الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت:
وقد تقرر جواز التوكيل فلا فرق بين الطلاق وغيره، فلا يخرج عن ذلك إلا ما خصه دليل، والآيات الكريمة لا تصلح دليلًا على المنع منه، ولا يتعارض هذا مع ما جنحتُ إليه آنفًا من أن التخيير لا يعدُّ طلاقًا ولا يقع به - إذا اختارت نفسها - دون إنشاء الزوج، فبين المسألتين فرق والله أعلم.
العِدَّة
تعريف العِدَّة:
العدة لغةً: مأخوذة من العد والحساب، والعدُّ هو الإحصاء، وسميت بذلك لاشتمالها على العدد من الأقراء أو الأشهر غالبًا.
والعدَّة اصطلاحًا: هي المدة التي حدَّدها الشارع بعد الفُرقة، ويجب على المرأة الانتظار فيها بدون زواج حتى تنقضي (1).
حكمة مشروعيته:
شُرعت العدَّة لمعان وحكم اعتبرها الشارع، منها (2):
1 -
العلم ببراءة الرحم، وأن لا يجتمع ماءُ الواطئين فأكثر في رحم واحد فتختلط الأنساب وتفسد.
2 -
تعظيم خطر الزواج ورفع قدره وإظهار شرفه.
3 -
تطويل زمان الرجعة للمطلق لعلَّه يندم ويفئ فيصادف زمنًا يتمكن فيه من الرجعة.
4 -
قضاء حق الزوج وإظهار تأثير فقده في المنع من التزيُّن والتجمل، ولذلك شرع الإحداد عليه أكثر من الإحداد على الوالد والولد.
5 -
الاحتياط لحق الزوج ومصلحة الزوجة، وحق الولد، والقيام بحق الله الذي أوجبه، ففي العدة أربعة حقوق.
حُكم العدة التكليفي:
العدة واجبة على المرأة عند وجود سببها، وقد دلَّ على ذلك الكتاب والسنة والإجماع:
(أ) فأما الكتاب فمنه: قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} (1).
وقوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم
…
وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} (2).
وقوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} (3).
(ب) وأما السنة فمنها: حديث أم عطية رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحدُّ امرأة على ميت فوق ثلاث إلا زوج أربعة أشهر وعشرًا» (4).
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت أم مكتوم، وأحاديث أخرى تأتي.
(جـ) وقد أجمعت الأمة على مشروعية العدة ووجوبها [في الجملة] من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا دون نكير من أحد (5) وإنما اختلفوا في أنواع منها.
هل على الرجل عِدَّة؟ (6)
لا تجل العدة على الرجل، فإنه يجوز له بعد فراق زوجته أن يتزوج غيرها دون انتظار مضي مدة عدَّتها، إلا إذا كان هناك مانع يمنعه من ذلك، كما لو أراد الزواج بأختها أو خالتها أو عمتها أو غير ممن لا يحل له الجمع بينهما، أو طلق رابعة ويريد الزواج بأخرى، فيجب عليه الانتظار في عدة الطلاق الرجعي بالاتفاق، ولا يجب في عدة الطلاق البائن عند الجمهور خلافًا للحنفية.
وهذا الانتظار من الرجل لا يُطْلَق عليه «عدة» لا لغةً ولا اصطلاحًا، وإن كان يحمل معنى العدة.
أنواع العدَّة:
العدة - من جهة إحصائها وحسابها - على ثلاثة أنواع: عدة بالأقراء، وعدة بالأشهر، وعدة بوضع الحمل.
(1) سورة البقرة: 228.
(2)
سورة الطلاق: 4.
(3)
سورة البقرة: 234.
(4)
صحيح: يأتي تخريجه قريبًا.
(5)
«المغني» (7/ 448) ط. الرياض الحديثة.
(6)
«البدائع» (3/ 193)، و «الدسوقي» (2/ 469)، و «مغني المحتاج» (3/ 384)، و «المغني» (7/ 448).
والعدة من جهة حال المعتدَّة على أنواع نذكرها فيما يلي:
[أ] من تعتدَّ بالقُروء:
القُرْءُ لغةً: لفظ مشترك، يطلق على الطُّهر والحيض.
والقُرْء اصطلاحًا: اختلف أهل العلم في معناه - بسبب كونه لفظًا مشتركًا بين معنيين - على قولين (1):
الأول: أن القُرء هو الطُّهر (الفترة بين الحيضتين): وهو مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد، وهو منقول عن عائشة وزيد بن ثابت وابن عمر من الصحابة رضي الله عنهم، واستدلوا بما يلي:
1 -
قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} (2).
قالوا: واللام هي لام الوقت والمعنى: في زمان عدتهن أي في الزمان الذي يصلح لعدتهن، ووجه الدلالة: أن الله تعالى أمر بالطلاق في الطهر - لا في الحيض لحرمته بالإجماع - فعلم أن القُرءْ: الطهر الذي يسمى عدة وتُطلَّق فيه النساء.
2 -
حديث ابن عمر في تطليقه امرأته وهي حائض، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«مره فليراجعها ثم ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق قبل أن يمسَّ، تلك العدة التي أمر الله عز وجل أن يُطلَّق لها النساء» (3).
قالوا: فعلم أن العدَّة التي أمر الله أن تطلق لها النساء هي الطهر بعد الحيضة، ولو كان القُرء هو الحيض كان قد طلقها قبل العدة لا في العدة، وكان ذلك تطويلًا وهو غير جائز، كما لو طلقها في الحيض.
3 -
حديث عائشة أنها قالت: «القروء: الأطهار» (4) قال الشافعي في «الأم» (5/ 209): والنساء بهذا أعلم لأنه فيهن لا في الرجال. اهـ.
(1) المراجع السابقة ومعها: «فتح القدير» (4/ 308)، و «كشاف القناع» (5/ 417)، و «أعلام الموقعين» (1/ 25)، و «زاد المعاد» (5/ 600 - 650) وفيه بحث مستفيض.
(2)
سورة الطلاق: 1.
(3)
صحيح: تقدم مرارًا.
(4)
إسناده صحيح: أخرجه مالك، وعنه الشافعي (2/ 110 - شفاء العي)، والبيهقي (7/ 415).
4 -
ولأن القرء مشتق من الجمع، فيقال: قرأت كذا في كذا إذا جمعته فيه، وإذا كان الأمر كذلك: كان بالطهر أحق من الحيض؛ لأن الطهر اجتماع الدم في الرحم والحيض خروجه منه، وما وافق الاشتقاق كان اعتباره أولى من مخالفته.
القول الثاني: أن القُرء هو الحيضة:
وهو قول أكابر الصحابة، منهم الخلفاء الأربعة، وابن مسعود ومعاذ وغيرهم، وطائفة من التابعين وأئمة الحديث، وهو مذهب أبي حنيفة وإسحاق وأحمد في الرواية الأخرى وهي التي استقر عليها مذهبه، وحجتهم:
1 -
أن قوله تعالى: {يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} (1). فيه الأمر بالاعتداد بثلاثة قروء، ولو حمل القُرء على الطهر لكان الاعتداد بطهرين وبعض الثالث، لأن بقية الطهر الذي صادفه الطلاق محسوب من الأقراء - عند أصحاب القول الأول - والثلاثة اسم لعدد مخصوص فلا يقع على ما دونه، فيكون ترك العمل بالكتاب.
