المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أولا: الشروط المتعلقة بالمطلق: - صحيح فقه السنة وأدلته وتوضيح مذاهب الأئمة - جـ ٣

[كمال ابن السيد سالم]

فهرس الكتاب

- ‌9 - كتاب اللباس والزينة وأحكام النظر

- ‌أولًا: اللباس والزينة للرجال

- ‌ثانيًا: اللباس والزينة للنساء

- ‌لباس المرأة المسلمة

- ‌مسائل تتعلق بأحكام النظر

- ‌الزينة للمرأة المسلمة

- ‌حكم لبس العدسات الملونة للزينة والموضة

- ‌10 - كتاب الزواج ومقدماته وتوابعه

- ‌الأنكحة الفاسدة شرعًا

- ‌الصفات المطلوبة في الزوجين

- ‌الخِطْبة وأحكامها

- ‌أحكام النَّظر في الخِطبة

- ‌عقد الزواج

- ‌شروط صحة عقد النكاح

- ‌الاشتراط في عقد النكاح

- ‌الصداق (المهر)

- ‌إعلان النكاح

- ‌تعدد الزوجات

- ‌من أحكام المولود

- ‌النشوز وعلاجه

- ‌11 - كتاب الفرْق بين الزوجين

- ‌الطلاق وأحكامه

- ‌شروط الطلاق

- ‌أولًا: الشروط المتعلقة بالمطلِّق:

- ‌ثانيًا: الشروط المتعلِّقة بالمطلَّقة:

- ‌ثالثًا: الشروط المتعلقة بصيغة الطلاق:

- ‌الإشهاد على الطلاق

- ‌أنواع الطلاق

- ‌أولًا: الطلاق الرجعي والبائن

- ‌ثانيًا: الطلاق السُّنِّي والبدعي

- ‌ثالثًا: الطلاق المُنجَّز والمضاف والمعلَّق

- ‌التخييرُ في الطلاق

- ‌التوكيل أو التفويض في الطلاق

- ‌العِدَّة

- ‌الخُلْع

- ‌أركان الخلع وما يتعلق بها

- ‌الإيلاء

- ‌الظِّهَار

- ‌اللِّعان

- ‌التفريق القضائي

- ‌الحضانة

- ‌12 - كتاب المواريث

- ‌عِلْم المواريث (الفرائض)

- ‌المُستحقُّون للميراث

- ‌الحَجْبُ

الفصل: ‌أولا: الشروط المتعلقة بالمطلق:

‌أولًا: الشروط المتعلقة بالمطلِّق:

[1]

أن يكون زوجًا: أي أن بينه وبين من يريد تطليقها عقد زواج صحيح، فلو قال -قبل أن يتزوجها-: إذا تزوجت فلانة فهي طالق، فلا عبرة بقوله ولا يعتد به، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك، ولا طلاق له فيما لا يملك"(1).

فلا يملك الرجل طلاقًا، إلا إذا كان زوجًا، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن

} (2). فذكر الطلاق بعد النكاح.

[2]

البلوغ:

ذهب الجمهور إلى عدم وقوع طلاق الصغير مميزًا كان أو غير مميِّز، لأن الطلاق ضرر محض فلا يملكه الصغير، وكذلك لا يملكه وَليُّه (3)، ولحديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر"(4) فإذا كان الصبي غير مكلف لم يقع طلاقه.

وذهب الحنابلة إلى أن الصبي إذا كان مميزًا يعقل الطلاق، ويعلم أن زوجته تبين به وتحرم عليه، فإن طلاقه يقع، واستدلوا بما يُروي مرفوعًا:"كل طلاق جائز، إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله"(5).

وبما رُوي عن عليٍّ أنه قال: "اكتموا الصبيان النكاح"(6) فيفهم منه أن فائدته ألا يطلقوا، ولأنه طلاق من عاقل صادف محل الطلاق فوقع كطلاق البالغ.

(1) صحيح لغيره: أخرجه الترمذي (1181)، وأبو داود (2190)، وابن ماجة (2047) وله شواهد كثيرة.

(2)

سورة الأحزاب: 49.

(3)

«المدونة» (2/ 127)، و «الأم» (6/ 258)، و «ابن عابدين» (3/ 230)، و «مغني المحتاج» (3/ 279).

(4)

صحيح لغيره: أخرجه أبو داود (4398)، وابن ماجة (2041) وله شواهد عند أبي داود (4401)، وأحمد (1/ 116) بسند صحيح موقوفًا، ولا يصح رفعه.

(5)

صحيح موقوفًا: أخرجه بنحوه عبد الرزاق (7/ 78)، وسعيد بن منصور (1113)، والبيهقي (7/ 359).

(6)

إسناده ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 74).

ص: 236

وبنحو هذا قال ابن المسيب وعطاء والحسن والشعبي وإسحاق وكأنه اختيار الإسلام إذ قال: "لكن الصبي المميز والمجنون الذي يميز أحيانًا يعتبر قوله حين التمييز" اهـ (1).

