الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الراجح: أنه إذا مضت المدة ورفعت المرأة أمرها للقضاء، فإن القاضي يوقفه ويخيِّره بين الفيئة وبين تطليق امرأته، فإن أبى طلَّقها عليه، ويكون هذا الطلاق - سواء طلَّق الزوج أو طلق عليه القاضي - طلاقًا بائنًا
على الأرجح وهو مذهب أبي حنيفة لأنها فرقة لرفع الضرر، فيجب أن تكون بائنًا، ولأنها لو كانت رجعية لم يندفع الضرر، لأنه يستطيع أن يرتجعها فيبقى الضرر. والله تعالى أعلم.
[6]
الركن السادس: لفظ الإيلاء وصيغته (1):
التحقيق أن يقال: كل لفظ دلَّ بنفسه على الامتناع عن وطء الزوج زوجته في فرجها وكانت هذه الدلالة هي المتبادرة إلى الذهن لجريان العرف بأن هذا هو المراد، فإن هذا اللفظ يعتبر صريحًا في دلالته على الإيلاء.
وكل لفظ لا يصل في دلالته على الإيلاء إلى هذا الحد، فلا يكون صريحًا في الإيلاء، وإنما هو كناية يفتقر إلى النية لوقوع الإيلاء به، ويصدَّق الزوج فيما أراده منه - في أحكام الدنيا - ولا يصدَّق في اللفظ الصريح أنه لم يرد به الإيلاء في أحكام الدنيا.
الظِّهَار
تعريف الظِّهار:
الظهر من كلِّ شيء خلاف البطن، والظِّهار من النساء، وظاهر الرجل امرأته مظاهرة وظِهارًا إذا قال:(هي عليَّ كظهر أمي)(2).
والظهار اصطلاحًا: «أن يشبِّه امرأته أو عضوًا منها بمن تحرم عليه - ولو إلى أمد - أو بعضو منها» (3) قال ابن قدامة: «وإنما خصوا الظهر بذلك من بين سائر الأعضاء، لأن كل مركوب يسمى ظهرًا لحصول الركوب على ظهره في الأغلب فشبهوا الزوجة بذلك» (4).
تكييفه الشرعي:
الظهار ليس من فرق النكاح، ولكنه يفوِّت ما يفوت بالفرقة البائنة بين الزوجين
(1)«المفصَّل» (8/ 258) بتصرف يسير.
(2)
«لسان العرب» لابن منظور، بتصرف.
(3)
«غاية المنتهى» (3/ 190).
(4)
«المغني» لابن قدامة (7/ 337).
(حلَّ الوطء) ما دام حكم الظهار قائمًا، فيحرم على المُظاهر وطء زوجته ما دام الظهار قائمًا، فناسب أن يُبحث مع مسائل فرق النكاح، وإلا فلَيس هو بفرقة.
وقد كانوا في الجاهلية يعتبرون الظهار طلاقًا، تحرم زوجة الرجل به كتحريم الأم، فأبطل الله تعالى ذلك، وجعل فيه كفارة ولم يجعله طلاقًا.
حكم الظهار:
الظهار من جهة حكم فعله: حرام، لقوله تعالى:{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إنْ أُمَّهَاتُهُمْ إلَاّ اللَاّئِي ولَدْنَهُمْ وإنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ القَوْلِ وزُورًا وإنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} (1).
أركان الظهار وما يتعلق بها:
يتبيَّن من تعريف الظهار أنه يستلزم وجود: مُظاهر (الزوج) ومظاهر منها (الزوجة) ومظاهر به أي مشبه به (الأم) وصيغة الظهار.
[1]
الركن الأول: المُظاهِر (الزوج):
الظهار لا يملك إيقاعه إلا الزوج - لا الزوجة - قال الله سبحانه: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم} (3). ولم يقل: واللائي يظاهرون منكن من أزواجهن، فدلَّ على أنه لا يظاهر إلا الزوج، ولأن الحل والعقد والتحليل والتحريم في النكاح بيد الزوج لا بيد زوجته، وقد نقل ابن العربي رحمه الله على هذا إجماع أهل العلم (4).
