الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنواع الطلاق
يمكن تقسيم الطلاق إلى أنواعُ مختلفة بحسب النظر إليه:
1 -
فهو من حيث الصيغة المستعملة فيه، على نوعين: صريح وكنائي، وقد تقدم الكلام عليهما.
2 -
ومن حيث الأثر الناتج عنه، على نوعين: رجعي وبائن.
3 -
ومن حيث صفته على نوعين: سُنِّي وبدعي.
4 -
ومن حيث وقت وقوع الأثر الناتج عنه على ثلاثة أنواع: مُنجَّز، ومعلَّق على شرط، ومضاف إلى المستقبل، وإليك تفصيل هذه الأنواع وما يتعلق بها من أحكام:
أولًا: الطلاق الرجعي والبائن
[1]
الطلاق الرجعي: هو ما يجوز معه للزوج ردُّ زوجته في عدَّتها من غير استئناف عقد جديد، ولو من غير رضاها، ويكون ذلك بعد الطلاق الأول والثاني غير البائن إذا تمت المراجعة قبل انقضاء العدة، فإذا انتهت العدة صار الطلاق بائنًا، فلا يملك الزوج إرجاع زوجته المطلقة إلا بعقد جديد.
مشروعية الرُّجعة:
والأصل في هذا قوله تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} (1). والمراد بالإمساك بالمعروف هنا: مراجعتها وردُّها إلى النكاح ومعاشرتها بالمعروف وقال سبحانه: {والْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ولا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ وبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إنْ أَرَادُوا إصْلاحًا} (2).
فدلَّ على أن أزواج المطلقات أحق بمراجعتهن في مدة العدة، بشرط أن لا يقصدوا بمراجعتهن الإضرار بهن ليخالعوهن أو نحو ذلك.
وظاهر الآية الكريمة أن كل أزواج المطلقات أحق بردهن من غير فرق بين الرجعية والبائن، ولكنه أشار في موضع آخر إلى أن البائن لا رجعة له عليها، قال تعالى: {إذا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ
(1) سورة البقرة: 229.
(2)
سورة البقرة: 228.
تَعْتَدُّونَهَا} (1). والطلاق قبل الدخول بائن، فإنه لا عدة للرجل عليها فيه، وإنما تكون الرجعة في العدة.
وقد تقدم حديث ابن عمر أنه لما طلق امرأته في الحيض، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر:«مره فليراجعها» (2).
وأجمع أهل العلم على أن الحر إذا طلَّق دون الثلاث والعبد دون اثنتين، أن لهما الرجعة في العدَّة (3).
حكمة مشروعية الرَّجعة:
«إن الحاجة تمسُّ إلى الرجعة، لأن الإنسان قد يُطلِّق امرأته ثم يندم على ذلك، على ما أشار الربُّ سبحانه وتعالى بقوله:{لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا} (4).
فيحتاج إلى التدارك، فلو لم تثبت الرَّجعة لا يمكنه التدارك لما عسى أن لا توافقه المرأة في تجديد النكاح، ولا يمكنه الصبر عنها فيقع في الزنا» (5) لذا شُرعت الرَّجعة للإصلاح بين الزوجين وهذه حكمة جليلة، فتبارك الله أحكم الحاكمين.
فإن طلقها الثالثة:
فإن المرأة تبين منه، وتحرم على زوجها فلا يحل له مراجعتها حتى تنكح زوجًا غيره نكاحًا صحيحًا، قال تعالى:{فَإن طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (6). ويشترط أن يطأها الزوج وطأ صحيحًا، لحديث عائشة رضي الله عنها: أن امرأة رفاعة القرظي جاءت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن فارعة طلقني فبتَّ طلاقي، وإني نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي، وإنما معه مثل الهدبة، فقال صلى الله عليه وسلم:«لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى يذوق عُسيلتك وتذوقي عسيلته» (7).
(1) سورة الأحزاب: 49.
(2)
صحيح: تقدم قريبًا.
(3)
«المغني» (7/ 515)، و «الإفصاح» (2/ 158)، و «البدائع» (3/ 181).
(4)
سورة الطلاق: 1.
(5)
«بدائع الصنائع» .
(6)
سورة البقرة: 230.
(7)
صحيح: أخرجه البخاري (2639)، ومسلم (1433).
من أحكام الرَّجعة والطلاق الرجعي:
شروط صحة الرَّجعة (1):
1 -
أن تكون الرَّجعة بعد طلاق رجعي: (بعد الطلقة الأولى أو الثانية) سواء صدر من الزوج أو من القاضي، لأنها استئناف للحياة الزوجية التي قُطعت بالطلاق، فلولا وقوعه لما كان للرَّجعة فائدة، وهذا الشرط متفق عليه.
2 -
أن تحصل الرَّجعة بعد الدخول بالزوجة المطلقة: فإن طلقها قبل الدخول وأراد مراجعتها فليس له ذلك بالاتفاق، لقوله تعالى:{إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً} (2).
وقد اعتبر الحنابلة - خلافًا للجمهور - الخلوة الصحيحة في حكم الدخول من حيث صحة الرَّجعة بعدها.
3 -
أن تكون الرَّجعة أثناء فترة المدَّة: فإن انفضت عدتها فلا يصح ارتجاعها باتفاق الفقهاء، لقوله تعالى:{والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} . ثم قال: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} (3).
ولأن الرجعة استدامة ملك، والملك يزول بعد انقضاء العدة، فلا تتصور الاستدامة.
4 -
أن لا تكون الفرقة - قبل الرَّجعة - عن فسخ عقد النكاح.
5 -
أن لا تكون الفرقة بعِوَض: فإن كانت بعوض فلا تصح الرَّجعة، لأنها حينئذٍ تَبِين منه لافتدائها نفسها من الزوج بما قدمته له من عوض مالي ينهي هذه العلاقة.
6 -
أن تكون الرَّجعة منجَّزة: فلا يصح تعليقها على شرط أو إضافتها إلى زمن المستقبل، عند جمهور الفقهاء، قالوا: لأن الرجعة استدامة لعقد النكاح أو إعادة له، والنكاح لا يقبل التعليق والإضافة، فتأخذ الرَّجعة حكمه.
الرَّجعة حق الزوج لا يملك إسقاطه (4):
الرَّجعة حق الزوج ما دامت المطلقة في العدة، سواء رضيت بذلك أم لم ترض، لقوله تعالى:{وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحًا} (5).
وهذا الحق للمرتجع أثبته الشرع له، فلا يقبل الإسقاط ولا التنازل عنه، فلو قال الزوج:(طلقتك ولا رجعة لي عليك، أو: أسقطت حقي في الرجعة) فإن حقه في الرجعة لا يسقط لأن إسقاطه يعد تغييرًا لما شرعه الله، ولا يملك أحد أن يغيِّر ما شرعه الله، والله سبحانه رتَّب حق الرجعة على الطلاق الرجعي في قوله:{الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} (6). وإذا كانت الرجعة حقًّا للزوج على مطلقته، فله أن يباشر هذا الحق فيردَّها، وله أن يراجعها ويتركها حتى تنقضي العدة فتبين منه، وقد دلَّ على هذا قوله تعالى:{فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} (7). وقوله سبحانه: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} (8).
وقد تجب الرَّجعة على الزوج: وذلك إذا طلَّقها طلقة رجعية أثناء حيضها كما سيأتي في الطلاق البدعي، إن شاء الله.
ولا يشترط رضا المرأة في الرَّجعة: لقوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحًا} (9).
(1)«البدائع» (3/ 185)، و «الخرشي» (4/ 80)، و «الأم» (6/ 243)، و «مغني المحتاج» (4/ 337)، و «كشاف القناع» (5/ 341)، و «المغني» (8/ 485).
(2)
سورة الأحزاب: 49.
(3)
سورة البقرة: 228.
(4)
«الفقه الإسلامي وأدلته» (7/ 463 - 464)، و «المفصَّل» لعبد الكريم زيدان (8/ 18).
(5)
سورة البقرة: 228.
(6)
سورة البقرة: 229.
(7)
سورة الطلاق: 2.
(8)
سورة البقرة: 229.
(9)
سورة البقرة: 228.
فجعل الحق لهم، وقال سبحانه:{فأمسكوهن بمعروف} (1). فخاطب الأزواج بالأمر، ولم يجعل للنساء اختيارًا؛ ولأن الرجعة إمساك للمرأة بحكم الزوجية، فلم يعتبر رضاها في الرجعة، كالتي في عصمته تمامًا.
ولا يشترط في الرجعة ولي ولا صداق؛ لأن الرجعية في حكم الزوجة، والرَّجعة إمساك لها، واستبقاء لزواجها (2).
عدم خروج المطلقة الرجعية من بيتها (3).
إعلام الزوجة بالرَّجعة (4):
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن إعلام الزوجة بالرجعة مستحب، لما فيه من قطع المنازعة التي قد تنشأ بين الرجل والمرأة، فربما تتزوَّج غيره بعد انقضاء العدة - وهي
(1) سورة الطلاق: 2.