أما لو حمل على الحيض، فيكون الاعتداد بثلاث حيضات كوامل لأن ما بقي من الطهر غير محسوب من العدة، فكان الحمل على الحيض أولى لموافقة ظاهر القرآن.
2 -
أن لفظ القرء لم يستعمل في لسان الشرع إلا للحيض، ولم يجيء في موضع واحد منه استعماله للطهر فحمله في الآية على المعهود المعروف من خطاب الشارع أولى بل متعين:
- فإنه صلى الله عليه وسلم قال للمستحاضة: «تدع الصلاة أيام أقرائها» (2).
وقال لفاطمة بنت جيش: «انظري إذا أتى قرؤك فلا تصلي، فإذا مرَّ قرؤك فتطهري ثم صلي بين القرء إلى القرء» (3) قالوا: فالقرء هنا الحيض بلا شك.
3 -
قوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن} (4). فجعل كل شهر بإزاء حيضة، وعلق الحكم بعدم الحيض لا بعدم الطهر من الحيض.
(1) سورة البقرة: 228.
(2)
حسن بطرقه: أخرجه أبو داود (297)، والترمذي (126)، وابن ماجة (625)، والدارقطني (1/ 208)، وله طرق قد يحسَّن بمجموعها والله أعلم.
(3)
إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وأصله في البخاري بدون لفظ القُرء.
(4)
سورة الطلاق: 4.
4 -
حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «طلاق الأَمَةِ اثنتان، وعدَّتها حيضتان» (1).
ومعلوم أنه لا تفاوت بين الحرة والأمة فيما يقع به الانقضاء، فدل على أن أصل ما تنقضي به العدة هو الحيض.
5 -
أن عدة المختلعة حيضة - كما تقدم تحريره - وكذلك الأمة فإنها تُستبرأ بحيضة، كما تقدم - في «الطهارة» في حديث أبي سعيد في سبايا أوطاس - من قوله صلى الله عليه وسلم:«لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة» (2).
6 -
ولأن المقصود الأصلي من العدة التعرف على براءة الرحم - وإن كان لها فوائد أخرى - والعلم ببراءة الرحم يصل بالحيض لا بالطهر، فكان الاعتداد بالحيض لا بالطهر.
7 -
ولأن الأدلة والعلامات والحدود والغليات إنما تحصل بالأمور الظاهرة المتميزة عن غيرها، والطهر هو الأمر الأصلي، فمتى كان مستمرًّا لم يكن له حكم يُفرد به في الشريعة، وإنما الأمر المتميز هو الحيض، وهو الذي تتغير به أحكام المرأة.
هذا طرف من أدلة كل فريق، ولكل فريق أجوبة ومناقشات على الآخر (3)، تركت ذكرها خشية الإطالة، لكن يهمني هنا أمران:
1 -
ثمرة هذا الخلاف: أن المرأة لو طُلِّقت طاهرًا وبقي من طهرها شيء ولو لحظة:
فعلى القول بأن القرء هو الطهر: يحسب ما بقي من الطهر قرءًا، وتنقضي عدتها - في هذه الحالة - برؤية الدم من الحيضة الثالثة.
وعلى القول بأن القرء هو الحيضة: لا عبرة بما بقي من الطهر، وتنقضي عدتها بانقضاء دم الحيضة الثالثة، وهل يشترط الغسل بعد ذلك لانقضاء العدة؟ فيه خلاف.
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (2189)، والترمذي (1182)، وابن ماجة (2080)، والدارقطني (3/ 39) ولا يصح مرفوعًا، وقد صحَّ موقوفًا عن عمر، وابن عمر.
(2)
حسن لغيره: تقدم في أبواب «الحيض» .
(3)
وقد أطال ابن القيم في «الزاد» (5/ 600) وما بعدها النفس في ذكر هذا المناقشات فليراجعها من شاء.
2 -
الراجح من القولين:
الذي يبدو لي من دراسة أدلة الفريقين ومناقشاتهما أن الأرجح أن القرء هو الحيض، وإن كان القول الأول ليس ببعيد، إلا أن هذا أقرب والله أعلم.
وإليك الحالات التي تعتد فيها المرأة بالقروء:
(1)
المطلقة (1) بعد الدخول، وهي ممن يحيضن:
المرأة الحرة التي تحيض وتطهر (من ذوات القروء) إذا طُلِّقت - بعد الدخول بها - عدَّتُها ثلاثة قروء (ثلاث حيضات على ما تقدم ترجيحه) لقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} (2).
فتنقضي عدَّتُها - على القول الراجح - إذا طهرت من الحيضة الثالثة بعد الطلاق، وهل يتوقف انقضاء العدة على اغتسالها منها؟ أم تنقضي العدة بمجرد انقطاع الدم؟ قولان للعلماء، أظهرهما اشتراط الاغتسال، لقوله تعالى - في الجماع بعد الحيض -:{ولا تقربوهن حتى يطهرن} (3).
أي: يغتسلن، وهذا هو المشهور عن أكابر الصحابة، وعليه: لزوجها أن يراجعها إذا انقطع الدم قبل أن تغتسل، قلت: لو قيَّد هذا المذهب بأن لزوجها مراجعتها - بعد انقطاع الدم - حتى يخرج وقت الصلاة التي طهرت في وقتها، كما هو مذهب أبي حنيفة والثوري ورواية عن أحمد - لكان سديدًا منعًا للتحايل، والله أعلم.
فائدتان:
الأولى:
زوجة المسلم الكتابية عدَّتها كعدة المسلمة: لعموم الأدلة الموجبة للعدة لا فرق بينهما؛ لأن العدة تجب بحق الله وحق الزوج، قال تعالى:{يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} (4).
(1) سواءً كانت رجعية أو بائنة أو مبتوتة، عند الأئمة الأربعة والظاهرية، لكن رأي شيخ الإسلام في «الفتاوى» (32/ 342) أن المطلقة ثلاثًا تستبرئ بحيضة واحدة لا بثلاث (!!) ولا سلف له في هذا، فليحرر.
(2)
سورة البقرة: 228.
(3)
سورة البقرة: 222.
(4)
سورة الأحزاب: 49.
فجعلها حق الزوج، والكتابية أو الذميَّة مخاطبة بحقوق العباد، فتجب عليها العدة، وتجبر عليها لأجل حق الزوج والولد؛ لأنها من أهل إيفاء حقوق العباد.
وعلى هذا اتفاق الأئمة الأربعة والثوري وأبي عبيد (1).
الثانية:
المطلَّقة قبل الدخول لا عدة عليها: لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} (2). وعلى هذا إجماع العلماء، فيجوز للمرأة، إذا طلقت قبل الدخول أن تتزوَّج إن شاءت - فور طلاقها.
