخت: فيعم بنات الأخ أو الأخت من كل جهة وإن نزلت درجتهن.

عن ابن عباس قال: "حَرُم من النسب سبع، ومن الصهر سبع"(3) ثم قرأ {حرمت عليكم أمهاتكم

} الآية (4).

فهؤلاء السبع من النساء يحرم على الرجل أن يتزوج منهن حرمةً أبدية، باتفاق العلماء (5).

(1) سورة النساء: 22 - 24.

(2)

ويلحقن بهن بنت الرجل من الزنا عند الجمهور (جامع أحكام النساء 3/ 38).

(3)

صحيح: أخرجه البخاري (5105)، والطبري في «التفسير» (8/ 141)، والحاكم (2/ 304).

(4)

سورة النساء: 23.

(5)

«تفسير الطبري» (8/ 143).

ص: 77

وتيسيرًا لحفظ هذه المسألة فإن الضابط فيها "أن جميع أقارب الرجل من النسب حرام عليه إلا أربعة: بنات عمه، وبنات خاله، وبنات عمته، وبنات خالته".

وهذه الأصناف الأربعة هن اللاتي أحلهن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بقول: {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك} (1)(2).

سؤال: هل يجوز للرجل أن يتزوج ابنته من الزنا؟

لا يجوز -عند جمهور أئمة المسلمين- أن يتزوج الرجل بابنته من الزنا، فإن ماء الزنا وإن كان ليس له حرمة إلا أن هذه البنت داخلة في عموم قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم

} (3).

فهو يتناول كل من شمله هذا اللفظ سواء كان حقيقة أو مجازًا وسواء ثبت في حقه التوارث وغيره من الأحكام أم لم يثبت إلا التحريم خاصة، ليس العموم في آية التحريم كالعموم في آية الفرائض ونحوها (4).

بل إن الجمهور تنازعوا فيمن تزوج ابنته من الزنا هل يقتل أو لا؟ فذهب أحمد إلى أنه يقتل!!

ويلحق بهذا أيضًا أن يحرم على الرجل أن يتزوج أخته وبنت ابنه وبنت بنته وبنت أخيه وأخته من الزنا، وهو قول عامة الفقهاء (5).

(ب) محرمات بالمصاهرة (وهن أربع):

1 -

زوجة الأب:

فعن ابن عباس قال: "كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرم إلا امرأة الأب، والجمع بين الأختين، قال: فأنزل الله: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف} و {أن تجمعوا بين الأختين} (6).

(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (32/ 62)، وانظر «الأم» (5/ 32)، و «المحلي» (9/ 520)، و «المغني» (6/ 567).

(2)

سورة الأحزاب: 50.

(3)

سورة النساء: 23.

(4)

انظر الكلام على هذا بتوسع في «مجموع الفتاوى» (32/ 134).

(5)

المغني (6/ 578).

(6)

تفسير الطبري (8/ 132) بسند صحيح.

ص: 78

فنهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة عن نكاح المرأة التي نكحها الأب، ولم يبين ما المراد بنكاح الأب: هل هو العقد أو الوطء؟ لكن قد أجمع العلماء على أن من عقد عليها الأب حرمت على ابنه وإن لم يدخل بها الأب، وهذا تحريم مؤبد، وكذلك عقد الابن محرم على الأب إجماعًا وإن لم يمسها.

فعن البراء قال: لقيت عمي ومعه راية فقلت له: أين تريد؟ قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل نكح امرأة أبيه، فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله"(1).

ومن تزوج امرأة أبيه فإن عقوبته: أن يُقتل ويؤخذ ماله.

2 -

أم الزوجة: وتحرم على الرجل بمجرد العقد على ابنتها عند جمهور أهل العلم، وهو الصواب لإطلاق قوله تعالى:{وأمهات نسائكم} .

فلم تتقيد بالدخول كما قيدت الربيبة، فإن كان دخل بزوجته حَرُمَت عيه أمها بالإجماع (2) ويدخل في هذا أم أم زوجته، وأم أبيها.

3 -

بنت الزوجة (الربيبة): ويشترط في تحريمها أن يدخل الرجل بأمها فإن عقد على الأم ولم يدخل بها جاز أن يتزوج ابنتها.

قال تعالى: {وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم} . قلت: والراجح من أقوال العلماء أن قوله: {اللاتي في حجوركم} يعني في بيوتكم، لا يعد شرطًا لتحريم بنت الزوجة -كما ذهب إليه الجمهور- (3) فهو خارج مخرج الغالب وما كان كذلك فلا مفهوم له، قلت: ومما يؤيد هذا أنه تعالى احترز بقوله {فإن لم تكونوا دخلتم بهن} ولم يقل: (فإن لم يكنَّ في حجوركم)، فعلم أن الدخول بأمها شرط بخلاف وجودها في بيته والله أعلم.

والمراد بالدخول هنا: الجماع كما قال ابن عباس. والله أعلم.

(1) صحيح لشواهده: أخرجه أبو داود (4457)، والدارمي (2/ 153)، والحاكم (4/ 357)، والبيهقي (8/ 208) وصححه شيخنا لشواهده.

(2)

«تفسير الطبري» (8/ 143)، و «الأم» (5/ 34)، و «المغني» (6/ 569)، و «المحلي» (9/ 259)، و «القرطبي» (5/ 70)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 87).

(3)

وقد خالف في هذا علي بن أبي طالب ثم ابن حزم، ونقل عن الإمام مالك، فجعلوا كون البنت في بيت زوج أمها شرطًا لتحريمها عليه، وإلى هذا المذهب جنح شيخنا في «جامع أحكام النساء» (3/ 93) وما بعدها، لكن الظاهر أن مذهب الجمهور أقوى لأمور يطول شرحها.

