المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثالثا: الشروط المتعلقة بصيغة الطلاق: - صحيح فقه السنة وأدلته وتوضيح مذاهب الأئمة - جـ ٣

[كمال ابن السيد سالم]

فهرس الكتاب

- ‌9 - كتاب اللباس والزينة وأحكام النظر

- ‌أولًا: اللباس والزينة للرجال

- ‌ثانيًا: اللباس والزينة للنساء

- ‌لباس المرأة المسلمة

- ‌مسائل تتعلق بأحكام النظر

- ‌الزينة للمرأة المسلمة

- ‌حكم لبس العدسات الملونة للزينة والموضة

- ‌10 - كتاب الزواج ومقدماته وتوابعه

- ‌الأنكحة الفاسدة شرعًا

- ‌الصفات المطلوبة في الزوجين

- ‌الخِطْبة وأحكامها

- ‌أحكام النَّظر في الخِطبة

- ‌عقد الزواج

- ‌شروط صحة عقد النكاح

- ‌الاشتراط في عقد النكاح

- ‌الصداق (المهر)

- ‌إعلان النكاح

- ‌تعدد الزوجات

- ‌من أحكام المولود

- ‌النشوز وعلاجه

- ‌11 - كتاب الفرْق بين الزوجين

- ‌الطلاق وأحكامه

- ‌شروط الطلاق

- ‌أولًا: الشروط المتعلقة بالمطلِّق:

- ‌ثانيًا: الشروط المتعلِّقة بالمطلَّقة:

- ‌ثالثًا: الشروط المتعلقة بصيغة الطلاق:

- ‌الإشهاد على الطلاق

- ‌أنواع الطلاق

- ‌أولًا: الطلاق الرجعي والبائن

- ‌ثانيًا: الطلاق السُّنِّي والبدعي

- ‌ثالثًا: الطلاق المُنجَّز والمضاف والمعلَّق

- ‌التخييرُ في الطلاق

- ‌التوكيل أو التفويض في الطلاق

- ‌العِدَّة

- ‌الخُلْع

- ‌أركان الخلع وما يتعلق بها

- ‌الإيلاء

- ‌الظِّهَار

- ‌اللِّعان

- ‌التفريق القضائي

- ‌الحضانة

- ‌12 - كتاب المواريث

- ‌عِلْم المواريث (الفرائض)

- ‌المُستحقُّون للميراث

- ‌الحَجْبُ

الفصل: ‌ثالثا: الشروط المتعلقة بصيغة الطلاق:

2 -

أن يُعيِّن الزوجُ المطلقة بالإشارة أو بالصفة أو بالنية: فأيُّها قدَّم جاز، فإن عيَّن المطلقة بالإشارة والصفة والنية وقع عليها الطلاق اتفاقًا، كأن يقول لزوجته التي اسمها زينب مشيرًا إليها قاصدًا طلاقها:(يا زينب، أنت طالق).

وكذلك لو أشار إلى واحدة من نسائه دون أن يصفها بوصف، ولم ينو غيرها، يقع الطلاق اتفاقًا، وكذلك إذا وصفها بوصفها دون الإشارة ودون قصد غيرها، كأن يقول:(سلمى طالق).

فإن قال: (إحدى نسائي طالق) ونوى واحدة ولم يُشر إلى إحداهن، فإنها تطلَّق دون غيرها.

* وإن أشار إلى واحدة ووصف غيرها: كأن يقول لزوجته سلمى: (أنت يا زينب طالق) وكانت زينب زوجته كذلك، طُلِّقت المشار إليها (سلمى) دون الغائبة الموصوفة، قضاء عن الحنفية، للقاعدة:(الوصف في الحاضر لغو، وفي الغائب معتبر)(1) وكذلك لو أشار إليها ووصفها بغير وصفها، فإنها تطلق للقاعدة السابقة.

‌ثالثًا: الشروط المتعلقة بصيغة الطلاق:

الأصل في الطلاق أن يعبَّر عنه باللفظ، وقد يُستعاض عن اللفظ في بعض الأحوال بالكتابة أو الإشارة.