لكن إذا مات زوج المرأة - ولم يدخل بها - فإنها تعتد عدوة الوفاء كما سيأتي:
(2)
المختلعة تعتد بحيضة: وقد مرَّ في «الخلع» أن المرأة المختلعة تعتدُّ بحيضة واحدة في أرجح قولي العلماء.
(3)
الملاعنة:
عدة الملاعنة كعدة المطلقة، لأنها مفارقة في الحياة فأشبهت المطلقة، وهذا مذهب جمهور الفقهاء، خلافًا لابن عباس فالمروي عنه أن عدتها تسعة أشهر (3).
(4)
الموطوءة بشبهة: وهي التي زُفَّت إلى غير زوجها، والموجودة ليلًا على فراشه إذا ادَّعى الاشتباه، وهذه عدَّتها كعدة المطلقة عند جمهور الفقهاء، للتعرف على براءة الرحم لشغله ولحقوق النسب فيه، كالوطء في النكاح الصحيح، فكان مثله فيما تحصل البراءة منه؛ ولأن الشبهة تقام مقام الحقيقة في موضع الاحتياط وإيجاب العدة من باب الاحتياط. وإذا وُطئت المزوَّجة بشبهة لم يحل لزوجها وطؤها قبل انقضاء عدَّتها (4).
لكن شيخ الإسلام اختار أن الموطوءة بشبهة ليس عليها إلا الاستبراء بحيضة واحدة، لأنها ليست زوجة، والقرآن ليس فيه إيجاب العدة بثلاثة قروء إلا على
(1)«البدائع» (3/ 191)، و «الدسوقي» (2/ 475)، و «مغني المحتاج» (3/ 188)، و «المغني» (7/ 448).
(2)
سورة الأحزاب: 49.
(3)
«المغني» (7/ 449).
(4)
«البدائع» (3/ 192)، و «الدسوقي» (2/ 471)، و «مغني المحتاج» (3/ 396)، و «المغني» (7/ 450).
المطلقات، وليست الموطوءة بشبهة أعظم من المستبرأة التي يلحق ولدها سيدها ومن المختلعة، وهما تستبرآن بحيضة واحدة، فهذه أولى، وهذا وجه في مذهب أحمد (1)، قلت: وله وجه قوي.
(5)
المزني بها:
المرأة التي وقعت في الزني، للعلماء فيها ثلاثة أقوال (2):
الأول: لا عدة عليها، وهو مذهب أبي حنيفة والثوري والشافعي، سواء كانت حاملًا أو غير حامل، وهو مروي عن أبي بكر وعمر وعليٍّ رضي الله عنهم؛ لأن العدة شُرعت لحفظ النسب، والزنى لا يتعلق به ثبوت النسب، فلا يوجب العدة.
الثاني: عدتها كعدة المطلقة (ثلاثة قروء): وهو المعتمد في مذهب المالكية والحنابلة وبه قال الحسن والنخعي، لأنه وطء يقتضي شغل الرحم فوجب منه العدة، ولأنها حرَّة فوجب استبراؤها بعدة كاملة كالموطوءة بشبهة (!!).
الثالث: أنها تُستبرأ بحيضة واحدة: وهو قول مالك ورواية عن أحمد نصرها شيخ الإسلام بنحو ما تقدم في الموطوءة بشبهة، قلت: وهو الأشبه بالصواب والله أعلم.
(6)
المفارقة لزوجها بسبب إسلامها وبقائه على كُفره (3): وهذه تُستبرأُ بحيضة واحدة، لا بثلاثة قروء في أرجح قولي العلماء، وهو قول أبي حنيفة واختيار شيخ الإسلام: لحديث ابن عباس: «
…
وكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حل لها النكاح» (4).
وقال الجمهور: عدتها كعدة المطلقة الحرة (ثلاثة قروء) وأجابوا عن الحديث السابق بأن المراد: تحيض ثلاث حيض؛ لأنها صارت بإسلامها وهجرتها من الحرائر بخلاف ما لو سُبيتْ، قلت: ولفظ الحديث لا يساعد على هذا التأويل والله أعلم.
[ب] من تعتدُّ بوضع الحمل (المطلقة الحامل):
عدَّة المطلقة وهي حامل: بوضع الحمل، سواء كانت بائنة أو رجعية، مُفارقة
(1)«الإنصاف» (9/ 295)، و «الفروع» (5/ 550)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 110).
(2)
«البدائع» (3/ 192)، و «مغني المحتاج» (3/ 382)، و «المغني» (9/ 79 - مع الشرح)، و «الفتاوى» (32/ 111).
(3)
«المبسوط» (5/ 57)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 336)، و «فتح الباري» (9/ 328 - سلفية).
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (5286).
في الحياة أو متوفى عنها زوجها - على الأصح - لقوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} (1).
ولأن القصد من العدة براءة الرحم، وهي تحصل بوضع الحمل.
واختلف الفقهاء في عدة المتوفى عنها زوجها وهي حامل، وسيأتي تحريره.
متى يجوز للمعتدة بوضع الحمل الزواج: بالوضع أم بالطهر من النفاس؟ (2).
الذي عليه جمهور العلماء وأئمة الفتوى أن المرأة لها أن تتزوَّج بعد وضع الحمل - ولو في النفاس - لأن العدة انقضت بالوضع، إلا أن زوجها - الثاني - لا يقربها حتى تطهر لقوله تعالى:{ولا تقربوهن حتى يطهرن} (3).
ويدل على ما ذهب إليه الجمهور فتوى النبي صلى الله عليه وسلم لسبيعة الأسلمية لما مات زوجها وهي حامل، قالت:«فأفتاني إذا وضعتُ أن أنكح» (4).
[جـ] من تعتدُّ بالأشهر:
المرأة تعتد بالأشهر في الحالات الآتية:
(1)
المطلقة التي لا تحيض: إما بسبب صغرها، أو لكبرها ويأسها من المحيض، فعدَّتها ثلاثة أشهر بنص القرآن: قال تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن} (5)(6).
ولأنها لا تحيض فكانت الأشهر هنا بدلًا عن الأقراء، والأصل مقدَّر بثلاثة، فكذلك البدل.
فائدة: إذا اعتدَّت المرأة بالأشهُر ثم حاضت بعد فراغها، فقد انقضت العدة، ولا تلزمها العدة بالأقراء.
(1) سورة الطلاق: 4.
(2)
«المغني» (9/ 110 - مع الشرح الكبير)، و «الموسوعة الفقهية» (29/ 321).
(3)
سورة البقرة: 222.
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (5319).
(5)
سورة الطلاق: 4.
(6)
قوله تعالى: {إن ارتبتم} ، قيل معناه: إن ارتبتم في حكم عدتهن ولم تعرفوه، فهو ثلاثة أشهر، وقيل معناه: إن ارتبتم في دم يخرج هل هو دم حيض أو استحاضة فعدتهن ثلاثة أشهر كذلك.
ولو حاضت أثناء الأشهر، فيأتي الكلام عليها في «تحوُّل العدة» إن شاء الله.