والقاعدة فيما يشترط في الزوج الذي يصح ظهاره أن: «كل زوج صحَّ ظهاره، ومن لا يصح طلاقه لا يصح ظهارُه» (5).
(1) سورة المجادلة: 2.
(2)
«زاد المعاد» لابن القيم (5/ 326).
(3)
سورة المجادلة: 2.
(4)
«أحكام القرآن» لابن العربي (4/ 1739).
(5)
«المغني» (7/ 388 - 399).
إذا ظاهرت الزوجة من زوجها (!!) فما الحكم؟ (1)
تقدم أنه لا يقع الظهار إلا إذا صدر عن الزوج، لكن لو قالت المرأة لزوجها مثلًا:(أنا عليك كظهر أمك- أو - أنت عليَّ كظهر أبي): فذهب الحنابلة - وهو اختيار شيخ الإسلام- إلى أن عليها - إذا وطئها زوجها - كفارة ظهار، وإن كان قولها لم يقع به الظهار، لما صحَّ:«أن عائشة بنت طلحة ظاهرة من المصعب بن الزبير إن تزوجته، فاستُفتى لها فقهاء كثيرة بالمدينة، فأمروها أن تكفِّر، فأعتقت غلامًا لها ثمنه ألفين» (2).
قالوا: فأفتاها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -بالكفارة، ولأنها زوج أتى بالمنكر من القول والزور كالآخر، ولأن الظهار يمين مُكفَّرة فاستوي فيها المرأة والرجل.
وذهب جمهور العلماء: أبو حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم إلى أن ظهارها لغو، لأن التحريم ليس إليها وهي لا تملك الظهار بالقول - كما تقدم - فلا حرمة عليها إذا مكَّنته من نفسها، ولا كفارة عليها، لا كفارة ظهار ولا كفارة يمين.
قلت: ومذهب الجمهور أرجح، لأنهم جميعًا متفقون على أنه لا يقع بقولها ظهار فكيف رُتِّب عليه ظهار الرجل؟! ثم كيف يكون عليها كفارة ظهار والظهار لم يقع، والله أعلم.
[2]
الركن الثاني: المُظاهَر منها (الزوجة)(3):
ويشترط في المظاهر منها أن تكون زوجة شرعًا للمظاهر، أي تكون مرتبطة به بعقد نكاح صحيح، وأن تكون الزوجية بينهما قائمة، فيصحُّ الظهار من المطلَّقة الرجعية في عدَّتها لأنها زوجته حكمًا حتى تنتهي عدتها.
وهل يظاهر من الأَمَة؟ ذهب الجمهور إلى أنه لا يصحُّ ظهار الأمة لعدم دخولها في قوله تعالى: {والَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِن نِّسَائِهِمْ} (4). قالوا: وليست الأمة من النساء، أي الأزواج.
وقال مالك رحمه الله يصح الظهار من الأمة لعموم لفظ النساء.
(1)«ابن عابدين» (3/ 467)، و «الدسوقي» (3/ 439)، و «كشاف القناع» (3/ 229).
(2)
إسناده صحيح: أخرجه عبد الرازق (6/ 433)، وسعيد بن منصور (1848).
(3)
«البدائع» (3/ 233)، و «مغنى المحتاج» (3/ 353)، و «فتح الباري» (9/ 434 - المعرفة).
(4)
سورة المجادلة: 2.
[3]
الركن الثالث: المظاهَر به (المشبَّه به):
تشبيه الزوج امرأته بمن تحرم عليه يُتصوَّر أن يكون على ثلاثة أَضْرُب:
(أ) أن يشبهها بأمِّه فيقول: (أنت عليَّ كظهر أمي)
فهذا ظهار بإجماع أهل العلم، ومستنده الأحاديث الواردة في الظهار، ومنها:
حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان: أن سلمان بن صخر الأنصاري - أحد بني بياضة- جعل امرأته عليه كظهر أُمِّه حتى يمضي رمضان، فلما مضى نصف من رمضان وقع عليها ليلًا، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم -فذكر ذلك له، فقال له: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعتق رقبة» قال: لا أجدها، قال:«فصُمْ شهرين متتابعين» قال: لا أستطيع، قال:«أطعم ستين مسكينًا» قال: لا أجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -لعروة بن عمرو:«أعطه ذلك الفرق» وهو مكتل يأخذ خمسة عشر صاعًا أو ستة عشر صاعًا، فقال:«أطعم ستين مسكينًا» (1).
