الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإلى أن التخيير لا يكون طلاقًا سواء اختارت أو اختارت نفسها - إلا أن يُطلِّق الزوج - ذهب أبو محمد بن حزم (1)، وهو الأقرب إلى الدليل.
4 -
التخيير، هل هو على الفور أو التراخي؟ (2):
ذهب جماهير أهل العلم، منهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والثوري والأوزاعي، وكثير من الصحابة والتابعين، إلى أن التخيير على الفور، فإن اختارت في وقتها، وإلا فلا خيار لها بعده.
قال الحافظ: ويمكن أن يقال: يُشترط الفور أو ما داما في المجلس عند الإطلاق، فأما إذا صرَّح الزوج بالفُسحة في تأخيره بسبب يقتضي ذلك فيتراخى، وهذا الذي وقع في قصة عائشة، ولا يلزم من ذلك أن يكون كل خيار كذلك» اهـ.
قلت: يشير إلى قول عائشة رضي الله عنها: «لما أُمر النبي صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي، فقال: «إني لمخبرك خبرًا، فلا عليك أن لا تستأمري أبويك
…
» فقالت: أفي هذا الأمر استأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة» (3).
التوكيل أو التفويض في الطلاق
الطلاق تصرُّف شرعي قولي، وهو حق ملَّكه الله تعالى للرجل وجعله بيده، لكن هل يملك الرجل الإنابة والتوكيل فيه كسائر التصرفات القولية الأخرى التي يملكها أم لا؟ لأهل العلم في هذا الباب اتجاهان:
الاتجاه الأول: الطلاق تدخله الإنابة: وعلى هذا جماهير أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم، يقولون: هو يملك الطلاق، فيملك الإنابة فيه كسائر التصرفات القولية التي يملكها. كالبيع والإجارة ونحوها، فإذا قال الزوج لآخر: وكلتك بطلاق زوجتي فلانة، فطلَّقها عنه، جاز، وكذلك لو قال لزوجته نفسها: وكلتك بطلاق نفسك (4)، فطلقت نفسها جاز أيضًا، ولا تكون في هذا أقل من الأجنبي.
(1)«المحلي» لابن حزم (10/ 116 - وما بعدها) وفيه بحث نفيس.
(2)
«الهداية» (3/ 414)، و «جواهر الإكليل» (1/ 358)، و «حاشية الجمل» (4/ 339)، و «المغني» (7/ 407)، و «طرح التثريب» (7/ 106).
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (4786)، ومسلم (1475).
(4)
وهو المعروف في هذه الأيام بجعل «العصمة بيدها» !!.
وعند هؤلاء تقسيمات وتفريعات:
1 -
فعند الحنفية: إذن الزوج لغيره في تطليق زوجته ثلاثة أنواع: تفويض، وتوكيل، ورسالة. وللتفويض عندهم ثلاثة ألفاظ: تخيير، وأمر بيد، ومشيئة، وعندهم بين التفويض والتوكيل فروق.
2 -
وعند المالكية: النيابة على أربعة أنواع: توكيل وتخيير وتمليك ورسالة، وفيها عندهم فروق.
3 -
وعند الشافعية والحنابلة: يجوز أن ينيب زوجته ويسمى «تفويضًا» وله أن يُنيب غيرها ويسمى «توكيلًا» ولكل منهما أحكام وشروط، يراجعها من شاء في كتب الفروع.
والذي قد يُحتاج إليه من المسائل على هذا الاتجاه ما يلي:
[1]
إذا ملَّكها أمر الطلاق، فهل تملكه مطلقًا؟! أم يتقيد بالمجلس الذي وكلَّها فيه؟ لأصحاب الاتجاه الأول في هذه المسألة رأيان (1):
الأول: تملك أمر الطلاق مطلقًا، ولا يتقيَّد بحدٍّ معين حتى يفسخه بنفسه: وهو مذهب أحمد وهو مروي عن علي رضي الله عنه، وبه قال الحكم وأبو ثور وابن المنذر.
وحجتهم:
1 -
تخيير النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه، وإمهاله عائشة حتى تستأمر أبويها.