(2)
المطلقة المرتابة (ممتدة الطُّهر)(1):
إذا كانت المرأة ممن تحيض (ذوات الأقراء) ثم ارتفع حيضها بسبب غير معروف (بدون حمل ولا يأس) فإنها تسمى (المرتابة) فإذا فارقها زوجها، فإنها تتربَّص (تنتظر) تسعة أشهر - وهي مدة الحمل غالبًا لتتبين براءة الرحم - ثم تعتد بثلاثة أشهر، فتكمل سنة تنقضي بها عدَّتها وتحل للأزواج.
وهذا مذهب المالكية والحنابلة، والقول القديم للشافعي، وبه قال عمر وابن عباس رضي الله عنهم، واحتج القائلون بذلك بقول عمر رضي الله عنه في رجل طلق امرأته فحاضت حيضة أو
حيضتين فارتفع حيضها لا يُدرى ما رفعه - قال: «تجلس تسعة أشهر، فإذا لم يستبن بها حمل فتعتد بثلاثة أشهر، فذلك سنة» (2) ولا يُعرف له مخالف ولم يكره عليه أحد. وأما الحنفية والشافعية - في الجديد - فقالوا: تصبر أبدًا حتى تحيض فتعتد بالأقراء أو تيأس فتعتد بالأشهر لأن الله تعالى لم يجعل الاعتداد بالأشهر إلا للتي لم تحض والآيسة، وليست هذه واحدة منهما (!!!).
قلت: والأول أرجح، لكن هل يقال لو تأكدت من خلوها من الحمل عن طريق الكشف بالأجهزة الحديثة تتربص ثلاثة أشهر؟!
(3)
المطلَّقة المستحاضة المتحيِّرة (3):
إذا كانت المطلفة المعتدة من ذوات الحيض، واستمر نزول الدم عليها بدون انقطاع (استحاضة) فلا يخلو حالها من أحد أمرين:
(أ) أن تستطيع التمييز بين الحيض والاستحاضة: برائحة أو لون أو كثرة أو عادة، فهذه تسمى «غير متحيِّرة» فتعتد بالأقراء لأنها ترد إلى أيام عادتها المعروفة لها، ولأن الدم المميز بعد طهر تام يعدُّ حيضًا، فتعتد بالأقراء لا بالأشهر.
(ب) أن لا تستطيع التمييز: وهذه تسمى «متحيِّرة» ، وقد اخْتُلف في عدتها: فذهب الجمهور من الحنفية والشافعية وهو قول عند الحنابلة: إلى أن عدة
(1)«البدائع» (3/ 195)، و «الدسوقي» (2/ 470)، و «مغني المحتاج» (3/ 387)، و «المغني» (7/ 466) ط. الرياض.
(2)
إسناده صحيح: أخرجه مالك، وعنه الشافعي (2/ 107 - شفاء العي).
(3)
«فتح القدير» (4/ 312)، و «الدسوقي» (2/ 470)، و «مغني المحتاج» (3/ 385)، و «المغني» (7/ 468).
المستحاضة ثلاثة أشهر، بناء على أن الغالب نزول الحيض مرة في كل شهر، أو لاشتمال كل شهر على طهر وحيض غالبًا، ولأنها في هذه الحالة مرتابة فتدخل في قوله تعالى:{إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر} (1).
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحمنة بنت جحش: «تلجمي وتحيَّضي في كل شهر في علم الله ستة أيام أو سبعة أيام» (2) فجعل لها حيضة في كل شهر تترك معها الصلاة والصيام، فيجب أن تنقضي به العدة، لأن ذلك من أحكام الحيض.
وذهب المالكية والحنابلة في قول وإسحاق إلى أن عدة المستحاضة المتحيرة سنة كاملة، لأنها بمنزلة من رُفعت حيضتها ولا تدري ما رفعها، ولأنها لم تتيقن لها حيضًا - مع أنها من ذوات القروء - فكانت عدتها سنة كالتي ارتفع حيضها!!
قلت: والأول أرجح والله أعلم.
(4)
المرأة المتوفَّى عنها زوجها:
المرأة إذا توفى عنها زوجها - بعد زواج صحيح - سوا كانت الوفاة قبل الدخول أو بعده، وسواء كانت ممن تحيض أم لا - بشرط أن لا تكون حاملًا - فإنها يجب عليها أن تعتد أربعة أشهر قمرية وعشرة أيام بلياليهن من تاريخ وفاته، لعموم قوله تعالى:{والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ ويَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعَشْرًا فَإذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ} (3).
ولحديث حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحدَّ على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على زوجها، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا» (4).
وتستثنى الحامل، فإنها لو مات زوجها فعدتها أن تضع حملها - كما لو لم يَمُتْ - لعموم قوله تعالى:{وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} (5).
ولحديث المسور بن مخرمة: «أن سُبيعة الأسلمية نفُستْ بعد وفاة زوجها بليال فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنته أن تنكح، فأذن لها، فنكحت» وفي لفظ من حديث
(1) سورة الطلاق: 4.
(2)
حسّنه الألباني. وانظر «الإرواء» (188) والأظهر ضعفه والله أعلم.
(3)
سورة البقرة: 234.
(4)
صحيح: يأتي في «الإحداد» .
(5)
سورة الطلاق: 4.
ابن أرقم: «قالت: فأفتاني - أي النبي صلى الله عليه وسلم إذا وضعتُ أن أنكح» (1) وعن عمر رضي الله عنه قال: «لو وضعت وزوجها على السرير لم يُدفن بعدُ لحلَّت» (2).
وبهذا قال جمهور العلماء من السلف وأئمة الفتوى في الأمصار، خالف في ذلك عليٌّ رضي الله عنه فقال:«تعتد آخر الأجلين» (3) ومعناه: أنها إن وضعت قبل أربعة أشهر وعشر تربصت إلى انقضائها ولا تحل بمجرد الوضع، وإن انقضت المدة قبل الوضع تربصت إلى الوضع، وبه قال ابن عباس ويقال إنه رجع عنه، وقوَّاه الحافظ.
قال ابن عبد البر: لولا حديث سبيعة لكان القول ما قال عليٌّ وابن عباس لأنهما عدتان مجتمعتان بصفتين، وقد اجتمعا في الحامل المتوفى عنها زوجها، فلا تخرج من عدَّتها إلا بيقين، واليقين آخر الأجلين. اهـ. قلت: فالقول قول الجماهير، والله أعلم.
فائدة:
عدَّة المتوفى عنها زوجها ليست للعلم ببراءة الرحم، فإنها تجب قبل الدخول بخلاف عدة الطلاق، و «أما عدة الوفاة فهي حرم لانقضاء النكاح، ورعاية لحق الزوج، ولهذا تَحُدُّ المتوفى عنها في عدة الوفاة رعاية لحق الزوج، فجعلت العدة حريمًا لحق هذا العقد الذي له خطر وشأن، فيحصل بهذه فصل بين نكاح الأول ونكاح الثاني، ولا يتصل الناكحان، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عظم حقُّه، حرم نساؤه بعده؟ وبهذا اختص الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن أزواجه في الدنيا هنَّ أزواجه في الآخرة بخلاف غيره، فإنه لو حرم على المرأة أن تتزوج بغير زوجها، تضررت المتوفى عنها، وربما كان الثاني خيرًا لها من الأول
…
فلا أقل من مدة تتربَّصها، وكانت في الجاهلية تتربَّص سنة، فخففها الله سبحانه بأربعة أشهر وعشر» (4) اهـ.