(2)
«السابق» (7/ 469).
(3)
انظر: جامع أحكام النساء (4/ 262).
(4)
«البداية» (4/ 597)، و «فتح القدير» (4/ 18)، و «الخرشي» (4/ 87)، وحاشية الجمل» (4/ 393)، و «كشاف القناع» (5/ 344)، و «المحلي» (10/ 251)، و «تفسير القرطبي» .
تظن أنه لم يراجعها - وحينئذٍ لو أثبت الزوج الرَّجعة بالبيِّنة فإنه يثبت زواجه الأول بمراجعتها، ويُفسخ زواجها الثاني وتعتد منه إن كان دخل بها ثم تعود للأول (1).
وتكون هي عاصية بترك سؤال الزوج، ويكون هو مُسيئًا بترك إعلامها بالرجعة.
ومع هذا لو لم يُعلمها صحت الرجعة؛ لأنها استدامة النكاح القائم وليست بإنشاء، فكان الزوج متصرفًا في خالص حقه، فلم يتوقف تصرُّفه على علم الغير.
وذهب الظاهرية إلى وجوب إعلام الزوجة بالرجعة، فإن لم يعلمها لم يعتبر مراجًعا، لقوله تعالى:{فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} (2) فالرجعة هي الإمساك، ولا تكون - بنص كلام الله تعالى - إلا بمعروف، ومن المعروف إعلامها، فإن لم يعلمها لم يمسك بمعروف ولكن بمنكر.
ولقوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحًا} (3) وإنما يكون البعل أحق بردها إن أرادوا إصلاحًا بنص القرآن، فإن كتمها الردَّ أو ردَّ بحيث لا يُبلغها، فلم يرد إصلاحًا بلا شك، بل أراد الفساد فليس ردًّا ولا رجعة أصلًا.
قلت: وهذا هو الأرجح - في نظري - والأليق بمقاصد الشريعة وأصولها، وهو قول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب- رضي الله عنه، فقد روي ابن حزم بسنده إلى عمر أنه قال - في امرأة طلقها زوجها فأعلمها ثم راجعها ولم يُعلمها حتى انقضت عدتها:«قد بانت منه» (4).
ويترتب عليه أن الرجل إذا أرجع زوجته دون إعلامها فتزوجت غيره بعد انتهاء عدتها، فإن الزواج الثاني يكون صحيحًا؛ لأن الرجعة لم تقع أصلًا، والله أعلم.
هل تتزيَّن المطلقة الرجعية لزوجها، وماذا يرى منها؟ (5)
ذهب الشافعية والمالكية - في المشهور - إلى أنه لا يجوز للمطلَّقة طلاقًا رجعيًّا
(1) هذا عند الجمهور، وعند مالك: أنه إن دخل بها الثاني فهي امرأته ويبطل نكاح الأول وهو رواية عن أحمد.
(2)
سورة الطلاق: 2.
(3)
سورة البقرة: 228.
(4)
وثبت خلافه عن علي بن أبي طالب حيث قال فيمن طلق امرأته وأشهد على رجعتها ولم تعلم بذلك: «هي امرأة الأول، دخل بها الآخر أم لم يدخل» . أخرجه الشافعي كما في مسنده (2/ رقم 126 - شفاء العي) ومن طريقه البيهقي (7/ 373) وسنده صحيح.
(5)
«المبسوط» (6/ 25)، و «مغني المحتاج» (3/ 337)، و «روضة الطالبين» (8/ 221)، و «جامع أحكام النساء» (4/ 246).
أن تتزيَّن لزوجها وأنه لا يستمتع منها بشيء، لأنها أجنبية عنه؛ ولأن النكاح يبيح الاستمتاع فيحرمه الطلاق لأنه ضدُّه، فإن وطئ الزوج المطلَّقة فلا حدَّ عليهما!! وقد صح نحو هذا عن عطاء، فعن ابن جريج قال: قلت لعطاء: ما يحل للرجل من امرأته يُطلِّقها فلا يبتُّها؟ قال: «لا يحل له منها شيء ما لم يراجعها» (1).
وذهب الحنفية والحنابلة والظاهرية إلى أن المطلَّقة - رجعيًّا - تتزين لزوجها بما تفعله النساء لأزواجهن من أوجه الزينة واللبس، لترغيب الزوج في المراجعة، فلعله يراها في زينتها فتروق في عينه ويندم على طلاقها فيراجعها، وللزوج أن ينظر إلى ما شاء منها.
واستدلوا على ذلك بأن المطلقة الرجعية في حكم الزوجة والنكاح قائم من وجه، وهو كونها في العدة، لقوله تعالى:{وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} (2) فسمَّاه الله بعلًا، قلت: وهو الأظهر للآية الكريمة، ولعدم الدليل على ما يمنع أو يحدد رؤية شيء من المرأة، لكن ذهب الفقهاء إلى أنه ينبغي أن يستأذن قبل أن يدخل عليها إذا كان لا ينوي الرَّجعة، والسبب في ذلك أنهّا قد تكون متجردة من الثياب فيقع نظره على موضع الجماع فيكون مراجعًا عند من اعتبر ذلك رجعة، وسيأتي قريبًا. أما إذا كان ينوي مراجعتها فلا بأس أن يدخل عليها، لأن في نيَّته مراجعتها فكانت زوجة له لاسيما وأن الرجعة لا تحتاج إلى موافقة المرأة.
وقد صحَّ عن ابن عمر «أنه طلق امرأته صفية بنت أبي عبيد تطليقة أو تطليقتين، فكان لا يدخل عليه إلا بإذنه، فلما راجعها أشهد على رجعتها ودخل عليها» (3).
هل يلحق المطلَّقة رجعيًّا طلاق في العدة؟
المطلَّقة الرجعية في حكم الزوجة التي في العصمة، ولذا فقد ذهب جماهير العلماء من الأئمة الأربعة وغيرهم (4) إلى أنه يلحقها - في عدتها - طلاق الزوج، كما يلحقها ظهاره ولعانه وإيلاؤه، ويرث أحدهما الآخر، بل نقل ابن قدامة الإجماع على هذا (!!).
(1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (11030 - 11032).
(2)
سورة البقرة: 228.
(3)
إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (7/ 373).
(4)
«ابن عابدين» (3/ 397)، و «أسهل المدارك» (2/ 138)، و «تكملة المجموع» (17/ 262)، و «المغني» (8/ 477).
بينما ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن الرجعية لا يلحقها الطلاق وإن كانت في العدة، واحتج بقوله تعالى:{إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} (1). وهو «يدلُّ على أنه لا يجوز إرداف
الطلاق للطلاق حتى تنقضي العدة أو يراجعها؛ لأنه إنما أباح الطلاق للعدة أي لاستقبال العدة (2)، فمتى طلقها طلقها الثانية والثالثة قبل الرجعة بَنَتْ على العدَّة ولم تستأنفها باتفاق جماهير المسلمين
…
ومن اخذ بمقتضى القرآن وما دلت عليه الآثار فإنه يقول: إن الطلاق الذي شرعه الله هو ما يتعقبه العدَّة، وما كان صاحبه مخيَّرًا فيها بين الإمساك بمعروف والتسريح بإحسان، وهذا مُنتف في إيقاع الثلاث في العدة قبل الرجعة، فلا يكون جائزًا، فلم يكن ذلك طلاقًا للعدة؛ ولأنه قال:{فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} (3).
فخيَّره بين الرجعة وبين أن يدعها تقضي عدتها فيُسرِّحها بإحسان، فإذا طلَّقها ثانية قبل انقضاء العدة لم يمسك بمعروف ولم يُسرِّح بإحسان» اهـ (4).
قلت: الظاهر أن الخلاف في هذه المسألة راجع إلى الخلاف بين ابن تيمية والجمهور في مسألة: هل يقع طلاق الثلاث دفعه واحدة ثلاثًا أم واحدة؟ وسيأتي تحريرهُ إن شاء الله.
كيفيِّةُ الرَّجعة:
[1]
الرَّجعة بالقَوْل (5):
لا خلاف بين أهل العلم في أن الرَّجعة تصحُّ بالقول الدالِّ عليها، كأن يقول لمطلَّقته وهي في العدة:(راجعتُك - ارتجعتك - رددتُك لعصمتي) وما يؤدي هذا المعنى، أو أن يقول ذلك بصيغة الغيبة:(راجعتُ امرأتي) ونحو ذلك.
(1) سورة الطلاق: 1.
(2)
أخرجه النسائي (6/ 139)، وابن جرير (28/ 84)، وابن أبي شيبة (5/ 2) بسند صحيح عن ابن عباس في قوله تعالى:{فطلقوهن لعدتهن} قال: «قُبُلَ عدَّتهن» ، وعند عبد الرزاق (6/ 303)، وسعيد بن منصور (1058) بسند صحيح إلى عمرو بن دينار قال: كان ابن عباس يقرأ: (فطلقوهن لقُبُل عدتهن).
(3)
سورة الطلاق: 2.