[3]

العقل: فلا يصحُّ طلاق المجنون والمعتوه (2)، لفقدان أهلية الأداء في الأول، ونقصانها في الثاني، ويدل على ذلك الحديث المتقدم: "رفع القلم عن ثلاثة

وعن المجنون حتى يعقل" (3).

وفي حديث ماعز -لما اعترف للنبي صلى الله عليه وسلم بالزنا- قال النبي صلى الله عليه وسلم له: "أبك جنون؟

" (4).

فدلَّ على أن الإقرار من المجنون لا يصح، فكذلك سائر التصرفات والإنشاءات (5) وقال عليُّ بن أبي طالب:"كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه"(6) والمراد بالمعتوه هنا: الناقص العقل فيدخل فيه الطفل والمجنون والسكران.

هذا في الجنون الدائم المطبق، أما الجنون المتقطع، الذي يغيب فترة عن صاحبه ثم يعود إليه، فإن طلَّق حال جنونه لم يقع، وإن طلق حال إفاقته وقع لكمال أهليته.

وقد ألحق العلماء بالمجنون: النائم والمغمى عليه والمدهوش (7)، لانعدام الأهلية لديهم وللحديث المتقدم.

* طلاق السكران:

وأما السكران الذي وصل إلى درجة الهذيان وخلط الكلام، ولا يعلم ما يقول، ولا يعي بعد إفاقته ما صدر منه حال سكره، والسكران لا يخلو من أحد حالين:

(1)«مجموع الفتاوى» (33/ 108)، وانظر:«المغني» (7/ 116)، و «فتح الباري» (9/ 393)، و «جامع أحكام النساء» (4/ 102 - 103).

(2)

وهو القليل الفهم، المختلط الكلام، الفاسد التدبير، لكن لا يضرب ولا يشتم بخلاف المجنون (ابن عابدين 3/ 243).

(3)

صحيح لغيره: تقدم قريبًا.

(4)

صحيح: أخرجه مسلم (1695) وغيره عن بريدة، ونحوه في البخاري (5270) عن جابر بدون ذكر اسم الرجل.

(5)

«نيل الأوطار» (6/ 280) ط. الحديث.

(6)

إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور (1113)، وعبد الرزاق (7/ 78).

(7)

المدهوش: هو الذي فقد تمييزه من غضب أو غيره، فلا يدري ما يقول.

ص: 237

(أ) أن يكون غير مُتعدٍّ بسكره: كأن يسكر مضطرًا أو مكرهًا أو تناول دواء العلاج الضروري إذا تعين بقول طبيب مسلم ثقة، أو تعاطي البنج، أو لم يعلم أنه مسكر، ونحو ذلك -وهو نادر- فهذا لا يقع طلاقه بإجماع العلماء (1)، لفقدان العقل لديه كالمجنون دون تعدٍّ.

(ب) أن يكون متعديًا بسُكره: كأن يشرب الخمر عالمًا به مختارًا لشربه، أو تناول مخدرًا ونحو ذلك، فهذا اختلف أهل العلم في وقوع طلاقه على قولين (2):

الأول: يقع طلاقه حال سُكره: وهو مذهب جمهور العلماء، منهم أبو حنيفة وصاحباه ومالك والشافعي في أصح قوليه وأحمد في المشهور عنه، وبه قال ابن المسيب والحسن والشعبي وعطاء والأوزاعي والثوري وطائفة من السلف، وحجة هذا المذهب ما يلي:

1 -

أن حكم التكليف جار عليه، فيؤاخذ بجنايته، قالوا: ويدل عليه قوله تعالى: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سُكارى حتى تعلموا ما تقولون

} (3). فنهيهم حال السكر عن قربان الصلاة يقتضي عدم زوال التكليف!! وأُجيب: بأن هذا ضعيف، فإنه إن أُريد أن وقت السكر يؤمر ويُنهى فهذا باطل، فإن من لا عقل له ولا يفهم الخطاب ولا يعقل ما يقول فليس بمكلف، إذ الإجماع منعقد على أن شرط التكليف العقل.

وأما الآية الكريمة ففيها نهي لهم أن يسكروا سكرًا يفوتون به الصلاة أو نهي لهم عن الشرب القريب من وقت الصلاة، أو نهي لمن يدب فيه أوائل النشوة، وأما في حال السكر فلا يخاطب بحال (4).

2 -

أن في إيقاعه عقوبة له، وأُجيب: بأن الشريعة لم تعاقب أحدًا بهذا الجنس من إيقاع الطلاق أو عدم إيقاعه، بل يكفيه الحد وقد وحصل رضا الله عز وجل

(1)«المغني» (7/ 116)، و «الإجماع» لابن المنذر (ص: 100).

(2)

«ابن عابدين» (3/ 239)، و «الهداية» (1/ 230)، و «الدسوقي» (2/ 365)، و «بداية المجتهد» (2/ 138)، و «مغني المحتاج» (3/ 279)، و «الأم» (5/ 253)، و «المغني» (7/ 114 - 115) ط. المنار، و «الإنصاف» (8/ 433)، و «مجموع الفتاوى» (33/ 102 - 108)، و «زاد المعاد» (5/ 211 - وما بعدها)، و «المحلي» (10/ 208)، و «جامع أحكام النساء» (4/ 86 - 99).