تحوُّل العدة (5): العدة قد تنتقل من حالة إلى أخرى كما يلي:
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5318 - 5319) ومالك.
(2)
") صحيح: أخرجه سعيد بن منصور (1522)، والبيهقي (7/ 430).
(3)
صحيح: أخرجه الطبري (28/ 143).
(4)
نقله ابن القيم في (5/ 665 - 666) عن ابن تيمية، رحمهما الله.
(5)
«البدائع» (3/ 200)، و «الدسوقي» (2/ 473)، و «القوانين» (299)، و «مغني المحتاج» (3/ 386)، و «روضة الطالبين» (8/ 370 - 372)، و «المغني» (9/ 102) مع الشرح الكبير و» الموسوعة الفقهية» (29/ 322).
(1)
تحول العدة من الأشهر إلى الأقراء:
اتفق الفقهاء على أن الصغيرة أو البالغة التي لم تحض إذا اعتدت بالأشهر، ثم حاضت قبل انقضاء عدتها - ولو بساعة - لزمها استئناف العدة (ابتداؤها من جديد) وحسابها بالأقراء، لأن الأشهر بدل عن الأقراء فإذا وجد المبدل بطل حكم البدل كالتيمم مع الماء.
أما إذا انقضت العدة بالأشهر ثم حاضت بعدها - ولو بلحظة - لم يلزمها استئناف العدة.
وأما الآيسة إذا اعتدت ببعض الأشهر ثم رأت الدم، فللعلماء فيها قولان:
الأول: تتحول عدتها إلى الأقراء، لأنها لما رأت الدم دلَّ على أنها لم تكن آيسة، وأنها أخطأت في الظن، فلا يعتد بالأشهر في حقها لأنها بدل فلا يعتبر مع وجود الأصل، وهو مذهب الشافعية ورواية عند الحنفية.
الثاني: يرجع إلى القرائن، لأنه دم مشكوك فيه، فإن ظهر أنه حيض، فتتحول إلى الأقراء وإلا فلا، وهو مذهب المالكية والحنابلة وهو رواية عند الحنفية.
(2)
تحول العدة من الأقراء إلى الأشهر:
تنتقل العدة من الأقراء إلى الأشهر - عند الجمهور - في حق من حاضت حيضة أو حيضتين ثم يئست من الحيض، فتستقبل العدة بالأشهر، لقوله تعالى:{واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر} (1). والعدة لا تُلَّفق من جنسين، وقد تعذر إتمامها بالحيض فوجب استئنافها (من جديد) بالأشهر.
وإياس المرأة أن تبلغ من السن ما لا يحيض فيه مثلها عادة، فإذا بلغت هذه السن مع انقطاع الدم كان الظاهر أنها آيسة من الحيض حتى يتضح خلافه.
(3)
تحول المعتدة من عدة الطلاق إلى عدة الوفاة:
إذا طلق الرجل امرأته طلاقًا رجعيًّا، ثم توفي وهي في العدة، سقطت عنها عدة الطلاق، واستأنفت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرًا من وقت الوفاة؛ لأن المطلقة الرجعية زوجة ما دامت في العدة، فدخلت في قوله تعالى:{والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} (2). وقد نقل ابن المنذر الإجماع على هذا.
(1) سورة الطلاق: 4.
(2)
سورة البقرة: 234.
أما إذا طلقها طلاقًا بائنًا - في حال صحته أو بناء على طلبها - ثم توفي عنها، فإنها تكمل عدة الطلاق، ولا تنتقل إلى عدة الوفاة، لانقطاع الزوجية بينهما من وقت الطلاق بالإبانة، فلا توارث بينهما لعدم وجود سببه، فتعذَّر إيجاب عدة الوفاء وبقيت عدة الطلاق على حالها.
ولو طلقها طلاقًا بائنًا في مرض موته، ففيه خلاف مبناه على ما تقدم من الخلاف في بقاء النكاح حكمًا في حق الإرث لتهمة الفرار - وقد تقدم - فمن قال ترثه لشبهة قيام الزوجية، قال: تعتد بأبعد الأجلين احتياطًا، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد والثوري.
ومن قال: الإرث الذي ثبت معاملة بنقيض القصد لا يقتضي بقاء الزوجية، وأنها حينئذٍ بائن من النكاح، قال: ليس عليها عدة وفاة، وهو قول مالك والشافعي وأبي عبيد وأبي ثور وابن المنذر، قلت: وهذا أقرب، والله أعلم.
(4)
تحول العدة من القروء أو الأشهر إلى وضع الحمل:
إذا ظهر أثناء العدة بالقروء أو الأشهر، أو بعدها، أن المرأة حامل من الزوج، فإن العدة تتحول إلى وضع الحمل، ويسقط حكم ما مضى من القروء والأشهر، ولا يكون ما رأته من الدم حيضًا، ولأن وضع الحمل أقوى دلالة على براءة الرحم من آثار الزوجية التي انقضت، ولقوله تعالى:{وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} (1). وبهذا قال جمهور الفقهاء.
مكان العِدَّة (أين تعتدُّ المرأة؟» (2):
[1]
بالنسبة للمعتدة من طلاق أو فسخ:
ذهب جمهور العلماء إلى أن المعتدَّة من طلاق أو فسخ تعتد في مسكن الزوجية الذي كانت تسكنه قبل مفارقة زوجها، وهذا وجب عليها بطريق التعبد، فلا يسقط بالتراضي أو غيره، إلا بعذر شرعي، وكذلك لا يجوز لزوجها أن يخرجها عنه حتى تنقضي العدة لقوله تعالى:{واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} (3).
(1) سورة الطلاق: 4.
(2)
«البدائع» (3/ 200)، و «فتح القدير» (4/ 344 - الحلبي)، و «الدسوقي» (2/ 484)، و «التاج والإكليل» (1/ 391)، و «مغني المحتاج» (3/ 401)، و «روضة الطالبين» (8/ 410)، و «المغني» (9/ 170)، و «نيل الأوطار» (7).
(3)
سورة الطلاق: 1.
وهذا الحكم في غير المبتونة، فإنها تعتد حيث شاءت - على الأرجح - لما سيأتي من أمر النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس أن تعتدَّ في بيت ابن أم مكتوم، وقد كانت طُلِّقت البتة (1).