(4)
«مجموع الفتاوى» (33/ 79 - 80).
(5)
«البدائع» (3/ 181)، و «الخرشي» (4/ 80)، و «مغني المحتاج» (3/ 337)، و «كشاف القناع» (5/ 342).
وألفاظ الرجعة منها ما هو صريح ومنها ما هو كناية.
(أ) فالصريح: ما يدلُّ على الرجعة لا على غيرها، كالألفاظ المتقدمة، ولذا فإنها تقع بها الرجعة من غير احتياج إلى النية.
(ب) والكناية: ما يدل على الرجعة ويحتمل معنى آخر غيرها، كأن يقول:(أنت عندي كما كنت - أنت امرأتي - رددتك - أمسكتُك)(1) ونحو ذلك، فإن هذه الألفاظ الكنائية تقع بها الرَّجعة إذا نوى بها ذلك وإلا لم تقع.
[2]
الرجعة بالفِعْل (2):
اختلف أهل العلم في حصول الرَّجعة بأفعال مادية يقوم بها الزوج المرتجع تجاه مطلَّقته الرجعية، على أربعة أقوال:
الأول: تحصل الرَّجعة بالجماع ومقدماته كلمسها أو تقبيلها بشهوة، سواء نوى الرجعة أو لم ينو، وكذلك بالنظر إلى فرجها - لا إلى غيره - وهذا مذهب الحنفية، وحجتهم:
1 -
أن الرجعة استدامة للنكاح القائم من كل وجه فلا تختص بالقول؛ لأن الفعل قد يقع دالًا على الاستدامة.
2 -
والفعل الدال على استدامة النكاح لابد أن يختص بالنكاح ولا يجوز بغيره كالوطء والتقبيل واللمس بشهوة والنظر إلى الفرج بشهوة.
وعندهم إذا حدثت هذه الأشياء من المرأة - كأن قبَّلته أو لمسته بشهوة - فتصحُّ الرجعة كذلك إذا لم يمنعها.
الثاني: تحصل الرَّجعة بالجماع ومقدماته بشرط أن ينوي بذلك الرَّجعة: وهو مذهب المالكية، ولعلَّ حجتهم عموم قوله صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات» (3).
(1) لأن قوله «رددتك» يحتمل الرد إلى الزوجية أو إلى بيت أبيها، وقوله «أمسكتك» يحتمل الإمساك بالزوجية أو الإمساك عن الخروج من بيتها في عدَّتها، فاحتاج إلى النية لصرف اللفظ إلى أحدهما.
(2)
«البدائع» (3/ 183)، و «المبسوط» (6/ 21)، و «الخرشي» (4/ 81)، و «الدسوقي» (2/ 370) و «الأم» (6/ 244)، و «مغني المحتاج» (3/ 337)، و «روضة الطالبين» (8/ 217)، و «المغني» (7/ 283)، و «كشاف القناع» (5/ 343)، و «المحلي» (10/ 251)، و «مجموع الفتاوى» (20/ 381).
(3)
متفق عليه: تقدم كثيرًا.
الثالث: تحصل الرَّجعة بالجماع فقط سواء نوى الرجعة أو لم ينوها: وهذا هو المذهب عند الحنابلة وهو الرواية المختارة عندهم عن أحمد، وهو قول ابن المسيب والحسن وابن سيرين وعطاء وطاوس والزهري والثوري والأوزاعي.
واستدل الحنابلة على الرجعة بالوطء بما يلي:
1 -
أن فترة العدة تؤدي إلى بينونة المطلقة من حيث إن انقضاء العدة يمنع صحة الرجعة، فإن وطئها في المدة عادت إليه كالإيلاء.
2 -
أن الطلاق سبب لزوال الملك ومعه خيار، فتصرف المالك بالوطء يمنع عمله كوطء البائع الأمة المبيعة مدة الخيار.
واستدلوا على عدم حصول الرجعة بالأفعال دون الوطء بما يلي:
1 -
أن مقدمات الوطء ونحوها إذا حدثت لا يترتب عليها عدة ولا يجب بها مهر فلا تصح بها الرجعة.
2 -
أن هذه الأفعال ليست في معنى الوطء، إذ الوطء يدل على ارتجاعها دلالة ظاهرة بخلافها.
3 -
أن ينظر إلى موضع الجماع أو اللمس يحدث من غير الزوج للحاجة، فلا تكون رجعة من هذه الجهة. واختلف الحنابلة في الخلوة الصحيحة هل تصح معها الرجعة؟! على قولين.
الرابع: لا تحصل الرَّجعة إلا بالقول، لا بالوطء ولا بغيره: وهو مذهب الشافعية وأبي محمد بن حزم وحجتهم:
1 -
أن الرجعة استباحة بضع مقصود بالقول فلم يصحَّ بالفعل مع القدرة على القول كالنكاح.
2 -
أن المرأة في الطلاق الرجعي تعتبر أجنبية عن الزوج - عند الشافعية فقط - فلا يحل له وطؤها، والرجعة في القدرة تعتبر إعادة لعقد الزواج (!!) وكما أنه لا يصح إلا بالقول الدال عليه فكذلك الرجعة.
3 -
ولأنه لم يأت بأن الجماع رجعة قرآن ولا سنة، ولا خلاف في أن الرجعة بالكلام رجعة.
4 -
أن الإمساك بالمعروف المأمور به ما عرف به ما في نفس الممسك الرادّ، ولا يعرف ذلك إلا بالكلام.
الراجح:
أقول: أما القول الأخير فلا أراه متجهًا؛ لأن قوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن} (1). وقوله صلى الله عليه وسلم لعمر - في شأن ابنه -: «مره فليراجعها» (2) أعم من كون ذلك يختص بالقول، فلا يجوز تخصيص الرجعة بالقول دون الفعل إلا بدليل ولا دليل (3).
ثم الذي يظهر أن أعدل الأقوال في حصول الرجعة بالجماع أنه يقع به إذا نوى به الرجعة، كما ذهب إليه مالك وهو رواية عن أحمد وإسحاق وهو اختيار شيخ الإسلام.
وأما حصول الرجعة بمقدمات الجماع، فلو قيل تقع بها الرجعة بشرط النية من الزوج لم يكن بعيدًا، وإلا فلا تقع بها الرجعة.
الإشهاد على الرَّجعة (4):
قال الله سبحانه: {فَإذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} (5). والمراد بالإمساك بالمعروف: الرَّجعة.
وقد أختلف أهل العلم في حكم الإشهاد على الرجعة على قولين:
الأول: أن الإشهاد على الرَّجعة واجب، وهو مذهب الشافعي القديم وهو رواية ثانية عن أحمد، وأبي محمد بن حزم واختيار شيخ الإسلام، وحجتهم:
1 -
قوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} (6). وهو ظاهر في الوجوب بمطلق الأمر، وهو ما فهمه عمران بن حصين.
(1) سورة البقرة: 228.
(2)
صحيح: تقدم مرارًا وسيأتي.
(3)
نحوه في «نيل الأوطار» (6/ 299) ط. الحديث.
(4)
«البدائع» (3/ 181)، و «المبسوط» (6/ 22)، و «الخرشي» (4/ 87)، و «الدسوقي» (2/ 377)، و «تكملة المجموع» (16/ 269)، و «مغني المحتاج» (3/ 336)، و «روضة الطالبين» (8/ 216)، و «كشاف القناع» (5/ 342)، و «المغني» (7/ 382)، و «المحلي» (10/ 251)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 129).
(5)
سورة الطلاق: 2.
(6)
سورة الطلاق: 2.
2 -
فقد سأله رجل عمن طلق امرأته طلاقًا رجعيًّا ثم وقع بها ولم يُشهد فقال: «طلقت لغير سنة، وراجعت لغير سنة، أشهد على ذلك ولا تعد» (1).
3 -
ولأن الرجعة استباحة بُضع مقصود فلم يصحَّ من عير إشهاد كالنكاح.
4 -
أن الله عز وجل قد قرن - في الآية الكريمة السابقة - بين المراجعة والطلاق والإشهاد، فلا يجوز إفراد بعض ذلك عن بعض، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردُّ» (2).
الثاني: أن الإشهاد على الرَّجعة مستحب وليس بواجب: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي - في الجديد - وهو الأظهر في المذهب، وإحدى الروايتين عن أحمد، وحجتهم:
1 -
الإشهاد يحب في النكاح لإثبات الفراش (الزوجية) وهو ثابت هنا، ثم إن الرَّجعة استدامة للنكاح وليس ابتداءً فلم تلزمها شهادة.
2 -
أن الرجعة حق للزوج لا يفتقر لقبول المرأة أو وليها فلم تجب فيه الشهادة.
3 -
قالوا: أما الأمر بالإشهاد في الآية الكريمة فمحمول على الندب لا الإيجاب لأمور:
(أ) أنه كقوله تعالى: {وأشهدوا إذا تبايعتم} (3) والبيع يصح بغير إشهاد عند الجمهور.