ص: 79

* فائدة: ويلتحق بهذا الحكم بنات بنات الزوجة وبنات أبنائها.

4 -

زوجة الابن الذي من صلبه: فلا يجوز للرجل أن يتزوج زوجة ابنه الذي من صلبه لقوله تعالى: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} .

ويدخل في الآية أيضًا زوجة الابن من الرضاع، وأما قوله تعالى:{الذين من أصلابكم} فاحترز به عن الأدعياء الذين كانوا يتبنونهم في الجاهلية لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب"(1).

* فائدة: زوجة الأب وزوجة الابن، لا تحرم بناتهن على الرجل فيجوز له أن يتزوج بنت امرأة أبيه، وبنت امرأة ابنه، باتفاق العلماء فإن هذه ليست من حلائل الآباء والأبناء فإن الحليلة هي الزوجة وبنت أم الزوجة وأمها ليست زوجة بخلاف الربيبة، فإن ولد الربيبة ربيب، كما أن ولد الولد ولد (2).

وتيسيرًا لحفظ المحرمات من النساء بسبب المصاهرة يمكن القول بأن: "كل نساء الصهر (3) حلال للرجل إلا أربعة: زوجة أبيه، وأم زوجته وبنت زوجته التي دخل بها، وزوجة ابنه".

(جـ) محرمات بالرضاع:

قال تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} (4). ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في بنت حمزة: "لا تحل لي، يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، هي ابنة أخي من الرضاعة"(5).

ولقوله صلى الله عليه وسلم: "الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة"(6).

فعُلم من هذا أنه يحرم بسبب الرضاع نفس الأصناف التي تحرم بالنسب مع جعل المرضعة بمنزلة الأم، فتكون المحرمات من الرضاع على الرجل (الرضيع) (7):

(1) انظر تفسير ابن كثير (1/ 471)، والطبري (8/ 149)، و «الأم» للشافعي (5/ 35).

(2)

انظر «مجموع الفتاوى» (32/ 65)، و «الحاوي» للماوردي (11/ 274).

(3)

كل من الزوجين، يكون أقارب الآخر أصهارًا له، وأقارب الرجل أحماء المرأة، وأقارب المرأة أختان الرجل. (مجموع الفتاوى 32/ 65).

(4)

سورة النساء: 23.

(5)

البخاري (2645)، ومسلم (1447).

(6)

البخاري (5099)، ومسلم (1444).

(7)

انظر «المحلي» (10/ 2)، و «المغني» (6/ 571)، و «البدائع» (4/ 2)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 47 - وما بعدها).

ص: 80

1 -

المرضعة وأمها (لأنهن أمهاته).

2 -

بنات المرضعة سواء من ولدن قبله أو بعده (لأنهن أخواته).

3 -

أخت المرضعة (لأنها خالته).

4 -

بنت بنت المرضعة (لأنها بنت أخته).

5 -

أم زوج المرضعة الذي جاء لبنها بسبب الحمل منه (لأنها جدته).

6 -

أخت زوج المرضعة (لأنها عمته).

7 -

بنت ابن المرضعة (لأنها بنت أخيه).

ويضاف إلى هؤلاء:

8 -

بنت زوج المرضعة ولو من امرأة أخرى (لأنها أخت الرضيع من الأب).

9 -

أخوات زوج المرضعة (لأنهن عماته).

10 -

الزوجة الأخرى لزوج المرضع (لأنها زوجة أبيه).

11 -

زوجة الرضيع تحرم على زوج المرضع (لأنها زوجة ابنه).

لأن سبب التحريم -وهو اللبن- ينفصل من المرأة بسبب الحمل من زوجها فإذا تغذى به الرضيع صار جزءًا من أجزائهما.

ومما يدل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة أن تأذن لأفلح أخي أبي القعيس -وهو عمها من الرضاعة- بالدخول عليها (1).

وعن ابن عباس أنه سئل عن رجل كانت له امرأتان فأرضعت إحداهما غلامًا، وأرضعت الأخرى جارية، فقيل له: هل يتزوج الغلام الجارية؟ فقال: "لا، اللقاح واحد"(2).

وهذا قول عامة الصحابة والفقهاء (3).

(1) صحيح: أخرجه البخاري (5103)، ومسلم (1445) وقد تقدم لفظه في «اللباس» .

(2)

صحيح: أخرجه مالك (2/ 602)، والترمذي (1149) وغيرهما بسند صحيح إلى ابن عباس، وهذه الصورة تسمى «لبن الفحل» والمراد بالفحل الرجل، ونسبة اللبن إليه مجارية لكونه السبب فيه.

(3)

«الأم» (5/ 34)، و «البدائع» (4/ 3)، و «المغني» (6/ 572)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 53) وقد ذهب قوم إلى أن (لبن الفحل) لا يحرم (!!) بناء على أن الله تعالى بيَّن الحرمة في جانب المرضعة ولم يبيِّن في جانب زوجها، وأن المحرِّم هو الرضاع، وقد وُجد منها لا منه، وهو قول مرجوح محجوج بالأدلة الصحيحة المذكورة أعلاه، وانظر لتفنيد هذا القول:«المحلي» لابن حزم (10/ 3).

ص: 81

12 -

ولو كان الرضيع أنثى فيحرم عليها زوج المرضعة (لأنه أبوها) وأخو زوج المرضعة (لأنه عمها) وأبوه (لأنه جدها) وهكذا.