(ب) أن يشبهها بظهر من تحرم عليه تحريمًا مؤبدًا: كأخته وخالته وعمته وجدته فهذا الضرب اختلف أهل العلم في وقوع الظهار به، على قولين (2):
الأول: لا يكون الظهار إلا بالأم والجدة: وهو قول الشافعي - القديم - ومذهب الظاهرية واختاره الصنعاني رحمهم الله قالوا: لأن النص لم يرد إلا في الأم والجدَّة أم يشملها النص كذلك، قالوا: وما ذكر من إلحاق غيرها فبالقياس وملاحظة المعنى، ولا ينتهض دليلًا على الحكم.
الثاني: أن يكون ظهارًا: وهو قول أكثر أهل العلم وجمهورهم، منهم: الحسن وعطاء والشعبي والنخعي والزهري والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة ومالك والشافعي - في الجديد - وأحمد، وحجتهم ما يلي:
1 -
أنهن محرمات بالقرابة، فأشبهن الأم.
2 -
وردُّا على القول الأول: بأنه قد جاء في الآية الكريمة {وإنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ القَوْلِ وزُورًا} (3). وهذا موجود في مسألتنا، فجرى مجراه.
(1) حسن لغيره: أخرجه الترمذي (1200)، وأبو داود (2217)، وابن ماجه (2062)، والبيهقي (7/ 390).
(2)
«البدائع» (3/ 234)، و «الدسوقي» (2/ 439)، و «مغنى المحتاج» (3/ 354). و «المغنى» (7/ 340)، «المحلى» (10/ 50).
(3)
سورة المجادلة: 2.
3 -
وبأن تعليق الحكم بالأم لا يمنع ثبوت الحكم في غيرها، إذا كانت مثلها.
قلت: وهذا القول قوي ومتجه، لاسيما وأن النص ليس فيه أن الظهار لا يكون إلا بالأم، وغاية ما فيه إثباته إذا ظاهر بأمِّه، والله أعلم.
فائدة: يستوي في هذه المسألة الأم، والأخت والخالة والعمة من النسب ومن الرضاع.
(جـ) أن يشبهها بظهر من تحرم عليه تحريمًا مؤقتًا: كأخت زوجته وخالتها وعمتها، وهذا الضرب اختُلف في اعتباره ظهارًا على قولين (1):
الأول: لا يكون ظهارًا: وهو مذهب الحنفية والشافعي ورواية عن أحمد، وهو مذهب الظاهرية بالطبع، لأنها غير محرَّمة على التأبيد، فلا يكون التشبيه بها ظهارًا كالحائض.
الثاني: يكون ظهارًا: وهو مذهب المالكية ورواية عن أحمد، وهو المذهب عند متأخري الحنابلة، وردُّوا قياس الأولين على الحائض: بأنه يباح الاستمتاع بها في غير الفرج، وليس في وطئها حدٌّ فهي بخلاف مسألتنا.
فائدة: لو شبَّه امرأته بظهر رجل (2): فقال: (أنت عليَّ كظهر أبي أو ابني) لم يصحَّ الظهار ويكون لغوًا عند أكثر أهل العلم، وعند الحنابلة رواية: أنه ظهار!!
إذا شبَّه بعضو غير الظَّهْر (3):
لو قال لزوجته: أنت عليَّ كبطن أمي أو كبد أمي أو كرأس أمي ونحو ذلك، فأكثر أهل العلم على وقوع الظهار بذلك في الجملة، واختلفوا في بعض الجزئيات:
1 -
فاشترط الحنفية أن يكون عضوًا لا يحل للمظاهر النظر إليه!!.