وهل للمعتدَّة الخروج من بيتها؟ اختلف العلماء في هذا بعد اتفاقهم على أنه يجب عليها ملازمة المسكن في العدة، وأنها لا تخرج منه إلا لحاجة أو عذر:
1 -
ففي المطلقة الرجعية: فالأحناف والشافعية: لا يجوز لها الخروج من مسكن العدة لا ليلًا ولا نهارًا للآية الكريمة، ولأن الرجعية زوجته فعليه القيام بكفايتها، فلا تخرج إلا بإذنه.
وقال المالكية والحنابلة: يجوز لها الخروج نهارًا لقضاء حوائجها، وتلزم منزلها بالليل لأنه مظنة الفساد واستدلوا بحديث جابر قال: طُلقت خالتي ثلاثًا، فخرجت تجدُّ نخلًا لها، فلقيها رجل فنهاها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ذلك له، فقال: «اخرجي فجدِّين خلك، فلعلك أن تصدقي
منه أو تفعلي خيرًا» (2) قلت: في الاستدلال به نظر ظاهر، فالحديث صريح في أنها مبتوتة، والكلام هنا على الرجعية (!!) والأظهر القول الأول لعموم الآية وعدم المخصص.
وأما المطلقة البائن: فذهب الجمهور، ومعهم الثوري والأوزاعي والليث - خلافًا للحنفية - (3) إلى أنه يجوز لها الخروج نهارًا لقضاء حوائجها ولتتكسَّب سواء كانت بائنًا بينونة صغرى أو كبرى لحديث جابر المتقدم، وهو نص في المسألة فيتعيَّن القول به والله أعلم.
[2]
بالنسبة للمعتدة من وفاة الزوج:
ذهب جمهور العلماء إلى أن المعتدة من وفاة زوجها يجب عليها أن تعتدَّ في بيت الزوجية كذلك حتى أنها لو كانت حين وفاته عند أهلها - أو نحوه - فعليها أن تعود لتعتد في بيت زوجها الذي كانت تسكنه قبل وفاته، وحجتهم:
1 -
حديث فريعة بنت مالك بن سنان - أخت أبي سعيد الخدري - «أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة وأن زوجها خرج في
(1) صحيح: يأتي في «النفقة والسكنى للمعتدة» .
(2)
صحيح: أخرجه مسلم.
(3)
«البدائع» (3/ 205)، و «الدسوقي» (2/ 486)، و «مغني المحتاج» (3/ 403)، و «المغني» (9/ 170 - وما بعدها).
طلب أعبد به أبقوا حتى إذا كانوا بطرف القدوم لحقهم فقتلوه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه قالت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمر بي فدعيت له قال فكيف قالت؟ فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي فقال: «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله» قالت فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا فلما كان عثمان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به» (1) وإسناده ضعيف.
2 -
ما روي عن مجاهد قال: استشهد رجال يوم أحد عن نسائهم وكُنَّ متجاورات في داره فجئن النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقُلن: إنا نستوحش يا رسول الله بالليل فنبيت عند إحدانا حتى إذا أصبحنا تبددنا بيوتنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«تحدَّثن عند إحداكن ما بدا لكُنَّ حتى إذا أردتن النوم فلتأت كل امرأة إلى بيتها» (2).
3 -
أنه صحَّ هذا القول عن ابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما (3).
بينما ذهب آخرون إلى أن المعتدة من الوفاة تعتد حيث شاءت، وهو قول جماعة من الصحابة، ويستدل لهذا القول بما يلي:
1 -
ما رُوي عن عليٍّ: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المتوفَّى عنها زوجها أن تعتد حيث شاءت» (4). لكنه ضعيف.
2 -
أن قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} (5). ناسخ للآية التي جعلت العدة للمتوفى عنها زوجها حولًا كاملًا وهي قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا وصية لأزواجهم متاعًا إلى الحول غير إخراج} (6). والفسخ إنما وقع على ما زاد على أربعة أشهر وعشر، فبقي ما
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (2300)، والترمذي (1204)، والنسائي (6/ 199)، وابن ماجة (2031) والرواية عن فريعة مجهولة.
(2)
ضعيف: أخرجه عبد الرزاق (12077) وفه عنعنة ابن جريج وإرسال مجاهد.
(3)
أسانيدها صحيحة: أخرج أثر ابن عمر: عبد الرزاق (7/ 31)، والبيهقي (7/ 436)، وأثر ابن مسعود: أخرجه عبد الرزاق (12068)، وسعيد بن منصور (1342)، والبيهقي (7/ 436)، وانظر «جامع أحكام النساء» (2/ 55).
(4)
ضعيف: أخرجه الدارقطني (3/ 315) وفيه أبو مالك النخغي: ضعيف، ومحبوب بن محرز كذلك.
(5)
سورة البقرة: 234.
(6)
سورة البقرة: 240.
سوى ذلك من الأحكام، ثم جاء الميراث فنسخ السكني، وتعلق حقها بالتركة، فتعتد حيث شاءت، وهذا قول ابن عباس وعطاء (1).
3 -
قول ابن عباس: «إنما قال الله تعتد أربعة أشهر وعشرًا ولم يقل تعتد في بيتها، تعتدُّ حيث شاءت» (2).
4 -
عن عروة قال: «كانت عائشة تفتي المتوفى عنها زوجها بالخروج في عدَّتها» (3).
5 -
وعن جابر قال: «تعتد المتوفى عنها حيث شاءت» (4).
6 -
وعن الشعبي قال: «كان عليٌّ يرُحِّلهنَّ، يقول: ينقلهنَّ» (5).
7 -
أنه قد قتل من الصحابة رضي الله عنهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم خلق كثير، واعتدَّ أزواجهم بعدهم، فلو كان كل امرأة منهن تلازم منزلها زمن العدة، لكان ذلك من أظهر الأشياء، ولما خفي على من هو دون ابن عباس وعائشة وجابر وعليًّ، فكيف خفي عليهم.
قلت: ليس في المسألة حديث صحيح مرفوع، وقد صحَّ عن الصحابة كلا القولي، فالمسألة اجتهادية، فالظاهر أنه لا مانع من اعتدادها حيث شاءت لكن الأورع اعتدادها في بيت زوجها إلا لعذر، ولذا قال الزهري رحمه الله:«أخذ المترخِّصون بقول عائشة، وأخذ أهل العزم والورع بقول ابن عمر» (6) والله أعلم بالصواب.
إحداد المعتدَّة:
الإحداد لغةَ: المنع، وفي الاصطلاح: امتناع المرأة من الزينة وما في معناها مدة مخصوصة في أحوال مخصوصة.
حكم الإحداد:
[1]
المتوفى عنها زوجها: يجب عليها الإحداد في عدة الوفاة ولم لم يدخل
(1) انظر «سنن أبي داود» (2301)، والنسائي (6/ 200)، و «صحيح البخاري» (5344).
(2)
إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (12052)، والبيهقي (7/ 435).
(3)
صحيح: أخرجه عبد الرزاق (12052)، والبيهقي (7/ 435).
(4)
صحيح: أخرجه عبد الرزاق (12059).
(5)
صحيح: أخرجه عبد الرزاق (12056)، والبيهقي (7/ 436).
(6)
«مصنف عبد الرزاق» (12080).
