الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
43 -
(بَاب اخْتِيَارِ الْفِطْرِ)
(رَأَى رَجُلًا) هُوَ أَبُو إِسْرَائِيلَ وَاسْمُهُ قَيْسٌ وَقِيلَ قُشَيْرٌ وَقِيلَ قَيْصَرٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ
ذَكَرَهُ مَيْرَكُ (يُظَلَّلُ عَلَيْهِ) بِصِيغَةِ المجهول أي جعل عليه ظل اتقاء عن الشَّمْسِ أَوْ إِبْقَاءً عَلَيْهِ لِلْإِفَاقَةِ لِأَنَّهُ سَقَطَ مِنْ شِدَّةِ الْحَرَارَةِ أَوْ مِنْ ضَعْفِ الصَّوْمِ أَوْ مِنَ الْإِغْمَاءِ
قَالَ فِي التَّتِمَّةِ إِنَّهُ كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ
هكذا هو في مسند الشافعي
وقال الشيخ بن حَجَرٍ هُوَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ كَمَا بَيَّنَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى (وَالزِّحَامُ عَلَيْهِ) بِكَسْرِ الزَّايِ أَيْ مُزَاحَمَةٌ فِي الِاجْتِمَاعِ عَلَى غَرَضِ الِاطِّلَاعِ (فَقَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ هَذَا كَلَامٌ خَرَجَ عَلَى سَبَبٍ فَهُوَ مَقْصُورٌ عَلَى مَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِهِ كَأَنَّهُ قَالَ لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ أَنْ يَصُومَ الْمُسَافِرُ إِذَا كَانَ الصَّوْمُ يُؤَدِّيهِ إِلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ بِدَلِيلِ صِيَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرِهِ عَامَ الْفَتْحِ وَبِدَلِيلِ خَبَرِ حَمْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ وَتَخْيِيرِهِ إِيَّاهُ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْإِفْطَارِ
وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الصَّوْمُ بِرًّا لَمْ يُخَيِّرْهُ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَفِي الْفَتْحِ أَنَّ الصَّوْمَ لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ مِنَ الْفِطْرِ وَالْفِطْرُ لِمَنْ شَقَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ أَوْ
ــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله
وَقَدْ اِحْتَجَّ بِهِ مَنْ يُوجِب الْفِطْر فِي السَّفَر
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْفِطْر كَانَ آخِر الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم
وَكَانُوا يَأْخُذُونَ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَث مِنْ أَمْر الرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ دِحْيَة بْن خَلِيفَة الْكَلْبِيّ أَنَّهُ لَمَّا سَافَرَ مِنْ قَرْيَته فِي رَمَضَان وَذَلِكَ ثَلَاثَة أَمْيَال أَفْطَرَ فَأَفْطَرَ مَعَهُ النَّاس وَكَرِهَ ذَلِكَ آخَرُونَ فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى قَرْيَته قَالَ وَاَللَّه لَقَدْ رَأَيْت أَمْرًا مَا كُنْت أَظُنّ
أَعْرَضَ عَنْ قَبُولِ الرُّخْصَةِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّوْمِ وإن لم يتحقق الْمَشَقَّةُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ
وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَطَالَ الْكَلَامَ فِيهِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَجُلٍ إِلَخْ) قَالَ فِي الْمِرْقَاةِ هُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ عَلَى مَا جَزَمَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَتِهِ وَجَرَى عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ أَخُوهُ قُشَيْرٌ فَهُوَ كَعْبِيٌّ لَا قُشَيْرِيٌّ خِلَافًا لِمَا وَقَعَ لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ لِأَنَّ كَعْبًا لَهُ ابْنَانِ عَبْدُ اللَّهِ جَدُّ أَنَسٍ هَذَا وَقُشَيْرٌ وَهُوَ أَخُو عَبْدِ اللَّهِ وَأَمَّا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ خَادِمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ أَنْصَارِيٌّ خَزْرَجِيٌّ انْتَهَى (اجْلِسْ أُحَدِّثْكَ عَنِ الصَّلَاةِ وَعَنِ الصِّيَامِ إِلَخْ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِيهِ أَشْيَاءُ ذَاتُ عَدَدٍ مَسُوقَةٌ فِي الذِّكْرِ مُفْتَرِقَةٌ فِي الْحُكْمِ وَذَلِكَ أَنَّ الشَّطْرَ الْمَوْضُوعَ مِنَ الصَّلَاةِ يَسْقُطُ لَا إِلَى قَضَاءٍ وَالصَّوْمُ يَسْقُطُ فِي السَّفَرِ تَرْخِيصًا لِلْمُسَافِرِ ثُمَّ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إِذَا أَقَامَ
وَالْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ يُفْطِرَانِ إِبْقَاءً عَلَى الْوَلَدِ ثُمَّ يَقْضِيَانِ وَيُطْعِمَانِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ إِفْطَارَهُمَا كَانَ مِنْ أَجْلِ غَيْرِ أَنْفُسِهِمَا
وَمِمَّنْ أَوْجَبَ عَلَى الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ مَعَ الْقَضَاءِ الْإِطْعَامَ مُجَاهِدٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
وَقَالَ مَالِكٌ الْحُبْلَى تَقْضِي وَلَا تُكَفِّرُ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ وَالْمُرْضِعُ تَقْضِي وَتُكَفِّرُ
وَقَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ يَقْضِيَانِ
ــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
أَنِّي أَرَاهُ إِنَّ قَوْمًا رَغِبُوا عَنْ هَدْي رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابه يَقُول ذَلِكَ لِلَّذِينَ صَامُوا
ثُمَّ قَالَ عِنْد ذَلِكَ اللَّهُمَّ اِقْبِضْنِي إِلَيْك
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْره
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَبُولِ رُخْصَة الْفِطْر
فَرَوَى النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيث جَابِرٍ يَرْفَعُهُ لَيْسَ مِنْ الْبِرّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَر وَعَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّه الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ فَاقْبَلُوهَا
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الَّذِينَ صَامُوا أُولَئِكَ الْعُصَاة رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي قِصَّة فِطْره عَام الْفَتْح
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَر
رَوَاهُ النَّسَائِيّ
وَلَا يَصِحُّ رَفْعُهُ وَإِنَّمَا هُوَ مَوْقُوفٌ
وَلَا يُطْعِمَانِ كَالْمَرِيضِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ (وَضَعَ شَطْرَ الصَّلَاةِ) أَيْ رَفَعَ نِصْفَ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ ابْتِدَاءً عَنِ الْمُسَافِرِ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ (أَوْ نِصْفَ الصَّلَاةِ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (وَالصَّوْمَ) بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى شَطْرِ الصَّلَاةِ (فَتَلَهَّفَتْ نَفْسِي) أَيْ تَأَسَّفَتْ (أَنْ لَا أَكُونَ أَكَلْتُ) أَيْ عَلَى تَرْكِ أَكْلِي مِنْ طَعَامِهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَلَا نَعْرِفُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ هَذَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَأَنَسٌ هَذَا كُنْيَتُهُ أَبُو أُمَيَّةَ