* فائدة (1): التحريم خاص بالرضيع، ولا يتعدى إلى أحد من أقاربه، فليست أخته من الرضاعة أختًا لأخيه مثلًا، والقاعدة في هذا أن "من اجتمعوا على ثدي واحد صاروا إخوة" فأخو الرضيع مثلًا لم يشترك معهم في الرضاعة وبالتالي يجوز له أن يتزوج بنت مرضعة أخيه فإنها أجنبية عنه وإن كانت أختًا لأخيه من الرضاع والله أعلم.

* شروط التحريم بسبب الرضاعة:

[1]

عدد الرضعات المُحَرِّمة:

اختلف أهل العلم في عدد الرضعات المعتبرة في التحريم، والتي يثبت بها حكم الرضاع على أربعة أقوال (2):

الأول: تُحرم الرضعة الواحدة فأكثر: وهو مذهب الجمهور أبي حنيفة ومالك ورواية عن أحمد، وهو قول ابن المسيب والحسن والزهري وقتادة والأوزاعي والثوري والليث، وحجتهم:

1 -

عموم قوله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} (3).

2 -

عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الرضاعة من المجاعة"(4).

3 -

قوله صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب"(5).

4 -

حديث عقبة بن الحارث قال: تزوجتُ امرأةً، فجاءتنا امرأة سوداء، فقالت: أرضعتكما، فأتيتُ النبى صلى الله عليه وسلم فقلتُ: تزوجتُ فلانة بنت فلان، فجاءتنا امرأة سوداء فقالت لى: إنى قد أرضعتكما، وهى كاذبة، فأعرض عني، فأتيته من قبل وجهه، قلت: إنها كاذبة، قال:"كيف بها وقد زعمت أنها قد أرضعتكما؟ دعها عنك"(6).

(1) فتح الباري (9/ 141)، وبدائع الصنائع (4/ 2).

(2)

«البدائع» (4/ 5 - 7)، و «المواهب» (4/ 178)، و «بداية المجتهد» (2/ 66)، و «الأم» (5/ 38)، و «المحلي» (10/ 12)، و «المغني» (7/ 535)، و «الإنصاف» (9/ 334)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 57).

(3)

سورة النساء: 23.

(4)

صحيح: أخرجه البخاري (5102)، ومسلم (1455).

(5)

صحيح: تقدم تخريجه قريبًا.

(6)

صحيح: أخرجه البخاري (2659)، والترمذي (1151)، والنسائي (3330).

ص: 82

قالوا: ففي هذه النصوص وغيرها لم يُذكر عدد معين.

5 -

أجابوا عن الروايات التي وردت بتحديد العدد المحرِّم -وستأتي- بأنها قد اختُلف على عائشة في هذا العدد، فوجب الرجوع إلى أقل ما ينطلق عليه الاسم.

6 -

وعن عمرو بن دينار أنه سمع ابن عمر -سأله رجل: أتحرِّم رضعة أو رضعتان؟ فقال: "ما نعلم الأخت من الرضاعة إلا حرامًا" فقال رجل: إن أمير المؤمنين -يريد ابن الزبير- يزعم أنه لا تحرِّم رضعة ولا رضعتان؟

فقال ابن عمر: "قضاء الله خير من قضائك، وقضاء أمير المؤمنين"(1).

7 -

ولأن ذلك فعل يتعلق به تحريم مؤبَّد فلم يُعتبر فيه العدد كتحريم أمهات النساء.

الثاني: يُحرِّم ثلاث رضعات فأكثر: وهو رواية ثالثة عن أحمد وقول أهل الظاهر -إلا ابن حزم- وبه قال إسحاق وأبو عبيد، أبو ثور وابن المنذر، وحجتهم:

1 -

حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحرِّم المصة والمصَّتان"(2).

2 -

حديث أم الفضل قالت: دخل أعرابى على نبى الله صلى الله عليه وسلم وهو فى بيتى فقال: يا نبى الله، إنى كانت لى امرأة فتزوجت عليها أخرى، فزعمت امرأتى الأولى أنها أرضعت امرأتى الحُدثى رضعة أو رضعتين، فقال نبى الله صلى الله عليه وسلم:"لا تحرم الإملاجة، والإملاجتان"(3).

والإملاجة: الرضعة كذا في القاموس.

3 -

قالوا: ولأن ما يعتبر فيه العدد والتكرار، يُعتبر فيه الثلاث (!!).

الثالث: يُحرِّم خمس رضعات فأكثر: وهو مذهب الشافعي والمشهور عن أحمد وابن حزم وبه قال عطاء وطاوس، وهو عن عائشة وابن مسعود وابن الزبير، وحجة هذا القول:

1 -

حديث عائشة قالت: "كان فيما أُنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن". ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهنَّ فيما يقرأ من القرآن" (4).

(1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7/ 467)، والبيهقي (7/ 458).

(2)

صحيح: أخرجه مسلم (1450)، وأبو داود (2063)، والترمذي (1150)، والنسائي (6/ 101)، وابن ماجة (1941).

(3)

صحيح: أخرجه مسلم (1451)، وأحمد (6/ 339)، والبيهقي (7/ 445).

(4)

صحيح: أخرجه مسلم (1452)، وأبو داود (2062).

ص: 83

قال النووي: "ومعناه أن النسخ بخمس رضعات تأخَّر إنزاله جدًّا حتى إنه صلى الله عليه وسلم توفى، وبعض الناس يقرأ (خمس رضعات) ويجعلها قرآنًا متلوًّا لكونه لم يبلغه النسخ لقرب عهده، فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك وأجمعوا على أن هذا لا يُتلى" اهـ.