(ب) أن الإشهاد على الرجعة إنما هو للأمن من الجحود وقطع باب النزاع وسد باب الخلاف، فهو من باب الاحتياط.
(جـ) أن الآية جعلت له الإمساك أو الفراق ثم ذكرت الإشهاد فعلم أن الرجعة تحصل قبل الإشهاد، وأنه ليس بشرط فيها.
(د) لما كانت الفرقة حقًا للزوج وجازت بغير إشهاد، وكانت الرجعة حقًّا له وجب أن تجوز بغير إشهاد.
الراجح: الذي يترَّجح لديَّ وجوب الإشهاد في الرَّجعة لظاهر الأمر في الآية الكريمة ولما تقدم من أدلة الفريق الأول، ولما فيه من منع إنكار الزوج ودوامه
مع امرأته فيفضي إلى الحرام، ومنع إنكار الزوجة لتتزوَّج غيره بعد انقضاء العدة - بحجة عدم ارتجاعها - فتقع في الحرام، وهو أولى من إيجاب الإشهاد على الطلاق الذي رجَّحناه آنفًا، قال شيخ الإسلام:«ثم من العجب أن الله أمر بالإشهاد في الرجعة ولم يأمر به في النكاح، ثم يأمرون به في النكاح، ولا يوجبه أكثرهم في الرجعة!!» اهـ.
اختلاف الزوجين في الرجعة (1):
1 -
إذا اختلف الزوجان في حصول الرجعة: فادَّعى الزوج عليها أنه راجعها أمس مثلًا فأنكرت هي، صُدِّق إن كانت في العدة اتفاقًا؛ لأنه أخبر بما يملك استئنافه فلا يكون متهمًا في الإخبار.
2 -
فإذا قال بعد انقضاء العدة أنه كان راجعها في العدة، فأنكرت:
(أ) فإن أثبت دعواه بالبيِّنة، صحت رجعته.
(ب) فإن عجز الزوج عن الإثبات، فالقول قولها؛ لأنه ادَّعى مراجعتها في زمن لا يملك مراجعتها فيه.
3 -
وإذا قال الزوج للمعتَّدة: (قد راجعتُك) فقالت: (قد انقضت عدَّتي):
(أ) فإن كانت المدة بين الطلاق وبين الوقت الذي تدعي المرأة انقضاء العدة عنده كافيًا لانقضاء العدة، قُبل قولها بيمينها، ولم تثبت الرجعة.
(ب) وإن كانت هذه المدة لا تكفي لانقضاء العدة، بأن كانت أقل من مدة تنتهي فيها العدة شرعًا، لم يعتبر قولها، وتصح الرجعة، لظهور قرينة كذبها.
قلت: ومن هنا ندرك أهمية الإشهاد والتوثيق للطلاق والرجعة، فلا ينبغي التهاون في ذلك، لاسيما في زمان الفتنة والله أعلم.
فائدة: الطلاق الرجعي ينقص عدد التطليقات:
تقدم أن الرجل يمتلك ثلاث تطليقات على زوجته، وهذه التطليقات تنقص بكل طلاق رجعيًّا كان أو بائنًا - ومراجعة الرجل امرأته في العدة لا تمحو احتساب تطليقه عليه، فإن كان طلقها الأولى ثم راجعها فقد بقي له اثنتان، وإن كان طلقها
(1)«المبسوط» (6/ 22)، و «البدائع» (3/ 185)، و «مغني المحتاج» (3/ 338)، و «المجموع» (16/ 271)، و «المغني» (7/ 285 - 289).
الثانية ثم راجعها بقي له تطليقة واحدة، وعلى هذا اتفاق الفقهاء، لقوله تعالى:{الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} (1).
[2]
الطلاق البائن:
وهو الذي لا يكون فيه للزوج حقُّ الرَّجعة على مطلَّقته، وهو على نوعين:
بائن بينونة صغرى، وبائن بينونة كبرى:
(أ) الطلاق البائن بينونة صغرى: هو الذي لا يملك الزوج فيه أن يرجع مطلقته إليه إلا بعقد جديد ومهر جديد ويترتب على هذا النوع من الطلاق ما يلي:
آثار وأحكام الطلاق البائن بينونة صغرى (2):
1 -
إزالة الملك لا الحل: بمعنى أنه تنقطع به رابطة الزوجية، فتصير أجنبية عنه، وتنتهي الحقوق الزوجية لكل منهما على الآخر - سوى النفقة للزوجة ما دامت في العدة إذا كانت حاملًا بلا خلاف، وفي وجوب نفقتها عليه إذا كانت غير حامل خلاف سيأتي بحثه. ولا يشترط لحلها لمطلِّقها أن تتزوَّج زوجًا آخر، وإنما للزوج أن يرجعها إلى عصمته (يتزوَّجها) بعقد ومهر جديدين (3).
2 -
لا يملك المطلِّق حق الرجعة في العدة: ولكن له أن يتزوجها برضاها أثناء العدة (4) وبعدها بعقد ومهر جديدين كما تقدم.
3 -
حلول المهر المؤجَّل: الذي لم يعيَّن في العقد لأن هذا أقرب الأجلين: الموت أو الطلاق، وقد تقدم في «أحكام الصداق» .
4 -
لا ظهار ولا إيلاء ولا لعان ولا توارث بينهما: لوقوع البينونة بمجرد وقوع الطلاق (5).
5 -
إنقاص عدد التطليقات: فالطلاق البائن بينونة صغرى ينقص عدد التطليقات التي يمتلكها الزوج المطلِّق على زوجته، فإذا أعادها بعقد نكاح جديد قبل أن تنكح زوجًا غيره، وكان قد طلقها تطليقة واحدة بائنة، عات بتطليقتين
(1) سورة البقرة: 229.
(2)
«المفصل في أحكام المرأة» للدكتور عبد الكريم زيدان (8/ 59 - 60) بتصرف.
(3)
«المغني» (7/ 274)، و «البدائع» (3/ 187).
(4)
محل هذا عند من يقول إن الطلاق البائن بينونة صغرى يكون بغير الطلاق قبل الدخول - وهذا ليس فيه عدة - وسيأتي تحريره.
(5)
«البدائع» (3/ 187).
يملكهما عليها، وكذلك الحكم إذا أعادها بعقد جديد بعد أنكحت زوجًا غيره، وطلقها أو مات عنها قبل أن يدخل بها، ولا خلاف في هذا بين أهل العلم (1).
وأما ما عدا هذه الحالات ففيه خلاف في احتساب عدد التطليقات، يأتي تحريرهُ بعده في «مسألة الهدم» إن شاء الله.
مسألة الهدم: ويُقصد بها: (إذا طلَّق الرجل امرأته مرة أو اثنتين فتزوجت بآخر، فطلَّقها الثاني، ثم رجعت إلى الأول، فهل تُحسب التطليقات الأولى من الثلاث وتعود إليه على ما بقي من الثلاث؟ أم أن زواجها بغيره قد هدم التطلقيات الأولى فيبقى لها عليها ثلاث كاملة؟).
وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين (2):
الأول: تُحسب التطليقات في الزواج، فترجع إلى الزوج الأول على ما بقي من التطليقات:
بمعنى أنه: إن كان طلقها واحدة عادت إليه وهو يملك عليها تطليقتين، وإن كان طلقها تطليقتين عادت إليه وهو يملك عليها تطليقة واحدة.
وهذا قول عمر بن الخطاب وعلي وعمران بن حصين وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، وبه قال ابن المسيب والحسن والثوري ومحمد بن الحسن ومالك والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وإحدى الروايتين عن أحمد، وهو قول ابن المنذر، وحجتهم:
1 -
أن الزواج الثاني هو الذي ينهي حرمة المطلقة ثلاثًا على زوجها الأول بدليل قوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره} (3). ولا إنهاء للحرمة قبل ثبوتها، ولا ثبوت لها إلا بعد الطلاق الثلاث (4).
(1)«فتح القدير» (3/ 178)، و «المغني» (7/ 261).
(2)
«البدائع» (3/ 127)، و «فتح القدير» (3/ 178 - مع الهداية)، و «الأم» (5/ 250)، و «مغني المحتاج» (3/ 293)، و «الشرح الصغير» (1/ 467 - ط. الحلبي)، و «المغني» (7/ 261)، و «جامع أحكام النساء» لشيخنا - حفظه الله - (4/ 239 - 242).
(3)
سورة البقرة: 230.
(4)
يقولون هذا: لأنه إذا طلق ثلاثًا ثم تزوجت غيره ثم عادت إليه بعقد جديد فيكون له عليها ثلاث تطليقات جديدة باتفاق العلماء، وانظر المراجع السابقة مع «ابن عابدين» (3/ 418).
2 -
وفتوى عمر بذلك: فعن أبي هريرة قال: سألت عمر بن الخطاب عن رجل من أهل البحرين طلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ثم انقضت عدَّتها، فتزوَّجها رجل غيره ثم طلَّقها أو مات عنها، ثم تزوجها زوجها الأول، قال:«هي عنده على ما بقي» (1).