(أ) الطلاق باللَّفظ (2):

لفظ الطلاق إما أن يكون صريحًا أو كناية:

فالصريح: هو الذي يُفهم منه -عند التلفظ به- معنى الطلاق، ولا يحتمل معنى آخر، لعدم استعماله إلا في الطلاق غالبًا، لغة أو عرفًا، كقول الرجل:

(أنت طالق-طلقتك-أنت مطلقة) ونحو ذلك اتفاقًا.

واستُعمل هذا اللفظ في القرآن الكريم، فمن ذلك:

قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن

} (3).

(1)«مجلة الأحكام العدلية» (مادة / 65).

(2)

«ابن عابدين» (3/ 247 - 296)، و «الدسوقي» (2/ 378)، و «مغني المحتاج» (3/ 280)، و «المغني» (7/ 318 - 319)، و «المحلي» (10/ 185 - 196) وفيه بحث مانع، و «جامع أحكام النساء» (4/ 59 - 63)، و «نيل المآرب» (2/ 237).

(3)

سورة الطلاق: 1.

ص: 251

وقوله عز وجل: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن

} (1).

وقوله سبحانه: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقًّا على المتقين} (2).

وقد ذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية إلى اعتبار ألفاظ: الفراق والسراح كالطلاق في كونها صريحة في معنى الطلاق، لورود الثلاثة في كتاب الله بهذا المعنى:

ففي ذكر الفراق بمعنى الطلاق: قال الله تعالى: {فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} (3).

وقال سبحانه: {وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته} (4).

وفي ذكر التسريح بمعنى الطلاق، قال الله تعالى:{فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} (5). وقال سبحانه: {

وأسرحكن سراحًا جميلا} (6).

قلت: الأظهر قول الحنفية والمالكية (7) بأن ألفاظ الفراق والتسريح ليست صريحة وإنما هي كناية لأنهما يشترك في معناهما الطلاق وغيره، فقد قال تعالى:{واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا} (8).

وقال سبحانه: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} (9).

وليس للتفرق هنا علاقة بالطلاق كما هو ظاهر.

وكذلك قوله تعالى: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن

وسرحوهن سراحًا جميلًا} (10). فذكر التسريح بعد الطلاق، وهو هنا بمعنى الإرسال كما قال كثير من أهل العلم (11).

فإذا كان كذلك فإن ألفاظ الفراق والتسريح تعتبر من الكنايات.

(1) سورة الأحزاب: 49.

(2)

سورة البقرة: 241.

(3)

سورة الطلاق: 2.

(4)

سورة النساء: 130.

(5)

سورة البقرة: 229.

(6)

سورة الأحزاب: 28.

(7)

والمالكية مع اعتبارهم ألفاظ الفراق والتسريح كنائية إلا أنهم ألحقوها بالصريحة في وقوع الطلاق بها بغير نية (!!).

(8)

سورة آل عمران: 103.

(9)

سورة البينة: 4.

(10)

سورة الأحزاب: 49.

(11)

«جامع أحكام النساء» لشيخنا - رفع الله مقامه - (4/ 60).

ص: 252

وينبغي أن يُعلم أن "تقسيم الألفاظ إلى صريح وكناية وإن كان تقسيمًا صحيحًا في أصل الوضع، لكن يختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة، فليس حكمًا ثابتًا للفظ لذاته، فرُبَّ لفظ صريح عند قوم كناية عند آخرين، أو صريح في زمان أو مكان كناية في غير ذلك الزمان والمكان، والواقع شاهد بذلك، فهذا لفظ السَّراح لا يكاد أحد يستعمله في الطلاق لا صريحًا ولا كناية، فلا يسوغ أن يقال: من تكلم به لزمه طلاق امرأته، نواه أو لم ينوه!!، ويدعي أنه ثبت له عرف الشرع والاستعمال، فإن هذه دعوى باطلة شرعًا واستعمالًا، أما الاستعمال فلا يكاد أحد يطلق به ألبتة، وأما الشرع فقد استعمله في غير الطلاق

" اهـ (1).