قلت: فهذا من القرآن المنسوخ تلاوة، الباقي حكمًا، كآية الرجم.

2 -

ما جاء في بعض طرق حديث عائشة في قصة سهلة بنت سهيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "أرضعي سالمًا [خمس رضعات] فيحرم بلبنها"(1).

3 -

وعن عائشة قالت: "لا يُحرِّم دون خمس رضعات معلومات"(2).

الرابع: لا يُحرِّم إلا عشر رضعات فأكثر، وهو مروي عن عائشة وحفصة رضي الله عنهما.

1 -

فعن سالم "أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أرسلت به -وهو يرضع- إلى أختها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، فقالت: أرضعيه عشر رضعات حتى يدخل عليَّ، قال سالم: فأرضعتني أم كلثوم ثلاث رضعات ثم مرضت، فلم ترضعني غير ثلاث رضعات، فلم أكن أدخل على عائشة من أجل أن أم كلثوم لم تتمَّ لي عشر رضعات"(3).

2 -

وعن صفية بنت أبي عبيد [زوجة عبد الله بن عمر]: "أن حفصة أم المؤمنين أرسلت بعاصم بن عبد الله بن سعد إلى أختها فاطمة بنت عمر بن الخطاب ترضعه عشر رضعات ليدخل عليها وهو صغير يرضع، ففعلت فكان يدخل عليها"(4).

قلت: والراجح قول من قال: (خمس رضعات معلومات يحرمن) لحديث عائشة في نسخ العشر إلى خمس رضعات، وهو مقيد للأحاديث المطلقة فيجب حملها عليه، وأحاديث الرضعتين ليست صريحة في تحريم الثلاث أو الأربع، ثم

(1) لا يصح بذكر عدد الرضعات: أخرجه بهذا اللفظ عبد الرزاق (13886)، ومالك (1284)، وأحمد (6/ 201)، وأسانيده غير متصلة، وأصله عند مسلم (1453) وغيره بلفظ «أرضعيه تحرمي عليه» بدون ذكر العدد.

(2)

إسناده صحيح: أخرجه الدارقطني (4/ 183).

(3)

إسناده صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (1278)، وعبد الرزاق (7/ 469)، والبيهقي (7/ 457).

(4)

إسناده صحيح: أخرجه مالك (1279)، وعبد الرزاق (7/ 470)، والبيهقي (7/ 457)،

ص: 84

رواية الخمس صريحة فيكون المعوَّل عليها، وعلى هذا القول تنتظم الأدلة ولا تتعارض، وأما فتوى عائشة بالعشر فليس فيه حجة لأمرين (1):

1 -

أنها مخرَّجة على أن عائشة كانت تأخذ لنفسها بعشر رضعات ولغيرها بخمس رضعات كما تقدم عنها، وكذلك حفصة، فلعله كان لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم رضعات معلومات كما صحَّ عن طاووس.

2 -

أن العبرة بروايتها لا برأيها وفتواها، والله أعلم.

* فائدة: إذا وقع الشك في عدد الرضعات: أو في عدد الرضاع المحرم: هل كمل أم لا؟ لم يثبت التحريم، لأن الأصل عدمه، فلا نزول عن اليقين بالشك، كما لو شك في وجود الطلاق وعدمه (2).

* فائدة: قال في المغني (7/ 547):

وإذا كان لامرأة لبن من زوج فأرضعت طفلًا ثلاث رضعات، وانقطع لبنها، فتزوَّجت آخر فصار لها منه لبن، فأرضعت منه الصبي رضعتين، صارت أُمًّا له بغير خلاف نعلمه عند القائلين بأن الخمس محرِّمات، ولم يصر واحد من الزوجين أبًا له، لأنه لم يكمل عدد الرضاع من لبنه، ويحرم على الرجلين لكونه ربيبهما لا لكونه ولدهما" اهـ.

[2]

السن المعتبرة في التحريم بالرضاع:

للعلماء في السن المعتبرة في التحريم بالرضاع فيها أقوال كثيرة أشهرها ثلاثة:

الأول: الرضاع المحرِّم ما كان في السنتين الأوليين فقط: وهو مذهب جماهير العلماء منهم مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وصاحبا أبي حنيفة والأوزاعي (3)، وبه قال عمر وابنه عبد الله وابن

مسعود وابن عباس وأبو موسى وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم سوى عائشة، وحجة هذا القول ما يلي:

1 -

قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} (4). فهو إرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال

(1)«المحلي» (10/ 10)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 65).

(2)

«المغني» لابن قدامة (7/ 537).

(3)

«مواهب الجليل» (4/ 179)، و «بداية المجتهد» (2/ 67)، و «البدائع» (4/ 5)، و «الأم» (5/ 39، 40)، و «المغني» (7/ 542).

(4)

سورة البقرة: 233.

ص: 85

الرضاعة وهي سنتان، فدلَّ على أن الرضاعة المحرِّمة الجارية مجرى النسب إنما هي ما كان في الحولين، فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك (1).

2 -

حديث عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها رجل، فكأنَّه تغيَّر وجهُه، كأنَّه كره ذلك، فقالت: إنه أخى، فقال:"انظرن ما إخوانكن، فإنما الرضاعة من المجاعة"(2).

يعني: أن حرمة الرضاع إنما هي في الصغر حتى تسدَّ الرضاعة المجاعة.

3 -

عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يُحرِّم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام"(3).