الثاني: الزواج الثاني هدم التطليقات الأولى، فترجع إلى الأول وله عليها ثلاث تطليقات:
وهذا قول ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما وبه قال عطاء والنخعي وشُريح وأبو حنيفة وأبو يوسف وهو الرواية الأخرى عن أحمد، وحجتهم:
1 -
أن وطء الزوج الثاني مثبت لحل الزوجة لزوجها الأول بعقد جديد فيتسع لثلاث تطليقات كما يثبته لو كانت مطلقة ثلاثًا.
2 -
ولأن وطء الزوج الثاني يهدم التطليقات الثلاث [وهذا متفق عليه] لو أوقعها الأول، فأولى أن يهدم ما دونها من طلقة أو طلقتين.
متى يقع الطلاق بائنًا بينونة صغرى؟
يقع هذا النوع من الطلاق في الحالات الآتية:
1 -
الطلاق قبل الدخول:
فدلَّت الآية الكريمة على أن المطلَّقة قبل الدخول لا عدة عليها، فلا يملك المطلق رجعتها، ولا يكون طلاقًا رجعيًّا، بل يكون بائنًا، وعلى هذا إجماع أهل العلم (3).
فائدة: الطلاق بعد الخلوة وقبل الدخول حقيقة بائن عند الجمهور:
لعدم الدخول الحقيقي فلا تجب فيه العدة، ولا يملك الزوج رجعتها، وأما
(1) إسناده صحيح: أخرجه الشافعي - كما في مسنده - (2/ رقم 125 - شفاء العي) ومن طريقة البيهق (7/ 364).
(2)
سورة الأحزاب: 49.
(3)
على بعض الخلاف بينهم فيما إذا طلقها ثلاثًا بلفظ واحد أو متفرقة، فمن قال: تقع ثلاثًا، جعل البينونة الكبرى، ومن لم يوقعه إلا واحدة جعل البينونة صغرى، وسيأتي تحرير الصواب في هذه المسألة، وانظر «المغني» (7/ 264).
ثبوت العدة عند الحنفية في الطلاق بعد الخلوة الصحيحة فهو للاحتياط وليس لثبوت حق الرجعة (1).
2 -
الطلاق على مال (الخُلع) عند الجمهور:
الطلاق على مال يقع بائنًا عند الجمهور؛ لأن الزوجة ما دفعت المال لزوجها في الخُلع ليطلِّقها إلا لتملك نفسها وتخلص من قيد الزوجية، ولا يتأتَّى لها ذلك بجعل الطلاق رجعيًّا، بل بجعله بائنًا (2).
قلت: عدُّ الخلع طلاقًا بائنًا على معنى أن الزوج يعيد زوجته برضاها - بعده إذا أراد - إلى عصمته بعقد جديد ومهر جديد، صحيح لا غبار عليه، وإما أن يكون على معنى أنها طلقة تحسب عليه من الثلاث فلا؛ لأن الصواب أن الخلع فسخ وليس بطلاق فلا تحتسب من الثلاث طلاقًا لقول الجمهور كما سيأتي تحريره، والله أعلم.
3 -
بعض أحوال التفريق بين الزوجين: تقع طلاقًا بائنًا بينونة صغرى، كما في التفريق للعيب أو الضرر أو للإيلاء، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
تنبيه: الطلاق باللفظ الصريح الموصوف أو الكنائي على المدخول بها يقع رجعيًّا ولا يكون بائنًا على الراجح (3):
فلو قال لامرأته: (أنت طالق البتة - أنت طالق بائن) وقعت طلقة رجعية، لأنه لما قال:(أنت طالق) فقد أتى بصريح الطلاق، وأنه يستدعي الرجعة حيث أنها تعقب قوله، فلما قال (بائن) فقد أراد تمييز المشروع، وهو الرجعة، فيرد عليه؛ ولأن الأصل في الطلاق أن يكون رجعيًّا، والاستمساك بهذا الأصل أولى من التحول عنه لوصف ألحقه المطلق بلفظ الطلاق، وهذا هو الموافق لحكمة تشريع الطلاق، وهذا مذهب الشافعي ورواية عن أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام (4).
وإذا كان الطلاق الصريح لا يقع إلا رجعيًّا، فالكناية - التي هي أضعف من التصريح لاحتمالها الطلاق وغيره - يكون الطلاق بها رجعيًّا بالأولى.
(1)«بدائع الصنائع» (3/ 109).
(2)
«السابق» (3/ 109)، و «ابن عابدين» (3/ 400)، و «الخرشي» (4/ 16)، و «مغني المحتاج» (3/ 337)، و «المغني» (7)، و «المبدع» (7/ 390).
(3)
إلا أن يكون الطلاق مكملًا للثلاث فيكون بائنًا بينونة كبرى كما لا يخفى.
(4)
«الأم» (5/ 241)، و «المحرر» (2/ 55)، و «مجموع الفتاوى» (23/ 155).
ولأن الطلاق وضع شرعي لا يتأثر بالنية، فقصد البينونة بالكناية يكون تغييرًا للوضع الشرعي (1).
(ب) الطلاق البائن بينونة كبرى:
وهو الذي لا يملك منه الزوج إرجاع مطلقته لا في عدتها ولا بعد انتهائها إلا بعقد جديد ومهر جديد، وبعد أن تكون قد نكحت زوجًا آخر ودخل بها الثاني ثم فارقها بموته أو طلاقه ثم انتهت عدَّتها منه.
ويشترط في النكاح الذي يحصل به التحليل للزوج الأول ما يلي:
1 -
أن يكون نكاحًا صحيحًا ظاهرًا وباطنًا: ومعنى صحته ظاهرًا: استيفاء شروط انعقاد العقد وشروط صحته، فلو كان العقد فاسدًا لم يحصل به التحليل عند جماهير أهل العلم (2).
ومعنى صحته باطنًا: أن يكون المقصود منه تحقيق أغراض النكاح كتكوين الأسرة وإعفاف كل منهما نفسه وإنجاب الذرية، فإن قُصد به التحليل الأول لم يحصل التحليل كما تقدم هذا في «الأنكحة الفاسدة» .
2 -
أن يجامعها الزوج الثاني: فلا يكفي مجرد العقد الصحيح بدون الدخول، على هذا اتفاق جماهير السلف والخلف - إلا ابن المسيب - وبهذا جاءت السنة: فعن عائشة رضي الله عنها: أن رفاعة القرظي تزوَّج امرأة، ثم طلقها، فتزوَّجت آخر، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له أنه لا
يأتيها وأنه ليس معه إلا مثل الهُدبة، فقال:«لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟، لا، حتى تذوقي عُسيلته ويذوق عُسيلتك» (3).
والعُسيلة عند الجمهور: حلاوة الجماع التي تحصل بتغييب الحشفة في الفرج ولو من غير إنزال.
وقد اشترط جمهور الحنابلة أن يكون الوطء حلالًا، فلو وطئها في حيض أو نفاس أو إحرام لم يكن كافيًا لإحلال المرأة لزوجها الأول، والصواب - الذي اختاره ابن قدامة - أنه يكفي لأن هذا واجد للعُسيلة وداخل في عموم قوله تعالى:
(1) وانظر لمذاهب العلماء في الكنائي: «البدائع» (3/ 111)، و «القوانين الفقهية» (253)، و «كشاف القناع» (3/ 151)، و «المغني» (7/ 133).
(2)
«المغني» (7/ 275).
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (2639)، ومسلم (1433).
{حتى تنكح زوجًا غيره} (1). ولأنه وطء في نكاح صحيح في محل الوطء على سبيل التمام، فأحلَّها كالوطء الحلال، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك (2).
أحكام وآثار هذا الطلاق:
1 -
تترتب على هذا النوع من الطلاق الآثار التي تترتب على البائن بينونة صغرى، وقد تقدمت.
2 -
لا تحل للزوج إلا إذا تزوجت غيره زواجًا صحيحًا على النحو المتقدم بيانه، ثم يفارقها بموت أو طلاق، وتعتد منه.
فائدة: الزواج الثاني يهدم الطلقات الثلاث: فإذا تزوجت زوجها الأول بعد مفارقة الثاني وقضاء العدة من زواجه، فإن زوجها الأول يملك عليها ثلاث تطليقات جديدة بإجماع أهل العلم (3).
متى يقع الطلاق بائنًا بينونة كبرى؟
يقع هذا النوع من الطلاق إذا كان مكملًا للطلقات الثلاث، لقوله تعالى: {طَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ
…
فَإن طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (4).
وعلى هذا إجماع أهل العلم (5).
هل يقع الطلاق بائنًا بينونة كبرى بلفظ الثلاث أو ثلاثًا في مجلس واحد؟
كأن يقول الرجل لامرأته: (أنت طالق ثلاثًا، أو: طالق طالق طالق) وهذه مسألة شهيرة، وفيها خلاف بين أهل العلم على ثلاثة أقوال مشهورة، أذكرها مع أدلة كل فريق ومناقشة ما تيسَّر من ذلك، نظرًا لأهميتها وعموم البلوى بها (6):
(1) سورة البقرة: 230.