وَفِي الرِّوَايَةِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ خَمْسَةٌ اثْنَانِ صَحَابِيَّانِ هَذَا وَأَبُو حَمْزَةَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ خَادِمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَالِدُ الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رُوِيَ عَنْهُ حَدِيثٌ فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ وَالرَّابِعُ شَيْخٌ حِمْصِيٌّ حَدَّثَ وَالْخَامِسُ كُوفِيٌّ حَدَّثَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَالْأَعْمَشِ وَغَيْرِهِمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
ــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى إِنَّمَا أَمَرَ الْمُسَافِر بِالْعِدَّةِ مِنْ أَيَّام أُخَرَ فَهِيَ فَرْضه الَّذِي أُمِرَ بِهِ فَلَا يَجُوزُ غَيْرُهُ
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ غَيْر وَاحِد مِنْ الصَّحَابَة
وَأَجَابَ الْأَكْثَرُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيم الصَّوْم فِي السَّفَر عَلَى الْإِطْلَاق وَقَدْ أَخْبَرَ أَبُو سَعِيد أَنَّهُ صَامَ مَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بَعْد الْفَتْح فِي السَّفَر
قَالُوا وَأَمَّا قَوْله لَيْسَ مِنْ الْبِرّ الصِّيَام فِي السَّفَر فَهَذَا خَرَجَ عَلَى شَخْص مُعَيَّنٍ رَآهُ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ وَجَهِده الصَّوْم فَقَالَ هَذَا الْقَوْل أَيْ لَيْسَ الْبِرّ أَنْ يُجْهِد الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ حَتَّى يَبْلُغ بِهَا هَذَا الْمَبْلَغ وَقَدْ فَسَّحَ اللَّه لَهُ فِي الْفِطْر
فَالْأَخْذ إِنَّمَا يَكُون بِعُمُومِ اللَّفْظ الَّذِي يَدُلّ سِيَاق الْكَلَام عَلَى إِرَادَته فَلَيْسَ مِنْ الْبِرّ هَذَا النَّوْع مِنْ الصِّيَام الْمُشَار إِلَيْهِ فِي السَّفَر
وَأَيْضًا فَقَوْله لَيْسَ مِنْ الْبِرّ أَيْ لَيْسَ هُوَ أَبَرّ الْبِرّ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُون الْإِفْطَار أَبَرّ مِنْهُ إِذَا كَانَ فِي حَجٍّ أَوْ جِهَادٍ يَتَقَوَّى عَلَيْهِ
وَقَدْ يَكُون الْفِطْر فِي السَّفَر الْمُبَاح بِرًّا لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَبَاحَهُ وَرَخَّصَ فِيهِ وَهُوَ سُبْحَانه يُحِبّ أَنْ يُؤْخَذ بِرُخَصِهِ وَمَا يُحِبّهُ اللَّه فَهُوَ بِرّ فَلَمْ يَنْحَصِر الْبِرّ فِي الصِّيَام فِي السَّفَر
وَتَكُون مِنْ عَلَى هَذَا زَائِدَةٌ وَيَكُون كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهكُمْ}
الْآيَة وَكَقَوْلِك مَا جَاءَنِي مِنْ أَحَد وَفِي هَذَا نَظَرٌ
وَأَحْسَن مِنْهُ أَنْ يُقَال إِنَّهَا لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ بَلْ هِيَ عَلَى حَالهَا
وَالْمَعْنَى أَنَّ الصَّوْم فِي السَّفَر لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الَّذِي تَظُنُّونَهُ وَتَتَنَافَسُونَ عَلَيْهِ
فَإِنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ الصوم هو
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
الَّذِي يُحِبّهُ اللَّه وَلَا يُحِبُّ سِوَاهُ وَأَنَّهُ وَحْدَهُ الْبِرّ الَّذِي لَا أَبَرّ مِنْهُ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الصَّوْم فِي السَّفَر لَيْسَ مِنْ هَذَا النَّوْع الَّذِي تَظُنُّونَهُ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُون الْفِطْر أَحَبُّ إِلَى اللَّه مِنْهُ فَيَكُون هُوَ الْبِرّ
قَالُوا وَأَمَّا كَوْنُ الْفِطْر كَانَ آخِر الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم فَالْمُرَاد بِهِ وَاقِعَةٌ مُعَيَّنَةٌ وَهِيَ غَزَاة الْفَتْح فَإِنَّهُ صَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيد ثُمَّ أَفْطَرَ فَكَانَ فِطْرُهُ آخِرَ أَمْرَيْهِ لَا أَنَّهُ حَرَّمَ الصَّوْم وَنَظِيرُ هَذَا قَوْل جَابِر كَانَ آخِر الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم تَرْك الْوُضُوء مِمَّا مَسَّتْهُ النَّار إِنَّمَا هُوَ فِي وَاقِعَة مُعَيَّنَة دُعِيَ لِطَعَامٍ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَقَامَ إِلَى الصَّلَاة ثُمَّ أَكَلَ مِنْهُ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأ فَكَانَ آخِر الْأَمْرَيْنِ مِنْهُ تَرْك الْوُضُوء مِمَّا مَسَّتْ النَّار
وَجَابِر هُوَ الَّذِي رَوَى هَذَا وَهَذَا فَاخْتَصَرَهُ بَعْض الرُّوَاة وَاقْتَصَرَ مِنْهُ عَلَى آخِره
وَلَمْ يَذْكُر جَابِر لَفْظًا عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إِنَّ هَذَا آخِر الْأَمْرَيْنِ مِنِّي وكذلك قصة الصيام وإنما حكوا ما شاهدوه أَنَّهُ فَعَلَ هَذَا وَهَذَا وَآخِرهمَا مِنْهُ الْفِطْر وَتَرْك الْوُضُوء وَإِعْطَاء الْأَدِلَّة حَقّهَا يُزِيل الِاشْتِبَاه وَالِاخْتِلَاف عَنْهَا
وَأَمَّا قِصَّة دِحْيَة بْن خَلِيفَة الْكَلْبِيّ فَإِنَّمَا أَنْكَرَ فِيهَا عَلَى مَنْ صَامَ رَغْبَة عَنْ سُنَّة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَظَنًّا أَنَّهُ لَا يَسُوغ الْفِطْر وَلَا رَيْب أَنَّ مِثْل هَذَا قَدْ اِرْتَكَبَ مُنْكَرًا وَهُوَ عَاصٍ بِصَوْمِهِ
وَاَلَّذِينَ أَمَرَهُمْ الصَّحَابَة بِالْقَضَاءِ وَأَخْبَرُوا أَنَّ صَوْمهمْ لَا يَجْزِيهِمْ هُمْ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُمْ صَامُوا صَوْمًا لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّه وَهُوَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ حَتْمٌ عَلَيْهِمْ كَالْمُقِيمِ
وَلَا ريب أن هذا حكم لم يشرعه الله وَهُوَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ حَتْمٌ عَلَيْهِمْ كَالْمُقِيمِ ولا ريب أن هذا حكم لم يشرعه اللَّه فَلَمْ يَمْتَثِلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الصَّوْم فَأَمَرَهُمْ الصَّحَابَة بِالْقَضَاءِ
هَذَا أَحْسَن مَا حُمِلَ عَلَيْهِ قَوْل مَنْ أَفْتَى بِذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَة وَعَلَيْهِ يُحْمَل قَوْل مَنْ قَالَ مِنْهُمْ الصَّائِم فِي السَّفَر كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَر وَهَذَا مِنْ كَمَالِ فِقْهِهِمْ وَدِقَّة نَظَرِهِمْ رضي الله عنهم