بها، عند جماهير العلماء لقوله صلى الله عليه وسلم:«لا يحلُّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال، إلا على زوج: أربعة أشهر وعشرًا» (1).
والزوجة الصغيرة تحد على زوجها: عند جمهور العلماء خلافًا للحنفية وعلى وليِّها أن يمنعها من فعل ما ينافي الإحداد، لأن الإحداد تبع للعدة، ولحديث أم سلمة: أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله، إن ابنتي تُوفِّي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال:«لا» مرتين أو ثلاثًا
…
الحديث (2) ولم يسألها عن سنِّها، وترك الاستفصال في مقام السؤال دليل على العموم.
وهل تحدُّ الزوجة الكتابية؟ ذهب الجمهور - خلافًا للحنفية ورواية عن مالك - إلى أن الكتابية إذا مات زوجها المسلم وجب عليها أن تحدَّ عليه، لعموم الأدلة السابقة في الزوجات ولأن الإحداد تبع للعدة.
وأما إحداد المرأة على قريبها - غير الزوج -: فلا يجب، بل هو جائز لمدة ثلاثة أيام فقط، ولا يجوز الزيادة عليها، لحديث زينب بنت أبي سلمة قالت: لما أتي أمَّ حبيبة نَعيُ أبي سفيان (3) دعت في اليوم الثالث بصفرة، فمسحت بها ذراعيها وعارضيها، وقالت: كنتُ عن هذا غنية، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدَّ فوق ثلاث إلا على زوج، فإنها تحدُّ عليه أربعة أشهر وعشرًا» (4).
وعلى هذا فللزوج أن يمنعها من الإحداد على القريب إن شاء، فلو طالبها بالجماع لم يحل لها منعه باتفاق العلماء.
[2]
المعتدة الرجعية: المطلقة الرجعية لا إحداد عليها - في عدَّتها - بالإجماع، بل يطلب منها أن تتعرض لمطلقها وتتزيَّن له، لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا، على أن للشافعي رأيًا أنها تحد إذا لم ترجُ الرَّجعة (!!).
[3]
المعتدة من طلاق بائن: للعلماء في إحدادها في العدة قولان:
الأول: عليها الإحداد، وهو مذهب الحنفية - والشافعي في القديم - وإحدى
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5334 - ومواضع)، ومسلم (1486 - ومواضع).
(2)
صحيح.
(3)
وهو أبوها.
(4)
صحيح.
الروايتين في مذهب أحمد، وعللوا ذلك بأن إحدادها لفوات نعمة النكاح، فهي تُشبه من وجه من توفى عنها زوجها (!!).
الثاني: لا إحداد عليها، وهو مذهب مالك والشافعي في الجديد - إلا أنه استحبُّه - وأحمد في الرواية الأخرى وهو المذهب وبه قال جماعة من السلف وأبو ثور وابن المنذر، قالوا: لأن الزوج هو الذي فارقها نابذًا لها، فلا يستحق أن تحد عليه (!!).
قلت: والثاني أرجح لأن الشرع علَّق الإحداد على الوفاة، وليس في لسان الشرع - فيما أعلم - تعليق إحداد طلاق، والله أعلم.
النفقة والسكنى للمعتدة:
[1]
بالنسبة للمعتدة من طلاق رجعي: المعتدة من طلاق رجعي تعتبر زوجة، لأن ملك النكاح قائم، ولذا اتفق أهل العلم على وجوب ما يلزم معيشتها من نفقة وسكنى وكسوة، سواء كانت حاملًا أو
حائلًا (غير حامل) لبقاء آثار الزوجية مدة العدة، ولقوله تعالى:{أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم} (1).
ولحديث فاطمة بنت قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعة» (2).
[2]
بالنسبة للمعتدة من طلاق بائن: فلها حالتان:
(أ) أن تكون حاملًا: فتجب لها النفقة والسكنى حتى تضع حملها بلا خلاف بين أهل العلم، لقوله تعالى:{وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن} (3).
ولما في بعض طرق حديث فاطمة بنت قيس: وأمر لها الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة نفقة، فقالا لها: والله ما لك نفقة إلا أن تكوني حاملًا، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له قولها، فقال:«لا نفقة لك»
…
الحديث (4).
(ب) أن لا تكون حاملًا: لأهل العلم في حكم النفقة والسكنى للمطلَّقة طلاقًا بائنًا - غير الحامل - في عدتها ثلاثة أقوال:
(1) سورة الطلاق: 6.
(2)
صحيح: أخرجه النسائي (6/ 144) بسند صحيح.
(3)
سورة الطلاق: 6.
(4)
صحيح: أخرجه مسلم (1480).
الأول: لها النفقة والسكنى: وهو قول أبي حنيفة ورواية عن أحمد، وهو قول عمر بن الخطاب وابن مسعود، ومأخذ هذا القول أن قوله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم
…
} (1). عام في جميع المطلقات لأنها ذُكرت بعد قوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} (2). وهذه انتظمت الرجعية والبائن.
الثاني: لها السكنى دون النفقة: وهو مذهب مالك والشافعي والرواية الثانية عن أحمد، ومأخذه أن الله تعالى أطلق السكنى لكل مطلقة من غير تقييد في قوله {أسكنوهن من حيث سكنتم} (3). فكانت حقًّا لهن، لأنه لو أراد غير ذلك لقيَّد كما فعل في النفقة إذا قيَّدها بالحمل.
الثالث: ليس لها سكنى ولا نفقة: وهو قول أحمد - في رواية - وإسحاق وأبي ثور وداود وأصحابه وسائر أهل الحديث، وبه قال ابن عباس وجابر وفاطمة بنت قيس - وكانت تناظر عليه - وطائفة من السلف، قلت: وهو الأرجح لما يأتي:
1 -
حديث فاطمة بنت قيس: أن زوجها طلَّقها البتة، فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في السكنى والنفقة، قالت:«فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة، وأمرني أن اعتدَّ في بيت أم مكتوم» (4).
وقد طمن عمر رضي الله عنه في هذا الحديث: فعن أبي إسحاق قال: «كنت مع الأسود بن يزيد جالسًا في المسجد الأعظم، ومعنا الشعبي، فحدث بحديث فاطمة بنت قيس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، ثم أخذ الأسود كفًّا من حصى، فحصبه به، فقال: ويلك، تحدث بمثل هذا؟ قال عمر: «لا نترك كتاب الله وسنَّة (5) نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت؟ لها السكنى والنفقة» قال الله عز وجل: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} (6)(7).
(1) سورة الطلاق: 6.
(2)
سورة الطلاق: 1.
(3)
سورة الطلاق: 6.
(4)
صحيح: أخرجه مسلم (1480).
(5)
") قوله (وسنة نبينا) قال الدارقطني هذه زيادة غير محفوظة، قلت: وهذا لا شك فيه لأن هذه السنة لو كانت عند عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم لما تكلمت فاطمة ولا دعت للمناظرة ولما فات هذا الحديث أئمة الحديث والمصنفين.