* ولا تشترط النية في وقوع الطلاق الصريح:

وكذلك إذا صرَّح بالطلاق ولو نوى نية مناقضة، فإنه يقع قضاءً، فلو أطلق اللفظ الصريح ثم قال: لم أنو به شيئًا، وقع الطلاق، ولو قال: نويت غير الطلاق، لم يصدق قضاءً، وصُدِّق ديانة، هذا إذا لم تَحُفَّ باللفظ من قرائن الحال ما يدل على صدق نيته في إرادة غير الطلاق، فإن وُجدت قرينة تدل على عدم قصده الطلاق صدق قضاءً أيضًا، ولم يقع به عليه طلاق، كالمكره والمخطئ على ما تقدم.

وعلى هذا فيشترط -فقط- لمن أطلق اللفظ الصريح أن يفهم معناه ويختاره، لا أن ينوي إيقاعه فهذا لا يشترط في اللفظ الصريح.

2 -

وأما الكناية: وهو اللفظ الذي لم يوضع للطلاق خاصة، وإنما احتمله وغيره، فإذا لم يحتمله أصلًا لم يكن كناية، وكان لغوًا، ولم يقع به شيء (2).

ومثال اللفظ الكنائي، أن يقول الرجل:(سرحتُك-أنت مسرَّحة-فارقتك- أنت مفارقة).

وكأن يقول: (اعتدِّى-واستبرئي رحمك- الحقي بأهلك- أنت خليَّة- أنت مُطْلَقة- بغير تشديد-ونحو ذلك) عند بعض العلماء (3).

(1)«زاد المعاد» (5/ 321 - 322).

(2)

«المغني» لابن قدامة (7/ 329).

(3)

وقد ذهب أبو محمد بن حزم رحمه الله في «المحلي» (10/ 185 - 196) إلى أن الطلاق لا يقع بحال إلا إذا كان بأحد الألفاظ الثلاثة الواردة في كتاب الله. (الطلاق - الفراق - السراح) وما عداها فلا يقع به طلاق البتة سواء نوى الطلاق أو لم ينوه، وقد ذكر الألفاظ الأخرى ثم قال: «وهذه الألفاظ جاءت فيها آثار مختلفة الفتيا عن نفر من الصحابة رضي الله عنهم، ولم يأت فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أصلًا، ولا حجة في كلام غيره عليه الصلاة والسلام لاسيما في أقوال مختلفة ليس بعضها أولى من بعض

» اهـ.

ص: 253

ولابد من النية لوقوع الطلاق الكنائي: لأن اللفظ يحتمل الطلاق وغيره، فلا يُصرف إلى الطلاق إلا بنية، وأما وقوعه بالنية فلأن اللفظ يحتمله فيصرف إليه بها.

* فائدة: هل تَحل قرائن الحال محلَّ النية في وقوع الطلاق الكنائي؟ (1).

فلو قال الرجل لزوجته في حال غضبع وشجاره معها: (الحقي بأهلك)(2) ولم ينو الطلاق، فهل يقع؟

1 -

ذهب الحنفية وهو المعتمد عند الحنابلة أن القرائن تحل محلَّ النية في الطلاق الكنائي، فيقع الطلاق عندهم في هذه الحالة وإن لم ينوه (!!)

2 -

وأما المالكية والشافعية -وهو رواية عند الحنابلة- فلم يعتبروا قرائن الحال هنا، فلا يقع الطلاق عندهم باللفظ الكنائي إلا إذا نوى الطلاق.

قلت: وهذا هو الأرجح، والله أعلم.

* إذا طلَّق امرأته في نفسه ولم يتلفَّظ به لم يقع:

لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تجاوز عن أمتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم"(3).

(1)«ابن عابدين» (3/ 247)، و «الدسوقي» (2/ 378)، و «مغني المحتاج» (3/ 280)، و «المغني» (7/ 322).