(3)

سورة النساء: 43.

(4)

«مجموع الفتاوى» (33/ 106).

ص: 238

من هذه العقوبة بالحد، وعقوبته بغيره تغيير لحدود الشريعة، ثم إن في هذا من الضرر على زوجته البريئة وغيرها ما لا يجوز.

3 -

أن الصحابة جعلوا السكران كالصَّاحي في الحد بالقذف، فإنهم قالوا:"إذا شرب سكر، وإذا سكر هَذَى، وإذا هذى افترى، وحدُّ المفتري ثمانون"(1) وهو ضعيف.

وأجيب: بأن هذا لو ثبت، فإنه يبيِّن "أن اقدامه على السكر الذى هو مظنة الافتراء يلحقه بالمقدم على الافتراء، إقامةً لمظنة الحكمة مقام الحقيقة، لأن الحكمة هنا فيه مستترة، لأنه قد لا يُعلم افتراؤه، ولا متى يفتري، ولا على من يفتري، كما أن المضطجع يُحدث ولا يدرى هل هو أحدث أم لا؟ فقام النوم مقام الحدث، فهذا فقه معروف، فلو كانت تصرفاته من هذا الجنس لكان ينبغى أن يطلق امرأته سواء طلق أو لم يطلق، كما يحدُّ حد المفتري سواء افترى، أو لم يفتر، وهذا لا يقوله أحد"(2).

4 -

أنه لا يعلم زوال عقله إلا بقوله، وهو فاسق بشربه، فلا يقبل قوله في عدم العقل والسكر.

5 -

ما يُروى مرفوعًا: "كل الطلاق جائز، إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله"(3) لكنه ضعيف.

القول الثاني: لا يقع طلاق السكران مطلقًا:

وهو القول القديم للشافعي واختاره المزني والطحاوي من الحنفية والرواية الأخرى عن أحمد، وبه قال عمر بن عبد العزيز والليث وإسحاق وأبي ثور وهو اختيار شيخ الإسلام وهو مروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، وحجة هذا القول ما يلي:

1 -

قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا

} (4).

(1) ضعيف: أخرجه مالك (1533)، والشافعي (293)، وعبد الرزاق (7/ 378)، والدارقطني (3/ 157، 166)، والحاكم (4/ 417)، والبيهقي (8/ 320).

(2)

«مجموع الفتاوى» (33/ 105).

(3)

ضعيف: أخرجه الترمذي بسند ضعيف، وقد تقدم أنه قد صحَّ نحوه على عليٍّ موقوفًا وليس فيه:«المغلوب على عقله» .

(4)

سورة النساء: 43.

ص: 239

قالوا: فجعل قول السكران غير معتبر لأنه لا يعلم ما يقول، فبطلت صلاته وعبادته لعدم عقله، فبطلان عقوده أولى وأحرى كالنائم والمجنون ونحوهما.

2 -

قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات

" (1) والسكران لا نية له ولا قصد، والعقود وغيرها من التصرفات مشروطة بالقصود.

3 -

حديث بريدة -في قصة ماعز واعترافه بالزنا- وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أشرب خمرًا؟ " فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر

الحديث (2).

فجعل صلى الله عليه وسلم السكر كالجنون في إسقاط العقوبة.

وأجيب بأن هذا في باب الحدود، والحدود تُدرأ بالشبهات!

4 -

حديث عليٍّ في قصة سُكر حمزة بن عبد المطلب ودخول النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وفيه: "

فإذا هم شرب فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوم حمزة فيما فعل، فإذا حمزة قد ثمل محمرةً عيناه، فنظر حمزة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .... ثم قال: هل أنتم إلا عبيد لأبى، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد ثمل، فنكص رسول الله صلى الله عليه وسلم على عقبيه القهقرى وخرجنا معه" (3).

قال ابن حزم (10/ 211): فهذا حمزة رضي الله عنه يقول وهو سكران ما لو قاله غير سكران لكفر، وقد أعاذه الله من ذلك، فصحَّ أن السكران غير مؤاخذ بما يفعله جملة

اهـ.

وقال الحافظ: وهو من أقوى أدلة من لم يؤاخذ السكران بما يقع منه في حال سُكره من طلاق وغيره. اهـ. واعترض بأن الخمر حينئذٍ كانت مباحة فيسقط عنه حكم ما نطق به في تلك الحال (!!) وأجيب: بأن الاحتجاج من هذه القصة إنما هو بعدم مؤاخذة السكران بما يصدر منه، ولا يفترق الحال بأن يكون الشراب مباحًا أو لا.

5 -

ما صحَّ عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: "كل الطلاق جائز إلا طلاق النشوان، وطلاق المجنون"(4) قال شيخ الإسلام (33/ 102): ولم يثبت عن الصحابة خلافُه فيما أعلم.