(2)
«المغني» (7/ 276).
(3)
«المغني» (7/ 261).
(4)
سورة البقرة: 229، 230.
(5)
«تفسير القرطبي» [سورة البقرة: 230].
(6)
«ابن عابدين» (3/ 235)، و «شرح المعاني» (3/ 255)، و «المبسوط» (6/ 57)، و «فتح القدير» (3/ 329)، و «القوانين الفقهية» (251)، و «جواهر الإكليل» (1/ 338)، و «بداية المجتهد» (2)، و «الأم» (5/ 163)، و «تكملة المجموع» (15/ 404)، و «روضة الطالبين» (8/ 77)، و «مغني المحتاج» (3/ 310)، و «المغني» (7/ 102 - 104)، و «الإنصاف» (8/ 454)، و «كشاف القناع» (5/ 240)، و «الإفصاح» (2/ 148)، و «مجموع الفتاوى» (33/ 8 - 98)، و «زاد المعاد» (5/ 241 - 272)، و «إغاثة اللهفان» (1/ 283 - 325)، و «فتح الباري» (9/ 275 - 278)، و «المفصل» (8/ 62 - 88)، و «أضواء البيان» (1/ 221 - 268)، و «جامع أحكام النساء» (4/ 64 - 72).
القول الأول: أن هذا الطلاق مباح، ويقع ثلاثًا: وهو قول الشافعي والرواية القديمة عن أحمد وابن حزم.
القول الثاني: أن هذا الطلاق محرَّم، لكنه يقع ثلاثًا: وهو قول أبي حنيفة ومالك والرواية المتأخرة عن أحمد، وهو منقول عن كثير من السلف من الصحابة والتابعين.
فاتفق الطائفتان على وقوع هذا الطلاق ثلاثًا، وهو قول الجماهير من السلف والخلف واستدلوا بما يأتي:
1 -
قوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره} (1). قالوا: فهذا الطلاق يقع على الثلاثة المجموعة وغير مفرقة (2).
وأُجيب: بأن الآية الكريمة لا علاقة لها بإباحة الثلاث مجموعة أو مفرقة، لأن موضوعها بيان حرمة المطلقة في تطليقها الثالثة على مطلقها حتى تنكح زوجًا غيره.
2 -
قوله تعالى: {الطلاق مرتان} (3)، قالوا: فعلمنا أن إحدى المرتين جمع فيها بين تطليقتين، فيجوز الجمع بين الثلاث!!
وأجيب: بأنه ليس المراد حصر الطلاق كله في المرَّتين حتى يلزم الجمع بين اثنتين في إحدى التطليقتين كما ذكر، بل المراد به الطلاق الذي يملك بعده الرجعة كما فسَّره جماهير المفسِّرين (4).
3 -
حديث سهل بن سعد في قصة تلاعن عويمر العجلاني وزوجته في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه:«قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغا، قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم» قال ابن شهاب: فكانت تلك سنة المتلاعنين (5).
(1) سورة البقرة: 230.
(2)
«المحلي» (10/ 107).
(3)
سورة البقرة: 230.
(4)
«أضواء البيان» (1/ 221 - 222).
(5)
صحيح: أخرجه البخاري (5259)، ومسلم (1492).
قالوا: فلم يُنكر النبي صلى الله عليه وسلم عليه إيقاع الطلقات الثلاث مجموعة، ولو كان ممنوعًا أنكره، ولو أن الفرقة وقعت بنفس اللعان.
وأُجيب: بأن هذا لا حجة فيه، لأن الزوجة بعد اللعان تحرم على زوجها تحريمًا مؤبدًا، فما ذاد الطلاق الثلاث هذا التحريم إلا تأكيدًا وقوة، ثم إن هذا الطلاق قد وقع على أجنبيه لوقوع الفرقة بينهما باللعان.
ويؤيد هذا قول سهل في الرواية الأخرى: «طلقها ثلاثًا فأنقذه رسول الله صلى الله عليه وسلم» (1) فدلَّ على أنه احتاج إلى إنفاذ النبي صلى الله عليه وسلم، واختصاص الملاعن بذلك.
4 -
حديث فاطمة بنت قيس أن زوجها أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلَّقها ثلاثًا، ثم انطلق إلى اليمين، فانطلق خالد بن الوليد في نفر، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة أم المؤمنين، فقالوا: إن أبا حفص طلق امرأته ثلاثًا، فهل لها من نفقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ليس لها نفقة، وعليها عدة» (2).
5 -
وحديث عائشة: أن رجلًا طلق امرأته ثلاثًا، فتزوَّجت، فطلقت، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتحلُّ للأول؟ قال:«لا، حتى يذوق عُسَيْلتها كما ذاق الأول» (3).
قالوا: فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديثين - تطليقهما ثلاثًا!!
وأُجيبَ: بأن التطليق ثلاثًا الوارد في الحديثين، لم يكن مجموعًا، لأن زوجها كان قد طلقَّها تطليقتين من قبل ثم طلقها آخر الثلاث، كما جاء في بعض روايات حديث عند مسلم:«فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها ..» .
ولأن الحال عندهم كان معلومًا منه أن قوله (ثلاثًا) إنما تكون واحدة بعد واحدة، وهذا هو مقتضى اللغة والشرع.
6 -
ما رُوي: أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته البتة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وقال: والله ما أردتُ إلا واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله ما أردتَ إلا
(1) أخرجه ابن عوانة (3/ 200)، والطبراني في «الكبير» (6/ 117) وفي سندها لين.
(2)
صحيح: أخرجه مسلم (1480) وغيره.
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (5261)، ومسلم (1433)، والنسائي (6/ 148)، وأبو داود (2309).
واحدة؟» فقال ركانة: والله ما أردتُ إلا واحدة، فردَّها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلَّقها الثانية في زمن عمر بن الخطاب، والثالثة في زمن عثمان» (1).
قالوا: فقد أحلفه النبي صلى الله عليه وسلم أنه أراد بالبتة واحدة، فدلَّ على أنه لو أراد بها أكثر لواقع ما أراده، ولو لم يفترق الحال لم يحلفه.
وأجيب: بأن هذا الحديث مضطرب لا يصح وقد أعلَّه الأئمة كأحمد والبخاري وغيرهم (2)، ثم إن في بعض طرقه: أنه طلقها ثلاثًا في مجلس واحد، فقال صلى الله عليه وسلم:«في مجلس واحد» ؟ قال: نعم، قال:«فإنما تلك واحدة، فأرجعها إن شئت» وهو ضعيف كذلك وإن كان أمثل الطرق!!
7 -
ما يُروي عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت عن داود بن عبادة عن أبيه عن جده قال: طلق جدِّي امرأةً له ألف تطليقة، فانطلق أبي إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«ما اتقى الله جدُك، أما ثلاث فله، وأما تسعمائة وسبعة وتسعون فعدوان وظلم، إن شاء الله عذَّبه، وإن شاء غفر له» (3) وأجيب: بأنه باطل لا يحتج به.
8 -
وما يُروى عن الحسن قال: حدثنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأة وهي حائض، ثم أراد أن يُتبعها بتطليقتين أخريين عند القرءين الباقيين، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«يا ابن عمر، ما هكذا أمرك الله، أخطأت السنة»
…
فقلت: يا رسول الله، لو كنت طلقتها ثلاثًا، أكان لي أن أجمعها؟ قال:«لا، كانت تبينُ، وتكون معصية» (4).
وأجيب عن الحديث بأنه منكر، لا يصح.
9 -
وما يُروى عن معاذ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا معاذ من طلق للبدعة واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا ألزمناه بدعته» (5).
(1) ضعيف مضطرب: له طرق عند أبي داود (2196 - 2206)، والترمذي (1177)، وأحمد (1/ 265)، وعبد الرزاق (11334 - 11335)، والحاكم (2/ 491)، والبيهقي (2/ 491) وغيرهم وانظر «إرواء الغليل» (7/ 139).
(2)
«الكامل» لابن عدي (5/ 208)، و «الضعفاء» للعقيلي (2/ 90)، و «الميزان» (3/ 161)، و «العلل المتناهية» (2/ 639)، و «التمهيد» (15/ 79) عن «جامع أحكام النساء» (4/ 66 - 67).
(3)
باطل: أخرجه عبد الرزاق (11339)، والدارقطني (4/ 12).
(4)
منكر: أخرجه الدارقطني (4/ 31)، والبيهقي (7/ 330)، وانظر «الإرواء» (2054).
(5)
باطل: أخرجه الدارقطني (4/ 20).
وأجيب: بأنه حديث باطل.
10 -
وعن مجاهد: أن ابن عباس سئل عن رجل طلق امرأته مائة، فقال:«عصيت ربك، وفارقتك امرأتك» (1) وفي لفظ: أن رجلًا طلق ألفًا، قال:«يكفيك من ذلك ثلاث» .
قالوا: فتوى ابن عباس تدل على أن من طلق زوجته ثلاثًا مجموعة بانت منه.