(2)

اختلف العلماء في قوله (الحقي بأهلك) هل هو من ألفاظ الطلاق يقع به الطلاق أصلًا أو لا؟ والذي يظهر أنه لا يقع به طلاق، وأما حديث عائشة: أنَّ ابنة الجون لما أُدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودنا منها، قالت: أعوذ بالله منك، فقال لها:«لقد عُذت بمعاذ، الحقي بأهلك» فليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عقد عليها، ويؤيده أنه في بعض طُرق البخاري (5257) أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل عليها قال: «هبي نفسك لي

».

ورواية عند البخاري (5637)، ومسلم (2007) أنها لما قالت:«أعوذ بالله منك، قال: «قد أعذتك مني» فقالوا لها: أتدرين من هذا؟ فقالت: لا، قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ليخطبك

الحديث» ففيهما أنه لم يكن عقد عليها.

ويؤيد هذا أيضًا ما في البخاري (4418)، ومسلم (2769) في قصة كعب بن مالك وصاحبيه: «

فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها؟ أو ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها ولا تقربها

فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر» وهو صريح في أن هذا اللفظ لا يعد طلاقًا، لكن قد جاء في قصة إسماعيل عليه السلام مع زوجته لما أخبرته بمجيء الشيخ وطلبه منه أن يغيِّر عتبة بابه، فقال إسماعيل عليه السلام: «ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك، فطلَّقها

» الحديث رواه البخاري (3364)، فلو قيل: هو من الألفاظ الكنائية في الطلاق التي يقع بها إذا وجدت النية، لأجل هذا الحديث، فليس هذا ببعيد كذلك، والله تعالى أعلم.

(3)

صحيح: أخرجه البخاري (5269)، ومسلم (127).

ص: 254

وبهذا قال عامة أهل العلم (1).

* إذا قال لامرأته: (أنت عليَّ حرام)، هل يقع طلاقًا؟

لم يقع في القرآن الكريم -صريحًا- ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم نصٌّ ظاهر صحيح يُعتمد عليه في حكم هذه المسألة، ولذا تجاذبها العلماء، واختلفوا فيها على أقوال كثيرة ذكر ابن حزم منها اثنى عشر وذكر ابن القيم ثلاثة عشر مذهبًا أصولًا تفرَّعت إلى عشرين مذهبًا (2)، وأقرب هذه الأقوال أربعة:

الأول: إن نوى به الطلاق وقع طلاقًا، وإن لم ينوه كان يمينًا، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك -في المدخول بها- والشافعي ورواية عن أحمد (3)، على اختلاف بينهم في بعض الجزئيات والتفصيلات، وحجتهم: أن الطلاق نوع تحريم فصحَّ أن يكنى به عنه كسائر كنايات الطلاق لمن يشترط لوقوعه النية كما تقدم.

فإن لم توجد نية الطلاق فهو يمين لقوله تعالى: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تيتغي مرضات أزواجك

قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} (4).

قال القرطبي: تحليل اليمين كفارتها. اهـ.

الثاني: يقع ظهارًا نوى الظهار أو لم ينوه، ويكون فيه كفارة ظهار: وهو مذهب أحمد وقول للشافعي، وقد صح عن ابن عباس (5).

وحجة هذا القول أن الله تعالى جعل التشبيه بمن تحرم عليه ظهارًا، فالتحريم أولى، قال ابن القيم: وهذا أقيس الأقوال، ويؤيده أن الله تعالى لم يجعل للمكلف التحليل والتحريم، وإنما ذلك إليه تعالى، وإنما جعل له مباشرة الأقوال والأفعال التي يترتب عليها التحريم، فإذا قال:(أنت عليَّ كظهر أمي، أو: أنت عليَّ حرام) فقد قال المنكر من القول والزور وكذب على الله تعالى، فإنه لم يجعلها عليه كظهر أمِّه ولا جعلها عليه حرامًا -فقد أوجب بهذا القول المنكر والزور أغلظ الكفارتين، وهي كفارة الظهار (6).