2 -
وصحح المالكية الظهار بأي جزء ممن تحرم عليه ولو كان شعرًا أو ريقًا.
3 -
واشترط الشافعية أن يكون العضو لا يُذكر للكرامة عادة ويحرم التلذذ به، فيصح نحو التشبيه باليد، وأما (عين الأم) فذكره يحتمل الكرامة، فيكون المعوَّل على نية المظاهر: فإن أراد به الظهار فهو ظهار، وإن أراد به الكرامة، فلا ظهار.
(1)«المراجع السابقة» مع «جواهر الإكليل» (1/ 372).
(2)
«البدائع» (3/ 231)، و «مغنى المحتاج» (3/ 354)، و «المغنى» (7/ 341).
(3)
«البدائع» (3/ 233)، و «الدسوقي» (2/ 439)، و «نهاية المحتاج» (7/ 77)، و «كشاف القناع» (3/ 227)، و «المحلى» (10/ 50).
4 -
وعند الحنابلة يقع الظهار بالتشبيه بأي عضو ممن تحرم عليه، إلا إذا كان العضو لا ثبات له كالظفر والشعر، فلا يصح به الظهار عندهم (!!).
5 -
وأما الظاهرية فلا يقع عندهم الظهار إلا بظهر الأم لا بغير ذلك.
قلت: الذي يظهر لي أن الظهار مشتق من الظهر، فلا يكون الظهار إلا بذكر الظهر أو الظهار، وهل يقع الظهار بذكر ما لا يحل له الاستمتاع به من أمِّه - مثلًا- إذا نوى به الظهار، هذا موضع نظر واجتهاد، والله أعلم بالصواب.
[4]
الركن الرابع: صيغة الظهار:
(أ) من جهة لفظها: قد تكون ألفاظ الظهار صريحة، وقد تكون كناية.
فالصريح فيه اللفظ الذي يدلُّ على إرادة إيقاع الظهار بحيث لا يتبادر إلى الفهم لدى السامع غير الظهار، كأن يقول:(أنت عليَّ كظهر أمي) وهو لا يفتقر إلى النية لإيقاع الظهار به.
وقد ألحق الحنفية والشافعية والحنابلة (1) باللفظ الصريح أن يقول: (أنا منك مُظاهر- أو ظاهرتُكِ) وكذا قوله: (أنت عليَّ كبطن أمي - أو: كفخذ أمي، أو كفرج أمي)(2).
وأما الكناية فهي الألفاظ التي تحتمل إرادة الظهار وغيره فتفتقر إلى النية لإيقاع الطلاق بها، كقوله (أنت عليَّ كأمِّي) عند عامة الفقهاء، قالوا: فلو نوى به الظهار وقع، وإن نوى به الكرامة والتوقير، فليس بظهار.
وقد اعتبر بعض العلماء القرينة التي تدل على الظهار باللفظ الكنائي، وأقامها مقام النية، كأن يقول في حال الغضب والخصومة، وكأن يخرجه مخرج الحلف كقوله:(إن فعلت كذا فأنت عليَّ مثل أمي)(3).
(ب) من جهة التنجيز وعدمه (4):
الأصل أن يكون الظهار بصيغة التنجيز، بمعنى أنه غير معلَّق على شرط، ولا مضاف إلى زمن مستقبل، وهذا لا خلاف في وقوعه، كقوله:(أنت عليَّ كظهر أميِّ).
(1)«البدائع» (3/ 231)، و «المغنى» (7/ 346)، و «مغنى المحتاج» (3/ 354).
(2)
الذي يبدو لي أنها كنائية تفتقر إلى النية لإيقاع الظهار بها والعلم؛ عند الله.
(3)
«البدائع» (3/ 231)، و «المغنى» (7/ 342).
(4)
«المغنى» (7/ 350)، «مغنى المحتاج» (3/ 354).
وقد يكون الظهار معلَّقًا على شرط كما لو قال لزوجته: (إن دخلت الدار فأنت عليَّ كظهر أمي) فإذا وجد الشرط وقع الظهار، ولكنه قبل وجود الشرط لا يعتبر مُظاهرًا وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد، ومثل إضافة الظهار إلى زمن مستقبل.