4 -

عن عبد الله بن دينار قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمر وأنا معه عند دار القضاء يسأله عن رضاعة الكبير؟ فقال عبد الله بن عمر: "جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: إني كانت لي وليدة [يعني: أمة] وكنت أطؤها، فعمدت امرأتي إليها فأرضعتها، فدخلتُ عليها، فقالت: دونك فقد -والله- أرضعتُها، فقال عمر: أَوْجِعها [أي: ضربًا] وائتِ جاريتك، فإنما الرضاعة رضاعة الصغير"(4).

5 -

وعن ابن عمر قال: "لا رضاعة إلا لمن أرضع في الصغر، ولا رضاعة لكبير"(5).

6 -

وجاء رجل إلى بن مسعود فقال: إنها كانت معي امرأتي فحُصر لبنها في ثديها، فجعلتُ أمصُّه ثم أمُجُّه، فأتيت أبا موسى فسألتُه، فقال: حرمت عليك، قال: فقام وقمنا معه حتى انتهى إلى أبي موسى فقال: ما أفتيتَ هذا؟ فأخبره بالذي أفتاه، فقال ابن مسعود وأخذ بيد الرجل:"أرضيعًا ترى هذا؟ إنما الرضاع ما أنبت اللحم والدَّم" فقال أبو موسى: لا تسألوني عن شيء ما كان هذا الحبر بين أظهركم (6).

(1) انظر «تفسير القرطبي» (البقرة: 233) و «ابن كثير» .

(2)

صحيح: أخرجه البخاري (5102)، ومسلم (1455).

(3)

صحيح: أخرجه الترمذي (1162)، وابن حبان (6/ 214).

(4)

إسناده صحيح: أخرجه مالك (1289)، وعبد الرزاق (7/ 462)، والبيهقي (7/ 461).

(5)

إسناده صحيح: أخرجه مالك (1282)، وعبد الرزاق (7/ 465)، وابن جرير في «التفسير» (4956).

(6)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7/ 463)، والبيهقي (7/ 461)، والطبري (4958).

ص: 86

7 -

عن ابن عباس قال: "لا رضاع إلا ما كان في الحولين"(1).

8 -

إنكار أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة قولها باعتبار رضاع الكبير وسيأتي.

القول الثاني: الرضاع المحرِّم ما كان في مدة ثلاثين شهرًا، وهو مذهب أبي حنيفة (2) وحجته: قوله تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا} (3). فجعل المراد: الحمل في الفصال لا الحمل في الأحشاء!!

القول الثالث: رضاع الكبير يحرِّم كالصغير: وهو مذهب الظاهرية وعطاء والليث (4)، وبه قالت عائشة رضي الله عنها، وحجة هذا القول:

حديث عائشة قالت: جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إنى أرى فى وجه أبى حذيفة من دخول سالم (وهو حليفه) فقال النبى صلى الله عليه وسلم:"أرضعيه" قالت: وكيف أُرضعه وهو رجل كبير، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:"قد علمتُ أنه رجل كبير"(5).

وقد أجاب الجمهور عن هذا الحديث بأجوبة منها:

1 -

أنه واقعة عين خاصة بسهلة وبسالم، فلا عموم لها، ولذا أنكر سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة استدلالها به، فعن عروة قال: أَبى سائر أزواج النبى صلى الله عليه وسلم أن يدخل عليهن بتلك الرضعة أحدٌ من الناس -يريد رضاعة الكبير- وقلن لعائشة: "والله ما نرى الذى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سهلة بنت سهيل إلا رخصة فى رضاعة سالم وحده من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لا يدخل علينا أحد بهذه الرضعة ولا يرانا"(6).

2 -

أنه منسوخ، ولا يسلَّم به لا سيما مع عدم العلم بالتاريخ.

قلت: الراجح أن الرضاع المعتبر المؤثِّر ما كان في الحولين الأولين من عمر

(1) إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (980)، والبيهقي (7/ 462).

(2)

«بدائع الصنائع» (4/ 5)، و «الهداية» (1/ 223).

(3)

سورة الأحقاف: 15.

(4)

«المحلي» (10/ 9)، و «المغني» (7/ 542)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 77).

(5)

صحيح: أخرجه مسلم (1453).

(6)

صحيح: أخرجه النسائي (6/ 106)، ومالك (1288)، وأحمد (6/ 269)، والبيهقي (7/ 459)، وهو عند مسلم (1454) وغيره عن حديث أم سلمة بنحوه.

ص: 87

الرضيع كما ذهب إليه الجمهور، لكن إذا دعت الحاجة كرضاع الكبير -الذي لا يستغنى عن دخوله على المرأة ويشق احتجابها منه- لجعله محرمًا فلا مانع من إعمال حديث سهيلة وسالم، لا سيما وأنه يجوز للحاجة ما يجوز لغيرها،

وهذا مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله واختاره الشوكاني (1)، وهو قول رابع في المسألة، وعليه تجتمع جميع النصوص في المسألة من غير إهمال لبعضها، والله أعلم.

[3]

صفة الرضاع المحرِّم:

هل يشترط في الرضاع المصُّ من الثدي؟ (2)

ذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن لبن المرضع يُحرِّم سواء مصَّه الطفل من ثديها أو حُلِب له في إناء وشربه منه، وسواء وضع له في الفم (الوجور) أو في الأنف (السعوط) أو بأي صفة كانت بحيث يحصل له به الغذاء وسد الجوع وإنبات اللحم وإنشاز العظم، لقوله صلى الله عليه وسلم:"إنما الرضاعة من المجاعة"(3).