(6)
سورة الطلاق: 1.
(7)
صحيح: أخرجه مسلم (1480/ 46).
وأنكرت عائشة قول فاطمة هذا: وأخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أرخص لها في ترك السكنى لكونها كانت في مكان وَحْش فخيف على حياتها (1).
والجواب عن هذه المطاعن أن يقال (2):
1 -
أن كون الراوي امرأة ليس بمطعن بلا شك، والعلماء قاطبة على خلافه من الاحتجاج برواية النساء كالرجال، وهي قد حفظتْ الحكم لاسيما والقصة وقعت معها، حتى أنها ناظرت من خالفها على كتاب الله كما سيأتي.
- ثم إن الطعن في روايتها بأنها مخالفة للقرآن يجاب عنه بأنه على فرض أن روايتها مخالفة للقرآن فهي مخالفة لعمومه، فتكون تخصيصًا للعام، فحكمها حكم تخصيص قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء
ذلكم} (3). بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو أختها أو خالتها، فإن القرآن لم يخصَّ البائن بأنها لا تخرج ولا تُخرج، وبأنها تسكن من حيث يسكن زوجها بل إما أن يعمها ويعمَّ الرجعية - فيكون مخصصًا برواية فاطمة - وإما أن يكون مختصًّا بالرجعية، وهو الصواب للسياق لمن تدبَّره:
فإن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وأَحْصُوا العِدَّةَ واتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ولا يَخْرُجْنَ إلَاّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ومَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ومَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (4). فذكر سبحانه لهؤلاء المطلقات أحكامًا متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض متعلقة بمن لهم عند بلوغ الأجل (العدة) الإمساك والتسريح وقال: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا} . والمراد به الرجعة، كما قالت فاطمة بنت قيس نفسها عندما أنكر عليها مروان حديثها: «بيني وبينكم القرآن: قال الله عز وجل: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} . إلى قوله: {لا تدري لعل الله
(1) صحيح: أخرجه البخاري.
(2)
«زاد المعاد» (5/ 526 - 542) بتصرف واختصار.
(3)
سورة النساء: 24.
(4)
سورة الطلاق: 1 - 3.
يحدث بعد ذلك أمرًا} (1). قالت: هذا لمن كان له مراجعة، فأي أمر يحدث بعد الثلاث؟
…
» الحديث (2).
ثم أمر بالإشهاد أي على الرجعة، فكانت هذه الأحكام المذكورة متعلقة بالمطلقة الرجعية وحدها، فلما ذكر بعد ذلك الأمر بإسكان هؤلاء المطلقات بقوله {اسكنوهن
…
} (3). كان المراد الرجعيات كذلك لتتَّحد الضمائر، ويؤيد هذا الفهم ما يأتي من الأدلة.
2 -
قول النبي صلى الله عليه وسلم في رواية لحديث فاطمة -: «إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعة» (4) قلت: وهو صريح في محل النزاع فيتعين المصير إليه، ثم فيه الرد على تعليل عائشة رضي الله عنها لإخراج فاطمة من بيتها، لأنه صرَّح بأن العلة في استحقاق النفقة والسكنى هي إمكان الرجعة.
3 -
أنَّ مقتضى النظر: فإن النفقة إنما تكون للزوجة، فإذا بانت منه صارت أجنبية، حكمها حكم سائر الأجنبيات، ولم يبق إلا مجرد اعتدادها منه، وذلك لا يوجب لها نفقة.
4 -
ولأن النفقة إنما تجب في مقابلة التمكن من الاستمتاع، وهذا لا يمكن استمتاعه بها بعد البينونة.
5 -
ولأن النفقة لو وجبت لها عليه لأجل العدة، لوجبت للمتوفى عنها من ماله، ولا فرق، فإن كل واحدة منهما قد بانت عنه وهي معتدَّة منه، قد تعذَّر منهما الاستمتاع، والله أعلم.
[3]
بالنسبة للمعتدة من وفاة زوجها:
ذهب الحنفية والحنابلة - وهو قول عند الشافعية - إلى أن المتوفى عنها زوجها لا نفقة ولا سكنى لها من ماله في العدة، وليس لها إلا مقدار ميراثها إن كانت وارثة: لأن المال صار - بموته - للغرماء أو الورثة أو الوصية، ويؤيده قول ابن عباس بأن آية الميراث نسخت قوله تعالى:{والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ ويَذَرُونَ أَزْوَاجًا وصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إلَى الحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاجٍ} (5). وقد تقدم.
(1) سورة الطلاق: 1.
(2)
صحيح: أخرجه مسلم (1480/ 41).
(3)
سورة الطلاق: 6.
(4)
تقدم قريبًا.
(5)
سورة البقرة: 240.
وقد ذهب الشافعية - في الأظهر - والمالكية إلى أن لها السكنى بشرطين: أن يكون دخل بها، وأن يكون المسكن ملكه، وحجتهم حديث فريعة المتقدم، وهو ضعيف.
قلت: والأول أظهر.
فإن كانت المتوفى عنها زوجها حاملًا فقال الأكثرون: لا نفقة لها من ماله، لأن نفقته على زوجته وأولاده الأحياء تسقط عنه بموته فكذلك الحامل من أزواجه.
فالحاصل أن المتوفى عنها، ليس لها حق في نفقة أو سكن إلا مقدار ميراثها سواء كانت حاملًا أو حائلًا والله أعلم.
متعة المطلَّقات:
المتعة: مال يدفعه الزوج لمطلَّقته، وقد يكون هذا المال ثيابًا أو كسوة أو نفقة أو خادمًا أو غير ذلك مما يستمتع به، ويختلف مقدارها بحسب حال الزوج يسرًا وعسرًا، قال الله تعالى:{وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين} (1).
وقال سبحانه: {ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعًا بالمعروف حقا على المحسنين} (2).
وقد اختلف أهل العلم في حكم المتعة على ثلاثة أقوال (3):
الأول: تجب المتعة لكل مطلَّقة: وهو مروي عن عليِّ بن أبي طالب والحسن وسعيد بن جبير وجماعة من السلف وأبي ثور والظاهرية وهو رواية عن أحمد ونصرها شيخ الإسلام، لعموم الآيات الآمرة بها.
الثاني: تستحب المتعة لكل مطلقة ولا تجب: وهو مذهب مالك والليث بن سعيد وشريح، لتقييد المتعة بأنها حق على المتقين والمحسنين وتقييدها بالمعروف.
الثالث: تجب المتعة للمفوضة - وهي المطلقة قبل الدخول بها التي لم يفرض لها مهر - دون من فُرض لها المهر: وهو مذهب أبي حنيفة وصاحبيه والشافعي والأوزاعي وأحمد في رواية الجماعة عنه، وهو قول ابن عمر وابن عباس وطائفة
(1) سورة البقرة: 241.
(2)
سورة البقرة: 236.
(3)
«ابن عابدين» (3/ 111)، و «المغني» (10/ 139 - الكتاب العربي)، و «الحاوي» (13/ 101)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 27)، و «المحلي» (10/ 245).