وإذا علَّق الظهار على مشيئة الله تعالى كما لو قال: (أنت عليَّ كظهر أمي إن شاء الله) لم يقع الظهار.
(جـ) من جهة التأقيت والتأبيد (1):
يصحُّ أن يكون الظهار مؤبَّدًا أي غير محددة بمدة معينة، ويصح أن يكون مؤقتًا بمدة معينة - عند الجمهور خلافًا للمالكية- كأن يقول لزوجته:(أنت عليَّ كظهر أمي شهرًا- أو: حتى ينقضي رمضان، ونحو ذلك).
قلت: ويدل عليه ما تقدم في حديث سلمان بن صخر الأنصاري أنه: «جعل امرأته عليه كظهر أمِّه حتى يمضي رمضان، فلما مضى نصف رمضان وقع عليها ليلًا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ....» الحديث (2). وفيه أنه أوقعه ظاهرًا وأمره بالكفارة.
آثار الظهَّار:
إذا تحقق الظهار وتوافرت شروطه، ترتبَّ عليه الآثار الآتية:
[1]
حُرمة الجماع قبل الكفارة:
فيحرُم على المُظاهر أن يطأ زوجته قبل أن يكفِّر كفارة الظهار، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم إذا كانت الكفارة الواجبة عتقًا أو صومًا، لقوله تعالى:{والَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} (3)
وأما إذا كانت الكفارة بالإطعام (4): فذهب أحمد - في رواية- وأبو ثور وابن
(1)«البدائع» (3/ 235)، و «مغنى المحتاج» (3/ 357). و «الخرشى» (3/ 23)، و «المغني» (7/ 349).
(2)
حسن بطرقه: تقدم تخريجه قريبًا.
(3)
سورة المجادلة: 3، 4.
(4)
«البدائع» (3/ 234)، و «جواهر الإكليل» (1/ 373)، و «الأم» (5/ 265)، و «المغنى» (7/ 347)، و «المحلى» (10/ 50).
حزم أنه لا حرج في وطئها قبل إخراج الكفارة بالإطعام، قالوا: لأن الله تعالى اشترط في الآية تقديم الكفارة على المماسَّة في العتق والصيام، ولم يشترطه في الكفارة بالإطعام.
وذهب أكثر أهل العلم منهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في المشهور من المذهب إلى أنه يحرم عليه الوطء قبل التكفير حتى ولو بالإطعام، وحجتهم:
1 -
ما جاء عن ابن عباس: «أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم -فقال: إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفِّر؟ فقال: «ما حملك على ذلك يرحمك الله؟» قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر، قال:«فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به» (1).
قالوا: وما أمره الله به هو أداء الكفارة سواء كانت بالعتق أو بالصوم أو بالإطعام، فلم يخُصَّ نوعًا معينًا من أنواع الكفارات، فعُلم أنه لا يجوز الوطء قبل أي نوع منها.
2 -
وردوا على دليل الأولين: بأن ترك النصِّ على الكفارة بالإطعام قبل المسيس، لا يمنع قياسها على المنصوص الذي في معناها.
قلت: الحديث الذي استدل به الجمهور لا يثبت، ودلالة الآية على القول الأول قوية، إذ أن النص على الكفارة قبل المسيس في موضعين دون الثالث يمنع تقبُّل قياسه عليهما، والله أعلم.
[2]
هل يحرمُ الاستمتاع دون الوطء قبل الكفارة؟ فيه قولان (2):
1 -
فذهب أبو حنيفة ومالك وأحد قولي الشافعي ورواية في مذهب أحمد: إلى أنه لا يجوز، لقوله تعالى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} (3). فإنه أمر المظاهر بالكفارة قبل التماس، والتماس يصدق على المس باليد وغيرها كما يصدق على الوطء، والوطء قبل التكفير حرام بالاتفاق، فكان ما دونه من دواعيه مثله، ومتى كان الوطء حرامًا كانت الدواعي إليه مثله لأن «ما أدى إلى الحرام حرام» .