2 -
قول عليٍّ رضي الله عنه في رجل جعل أمر امرأته بيدها -: «هو لها حتى تنكل» (2).
قال ابن قدامة: «ولا نعرف له من الصحابة مخالفًا، فيكون إجماعًا!!» اهـ.
3 -
ولأنه نوع توكيل في الطلاق فكان على التراخي كما لو جعله لأجنبي.
الثاني: يتقيَّد تفويضها بالمجلس، ولا طلاق لها بعده: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي، وحجتهم: أن التفويض تخيير لها، فكان مقصورًا على المجلس، كقوله: اختاري.
(1)«ابن عابدين» (3/ 315)، و «جوهر الإكليل» (1/ 357)، و «الجمل» (4/ 340)، و «المغني» (7/ 403).
(2)
نسبه إليه ابن قدامة، والذي عند البيهقي (7/ 348) بسند ضعيف عن علي:«إذا ملك الرجل امرأته مرة واحدة، فإذا قضيت فليس له من أمرها شيء، وإن لم تقض فهي واحدة وأمرها إليه» وهو عكس ما حكاه ابن قدامة!!
قلت: يتأتَّى على القول الأول ما يعرف بجعل الرجل «العصمة بيد زوجته» فتطلق نفسها متى شاءت!!
وقد صدر من بعض المحاكم الشرعية المصرية (1) حكم بني على أن التفويض إذا كان في حين عقد الزواج وبصيغة مطلقة لا يتقيَّد بالمجلس فتطلَّق نفسها متى شاءت، وإلا خلا التفويض من الفائدة، وأُيِّد هذا الحكم استئنافيًا.
[2]
الرجوع في التفويض (2):
إذا أراد الزوج - بعد تفويض زوجته بالتطليق وقبل تطليقها - أن يفسخ هذا التفويض، فإن له ذلك ويبطل التفويض بفسخه، عند الشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق، لأنه توكيل، فكان له حق الرجوع فيه كالتوكيل في البيع، وكما لو خاطب بذلك أجنبيًّا.
وعند أبي حنيفة ومالك: ليس له الرجوع، ولعل مرادهما: ليس له الرجوع في المجلس، فإن التفويض مقيَّد عندهما بالمجلس، وليس من حقها التطليق بعده كما تقدم.
[3]
عدد التطليقات الذي تملكه الزوجة المفوَّضة:
إذا فوَّض الرجل لزوجته تطليق نفسها، فلو طلَّقت نفسها ثلاثًا - على القول بوقوعه - فهل يقع ثلاثًا؟
ذهب أحمد وظاهر مذهب مالك في المدخول بها، أنها تقع ثلاثًا، لأنها مفوَّضة في العدد فلها إيقاع ما فوض إليها، ولو قال: أردتُ واحدة، لم يُقبل منه؛ لأنه لما قال لها (طلقي نفسك) اقتضى العموم في جميع أمرها، وبه يقول ابن عمر كما سيأتي.
وقال أبو حنيفة والشافعي ورواية ثانية عن أحمد: تقع تطليقة واحدة، وهو قول مالك في غير المدخول بها، لكن الشافعي وأحمد في هذه الرواية قد قيداه بما إذا نوي الرجل غير الثلاث فردًّا الحكم إلى نيته؛ لأنه الذي فوضها فيرجع إلى نيتَّه (3).
(1)«أحكام الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية» ص (152).
(2)
المراجع الفقهية السابقة.
(3)
المراجع السابقة.
الاتجاه الثاني: الطلاق لا تدخله الإنابة: وهذا قول طاووس وأبي محمد بن حزم - رحمهما الله - ويُحتمل أن يكون مذهب ابن عباس رضي الله عنه، وحجة هذا القول: أن الله تعالى إنما جعل الطلاق إلى الرجال:
1 -
قال تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} (1).
2 -
وقال سبحانه: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره} (2).
3 -
وقال سبحانه: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن} (3).
والآيات في هذا كثيرة جدًّا.
4 -
وكقوله تعالى: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض} (4).
ومن تمام القوامة أن يكون الطلاق بيد الرجل (5).