(1)«المغني» (7/ 121)، و «فتح الباري» (9/ 394).

(2)

انظر «المحلي» (10/ 124 - 128)، و «زاد المعاد» (5/ 302 - 313)، و «إعلام الموقعين» ، و «نيل الأوطار» (6/ 313).

(3)

«جواهر الإكليل» (1/ 347)، و «ابن عابدين» (3/ 254)، و «حاشية الجمل» (4/ 331)، وما تقدم.

(4)

سورة التحريم: 1، 2.

(5)

«المغني» (7/ 414)، و «الإنصاف» (8/ 486).

(6)

وستأتي أحكام الظهار قريبًا - إن شاء الله.

ص: 255

الثالث: أنه يمين يكفَّر عنه بكفارة اليمين سواء نوى الطلاق أو غيره:

وهو مذهب الأوزاعي وأبي ثور وبه قال أبو بكر وعمر وابن عباس وعائشة وزيد بن ثابت وابن مسعود وغيرهم (1)، وحجة هذا القول:

1 -

قوله تعالى: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك

قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} (2).

2 -

وسبب نزول الآية: تحريم النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه احتباسه عند بعض نسائه وشرب العسل.

فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلًا عند زينب بنت جحش ويمكث عندها، فتواطئت أنا وحفصة أن أيَّتُنَا دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير (3)؟ قال:"لا، ولكني كنت أشرب عسلًا عند زينب بنت جحش فلن أعود، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدًا"(4).

وفي لفظ للبخاري: فنزلت {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك

} (5).

3 -

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "إذا حرَّم الرجل امرأته، فهي يمين يكفِّرها، وقال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (6) "(7).

الرابع: أنه لغو وباطل ولا يترتب عليه شيء لا طلاق ولا يمين:

وهو قول الظاهرية وأكثر أصحاب الحديث وأحد قولي المالكية وهو مروي عن ابن عباس وحجتهم ما يلي:

1 -

حديث عائشة السابق، قال الحافظ:"واستدل القرطبي وغيره بقوله: (حلفت) فتكون الكفارة لأجل اليمين لا لمجرد التحريم، وهو استدلال قوي لمن يقول: إن التحريم لغو لا كفارة فيه بمجرده، وحمل بعضهم قوله: (حلفت) على التحريم ولا يخفى بُعده" اهـ.

(1)«المحلي» (10/ 124 - 1287)، و «نيل الأوطار» (6/ 313) وما بعدها.

(2)

سورة التحريم: 1، 2.

(3)

جمع مغفور: وهو صمغ حلو له رائحة كريهة (الفتح (9/ 290) - سلفية).

(4)

صحيح: أخرجه البخاري (4912)، ومسلم.

(5)

سورة التحريم: 1.

(6)

سورة الأحزاب: 21.

(7)

صحيح: أخرجه مسلم بهذا اللفظ (1473).

ص: 256

قلت: وعليه يُحمل قول الله تعالى: {وقد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} (1). أي تحلَّة الحلف لا أن التحريم يمين.

2 -

قال تعالى: {لم تحرم ما أحل الله لك

} (2). فأنكر سبحانه تحريم ما أحله الله له والزوجة مما أحل الله، فتحريمها منكر والمنكر مردود لا حكم له إلا التوبة والاستغفار.

3 -

عن ابن عباس قال: "إذا حرَّم امرأته ليس بشيء، وقال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (3) "(4).

4 -

قال الله تعالى: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب} (5). فمن قال لامرأته -الحلال له بحكم الله تعالى- هي حرام، فقد كذب وافترى، ولا تكون عليه حرامًا بقوله، لكن بالوجه الذي حرمها الله به.

5 -

قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"(6).

وتحريم الحلال ليس في أمر الله عز وجل فوجب ان يُردَّ.