(1) أُعل بالإرسال: أخرجه أبو داود (2223)، والترمذي (1199)، والنسائي (6/ 167) وأعله أبو حاتم والنسائي بالإرسال.
(2)
«البدائع» (3/ 234)، و «الدسوقي» (2/ 445)، و «مغنى المحتاج» (3/ 357)، و «المغنى» (7/ 348).
(3)
سورة المجادلة: 3.
2 -
وذهب الشافعي- في القول الثاني وهو الأظهر عند الشافعية- وبعض المالكية والرواية الأخرى عن أحمد: إلى أنه يجوز الاستمتاع بما دون الوطء قبل التفكير، ووجهه أن المراد بالتماس في الآية: الجماع، فلا يحرم ما عداه من التقبيل والمس بشهوة والمباشرة دون الفرج، ولا يلزم من تحريم الجماع تحريم دواعيه كما في الحائض والصائم.
قلت: لعل الأوَّل أقرب لاسيما عند من يحمل المشترك اللفظي على جميع معانيه، إذ التماس حقيقة الملامسة والجماع، ثم إن الحرمة قد حصلت بتشبيهه زوجه بأمه فحرمت عليه حتى يكفِّر، وحرمة أمِّه تمنع الاستمتاع مطلقًا، فكذا حرمة الزوجة المظاهرة، والله أعلم.
إذا وطئها قبل الكفارة: فعليه أن يستغفر الله من ذلك، وأن لا يقربها حتى يكفّر، وتلزمه كفارة واحدة، لما تقدم في حديث سليمان بن صخر، فإنه وطئ قبل أن يكفِّر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم -بكفارة واحدة، وعلى هذا أكثر أهل العلم.
فائدة: للمرأة - بعد أن يظاهر منها - الحقُّ في مطالبة الزوج بالوطء، وعليها أن تمنع الزوج من الوطء حتى يُكفِّر، فإن امتنع عن التكفير، فلها أن ترفع الأمر إلى القاضي، وعلى القاضي أن يأمر بالتكفير (1).
[3]
وجوب الكفارة على المُظاهر قبل الوطء:
أمر الله تعالى المظاهرين بالكفارة إذا عزموا على معاشرة أزواجهم اللاتي ظاهروا منهن في قوله تعالى: {والَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا
…
} (2).
والأمر يدلُّ على وجوب المأمور به، ولأن الظهار معصية لما فيه من المنكر والزور، فأوجب الله الكفارة على المظاهر حتى يغطي ثوابها وزر هذه المعصية.
مُوجِبُ الكفارة:
قال الله تعالى: {والَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} (3). وقد اختلف أهل العلم: هل تجب الكفارة بمجرد الظهار؟ أم لا تجب إلا به وبالعود؟
(1)«الموسوعة الفقهية» (29/ 205)
(2)
سورة المجادلة: 3.
(3)
سورة المجادلة: 3.
والصحيح: الذي عليه جمهور العلماء أن الكفارة لا تجب إلا بمجموع شيئين: قول الظهار، والعود، للآية الكريمة (1)، وإن كان كذلك: فما المراد بالعود في الآية؟
للعلماء فيه أقوال ستة، أصحُّها: أن المراد بالعود (إرادة الوطء) ويكون توجيه الآية أن معنى (العود) فيها عود المظاهر لما منعه منه ظهاره، والذي منعه منه ظهاره هو الوطء، فكان معنى عود المظاهر: إرادته ما منعه من الظهار وهو الوطء، وسياق الآية يدل على هذا فإنها أوجبت على المظاهر العائد - الكفارة- قبل أن يمسَّ، فيكون العود فيها إرادة الوطء وليس الوطء فعلًا، ولاتكرار قول الظهار (2).
خصال كفارة الظهار:
خصال كفارة الظهار ثلاثة، ويجب التكفير بأحدها باتفاق الفقهاء، على الترتيب الآتي، لا ينتقل إلى كفارة إلا إذا عجز عن التكفير بالتي قبلها:
1 -
إعتاق عبد أو أَمَة (تحرير رقبة) فإذا لم يجد:
2 -
يصوم شهرين متتابعين دون أن يمسَّ امرأته، فإن لم يستطع:
3 -
يطعم ستين مسكينًا.