5 -
وقال سبحانه: {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحًا جميلًا} (6). قال ابن حزم: «فإنما نصَّ الله تعالى أنه عليه الصلاة والسلام إن أردن الدنيا ولم يردن الآخرة طلقهن حينئدٍ من قبل نفسه مختارًا للطلاق لا أنهن طوالق بنفس اختيارهن الدنيا، ومن ادَّعى غير هذا فقد حرَّف (!!) كلام الله عز وجل، وأقحم في حكم الآية كذبًا (!!) محضًا ليس فيها منه نصٌّ ولا دليل» اهـ (7).
6 -
وعن مجاهد: أن رجلًا جاء إلى ابن عباس فقال: لمَّا ملَّكت امرأتي أمرها طلَّقتني ثلاثًا، فقال:«خطأ الله نوترها، إنما الطلاق لك عليها، وليس لها عليك» (8).
7 -
عن ابن جريج قال: أخبرني ابن طاووس عن أبيه وقلت له: فكيف كان
(1) سورة الطلاق: 1.
(2)
سورة البقرة: 230.
(3)
سورة البقرة: 232.
(4)
سورة النساء: 34.
(5)
«جامع أحكام النساء» (4/ 74).
(6)
سورة الأحزاب: 28.
(7)
«المحلي» (10/ 123) وكلامه متَّجه إلا أن في عبارته من الشدَّة ما لا يخفى.
(8)
إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (11918).
أبوك يقول في رجل ملَّك امرأته أمرها، أتملك أن تطلق نفسها؟ قال: لا، كان يقول:«ليس إلى النساء طلاق» (1).
الراجح من الاتجاهين:
ليس في المسألة نص قاطع من القرآن الكريم أو السنة الصحيحة المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو ذهب ذاهب إلى أن الطلاق لا يكون إلا بيد الرجل ولو فوّض - غيره لم يكن قد أبعد كثيرًا، وإن كان الذي يظهر لي الاتجاه الأول وهو أن الطلاق لا مانع من أن تدخله النيابة:
لأن الصحابة لم يُنكروا ذلك، حتى أن ما تقدم عن ابن عباس من قول:«إنما الطلاق لك عليها وليس لها عليك» فيحتمل أن يكون إنما أنكر كونها طلقته، وأما تطلق نفسها منه فلا مانع منه كما يظهر في الأثر الآتي:
عن علقمة عن ابن مسعود قال: جاء إليه رجل فقال: كان بيني وبين امرأتي بعض ما يكون بين الناس، فقالت: لو أن الذي بيدك من أمري بيدي لعلمت كيف أصنع، فقال: إن الذي بيدي من أمري بيدك، قالت: فأنت طالق ثلاثًا، فقال [أي: ابن مسعود]: «أراها واحدة وأنت أحق بالرجعة وسألقي أمير المؤمنين عمر» فلقيه فقصَّ عليه القصة قال: فقال: «فعل الله بالرجال، وفعل الله بالرجال، يعمدون إلى ما في أيديهم فيجعلونه في أيدي النساء بفيها التراب، ماذا قلتَ؟» قال: «قلتُ: أراها واحدة وهو أحق بها» قال: [أي: عمر]: «وأنا أرى ذلك، ولو رأيتَ غير ذلك لرأيتُ أنك لم تُصب» .
قال منصور (2): فقلت لإبراهيم: فإن ابن عباس يقول: خطأ الله نوترها، لو كانت قالت: طلَّقت نفسي؟ فقال إبراهيم: هما سواء (3).
وعن ابن عمر قال: «إذا جعل الرجل أمر امرأته بيدها فطلقت نفسها واحدة فهي واحدة، أو اثنتين فثنتين، أو ثلاث فثلاث، إلا أن يناكرها ويقول: لم أجعل الأمر إليك إلا في واحدة فيحلف على ذلك، وإن ردَّت الأمر فليس بشيء» وكان يقول: «القضاء ما قضت» (4).
(1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (11913).
(2)
وهو الراوي عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود.
(3)
إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (6/ 520)، وسعيد بن منصور (1640)، والبيهقي (7/ 347).
(4)
إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور (1620)، ومالك (2/ 553)، وعبد الرزاق (11909).