6 -

وعن عمر بن عبد العزيز "أنه أُتي برجل طلَّق امرأته وهو سكران،

(1) صحيح: أخرجه البخاري (1)، ومسلم.

(2)

صحيح: تقدم قريبًا.

(3)

صحيح: أخرجه البخاري (3091).

(4)

إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور (1112)، وعبد الرزاق (12308)، وابن أبي شيبة (5/ 39)، والبيهقي (7/ 359).

ص: 240

فاستحلفه بالله الذي لا إله إلا هو أنه طلَّق وما يعقل، فحلف، فردَّ عليه امرأته وضربه الحد" (1).

7 -

"من سكر بشرب محرَّم فلا ريب أنه يأثم بذلك، ويستحق من عقوبة الدنيا والآخرة ما جاء به أمر الله تعالى، فهذا الفرق ثابت بينه وبين من سكر سكرًا يُعذر فيه، لكن كون عهده الذى يعاهد به الآدميين يترتب عليه أثره ويحصّل مقصوده، فهذا لا فرق فيه بين سكر المعذور وغير المعذور، لأن هذا إنما كان الموجب لصحته أن صاحبه فَعَله وهو عاقل مميِّز، لا أنه برٌّ وفاجر، والشرع لم يجعل السكران بمنزله الصاحى أصلًا"(2).

قلت: القول بعدم وقوع طلاق السكران مطلقًا أرجح وأليق بمقاصد الشريعة وأصولها، ثم إنه لا فرق بين زوال العقل بمعصية أو غيرها، فإن من كَسَرَ ساقيه يجوز له أن يصلي قاعدًا، ومن ضربتْ بطن نفسها -وهي حامل- فنفست سقطت عنها الصلاة، وهذا هو القول المعمول به في المحاكم المصرية، والله أعلم.

[4]

القصد والاختيار: والمراد به هنا: إرادة التلفظ بلفظ الطلاق (3) باختياره من غير إجبار، ولو لم ينوه، فلا يقع طلاق فقيه يُعلِّم طلابه ولا حاك عن نفسه أو غيره، لأنه لم يقصد معناه وإنما قصد التعليم أو الحكاية، ولا طلاق أعجمي لُقِّن لفظ الطلاق بلا فهم منه لمعناه، وهذا متفق عليه (4).

وأما المخطئ، والمكره، والغضبان، والسفيه، والمريض، فقد اختلف أهل العلم في صحة طلاقهم:

(أ) طلاق المخطئ (5):

وهو من لم يقصد التلفظ بالطلاق أصلًا، وإنما قصد لفظًا آخر فسبقه لسانه إلى الطلاق من غير قصد، كأن يريد أن يقول لزوجته: أنت طاهر، فإذا به يخطئ

(1) إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور (1110)، وابن أبي شيبة (5/ 39).

(2)

«مجموع الفتاوى» (33/ 108).

(3)

وليس المراد هنا: النية لإيقاع الطلاق وإنما انتقاؤه للفظ الطلاق وإن لم يُرِدْ إيقاعه، فلينتبه!!

(4)

«فتح القدير» (3/ 39)، و «القوانين» (ص 230)، و «مغني المحتاج» (3/ 287)، و «كشاف القناع» (5/ 263).

(5)

«ابن عابدين» (3/ 230)، و «الدسوقي» (2/ 266)، و «مغني المحتاج» (3/ 287)، و «المغني» (7/ 118)، و «المحلي» (10/ 200).

ص: 241

ويقول: أنت طالق [وهو غير هازل، فالهازل قاصد للفظ الطلاق وإن كان غير قاصد للفرقة وطلاقه صحيح كما سيأتي] فهذا المخطئ اختلف أهل العلم في صحة طلاقه:

فذهب الجمهور إلى أن طلاقه لا يقع قضاءً وديانة (1)، إذا ثبت خطؤه بالقرائن، فإذا لم يثبت خطؤه وقع الطلاق قضاءً، ولم يقع ديانة، لحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"(2).

ولا يقاس المخطئ على الهازل، لأن وقوع طلاق الهازل جاء للنص على خلاف القياس كما سيأتي في موضعه، ولأن الهازل قصد اللفظ فاستحق العقوبة بخلاف المخطئ.

وعند الحنفية يقع طلاقه قضاءً سواء ثبت خطؤه أم لا، ولا يقع ديانةً، وذلك لخطورة محل الطلاق وهو المرأة، ولأن في عدم إيقاعه فتح باب الادِّعاء بذلك بغير حق للتخلص من وقوع الطلاق، وهو ذريعة يجب سدُّها.

(ب) طلاق المُكره:

ذهب جمهور العلماء، منهم: مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وطائفة من السلف، وهو مروي عن عمر وعلي وابن عباس وابن عمر وابن الزبير رضي الله عنهم ذهبوا إلى عدم وقوع طلاق المكره (3) بغير حق، وهو اختيار شيخ الإسلام، وحجتهم ما يلي:

1 -

قوله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم} (4).