وأجيب: بأن هذه فتواه ورأيه، لكنه قد روي أن طلاق الثلاث كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع واحدة - كما سيأتي - والحجة فيما رواه مرفوعًا لا في رأيه وفتواه كما هو مقرر في الأصول.
11 -
أن وقوعه ثلاثًا قد انعقد الإجماع عليه في عهد عمر، ولا يحفظ أن أحدًا في عهد عمر خالف فيه (!!).
وأجيب: بأنه ليس في المسألة إجماع، فالنزاع فيها قديم، والقول بوقوعها واحدة كان معروفًا في عهد أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر وهو مروي عن علي وابن مسعود وابن عباس والزبير وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم.
12 -
أن الله تعالى ملَّك الزوج ثلاث تطليقات، وجعل إيقاعها إليه، فإن جمع الثلاث فعلى القول بجواز ذلك فقد فعل ما أبيح له فيصح، وإن قلنا بتحريمه، فالشارع ملَّكه تفريق الطلقات الثلاث فسحة له، فإذا جمعها فقد جمع ما فسخ له في تفريقه، فلزمهُ حكمه كما لو فرَّقه.
القول الثالث: أن هذا الطلاق محرَّم، ويقع واحدة رجعية: وهو منقول عن طائفة من الصحابة منهم: الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وعلي وابن مسعود وابن عباس (وروي عن ثلاثتهم خلافه) وهو قول كثير من التابعين ومن بعدهم كطاووس ومحمد بن إسحاق، وبه قال داود الظاهري وأكثر أصحابه، وبعض أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد، وانتصر له شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، واحتجوا بما يلي:
1 -
قوله تعالى: {الطلاق مرتان} (2). فبيَّن أن الطلاق الذي ذكره والطلاق
(1) صحيح: أخرجه الدارقطني (4/ 13 - 60)، والطحاوي (2/ 33)، والبيهقي (7/ 337)، وانظر «الإرواء» (2056).
(2)
سورة البقرة: 229.
الرجعي الذي يكون فيه أحق بردها هو مرتان، مرة بعد مرة، كما إذا قيل للرجل: سبح مرتين أو سبِّح ثلاث مرات أو مائة مرة، فلابد أن يقول: سبحان الله، سبحان الله، حتى يستوفى العدد، ولو قال: سبحان الله كذا مرة (مجملة) لم يكن سبِّح إلا مرة واحدة.
فكذلك من قال لامرأته: (أنت طالق اثنتين أو ثلاثًا أو عشرًا أو ألفًا) لم يكن قد طلقها إلا مرة واحدة (1).
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين جويرية: «لقد قلتُ بعدك أربع كلمات لو وزنت بما قُلته لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته» (2).
فمعناه: أنه سبحانه يستحق التسبيح بعدد ذلك، وليس المراد أنه سبَّح تسبيحًا بقدر ذلك.
فإذا أراد المطلق أن يغيِّر الصفة الشرعية للطلاق بأن يجعله سببًا لفرقة لا رجعة فيها بجمع الثلاث، لم يكن له ذلك لأنه من قبيل تغيير شرع الله ونسخه بعد وفاة رسول الله، وهذا لا يجوز، وعلى هذا يقع الطلاق طلقة واحدة رجعية وتُلغى الثلاث.
وأجيب: بأن الطلاق بجمع الثلاث وإن كان منهيًّا عنه، ولكن هذا لا يمنع من وقوعه كالظهار، فإن الله قد سماه منكرًا من القول وزورًا، ولم يمنع ذلك من تحريم زوجته عليه حتى يفعل ما أمره الله به!!
ورُدَّ عليه: بأنه لا يصح قياس الطلاق على الظهار، فإن الظهار محرَّم في نفسه، وهو جريمة رتَّب الشارع عليها جزاء هي الكفارة، بخلاف الطلاق (3).
2 -
عن طاووس عن ابن عباس قال: «كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: «إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناه فلو أمضيناه عليهم» فأمضاه عليهم» (4).
(1)«مجموع الفتاوى» (33/ 11).
(2)
صحيح: أخرجه مسلم (2726) وغيره.
(3)
«المفصَّل» لعبد الكريم زيدان (8/ 74).
(4)
صحيح: أخرجه مسلم (2472)، وأبو داود (2200)، والنسائي (6/ 145).
وفي لفظ عن طاووس أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك (1)، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة؟ فقال:«قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم» (2).
وقد اعتُرض على الحديث بأمور منها:
الأول: الطعن في ثبوت الحديث: فادعى بعضهم شذوذ رواية طاووس، باعتبار تكاثر الروايات - الموقوفة (!!) - على ابن عباس بلزوم الثلاث، قالوا: ولا يُظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا ويفتى بخلافه، فيتعيَّن المصير إلى الترجيح، والأخذ بقول الأكثر أولى من الأخذ بقول الواحد إذا خالفهم.
وأُجيب: بأن الأئمة الأثبات - كعمرو بن جريج - رووه عن ابن طاووس - وهو إمام - عن طاووس عن ابن عباس، ورواه إبراهيم بن ميسرة - وهو ثقة حافظ - عن ابن عباس، وانفراد الصحابي لا يضر ولو لم يرو عنه أصلًا إلا واحد، ثم إن العبرة برواية الصحابي لا برأيه.
وعكَّر بعضهم: بأن الدواعي إلى نقل ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من بعده متوفرة لاسيما وقد غيَّر ذلك عمر ولم ينكر أحد من الصحابة، فكون ذلك لم ينقل منه حرف عن غير ابن عباس يدل دلالة واضحة على أحد أمرين: إما أن يكون الذي رواه طاووس عن ابن عباس ليس معناه أن الثلاث بلفظ واحد، وإنما ثلاثة ألفاظ في وقت واحد - وبهذا جزم النسائي وصححه النووي والقرطبي - فلا يكون هناك إشكال في تغيير عمر.
وإما أن يكون الحديث غير محكوم بصحته لنقله آحاد مع توفُّر الدواعي إلى نقله (3)، قال العلامة الشنقيطي رحمه الله:«والأول أولى وأخف من الثنائي» اهـ.
قلت: (أبو مالك): أما الثاني فلا ينبغي أن يُضعَّف الحديث به لا سيما مع رواية الثقات الأثبات له وعدم صراحة ما يعارضه، وأما الأول فمحتمل، قال العلامة أبو الأشبال رحمه الله: «والذي نراه أن قول القائل: (أنت طالق ثلاثًا) لا يخرج عن أنه نطق بالطلاق مرة واحدة وأنه لا يصلح أن يكون موضع خلاف بين الصحابة أو غيرهم، وإنما الذي اختلفوا فيه وأمضاه عمر بن الخطاب، هو ما إذا قال لامرأته
(1) هناتك أي: أخبارك وأمورك.
(2)
صحيح: أخرجه مسلم (1472).
(3)
«أضواء البيان» للشنقيطي (1/ 254 - 255).
ثلاث مرات كررها: (أنت طالق) سواء كانت في مجلس واحد أو في مجالس متعددة ما دامت ف العدة،
فهذا جعله عمر ثلاث تطليقات باعتبار أن الطلاق يلحق المعتدة، وهي قد صارت معتدة باللفظ الأول من التطليقات التي كررها المطلق ثلاث مرات، وكان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر: تعتبر المرة الأولى ثم لا يلحقها بعد ذلك المرتان اللتان بعدها لأنها معتدة، فلما تكرَّر في ألفاظ الصحابة والتابعين الكلام في وقوع الطلاق الثلاث أو عدمه فهم منه الفقهاء أن المراد هو لفظ (أنت طالق ثلاثًا) وهذا مما تنبو عنه قواعد اللغة وبديهة العقل
…
» اهـ. المراد (1).
قلت: يخرج بهذا التحقيق لفظ (أنت طالق ثلاثًا) من خلاف الصحابة، لكن بقي الخلاف في المسألة كما هو في إمضاء عمر لتكرار الثلاث في المجلس الواحد على خلاف ما كان في الصدر الأول، وهو ما نحن بصدد تحريره!!
الاعتراض الثاني: دعوى أن حديث ابن عباس منسوخ وأن ابن عباس علم بالناسخ: فقد نقل البيهقي عن الشافعي أنه قال: «يُشبه أن يكون ابن عباس علم شيئًا نسخ المروي عنه بأن الثلاث تقع واحدة» قال البيهقي: ويقوى ما قاله الإمام الشافعي ما أخرج أبو داود عن ابن عباس قال: «كان الرجل إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثًا، فنسخ ذلك» (2) إلا أنه لم يشتهر الناسخ فبقى الحكم المنسوخ معمولًا به إلى أن أنكره عمر. وأُجيب عن هذا: بأن هذه الرواية واردة بشأن ما كان عليه أمر المراجعة حيث كان الرجل يطلق امرأته يراجعها بغير عدد فنُسخ ذلك وقصر على ثلاث فبها تنقطع الرجعة، ثم كيف يستمر العمل بالمنسوخ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر ولا تعلم الأمة بالناسخ، وهو من أهم الأمور المتعلقة بحلِّ الفروج؟! ثم كيف يقول عمر:«إن الناس قد استعجلوا في شيء قد كانت لهم فيه أناة» وهل للأمة أناة في المنسوخ بوجه ما؟ ثم إن عمر لم يذكر علمه بالناسخ، وإنما ذكر رأيه فيما ذهب إليه وتبرير هذا الرأي، ولو كان هناك ناسخ لذكره وبينه، إذ في بيانه ما يكفي ويغني عن تعليل رأيه.