وأما ابن حزم فجعل مناط التحريم مسمى "الرضاع" فقال: ولا يسمى رضاعة إلا ما أخذ الرضيع بفيه الثدي وامتصاصه إياه، قال: فأما من سُقي من لبن امرأة فشرب من إناء أو حلب في فيه فبلعه أو أطعمه بخبز أو في طعام

فكل ذلك لا يحرم شيئًا!! قلت: وهذا مذهب الليث وداود والظاهرية، وقول الجمهور أقوى لأن الاعتبار بشرب الصبي له لأنه المحرم، ولو ارتضع بحيث يصل إلى فيه ثم مجَّه لم يثبت التحريم فكان الاعتبار به، والله أعلم.

* فوائد:

* إذا نزل للبكر لبن فأرضعت طفلًا فهل يُحرِّم؟ (4)

إذا نزل للمرأة لبن من غير وطء بكرًا كانت أو ثيبًا -فإن لبنها يحرِّم عند جمهور أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم، ويصير الطفل الذي ارتضعه ابنًا

(1)«مجموع الفتاوى» (32)، و «نيل الأوطار» (6).

(2)

«الأم» (5/ 38)، و «البدائع» (4/ 9)، و «المغني» (7/ 538)، و «المحلي» (10/ 7)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 80).

(3)

صحيح: تقدم قريبًا.

(4)

«الأم» (4/ 42)، و «المغني» (7/ 546)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 83).

ص: 88

لها، لأنه لبن امرأة فتعلَّق به التحريم كما لو نزل بوطء، ولأن ألبان النساء خلقت لغذاء الأطفال، فإن كان هذا نادرًا، فجنسه معتاد.

2 -

المحرمات مؤقَّتًا:

(أ) أخت الزوجة (الجمع بين الأختين):

لا يجوز للرجل أن يجمع بين امرأة وأختها في وقت واحد بإجماع العلماء (1)، لكن إذا ماتت زوجته أو طلَّقها جاز له زواج أختها.

قال الله تعالى في بيان المحرِّمات من النساء: {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} (2).

وعن أم حبيبة بنت أبي سفيان أنها قالت: يا رسول الله، أنكح أختي بنت أبي سفيان، فقال:"أو تحبِّين ذلك؟ " فقلت: نعم، لست لك بمخلية، وأَحَبُّ من شاركني في خيرٍ أختي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن ذلك لا يحل لي"(3) .. الحديث.

ويستوي في هذا أن تكونا شقيقتين أو أختين لأب أو لأمٍّ، وسواء في هذا النسب والرضاع.

واختلف فيما إذا كانت ملك يمين هل يجمع بينهما؟ فمنعه جمهور الصحابة ومن بعدهم، وهو الصواب، فإن سائر ما ذكر في آية المحرمات عام في النكاح وملك اليمين، فكذلك الجمع بين الأختين (4).

* فائدتان:

1 -

إذا تزوَّج الرجل امرأة ثم تزوَّج أختها (5): فزواج الآخرة باطل، وزواج الأولى صحيح ثابت، وسواء دخل بها أو لم يدخل، ويُفرَّق بينه وبين الآخرة، وإذا كان عنده أمة يطؤها، لم يكن له وطء أختها إلا بأن يُحرم عليه فرج التي كان يطأ ببيعها أو تزويجها أو إعتاقها ونحو ذلك.

فإن تزوجهما في عقد واحد فسد، لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى.

(1)«فتح الباري» (9/ 160)، و «تفسير ابن كثير» (1/ 472)، و «المغني» (6/ 571).

(2)

سورة النساء: 23.

(3)

صحيح: أخرجه البخاري (5101)، ومسلم (1449).

(4)

«فتح الباري» (9/ 160)، و «زاد المعاد» (5/ 125)، و «المحلي» (9/ 521).

(5)

«الأم» (3/ 150)، و «المغني» (6/ 571)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 103).

ص: 89

2 -

إذا أسلم الكافر، وكان متزوجًا بأُختين: فإنه يُخيَّر، فيمسك إحداهما ويطلق الأخرى لا محالة، وقد ورد -بسند ضعيف- أن فيروز الديلمي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إني أسلمت وتحتي أختان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اختر أيتهما شئت"(1).

(ب) خالة الزوجة وعمتها (الجمع بين المرأة وخالتها أو عمتها):

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُجمع بين المرأة وعمَّتها، ولا بين المرأة وخالتها"(2).

وعن جابر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُنكح المرأة على عمتها أو خالتها"(3).

وعلى هذا إجماع من يُعتد بإجماعه من أهل العلم أنه لا يحل للرجل أن يجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، سواء كانت عمة وخالة حقيقية، أو مجازية وهي أخت أب الأب وأبي الجد وإن علا، أو أخت أمِّ الأم، وأم الجدة من جهتي الأم والأب وإن علت، فكلهنَّ يحرم الجمع بينهما.

ويمكن أن يقال: "يحرم الجمع بين امرأتين بينهما حرمة النسب أو الرضاع بحيث لو فرضت واحدة منهما ذكرًا لم يجز نكاحها مع الأخرى"(4) فهذا هو الصفارة.

فإن تزوج إحداهما على الأخرى فنكاح الآخرة مفسوخ، كما تقدم في الجمع بين الأختين (5).

(ج) المرأة المتزوجة بالغير، أو المعتدة للغير إلا المسبيَّة، وزوجة الكافر إذا أسلمت:

لقوله تعالى: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} (6).

ومعنى الآية: وحرمت عليكم المتزوجات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم

(1) ضعيف: أخرجه الترمذي (1129)، وأبو داود (2243)، وابن ماجة (1951)، وأحمد (4/ 232).

(2)

صحيح: أخرجه البخاري (5109)، ومسلم (1408).

(3)

صحيح: أخرجه البخاري (5108)، والنسائي (6/ 98).

(4)

«المغني» .