فلما وضع الله عن المكره على الكفر حكم الكفر، سقطت أحكام الإكراه عن القول كلِّه، لأن الأعظم إذا سقط عن الناس، سقط ما هو أصغر منه (5).

(1) وقوعه ديانةً أي: فيما بينه وبين الله تعالى، وقضاءً أي إذا رفع إلى القاضي فيحكم به.

(2)

صححه الألباني: أخرجه ابن ماجة (2045) وغيره وأعلُّه أبو حاتم كما في «العلل» (1/ 431) فليحرر.

(3)

«الكافي» لابن عبد البر (2/ 571)، و «بداية المجتهد» (2/ 137)، و «مغني المحتاج» (3/ 289)، و «حاشية الجمل» (4/ 323)، و «المغني» (7/ 118)، و «الإنصاف» (8/ 439)، و «المحلي» (1/ 202).

(4)

سورة النحل: 106.

(5)

نقل البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 356) نحوه عن الشافعي رحمه الله.

ص: 242

2 -

حديث: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وقد تقدم في "طلاق المخطئ".

3 -

قوله صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق، ولا عتاق، في غلاق"(1) أي: إكراه.

4 -

عن ثابت بن الأحنف: "أن عبد الرحمن بن زيد توفي وترك أمهات أولاده، قال: فخطبتُ إحداهن إلى أسيد بن عبد الرحمن، وهو أصغر من عبد الله بن عبد الرحمن، فأنكحني، فلما بلغ ذلك عبد الله، بعث إليَّ، فاحتملت إليه، فإذا حديد وسياط، فقال: طَلِّقها وإلا ضربتك بهذه السياط، وإلا أوثقتك بهذا الحديد، قال: فلما رأيت ذلك طلقتها ثلاثًا، أو قال: بتتُّها، فسألت كل فقيه بالمدينة، فقالوا: ليس بشئ، فسألت ابن عمر فقال: ائت ابن الزبير، قال: فاجتمعت أنا وابن عمر عند ابن الزبير بمكة، فقصصت عليهما، فردَّاها عليَّ"(2).

5 -

ولأنه منعدم الإرادة والقصد، فكان كالمجنون والنائم.

* فائدة: ذكر ابن قدامة للإكراه الذي لا يقع به الطلاق ثلاثة شروط (3):

" (أ) أن يكون من قادرٍ بسلطان أو تغلب كاللص ونحوه.

(ب) أن يغلب على ظنه نزول الوعيد به، إن لم يُجبه إلى ما طلبه.

(جـ) أن يكون مما يستضر به ضررًا كثيرا كالقتل والضرب الشديد والقيد والحبس الطويلين، فأما السب والشتم فليس بإكراه، وكذلك أخذ المال اليسير" اهـ.

* وخالف أبو حنيفة وأصحابه والثوري وبعض السلف، فقالوا: يقع طلاق المكره، لأنه عرف الشَّرين واختار أهونهما، وهذا آية القصد والاختيار، إلا أنه غير راضٍ بحكمه وذلك غير مُخلٍّ به، كالهازل (4).

قلت: ومذهب الجمهور أقوى لقوة أدلته، والله أعلم.

* تنبيه:

هذا كله في الإكراه بغير حق، لكن لو أكُره على الطلاق بحق، كالمُؤلي إذا انقضت مدة الإيلاء بدون فئ، فأجبره القاضي على الطلاق فطلَّق، فإنه يقع بالإجماع.

(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (2193)، وأحمد (6/ 276)، والحاكم (2/ 198)، وانظر «جامع أحكام النساء» (4/ 115).

(2)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (11410) ونحوه عند مالك (2/ 587)، والبيهقي (7/ 358) بسياق أطول.

(3)

«المغني» (7/ 119).

(4)

«الهداية» (1/ 299)، و «فتح القدير» (3/ 488)، و «نصب الراية» (3/ 222).

ص: 243

(جـ) طلاق الغضبان:

الغضب: حالة من الاضطراب العصبي، وعدم التوازن الفكري، تحل بالإنسان إذا عدا عليه أحد بالكلام أو غيره.

والغضب على ثلاثة أقسام (1):

1 -

"أن يحصل للإنسان مبادؤه وأوائله، بحيث لا يتغير عقله ولا ذهنه، ويعلم ما يقول ويقصده، فهذا لا إشكال في وقوعه طلاقه، ولا سيما إذا وقع منه ذلك بعد تردد فكره".

قلت: (أبو مالك): وهذا هو الغالب في طلاق الرجال، إنما يكون في حال الغضب، ولو جاز عدم وقوع طلاق الغضبان مطلقًا، لكان لكل أحد أن يقول: كنت غضبان!!

2 -

"أن يبلغ به الغضب نهايته بحيث ينغلق عليه باب العلم والإرادة، فلا يعلم ما يقول، ولا يريده، فهذا لا يتوجَّه خلاف في عدم وقوع طلاقه".