والأصل في هذا قول الله سبحانه: {والَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ..... ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ولِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3).
وقوله صلى الله عليه وسلم -لسلمان بن صخر - لما ظاهر من امرأته-: «أعتق رقبة» قال: لا أجدها، قال:«فصم شهرين متتابعين» قال: لا أستطيع، قال:«أطعم ستين مسكينًا» قال: لا أجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -لعروة بن عمرو:«أعطه ذلك العَرَق» فقال: «أطعم ستين مسكينًا» (4).
وفي معناه حديث خويلة بنت ثعلبة قالت:
ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم -أشكو إليه ورسول الله صلى الله عليه وسلم -يجادلني فيه ويقول: «اتقي الله فإنه ابن عمك» ، فما برحت حتى نزل
(1)«المغنى» (7/ 353).
(2)
انظر «زاد المعاد» (5/ 331 - 332)، و «المغنى» (7/ 352 - 354)، و «البدائع» (3/ 236)، و «المحلي» (10/ 50).
(3)
سورة المجادلة: 3، 4.
(4)
حسن بطرقه: تقدم قريبًا.
القرآن: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} (1). إلى الفرض، فقال:«يعتق رقبة» قالت: لا يجد؟ قال: «فيصوم شهرين متتابعين» قالت يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام، قال:«فليطعم ستين مسكينًا» ، قالت: ما عنده من شيء يتصدق به، قال: فأتي ساعتئذ بَعَرق من تمر. قلت يا رسول الله فإني أعينه بعرق أخر، قال:«قد أحسنت اذهبي فأطعمي بها عنه ستين مسكينًا، وارجعي إلى ابن عمك» قال: والعرق ستون صاعًا (2).
انتهاء الظِّهار وانحلاله:
ينتهي الظهار وينحل بعد أن ينعقد ويستوجب حكمه، بواحد مما يأتي:
[1]
تأدية الكفارة الواجبة: لدلالة الآية الكريمة، ولما وقع في حديث ابن عباس من قول النبي صلى الله عليه وسلم -للمظاهر:«لا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله عز وجل» (3) فقد نهاه عن العود إلى وطئها، وجعل لهذا النهي غاية هي التكفير، فدلَّ على أن الظهار ينتهي حكمه بفعل الكفارة.
[2]
مضى المدة - إذا كان الظهار مؤقتًا-: فإذا ظاهرها على مدة معينة، فبرَّ بيمينه حتى انقضت المدة دون أن يمسَّها، فلا شيء عليه، وتعود حلالًا له.
[3]
موت الزوجين أو أحدهما: فلو ظاهر من زوجته ثم مات أو ماتت زوجته قبل العود انتهى الظهار، وانتهى حكمه باتفاق الفقهاء، لأن موجب الظهار الحرمة، وهي متعلقة بالزوجين، فيحرم على الرجل الاستمتاع ويحرم على المرأة تمكينه من نفسها حتى يكفِّر، ولا يُتصور بقاء الحكم بدون من تعلَّق به.
فائدة:
أما إذا ظاهر منها ثم عاد (أراد الوطء) أو وطئها قبل أن يكفِّر ومات: فعند الحنفية والمالكية تسقط الكفارة عنه إلا إذا أوصى بها فتخرج من ثلث التركة.
وقال الشافعية والحنابلة: لا تسقط كفارة الظهار - التي لزمته - بالموت، بل يؤديها الوارث عن الميت من التركة (4).
(1) سورة المجادلة: 1.
(2)
إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (2214)، وأحمد (6/ 410) بسند ضعيف، ولبعض أجزائه شواهد لاسيما ذكر الكفارة، وانظر (الإرواء)(7/ 174).
(3)
أعلَّ بالإرسال: وقد تقدم قريبًا.
(4)
«ابن عابدين» (5/ 594)، و «الدسوقي» (4/ 458)، و «مغنى المحتاج» (3/ 174)، و «المغنى» (7/ 383).