(5)

«سنن الترمذي» (ح 1126)، و «الأم» (3/ 150)، و «المحلي» (9/ 521)، و «الزاد» (5/ 127)، و «شرح مسلم» (3/ 562)، و «الفتح» (9/ 161)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 109).

(6)

سورة النساء: 24.

ص: 90

بالسبي، فإنه ينفسخ نكاح زوجها الكافر وتحلُّ لكم إذا انقضى استبراؤها، ويؤيد هذا المعنى حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين بعث جيشًا إلى أوطاس فلقوا عدوًّا فقاتلوهم، فظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا، فكأنَّ ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحرَّجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين، فأنزل الله عز وجل فى ذلك:{والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} (1). أى فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن. (2)

وقال ابن عباس: "كل ذات زوج: إتيانها زنا إلا ما سُبِيَتْ"(3).

وعن ابن مسعود قال في هذه الآية: "كل ذات زوج عليك حرام إلا أن تشتريها أو ما ملكت يمينك"(4).

* ويلحق بالمحصنات المباحات: المرأة التي أسلمت وكانت تحت رجل كافر، فإن إسلامها يفرِّق بينها وبين زوجها المشرك، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن

الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن} (5).

(د) المطلَّقة ثلاثًا لا تحل لزوجها إلا إذا تزوَّجت غيره زواجًا صحيحًا:

لقوله سبحانه: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله} (6).

وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة في "أحكام الطلاق".

(هـ) المشركة حتى تسلم:

قال الله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم} (7).

(1) سورة النساء: 24.

(2)

صحيح: أخرجه مسلم (1456)، وأبو داود (2155)، والنسائي (6/ 110)، والترمذي (1132) مختصرًا.

(3)

إسناده صحيح: أخرجه ابن جرير في «تفسيره» (8961).

(4)

رجاله ثقات: أخرجه ابن جرير (8972) ورجاله ثقات إلا أن رواية إبراهيم عن ابن مسعود منقطعة عند بعض العلماء.

(5)

سورة الممتحنة: 10.

(6)

سورة البقرة: 230.

(7)

سورة البقرة: 221.

ص: 91

وقال سبحانه: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} (1).

وفيهما تحريم الزواج بالمشركة حتى تؤمن، وفي حديث المسور بن مخرمة -في قصة صلح الحديبية- أنه لما نزل قوله تعالى:{ولا تمسكوا بعصم الكوافر} "طلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية

" الحديث (2).

* تنبيه: يستثنى من تحريم المشركات، الزواج بأهل الكتاب:

قال الله تعالى: {اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان} (3).

وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن المراد بالمحصنات هنا: العفيفات، سواء كنَّ من الحرائر، أو الإماء، فتبيَّن أن الكتابيات لسن داخلات في التحريم بقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات

} وعليه جمهور الصحابة ومن بعدهم:

1 -

عن الشعبي قال: "تزوَّج أحد الستة من أصحاب الشورى يهودية"(4).

2 -

عن جابر -وسئل عن نكاح المسلم اليهودية والنصرانية- قال: "تزوجناهنَّ زمان الفتح بالكوفة مع سعد بن أبى وقاص، ونحن لا نكاد نجد المسلمات كثيرًا، فلما رجعنا طلقناهن، وقال: لا يرثن مسلمًا ولا يرثونهن، ونساؤهم لنا حِلٌّ، ونساؤنا حرام عليهم"(5).

3 -

عن أبي وائل قال: "تزوَّج حذيفة يهودية فكتب إليه عمر: طلِّقها، فكتب إليه: لم؟ أحرام هي؟ فكتب إليه: لا، ولكني خفت أن تعاطوا المومسات منهن"(6).

4 -

ورُوي عن عثمان بن عفان أنه: "نكح ابنة الفرافضة الكلبية -وهي نصرانية- على نسائه ثم أسلمت على يديه"(7) وفي سنده ضعف.

(1) سورة الممتحنة: 10.

(2)

صحيح: أخرجه البخاري (2734) وغيره.

(3)

سورة المائدة: 5.

(4)

إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (717).

(5)

إسناده صحيح: أخرجه الشافعي في «الأم» (5/ 8)، والبيهقي (7/ 172).

(6)

إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور (716)، والبيهقي (7/ 172).

(7)

إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي (7/ 172).

ص: 92

* وذهب الشافعي وبعض أهل العلم إلى أن من كان من بني إسرائيل يدين بدين اليهود أو النصارى نُكح نساؤه وأكلت ذبيحته، أما من دان بدينهم من غيرهم من العرب أو العجم لم تُنكح نساؤه ولم تحل ذبيحته (!!) وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبعض السلف:

فعن عبيدة عن عليٍّ قال: "لا تؤكل ذبائح نصارى العرب، فإنهم لا يتمسَّكون من النصرانية إلا بشرب الخمر"(1).

لكن هذا القول لا دليل عليه من كتاب أو سنة مرفوعة، وأما قول عليٍّ فهو مُعارض بقول غيره من الصحابة، بل قال ابن عباس:"كلوا ذبائح بني تغلب وتزوَّجوا نساءهم، فإن الله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض} (2) فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم"(3).

وقد "كتب عامل عمر إلى عمر أن قبلنا ناسًا يُدعون السامرة يقرأون التوراة، ويسبتون السبت، ولا يؤمنون بالبعث، فما ترى يا أمير المؤمنين في ذبائحهم فكتب إليه عمر بن الخطاب أنهم طائفة من أهل الكتاب"(4).