قلت: وعليه يحمل حديث: "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق"(2) فقد قال أبو داود في "سننه" عقب الحديث: والإغلاق، أظنه الغضب. اهـ (3).

3 -

"من توسَّط في الغضب بين المرتبتين، فتعدى مبادئه، ولم ينته إلى آخره بحيث صار كالمجنون، فهذا موضوع الخلاف، ومحل النظر".

قلت: في هذه الحالة يصل به الغضب إلى درجة يغلب عليه فيها الخلل والاضطراب في أقواله، وأفعاله، فيمنعه من التثبت والتروي، وإن كان لا يزيل عقله بالكلية، وهي حالة نادرة كذلك، ومذاهب الأئمة الأربعة: أنه يقع طلاق الغضبان بهذه الكيفية (4) وقال آخرون: لا يقع في هذه الحالة، وهو اختيار

شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، حيث قال: والأدلة الشرعية تدل على عدم نفوذ طلاقه، وعتقه، وعقوده، التي يُعتبر فيها الاختيار والرضا، وهو فرع من الإغلاق كما فسَّره به الأئمة (5).

(1)«زاد المعاد» (5/ 214)، و «إعلام الموقعين» (2/ 41).

(2)

ضعيف: تقدم قريبًا.

(3)

على أنه قد فسِّر الإغلاق بالإكراه وبالجنون وبتطليق الثلاث دفعة واحدة وغير ذلك.

(4)

«ابن عابدين» (3/ 243)، و «الدسوقي» (2/ 366)، و «حاشية الجمل» (4/ 324)، و «كشاف القناع» (5/ 235).

(5)

«إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان» لابن القيم (ص: 13).

ص: 244

وإلى هذا مال ابن عابدين رحمه الله فقال: "

فالذي ينبغي التعويل عليه في المدهوش ونحوه، إناطة الحكم بغلبة الخلل في أقواله وأفعاله الخارجة عن عادته، فما دام في حال غلبة الخلل في الأقوال والأفعال: لا تعتبر أقواله، وإن كان يعلمها ويريدها، لأن هذه المعرفة والإرادة غير معتبرة لعدم حصولها عن إدراك صحيح كما لا تعتبر من الصبي العاقل" اهـ.

(د) طلاق السفيه:

السفيه: خفيف العقل، الذي يتصرف في المال على غير وفق العقل والشرع.

وطلاق السفيه يقع عند أكثر أهل العلم، منهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وغيرهم، ومنعه عطاء والشيعة الإمامية.

وصحته أولى، لأن السفيه مكلف مالك لمحل الطلاق، ولأنَّ السَّفَه موجب للحجر في المال خاصته، وهذا تصرف في النفس، وهو غير متهم في حق نفسه، فإن نشأ عن طلاق السفيه آثار مالية كالمهر فهي تبع لا أصل، والله أعلم (1).

(هـ) طلاق المريض (طلاق الفرار)(2):

إذا طلَّق المريض -مرض الموت- زوجته المدخول بها في مرضه بغير طلب منها أو رضا طلاقًا بائنًا، ثم مات وهي في عدتها من طلاقة هذا، فهل يقع طلاقه أم لا؟ وهل ترثه المطلقة أم لا؟ ليس في هذه المسألة نصٌ من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا اختلف أهل العلم في ذلك:

فذهب الجمهور إلى أنه يُعدُّ فارًّا من إرثها حكمًا، فترث منه رغم وقوع الطلاق عليها (!!) عملًا بسدِّ الذريعة لقطع حظها من الميراث ومعاملة له بنقيض قصده، وهؤلاء إنما استأنسوا بفتوى عمر وعثمان رضي الله عنهما.

ثم انقسم هؤلاء ثلاث فرق:

1 -

فقالت طائفة: ترث ما دامت في العدة لأن العدَّة عندهم من بعض أحكام الزوجية، وكأنهم شبَّهوها بالمطلقة الرجعية، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري.

(1)«ابن عابدين» (3/ 238)، و «مغني المحتاج» (3/ 279)، و «الدسوقي» (2/ 365).

(2)

«ابن عابدين» (2/ 418)، و «فتح القدير» (4/ 146 - وما بعدها)، و «الدسوقي» (2/ 352)، و «بداية المجتهد» (2/ 139)، و «المدونة» (2/ 132)، و «الأم» (3/ 254)، و «مغني المحتاج» (3/ 293)، و «المغني» (6/ 329)، و «المحلي» (10/ 218 - وما بعدها) وفيه بحث نفيس.

ص: 245

2 -

وقالت طائفة: ترث ما لم تتزوَّج، وبه قال ابن أبي ليلى والإمام أحمد، لكنه خلاف الأصحِّ عند الحنابلة، ولعلهم لحظوا إجماع المسلمين على أن المرأة الواحدة لا ترث زوجين.

قلت: كذا وجَّهه ابن رشد، والذي يظهر لي أن المراد بقولهم (ما لم تتزوج) أي: ما لم يمكنها التزوَّج أي بانقضاء العدة، فرجع إلى الأول، وقد أشار إلى ذلك ابن الهمام.