* الراجح: الذي يظهر لي بعد دراسة أدلة المذاهب في المسألة أن يقال: لا يخلو من قال لزوجته: (أنت عليَّ حرام) من أحد حالين: الأول: أن لا يكون نوى الطلاق بمعنى أنه أراد تحريم عين المرأة فالصحيح أن قوله لغو باطل لا يترتب عليه شيء لما تقدم في أدلة المذهب الرابع.

الثاني: أن يكون نوى الطلاق بهذا القول، فالظاهر أنه لا مانع من إلحاق لفظ التحريم بالألفاظ الكنائية التي يقع بها طلاق عند وجود نيَّته، بناء على ما تقدم ترجيحه من أن الألفاظ لا تراد لعينها، بل للدلالة على مقاصدها، فإذا تكلَّم بلفظ دالٍّ على معنى، وقصد به ذلك المعنى ترتَّب عليه حكمه، ولذا ذكر الله تعالى

(1) سورة التحريم: 2.

(2)

سورة التحريم: 1.

(3)

سورة الأحزاب: 21.

(4)

صحيح: أخرجه البخاري بهذا اللفظ (5266)، وقد حُمل هذا اللفظ على لفظ مسلم المتقدم بأن المراد بقوله ليس بشيء، أي ليس بطلاق فلا ينبغي أن يكون يمينًا، والله أعلم.

(5)

سورة النحل: 116.

(6)

صحيح.

ص: 257

الطلاق ولم يعيِّن له لفظًا، فعُلم أنه ردَّ الناس إلى ما يتعارفونه طلاقًا، فأيُّ لفظ جرى عرفهم به، وقع به الطلاق مع النية والله أعلم.

وأما أنه يقع ظهارًا فلو كان صحيحًا، لكفَّر النبي صلى الله عليه وسلم بكفارة الظهار، ولو فعل لاشتهر عنه ذلك، فدلَّ على أنه لم يفعل.

(ب) الطلاق بالكتابة:

إذا كان الرجل غائبًا، فكتب إلى زوجته بطلاقها، وقع الطلاق إذا نواه، عند جماهير أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم (1)، ويدلُّ على هذا:

1 -

حديث فاطمة بنت قيس: أن أبا عمرو بن حفص طلقَّها ألبتة وهو غائب، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته، فقال: والله ما لك علينا من شيء، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له، فقال:"ليس لك عليه نفقة"

الحديث (2).

2 -

عن الزهري قال: "إذا كتب إليها بطلاقها، فقد وقع الطلاق عليها، فإن جحدها استُخلف"(3).

3 -

وعن الحسن البصري -في رجل كتب بطلاق امرأته ثم محاه قبل أن يتكلَّم- قال: "ليس بشيء إلا أن يمضيه أو يتكلم به"(4).

4 -

وعن إبراهيم النخعي قال: "إذا خط الرجل بيده الطلاق فهو طلاق"(5).

5 -

ولأن الكتابة حروف يُفهم منها الطلاق، فإذا أتى فيها بالطلاق وفهم منها ونواه، وقع كاللفظ.

بينما ذهب أبو محمد بن حزم رحمه الله إلى أن الطلاق لا يقع إلا على اللفظ، وأما الكتابة فلا تكون عنده طلاقًا (!!) والحديث حجة عليه، فالصحيح وقوع الطلاق بالكتابة مع النية له، فإن لم ينو الطلاق لم يقع -عند الجمهور- "لأن الكتابة محتملة، فإنه قد يقصد بها تجربة القلم، وتجويد الخط، وغمَّ الأهل، فلم يقع ككنايات الطلاق، ولأنه لو نوى باللفظ غير الإيقاع لم يقع، فالكتابة أولى"(6).

(1)«ابن عابدين» (2/ 246)، و «القوانين الفقهية» (230)، و «الأم» (5/ 181)، و «المغني» (7/ 239)، و «المحلي» (10/ 196).

(2)

صحيح: أخرجه مسلم (1480)، وأبو داود (2284)، (6/ 210).

(3)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (11433).

(4)

إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (1183).

(5)

إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور.

(6)

«المغني» لابن قدامة (7/ 239) ط. المنار.

ص: 258