الاعتراض الثالث: أن حديث ابن عباس محمول على الحكم في غير المدخول بها: ولا يتعلق بالمدخول بها لما جاء في رواية لأبي داود أنه لما قال القائل لابن
(1)«الروضة الندية» (2/ 52 - 53) الحاشية.
(2)
حسن: أخرجه أبو داود (2195)، والنسائي (6/ 212).
عباس: أما علمتَ أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثًا [قبل أن يدخل بها] جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من إمارة عمر؟ قال: «بلى» (1).
وأيَّدوا هذا بأن غير المدخول بها إذا قال لها زوجها: (أنت طالق) فقد بانت منه فإذا أضاف كلمة (ثلاثًا) لغا العدد لوقوعه بعد البينونة.
وأُجيب عنه: بأن زيادة [قبل أن يدخل بها] منكرة لا تصح، وعلى فرض ثبوتها فإنها لا تمنع صدق رواية مسلم لحديث ابن عباس على المطلقة بعد الدخول، لأن غاية ما في رواية أبي داود - إن صحت - أنه وقع فيها التنصيص على بعض أفراد العام في رواية مسلم، وهذا لا يوجب تخصيصها بها كما هو مقرر في الأصول (2).
ثم يرد على ما قالوه: أن قول الرجل لزوجته غير المدخول بها: (أنت طالق ثلاثًا) كلام متصل غير منفصل، فكيف يصح جعله كلمتين وإعطاء كل كلمة حكمًا؟!.
الاعتراض الرابع: حمل حديث ابن عباس على صورة خاصة: وهي قول المُطلِّق: (أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق) وأن قائل هذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا استئناف الطلاق وتعدده فلم يريدوا تأسيس طلاق ثان وثالث، وكانوا لسلامة صدورهم - يصدَّقون بدعواهم، فلما كثر الناس في زمن عمر وكثر فيهم الخداع (!!) ونحوه مما يمنع قبول من ادعى التأكيد، حمل عمر اللفظ على ظاهر التكرار فأمضاه عليهم.
وأُجيب عنه: بأنه لو كان الحديث محمولًا على ما ذكروه لظلَّ الحكم بدون تغيير؛ لأن المدار إذا كان على قصد التأكيد فتقع الثلاث واحدة، وإن كان على قصد التأسيس فتقع ثلاثًا، فإن الحكم يترك لنية المطلق وينبغي تصديقه، سواء كان برًّا أو فاجرًا؛ لأن الطلاق حقه، واللفظ يحتمل التأكيد والتأسيس، والسبيل لحمل
(1) منكر: وانظر «السلسة الضعيفة» للعلامة الألباني رحمه الله (1133).
(2)
قلت: على أنه قد يقال: إن هذا ليس من باب العام والخصوص، وإنما هو من باب المطلق والمقيَّد، والمقرر في الأصول أن المطلق يحمل على المقيَّد لاسيما إن اتحد الحكم والسبب، كما هنا، وعلى كلٍّ فالزيادة لا تثبت، والله أعلم.
اللفظ على أحدهما ما نواه، ونيَّته تعرف عن طريقه وما يدَّعيه، وإن كان ادعاء التأكيد لا يقبل في أحكام الدنيا، فإنه لا يقبل من البر كما لا يُقبل من الفاجر.
ثم إنه لا وجه مقبول للقول بأن الخداع كثر في الناس في زمان عمر؛ لأن الناس في زمنه هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في غالبيتهم العظمى، ومن وُجد فيهم من التابعين فهم تلامذتهم، وزمان عمر هو خير الأزمان بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن أبي بكر فكيف يصح القول بكثرة الخداع فيهم؟ غاية ما في الأمر أنه أسلوب لإيقاع الطلاق - قد يقع من البعض، خلافًا للأسلوب الشرعي لأنهم غير معصومين، وهذا لا يقدح في عدالتهم ولا يعني الخداع منهم.
الاعتراض الخامس: حمل حديث ابن عباس على تغيُّر عادات الناس: فقالوا: الطلاق الذي يوقعه الناس في زمن عمر بصيغة الثلاث، كانوا يوقعونه قبل ذلك واحدة بقول المطلق (أنت طالق) لأنهم ما كانوا يستعملون الثلاث أصلًا أو كانوا يستعملونه نادرًا، فلما كثر استعمالهم للفظ الثلاث في زمن عمر أمضاه عليهم وأجازه، فلم يفعل عمر أكثر من تنفيذه حكم الثلاث عليهم وهو حكم مقرر شرعًا له، وعليه يكون حديث ابن عباس واردًا لبيان اختلاف عادات الناس في كيفية أو صيغة الطلاق، وليس في وقوعه حسب الكيفية.
وأجيب عنه: بأن الناس ما زالوا يطلقون واحدة أو ثلاثًا، وقد طلق رجال نساءهم على عهد رسول الله ثلاثًا، فمنهم من ردَّها النبي صلى الله عليه وسلم إلى واحدة، ومنهم من أنكر عليه وغضب عليه لإيقاعه الطلاق ثلاثًا وجعله متلاعبًا بكتاب الله ولم يعرف ما حكم به عليه (1).
ثم إن قول عمر: «فلو أمضيناه عليهم» يدلُّ على أن الطلاق الثلاث في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر لم يُعتبر وقوعه ثلاثًا - رغم استعماله - حتى رأى عمر ذلك.
3 -
(من أدلة التابعين) أمثل طرق حديث ابن عباس - في قصة ركانة - قال: طلَّق ركانة بن يزيد أخو بني مطلب امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنًا شديدًا، قال: فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف طلَّقتها؟» قال: طلَّقتها ثلاثًا، قال: فقال: «في مجلس واحد؟» قال: نعم، قال:«فإنما تلك واحدة فأرجعها إن شئت» (2).
(1) ستأتي هذه الأحاديث عقبه، وهي ضعيفة.
(2)
ضعيف: وقد تقدم الكلام عليه في أدلة الفريق الأول.
وأجيب: بأن للحديث لفظًا آخر: أنه طلَّق امرأته البتة وقال: ما أردت إلا واحدة فردَّها عليه واحدة، قلت: الحديث ضعيف لاضطرابه على كل حال كما تقدم بيانه.
4 -
ما ورد عن مخرمة بن بكير عن أبيه قال سمعت محمود بن لبيد قال: «أُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، فقام غضبان ثم قال: «أيُلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟!» حتى قام رجل وقال: يا رسول الله، ألا أقتله؟» (1).
قالوا: فكيف يُظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أجاز عمل من استهزأ بكتاب الله وصححه واعتبره في شرعه وحكمه وأنفذه؟ وقد جعله مستهزئًا بكتاب الله تعالى؟! وهو صريح في أن الله تعالى لم يشرع جمع الثلاث ولا جعله من أحكامه.
وأُجيب عن الحديث: بأن قد أُعلَّ بعلتين: الأول: أنه مرسل إذ أن محمود بن لبيد لم تثبت له صحبة على قول بعض أهل العلم (!!) والثانية: أن مخرمة بن بكير مُتكلَّم في سماعه من أبيه.
قلت: أما سماع محمود بن لبيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فالصحيح ثبوته، فقد روي أحمد (5/ 427) بسند حسن عن محمود بن لبيد قال:«أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بنا المغرب في مسجدنا فلما سلَّم منها قال: «اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم» وقد تقدم في الصلاة.
وأما سماع مخرمة بن بكير من أبيه فقد صرَّح غير واحد من أهل العلم بأن روايته عنه منقطعة.
5 -
عن ابن عباس قال: «إذا قال: (أنت طالق ثلاثًا) بفم واحد، فهي واحدة» (2).
6 -
وَوَجَّهوا إمضاء عمر رضي الله عنه الثلاث بلفظ واحد بأن عمر «لما رأى الناس قد أكثروا مما حرَّمه الله عليهم من جميع الثلاث، ولا ينتهون من ذلك إلا بعقوبة، رأى عقوبتهم بإلزامهم بها لئلا يفعلوه، إما من نوع التعزير العارض الذي يُفعل عند الحاجة، وإما ظنَّا أن جعلها واحدة كان مشروطًا بشرط وقد زال» (3).
(1) ضعيف: أخرجه النسائي (6/ 142).
(2)
صحيح: انظر «الإرواء» (7/ 121 - 122).
(3)
«مجموع فتاوى شيخ الإسلام» (33/ 15 - 16).