3 -

وقالت طائفة: ترثه مطلقًا، سواء كانت في العدة أم لا، تزوجت أم لم تتزوج، وهو مذهب مالك والليث!! وحجتهم الرواية الآتية عن عثمان رضي الله عنه وقد صحَّ خلافها كذلك كما سيأتي، واحتج هؤلاء جميعًا على توريثها بما يأتي:

(أ) أن عثمان بن عفان: "ورَّث امرأة عبد الرحمن بن عوف بعد انقضاء العدة وكان طلَّقها مريضًا"(1).

(ب) عن ابن أبي مليكة "أنه سأل ابن الزبير عن الرجل يطلق المرأة فيبتُّها، ثم يموت وهي في عدتها؟ فقال ابن الزبير: طلق عبد الرحمن بن عوف ابنة الأصبغ الكلبى فبتَّها ثم مات وهي في عدتها، فورَّثها عثمان، قال ابن الزبير: وأما أنا فلا أرى أن ترث المبتوتة"(2).

(ج) عن ابن عمر قال: "طلَّق غيلان بن سلمة الثقفي نساءه، وقسَّم أمواله بين بنيه في خلافة عمر، فبلغ ذلك عمر، فقال: طلَّقت نساءك، وقسمت مالك بين بنيك؟ قال: نعم، قال: والله إني لأرى الشيطان فيما يسرق من السمع سمع بموتك، فألقاه في نفسك، فلعلك أن لا تمكث إلا قليلًا، وايم الله لئن لم تراجع نساءك، وترجع في مالك، لأورثهن منك إذا متَّ، ثم لآمرنَّ بقبرك فليرجمنَّ كما رجم قبر أبي رغال"(3).

قالوا: وكان هذا بمحضر من الصحابة فلم ينكر عليهما فكان إجماعًا!!

* بينما ذهب الشافعي -في الجديد- وابن حزم إلى أن الطلاق يقع وأنها لا ترث منه سواء مات في عدتها أو بعدها، لما يأتي:

1 -

أنه طلَّق وهو بالغ غير مغلوب على عقله فجاز طلاقه كما لو كان صحيحًا.

(1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (12191، 12195).

(2)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (12192)، وابن أبي شيبة (5/ 217).

(3)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (12216).

ص: 246

2 -

لأنه إذا طلقها بائنًا انقطعت الزوجية، ولا يجوز توريثها بلا سبب ولا نسب.

3 -

أن فتوى عثمان وعمر رضي الله عنهما معارضة بفتوى ابن الزبير وقد أجيب عن هذا بأن ابن الزبير لم يكن في ذلك الزمان من الفقهاء، إذ لم يعرف له قبل ذلك فتوى ولا شهرة بفقه!! ثم إنه قال في بعض الروايات:"لو كنت أنا لم أورثها" فأراد به: لعدم علمي إذ ذاك بأن الحكم الشرعي في حقها ذلك!!

قلت: أما الوجه الأخير فيأباه السياق الذي قدمتُه من قوله: "وأما أنا فلا أرى أن ترث المبتوتة" وهذا واضح.

4 -

أن التعليل لعدم إيقاع الطلاق بأنه يُظَن أنه يريد ظلمهما والفرار من توريثها، فهذا الظن لا ينبغي أن تُبطل به الأحكام الشرعية، ثم إن هذا الظن موجود في حال صحته وقوته كذلك.

* الراجح:

لا يخلو الأمر -على التحقيق- من أحد أمرين: إما أن يكون الطلاق قد وقع فتنقطع الزوجية ويسقط التوارث، وإما أن لا يقع الطلاق ولا يعتد به في مرض الموت مطلقًا فالزوجية قائمة والتوارث ثابت، أما أن يكون طلاق تبث به بعض أحكامه دون بعض، فهذا خلاف الأصول.

وعلى هذا، فمن جعل فتوى عثمان وعمر (1) رضي الله عنهما ولم يعتدَّ بمخالفة ابن الزبير لزمه أن يقول بعدم وقوع الطلاق، وأوجب لها الميراث.

ومن لم يجعل ذلك حجة عمل بالأصل وهو وقوع الطلاق من المريض -كغيره- وسقوط التوارث، وهو الأقرب والله أعلم.

* فائدتان:

1 -

إذا طلقَّها طلاقًا رجعيًّا فمات في مرضه أو لم يمت فيه، أو ماتت هي، فإنهما يتوارثان بالاتفاق.

2 -

وإذا طلبت هي الطلاق أو قال لها: اختاري، فاختارت نفسها عليه، أو اختلعت، فقال الأوَّلون -إلا أبا حنيفة-: ترثه، وقال أبو حنيفة: لا ترث.

قلت: قول أبي حنيفة هو مقتضى النظر، فإن طلبها الطلاق ورغبتها فيه ينفي معنى الفرار الذي لأجله أوجبوا لها الميراث، والله أعلم.

(1) على أنه ليس في أثر عمر أن الرجل كان مريضًا، فلينتبه!!