قَالُوا وَأَمَّا قَوْل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّه الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ فَاقْبَلُوهَا فَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ قَبُول الْمُكَلَّف لِرُخْصَةِ اللَّه وَاجِبٌ وَهَذَا حَقٌّ فَإِنَّهُ مَتَى لَمْ يَقْبَل الرُّخْصَة رَدَّهَا وَلَمْ يَرَهَا رُخْصَة وَهَذَا عُدْوَانٌ مِنْهُ وَمَعْصِيَةٌ وَلَكِنْ إِذَا قَبِلَهَا فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ بِهَا وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ بِالْعَزِيمَةِ
هَذَا مَعَ أَنَّ سِيَاق الْحَدِيث يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْأَمْر بِالرُّخْصَةِ لِمَنْ جَهِدَهُ الصَّوْم وَخَافَ عَلَى نَفْسه وَمِثْل هَذَا يُؤْمَر بِالْفِطْرِ
فَعَنْ جَابِر أَنَّ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِرَجُلٍ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ يُرَشّ عَلَيْهِ الْمَاء
قَالَ مَا بَال صَاحِبكُمْ هَذَا قَالُوا يَا رَسُول اللَّه صَائِم
قَالَ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْبِرّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَر وَعَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّه الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ فَاقْبَلُوهَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ
قَالُوا وَأَمَّا قَوْل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أُولَئِكَ الْعُصَاة فَذَاكَ فِي وَاقِعَة مُعَيَّنَة أَرَادَ مِنْهُمْ الْفِطْر فَخَالَفَهُ بَعْضهمْ فَقَالَ هَذَا
فَفِي النَّسَائِيّ عَنْ جَعْفَر بْن مُحَمَّد عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِر قَالَ خَرَجَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم إِلَى مَكَّة عَام الْفَتْح فِي رَمَضَان فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاع الْغَمِيم فَصَامَ النَّاس مَعَهُ فَبَلَغَهُ أَنَّ النَّاس شَقَّ عَلَيْهِمْ الصِّيَام فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاء بَعْد الْعَصْر فَشَرِبَ وَالنَّاس يَنْظُرُونَ فَأَفْطَرَ بَعْضُ النَّاس وَصَامَ بَعْض
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
فَبَلَغَهُ أَنَّ نَاسًا صَامُوا
فَقَالَ أُولَئِكَ الْعُصَاة فَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا أَفْطَرَ بَعْد الْعَصْر لِيَقْتَدُوا بِهِ فَلَمَّا لَمْ يَقْتَدِ بِهِ بَعْضهمْ قَالَ أُولَئِكَ الْعُصَاة وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ تَحْرِيم الصِّيَام مُطْلَقًا عَلَى الْمُسَافِر
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ
مَا رَوَى النَّسَائِيّ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ أُتِيَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِمَرِّ الظَّهْرَان فَقَالَ لِأَبِي بَكْر وَعُمَر ادْنِيَا فَكُلَا
فَقَالَا إِنَّا صَائِمَانِ
فَقَالَ اِرْحَلُوا لِصَاحِبِكُمْ اِعْمَلُوا لِصَاحِبِكُمْ وَأَعَلَّهُ بِالْإِرْسَالِ
وَمَرُّ الظَّهْرَان أَدْنَى إِلَى مَكَّة مِنْ كُرَاع الْغَمِيم فَإِنَّ كُرَاع الْغَمِيم بَيْن يَدِي عُسْفَان بِنَحْوِ ثَمَانِيَة أَمْيَال وَبَيْن مَكَّة وعسفان سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ مِيلًا