قلت: وقد تقدم أن إنكار عمر على حذيفة زواجهُ باليهودية لم يكن لتحريمه وإنما خشية أن يتزوج المسلمون المومسات والزانيات منهن، وهذا أمر معتبر ينبغي التنبُّه إليه مع القول بالإباحة، والله أعلم.

* أما المسلمة فلا يحلُّ لها الزواج بالكافر: سواء كان من أهل الكتاب أو من غيرهم، لقوله سبحانه:{ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه} (5).

وقوله تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن} (6).

(1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (6/ 72)، والبيهقي (9/ 217).

(2)

سورة المائدة: 51.

(3)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنَّف» (3/ 477)، والبيهقي (9/ 217).

(4)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7/ 187)، والبيهقي (7/ 173).

(5)

سورة البقرة: 221.

(6)

سورة الممتحنة: 10.

ص: 93

(و) الزانية حتى تتوب وتستبرئ بحيضة:

قال الله تعالى: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحُرِّم ذلك على المؤمنين} (1).

وقد اختلف أهل العلم في مفهوم هذه الآية الكريمة: هل خرج مخرج الذم أو مخرج التحريم؟ وهل الإشارة في قوله تعالى {وحرم ذلك على المؤمنين} إلى الزنا، أو إلى النكاح؟ (2).

وقد صار الجمهور -خلافًا لأحمد- إلى حمل الآية على الذم لا على التحريم، فأجازوا زواج الزانية، لأمور:

1 -

أن ظاهر الآية غير مراد لأنه يستلزم القول بأن الزاني المسلم تحل له المشركة، وكذلك الزانية المسلمة يحل لها المشرك وهما ممتنعان كما تقدم.

2 -

قالوا: الآية منسوخة بقوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم

} (3).

قد خلت الزانية في أيامى المسلمين، ويعكِّر على هذا الجهل بالتاريخ فلا يثبت النسخ.

3 -

واستدلوا بحديث الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم في زوجته: إنها لا تردُّ يد لامس، فقال له صلى الله عليه وسلم:"طلقها" فقال: إني لا أصبر عنها فقال له: "فأمسكها"(4).

قلت: لكن يتأيد حمل الآية على تحريم نكاح الزانية بسبب نزولها:

فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن مرثد بن أبى مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى بمكة، وكان بمكة بغى يقال لها "عَنَاق" وكانت صديقته، فقال: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أنكح عناقًا؟ فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يردَّ عليَّ شيئًا حتى نزلت:{الزانى لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} (5). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا مرثد، الزانى لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، فلا تنكحها"(6).

وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله"(7).

(1) سورة النور: 3.

(2)

«بداية المجتهد» (2/ 72 - 73) وانظر «تفسير ابن كثير» .

(3)

سورة النور: 32.

(4)

حسن بطرقه: أخرجه أبو داود (2049)، والنسائي (6/ 170)، والبيهقي (7/ 154، 155).

(5)

سورة النور: 3.

(6)

حسن: أخرجه الترمذي (3177)، وأبو داود (2051)، والنسائي (6/ 66).

(7)

حسن: أخرجه أبو داود (2052)، والحاكم (2/ 193)، والبيهقي (7/ 156).

ص: 94

وهذا مذهب قتادة وإسحاق وابن عبيد وأحمد واختاره شيخ الإسلام (1).

فلا يجوز زواج الزانية إلا بشرطين:

1 -

أن تتوب: لأن بتوبتها يزول عنها الوصف الذي من أجله حُرِّم نكاحها في الآية الكريمة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"التائب من الذنب كمن لا ذنب له"(2).

2 -

الاستبراء بحيضة: وهو شرط عند أحمد ومالك لقول النبي صلى الله عليه وسلم في المسبيَّات: "لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة"(3).

فاشترط استبراء الأمة بالمحيض براءة الرحم قبل تجويز وطئها فكذلك زواج الزانية، وهو الصواب والله أعلم.

(ز) المُحْرِمة حتى تتحَلَّل:

لا يحل للمحرم أو المحرمة عقد الزواج حال الإحرام، فإن عقد أحدهما فنكاحه باطل، وهذا مذهب الجمهور: مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم، لحديث عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَنْكِح المُحرِم، ولا يُنْكَح، ولا يخطب"(4).

وقد تقدمت هذه المسألة بأدلتها في "كتاب الحج" فراجعها غير مأمور.

(ج) الزواج بخامسة ما دام تحته أربع:

قال الله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} (5). فانتهى عدد ما رخَّص فيه للمسلمين إلى أربع، فلا يحل لمسلم أن يجمع بين أكثر من أربع، إلا ما خص الله به رسوله صلى الله عليه وسلم دون المسلمين من نكاح أكثر من أربع يجمعهن ومن النكاح بغير مهر.

وقد أجمع أهل العلم -إلا من لا يعتدُّ بخلافه من الشيعة- على هذا (6).

(1)«المغني» (7/ 515)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 109).

(2)

حسنه الألباني: أخرجه ابن ماجة (4250)، وابن الجعد (1/ 266) والقضاعي في «الشهاب» (1/ 97)، والطبراني (10/ 150) والظاهر لي إرساله لكن حسنه الألباني في «صحيح ابن ماجة» (2/ 418).

(3)

حسن بطرقه: أخرجه أبو داود (2157)، وأحمد (3/ 62) وله طرق وشواهد.

(4)

صحيح: أخرجه مسلم (1409)، والترمذي (840)، وأبو داود (1841)، والنسائي (5/ 292)، وابن ماجة (1966).

(5)

سورة النساء: 3.

(6)

«تفسير ابن كثير» ، و «فتح الباري» (9/ 139)، و «المغني» (6/ 539).

ص: 95