ص: 247

* طلاق الكافر، هل يقع؟

فائدة هذه المسألة تظهر فيما إذا طلَّق الرجل -وهو كافر- زوجته تطليقتين ثم أسلم، فهل تُحسبان عليه ويبقى له عليها تطليقة واحدة؟ أو لا تُحسبان ويبقى له ثلاث؟

اختلف أهل العلم في ذلك على قولين (1):

الأول: يقع طلاق المشرك ويُحسب عليه، وهو مذهب جمهور العلماء، وحجتهم:

1 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت نكاح المشرك وأقرَّ أهله عليه في الإسلام، فكذلك الطلاق، لأن الطلاق يثبت بثبوت النكاح ويسقط بسقوطه.

2 -

أن الكافر مخاطب بفروع الشريعة على الراجح.

الثاني: لا يقع طلاق المشرك ولا يُحسب عليه: وهو مذهب مالك وداود وابن حزم، وبه قال الحسن وقتادة وربيعة، وحجتهم ما يلي:

1 -

قوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين} (2).

2 -

حديث عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإسلام يهدم ما قبله"(3).

3 -

أنه أسلم رجال على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن يسألهم عن عدد تطليقاتهم قبل الإسلام وترك الاستفصال مع قيام الاحتمال يتنزل منزلة العموم من المقال.

4 -

أن الأصل في جميع أفعال الكافر عدم الاعتبار بها، فخرج النكاح بإقراره صلى الله عليه وسلم وبقي الطلاق على الأصل.

قلت: وهذا هو الأقرب، والله أعلم.

* طلاق الهازل:

(أ) ذهب جمهور أهل العلم إلى أن من تلفَّظ -ولو هازلًا أو لاعبًا- بصريح لفظ الطلاق، فإنه يقع طلاقه إذا كان بالغًا عاقلًا، ولا ينفعه حينئذٍ أن يقول: كنت لاعبًا أو هازلًا، أو لم أنو به طلاقًا، أو ما أشبه ذلك، واحتجوا بما يلي:

(1)«الأم» (5/ 79)، و «المدونة» (2/ 127)، و «فتح الباري» (9/ 390)، و «المحلي» (10/ 201)، و «جامع أحكام النساء» (4/ 108).

(2)

سورة الأنفال: 38.

(3)

صحيح: أخرجه مسلم وغيره.

ص: 248

1 -

قوله تعالى: {ولا تتخذوا آيات الله هزوًا} (1).

2 -

حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث جدُّهنَّ جدٌّ، وهزلهن جدٌّ: النكاح والطلاق والرجعة"(2). "قالوا: لو أطلق للناس ذلك لتعطلت الأحكام ولم يشأ مطلق أو ناكح أو معتق أن يقول: كنت في قولي هازلًا، فيكون في ذلك إبطال أحكام الله سبحانه وتعالى، وذلك غير جائز، فكل من تكلم بشيء مما جاء ذكره في هذا الحديث لزمه حكمه، ولم يُقبل منه أن يدَّعى خلافه، وذلك تأكيد لأمر الفروج واحتياط له"(3).

3 -

قال ابن القيم رحمه الله: "

الهازل قاصد للفظ الطلاق غير مريد لحكمه، وذلك ليس إليه، فإنما إلى المكلَّف الأسباب، وأما ترتب أحكامها فهو إلى الشارع وتكليفه، فإذا قصده رتَّب الشارع عليه حكمه جدَّ به أو هَزَل، وهذا بخلاف النائم والمبرسم والمجنون والسكران وزائل العقل، فإنهم ليس لهم قصد صحيح وليسوا مكلفين، فألفاظهم لغو بمنزلة ألفاظ الطفل الذي لا يعقل معناها ولا يقصدها، وسر المسألة: الفرق بين من قصد اللفظ وهو عالم به ولم يُرد حكمه، وبين من لم يقصد اللفظ ولم يعلم معناه، فالمراتب التي اعتبرها الشرع أربع: إحداها: أن يقصد الحكم ولا يتلفَّظ به.

الثانية: أن لا يقصد اللفظ ولا حكمه.

الثالثة: أن يقصد اللفظ دون حكمه.

الرابعة: أن يقصد اللفظ والحكم.

فالأوُليان لغو، والآخرتان معتبرتان، هذا الذي استفيد من مجموع نصوصه وأحكامه" اهـ (4).

(ب) وذهب مالك -وهو قول عن أحمد- وغيره إلى أن التلفظ بصريح الطلاق يشترط لوقوعه وجود النية والعلم باللفظ مع إرادة مقتضاه، واحتجوا بما يلي:

(1) سورة البقرة: 231.

(2)

ضعيف: أخرجه أبو داود (2194)، والترمذي (1184)، وابن ماجة (2039) بسند ضعيف، وله شواهد ضعيفة اختلف في تحسينه بها، وقد حسَّنه الألباني في «الإرواء» (6/ 224).

(3)

«معالم السنن» للخطابي.

(4)

«زاد المعاد» (5/ 204 - 205).

ص: 249