قَالُوا وَأَمَّا اِحْتِجَاجكُمْ بِالْآيَةِ وَأَنَّ اللَّه أَمَرَ الْمُسَافِر بِعِدَّةٍ مِنْ أَيَّام أُخَر فَهِيَ فَرْضه الَّذِي لَا يَجُوز غَيْره فَاسْتِدْلَالٌ بَاطِلٌ قَطْعًا
فَإِنَّ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَة وَهُوَ أَعْلَم الْخَلْق بِمَعْنَاهَا وَالْمُرَاد مِنْهَا قَدْ صَامَ بَعْد نُزُولهَا بِأَعْوَامٍ فِي السَّفَر وَمُحَال أَنْ يَكُون الْمُرَاد مِنْهَا مَا ذَكَرْتُمْ وَلَا يَعْتَقِدُهُ مُسْلِم فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَاد بِهَا غَيْر مَا ذَكَرْتُمْ
فَإِمَّا أَنْ يَكُون الْمَعْنَى فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّام أُخَر كَمَا قَالَ الْأَكْثَرُونَ أَوْ يَكُون الْمَعْنَى فَعِدَّة مِنْ أَيَّام أُخَر تُجْزِي عَنْهُ وَتُقْبَل مِنْهُ وَنَحْو ذَلِكَ
فَمَا الَّذِي أَوْجَبَ تَعْيِين التَّقْدِير بِأَنَّ عَلَيْهِ عِدَّة مِنْ أَيَّام أخر أو ففرضه ونحو ذلك وبالجملة فَفِعْلُ مَنْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ تَفْسِيرُهَا وَتَبْيِينُ الْمُرَاد مِنْهَا وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق
وَهَذَا مَوْضِع يَغْلَط فِيهِ كَثِير مِنْ قَاصِرِي الْعِلْم يَحْتَجُّونَ بِعُمُومِ نَصٍّ عَلَى حُكْمٍ وَيَغْفُلُونَ عَنْ عَمَل صَاحِب الشَّرِيعَة وَعَمَل أَصْحَابه الَّذِي يُبَيِّن مُرَاده وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا عَلِمَ بِهِ مُرَاد النُّصُوص وَفَهِمَ مَعَانِيهَا
وَكَانَ يَدُور بَيْنِي وَبَيْن الْمَكِّيِّينَ كَلَامٌ فِي الِاعْتِمَار مِنْ مَكَّة فِي رَمَضَان وَغَيْره
فَأَقُول لَهُمْ كَثْرَة الطَّوَاف أَفْضَل مِنْهَا فَيَذْكُرُونَ قَوْله صلى الله عليه وسلم عُمْرَةٌ فِي رَمَضَان تَعْدِل حَجَّة فَقُلْت لَهُمْ فِي أَثْنَاء ذَلِكَ مُحَال أَنْ يَكُون مُرَاد صَاحِب الشَّرْع الْعُمْرَة الَّتِي يُخْرَج إِلَيْهَا مِنْ مَكَّة إِلَى أَدْنَى الْحِلّ وَأَنَّهَا تَعْدِل حَجَّة ثُمَّ لَا يَفْعَلهَا هُوَ مُدَّة مَقَامه بِمَكَّة أَصْلًا لَا قَبْل الْفَتْح وَلَا بَعْده وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابه مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَحْرَص الْأُمَّة عَلَى الْخَيْر وَأَعْلَمهُمْ بِمُرَادِ الرَّسُول وَأَقْدِرهُمْ عَلَى الْعَمَل بِهِ
ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَرْغَبُونَ عَنْ هَذَا الْعَمَل الْيَسِير وَالْأَجْر الْعَظِيم يَقْدِر أَنْ يَحُجَّ أَحَدهمْ فِي رَمَضَان ثَلَاثِينَ حَجَّة أَوْ أَكْثَر ثُمَّ لَا يَأْتِي مِنْهَا بِحَجَّةٍ وَاحِدَةٍ وَتَخْتَصُّونَ أَنْتُمْ عَنْهُمْ بِهَذَا الْفَضْل وَالثَّوَاب حَتَّى يَحْصُل لِأَحَدِكُمْ سِتُّونَ حَجَّة أَوْ أَكْثَر هَذَا مَا لَا يَظُنُّهُ مَنْ لَهُ مَسْكَة عَقْلٍ
وَإِنَّمَا خَرَجَ كَلَامُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْعُمْرَة الْمُعْتَادَة الَّتِي فَعَلَهَا هو وأصحابه وهي التي أنشأوا السَّفَر لَهَا مِنْ أَوْطَانِهِمْ وَبِهَا أَمَرَ أُمّ مَعْقِل وَقَالَ لَهَا عُمْرَة فِي رَمَضَان تَعْدِل حَجَّة وَلَمْ يَقُلْ لِأَهْلِ مَكَّة اُخْرُجُوا إِلَى أَدْنَى الْحِلّ فَأَكْثِرُوا مِنْ الِاعْتِمَار فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَان تَعْدِل حَجَّة
وَلَا فَهِمَ هَذَا أَحَد مِنْهُمْ
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق