الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثامن
8 -
عن حمران مولى عثمان بن عفّان رضي الله عنه ، أنّه رأى عثمان دعا بوضوءٍ ، فأفْرغَ على يديه من إنائه ، فغسلهما ثلاث مرّاتٍ، ثمّ أدخل يمينه في الوَضوء ، ثمّ تمضمض واستنشق واستنثر، ثمّ غسل وجهه ثلاثاً ، ويديه إلى المرفقين ثلاثاً ، ثمّ مسح برأسه ، ثمّ غسل كلتا رجليه ثلاثاً.
ثمّ قال: رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يتوضّأ نحو وضوئي هذا، وقال: من توضّأ نحو وضوئي هذا ، ثمّ صلَّى ركعتين ، لا يُحدِّث فيهما نفسه. غُفر له ما تقدّم من ذنبه. (1)
قوله: (حُمران) بضم المهمله بن أبان.
قوله: (عثمان بن عفان) بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف. وعدد ما بينهما من الآباء متفاوت، فالنبي صلى الله عليه وسلم من حيث العدد في درجة عفان كما وقع لعمر سواء.
وأما كنيته فهو الذي استقر عليه الأمر، وقد نقل يعقوب بن سفيان عن الزهري ، أنه كان يكنى أبا عبد الله بابنه عبد الله الذي رُزقه من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومات عبد الله المذكور صغيراً. وله ست سنين.
(1) أخرجه البخاري (159، 162، 1832، 6069) ومسلم (226) من طرق عن الزهري عن عطاء بن يزيد عن حمران مولى عثمان عن عثمان به.
وحكى ابن سعد ، أنَّ موته كان سنة أربع من الهجرة، وماتت أمه رقية قبل ذلك سنة اثنتين. والنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، وكان بعض من ينتقصه يكنيه أبا ليلى يشير إلى لين جانبه، حكاه ابن قتيبة.
وقد اشتهر أنَّ لقبه ذو النورين. وروى خيثمة في " الفضائل " والدارقطني في " الأفراد " من حديث علي ، أنه ذكر عثمانَ ، فقال: ذاك امرؤ يُدعى في السماء ذا النورين. قُتل عثمان رضي الله عنه في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين.
قوله: (دعا بوَضوءٍ) وهو بفتح الواو اسم للماء المعدّ للوضوء. وبالضّمّ الذي هو الفعل، وفي رواية لهما " دعا بإناء " وفيه الاستعانة على إحضار ما يتوضّأ به.
قوله: (فأفرغ) أي: صبّ.
قوله: (على كفّيه ثلاث مرات) فيه غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء ، ولو لَم يكن عقب نوم احتياطاً.
قوله: (ثمّ أدخل يمينه) فيه الاغتراف باليمين. واستدل به بعضهم على عدم اشتراط نيّة الاغتراف، ولا دلالة فيه نفياً ولا إثباتاً.
قوله: (فمضمض) أصل المضمضة في اللّغة التّحريك ، ومنه مضمض النّعاس في عينيه إذا تحرّكتا بالنّعاس ، ثمّ اشتهر استعماله في وضع الماء في الفم وتحريكه.
وأمّا معناه في الوضوء الشّرعيّ ، فأكمله أن يضع الماء في الفم ثمّ يديره ثمّ يمجّه ، والمشهور عن الشّافعيّة ، أنّه لا يُشترط تحريكه ولا
مجّه ، وهو عجيبٌ ، ولعلّ المراد أنّه لا يتعيّن المجّ ، بل لو ابتلعه أو تركه حتّى يسيل اجزأ
قوله: (واستنثر) ولمسلم " واستنشق " بدل " واستنثر "، والأوّل أعمّ، وثبتت الثّلاثة في رواية البخاري.
ولَم أر في شيء من طرق هذا الحديث تقييد ذلك بعددٍ.
نعم: ذكره ابن المنذر من طريق يونس عن الزّهريّ عن عطاء بن يزيد عن حمران ، وكذا ذكره أبو داود من وجهين آخرين عن عثمان ، واتّفقت الرّوايات على تقديم المضمضة.
قوله: (ثمّ غسل وجهه) فيه تأخيره عن المضمضة والاستنشاق، وقد ذكروا أنّ حكمة ذلك اعتبار أوصاف الماء؛ لأنّ اللون يدرك بالبصر ، والطّعم يدرك بالفم ، والرّيح يدرك بالأنف. فقدّمت المضمضة والاستنشاق - وهما مسنونان - قبل الوجه وهو مفروض، احتياطاً للعبادة. وتقدم ذكر حكمة الاستنثار. (1)
قوله: (ويديه إلى المرفقين) أي: كلّ واحدة كما بيّنه البخاري في رواية معمر عن الزّهريّ، وكذا لمسلمٍ من طريق يونس ، وفيها تقديم اليمنى على اليسرى ، والتّعبير في كلٍّ منهما بثمّ ، وكذا القول في الرّجلين أيضاً.
قوله: (ثمّ غسل كلتا رجليه ثلاثاً) وللبخاري " كلّ رجل "
(1) في حديث أبي هريرة المتقدّم رقم (4)
وللمستملي والحموي كل رجله ، وهي تفيد تعميم كل رجل بالغسل. وفي نسخة " رجليه " بالتثنية وهي بمعنى الأولى
قوله: (ثمّ مسح برأسه) هو بحذف الباء في الرّوايتين المذكورتين، وليس في شيء من طرقه في الصّحيحين ذكر عدد المسح، وبه قال أكثر العلماء.
وقال الشّافعيّ: يستحبّ التّثليث في المسح كما في الغسل.
واستدل له بظاهر رواية لمسلمٍ ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم توضّأ ثلاثاً ثلاثاً.
وأجيب: بأنّه مجمل تبيّن في الرّوايات الصّحيحة أنّ المسح لَم يتكرّر ، فيحمل على الغالب ، أو يختصّ بالمغسول.
قال أبو داود في " السّنن ": أحاديث عثمان الصّحاح كلّها تدلّ على أنّ مسح الرّأس مرّة واحدة.
وكذا قال ابن المنذر: إنّ الثّابت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في المسح مرّة واحدة، وبأنّ المسح مبنيّ على التّخفيف فلا يقاس على الغسل المراد منه المبالغة في الإسباغ، وبأنّ العدد لو اعتبر في المسح لصار في صورة الغسل، إذ حقيقة الغسل جريان الماء، والدّلك ليس بمشترطٍ على الصّحيح عند أكثر العلماء.
وبالغ أبو عبيد فقال: لا نعلم أحداً من السّلف استحبّ تثليث مسح الرّأس إلَاّ إبراهيم التّيميّ.
وفيما قال نظرٌ، فقد نقله ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أنس وعطاء وغيرهما، وقد روى أبو داود من وجهين صحّح أحدَهما ابنُ خزيمة
وغيره في حديث عثمان تثليث مسح الرّأس، والزّيادة من الثّقة مقبولة. فيُحمل قول أبي داود على إرادة استثناء الطّريقين اللذين ذكرهما، فكأنّه قال: إلَاّ هذين الطّريقين.
قال ابن السّمعانيّ في " الاصطلام ": اختلاف الرّواية يحمل على التّعدّد، فيكون مسح تارة مرّة وتارة ثلاثاً، فليس في رواية " مسح مرّة " حجّة على منع التّعدّد. ويحتجّ للتّعدّد بالقياس على المغسول لأنّ الوضوء طهارة حكميّة، ولا فرق في الطّهارة الحكميّة بين الغسل والمسح.
وأجيب: بما تقدّم من أنّ المسح مبنيّ على التّخفيف بخلاف الغسل، ولو شرع التّكرار لصارت صورته صورة المغسول. وقد اتّفق على كراهة غسل الرّأس بدل المسح وإن كان مجزئاً.
وأجاب: بأنّ الخفّة تقتضي عدم الاستيعاب ، وهو مشروع بالاتّفاق فليكن العدد كذلك، وجوابه واضح.
ومن أقوى الأدلة على عدم العدد. الحديث المشهور الذي صحَّحه ابن خزيمة وغيره من طريق عبد الله بن عمرو بن العاص. في صفة الوضوء حيث قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أن فرغ: من زاد على هذا فقد أساء وظلم. فإنّ في رواية سعيد بن منصور فيه التّصريح بأنّه " مسح رأسه مرّة واحدة " فدلَّ على أنّ الزّيادة في مسح الرّأس على المرّة غير مستحبّة.
ويُحمل ما ورد من الأحاديث في تثليث المسح - إن صحّت - على
إرادة الاستيعاب بالمسح، لا أنّها مسحات مستقلة لجميع الرّأس. جمعاً بين هذه الأدلة.
فائدة: قال البخاري: وبيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ فرض الوضوء مرة مرة، وتوضأ أيضاً مرتين وثلاثاً، ولَم يزد على ثلاث، وكره أهل العلم الإسراف فيه، وأن يجاوزوا فعل النبي صلى الله عليه وسلم " انتهى.
أي: لَم يأت في شيء من الأحاديث المرفوعة في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم أنه زاد على ثلاث ، بل ورد عنه صلى الله عليه وسلم ذم من زاد عليها ، وذلك فيما رواه أبو داود وغيره من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثلاثاً ، ثم قال: من زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم. إسناده جيد.
لكن عدَّه مسلمٌ في جملة ما أُنكر على عمرو بن شعيب ، لأنَّ ظاهره ذم النقص من الثلاث.
وأجيب: بأنه أمر سيئ ، والإساءة تتعلق بالنقص والظلم بالزيادة.
وقيل: فيه حذف تقديره من نَقَصَ من واحدة. ويؤيده ما رواه نعيم بن حماد من طريق المطلب بن حنطب مرفوعاً: الوضوء مرة ومرتين وثلاثاً فإن نقص من واحدة ، أو زاد على ثلاث فقد أخطأ. وهو مرسلٌ رجاله ثقات.
وأجيب عن الحديث أيضاً: بأن الرُّواة لَم يتفقوا على ذكر النقص فيه ، بل أكثرهم مُقتصِرٌ على قوله " فمن زاد " فقط. كذا رواه ابن خزيمة في " صحيحه " وغيره.
ومن الغرائب ما حكاه الشيخ أبو حامد الإسفرائيني عن بعض العلماء: أنه لا يجوز النقص من الثلاث ، وكأنه تمسَّك بظاهر الحديث المذكور ، وهو محجوج بالإجماع.
وأما قول مالك في المدونة: لا أحب الواحدة إلَاّ من العالِم. فليس فيه إيجاب زيادة عليها. والله أعلم.
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال: ليس بعد الثلاث شيء.
وقال أحمد وإسحاق وغيرهما: لا تجوز الزيادة على الثلاث.
وقال ابن المبارك: لا آمن أن يأثم.
وقال الشافعي: لا أحب أن يزيد المتوضئ على ثلاث. فإن زاد لَم أكرهه ، أي: لَم أحرِّمه ، لأن قوله " لا أحب " يقتضي الكراهة ، وهذا الأصح عند الشافعية أنه مكروهٌ كراهةَ تنزيهٍ.
وحكى الدارمي منهم عن قومٍ: أنَّ الزيادة على الثلاث تبطل الوضوء كالزيادة في الصلاة ، وهو قياس فاسد ، ويلزم من القول بتحريم الزيادة على الثلاث أو كراهتها أنه لا يندب تجديد الوضوء على الإطلاق.
قوله: (نحو وضوئي هذا) قال النّوويّ: إنّما لَم يقل " مثل " لأنّ حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره.
قلت: لكن ثبت التّعبير بها في رواية البخاري من طريق معاذ بن عبد الرّحمن عن حمران عن عثمان ولفظه " من توضّأ مثل هذا الوضوء " وله من رواية معمر " من توضّأ وضوئي هذا ".
ولمسلمٍ من طريق زيد بن أسلم عن حمران " توضّأ مثل وضوئي هذا ". وعلى هذا فالتّعبير بنحوٍ من تصرّف الرّواة ، لأنّها تطلق على المثليّة مجازاً، لأنّ " مثل " وإن كانت تقتضي المساواة ظاهراً ، لكنّها تطلق على الغالب، فبهذا تلتئم الرّوايتان ، ويكون المتروك بحيث لا يخلّ بالمقصود. والله تعالى أعلم.
قوله: (ثمّ صلَّى ركعتين) فيه استحباب صلاة ركعتين عقب الوضوء ، وللبخاري " ثمّ أتى المسجد فركع ركعتين ثمّ جلس ". هكذا أطلق صلاة ركعتين ، وقيّده مسلمٌ في روايته من طريق نافع بن جبيرٍ عن حمران بلفظ " ثمّ مشى إلى الصّلاة المكتوبة ، فصلَاّها مع النّاس أو في المسجد ". وكذا وقع في رواية هشام بن عروة عن أبيه عن حمران عنده " فيُصلِّي صلاةً ".
وفي أخرى له عنه " فيُصلِّي الصّلاة المكتوبة " وزاد " إلَاّ غفر الله له ما بينها وبين الصّلاة التي تليها " أي: التي سبقتها.
وفيه تقييدٌ لِمَا أطلق في قوله في الرّواية الأخرى " غفر الله له ما تقدّم من ذنبه " وأنّ التّقدّم خاصٌّ بالزّمان الذي بين الصّلاتين.
وأصرح منه في رواية أبي صخرة عن حمران عند مسلمٍ أيضاً: ما من مسلمٍ يتطهّر فيتمّ الطّهور الذي كُتب عليه فيُصلِّي هذه الصّلوات الخمس إلَاّ كانت كفّارةً لِمَا بينهنّ. وللبخاري من طريق عروة عن حمران " إلَاّ غفر له ما بينه وبين الصّلاة حتّى يُصلِّيها ".
ولمسلم من طريق عمرو بن سعيد بن العاص عن عثمان بنحوه ،
وفيه تقييده بمن لَم يغشَ الكبيرة.
والحاصل أنّ لِحمران عن عثمان حديثين في هذا.
أحدهما: مقيّدٌ بترك حديث النّفس ، وذلك في صلاة ركعتين مطلقاً غير مقيّدٍ بالمكتوبة.
والآخر: في الصّلاة المكتوبة في الجماعة ، أو في المسجد ، من غير تقييدٍ بترك حديث النّفس.
قوله: (لا يُحدِّث فيهما نفسه) المراد به ما تسترسل النّفس معه ويمكن المرء قطعه؛ لأنّ قوله " يحدّث " يقتضي تكسّباً منه، فأمّا ما يهجم من الخطرات والوساوس ويتعذّر دفعه فذلك معفوّ عنه.
ونقل القاضي عياض (1) عن بعضهم ، أنّ المراد من لَم يحصل له حديث النّفس أصلاً ورأساً. ويشهد له ما أخرجه ابن المبارك في " الزّهد " بلفظ " لَم يسه فيهما ".
وردّه النّوويّ ، فقال: الصّواب حصول هذه الفضيلة مع طريان الخواطر العارضة غير المستقرّة. نعم. من اتّفق أن يحصل له عدم حديث النّفس أصلاً أعلى درجة بلا ريب. ثمّ إنّ تلك الخواطر.
منها: ما يتعلق بالدّنيا. والمراد دفعه مطلقاً.
(1) عياض بن موسى بن عياض بن عمرون اليحصبي السبتي، أبو الفضل: عالم المغرب وإمام أهل الحديث في وقته. كان من أعلم الناس بكلام العرب وأنسابهم وأيامهم. ولي قضاء سبتة، ومولده فيها سنة 476 هـ، ثم قضاء غرناطة. وتوفي بمراكش سنة مسموماً سنة 544 هـ، قيل: سَمَّه يهودي. الأعلام للزركلي (5/ 99).
ووقع في رواية للحكيم التّرمذيّ في هذا الحديث " لا يحدّث نفسه بشيءٍ من الدّنيا ". وهي في " الزّهد " لابن المبارك أيضاً. و " المصنّف " لابن أبي شيبة.
ومنها: ما يتعلق بالآخرة. فإن كان أجنبيّاً أشبه أحوال الدّنيا، وإن كان من متعلقات تلك الصّلاة فلا.
وقال بعضهم: يحتمل أن يكون المراد بذلك الإخلاص ، أو ترك العجب بأن لا يرى لنفسه مزية خشية أن يتغير فيتكبر فيهلك.
قوله: (غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه) ظاهره يعمّ الكبائر والصّغائر. وبه جزم ابن المنذر؛ لكنّ العلماء خصّوه بالصّغائر. لوروده مقيّداً باستثناء الكبائر في غير هذه الرّواية. (1)
(1) روى مسلم في الصحيح (572) من حديث أبي هريرة مرفوعاً: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفِّرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر.
فعلى هذا المقيد يُحمل ما أطلق في غيره. قاله الحافظ في " الفتح ". ثم قال:
فائدة: قال ابن بزيزة في " شرح الأحكام ": يتوجه على حديث أبي هريرة إشكالٌ يصعب التخلص منه، وذلك أن الصغائر بنص القرآن مكفِّرة باجتناب الكبائر، وإذا كان كذلك فما الذي تكفره الصلوات الخمس؟ انتهى.
وقد أجاب عنه شيخنا الإمام البلقيني: بأن السؤال غير وارد؛ لأن مراد الله (إن تجتنبوا) أي: في جميع العمر. ومعناه الموافاة على هذه الحالة من وقت الإيمان أو التكليف إلى الموت، والذي في الحديث أن الصلوات الخمس تكفر ما بينها - أي في يومها - إذا اجتنبت الكبائر في ذلك اليوم، فعلى هذا لا تعارض بين الآية والحديث، انتهى.
وعلى تقدير ورود السؤال فالتخلص منه بحمد الله سهل، وذلك أنه لا يتم اجتناب الكبائر إلا بفعل الصلوات الخمس، فمَن لَم يفعلها لَم يعد مجتنباً للكبائر؛ لأن تركها من الكبائر فوقف
التكفير على فعلها، والله أعلم.
وقد فصَّل شيخنا الإمام البلقيني أحوال الإنسان بالنسبة إلى ما يصدر منه من صغيرة وكبيرة، فقال: تنحصر في خمسة.
أحدها: أن لا يصدر منه شيء البتة، فهذا يعاوض برفع الدرجات.
ثانيها: يأتي بصغائر بلا إصرار، فهذا تكفّر عنه جزماً.
ثالثها: مثله ، لكن مع الإصرار فلا تكفر إذا قلنا إن الإصرار على الصغائر كبيرة.
رابعها: أن يأتي بكبيرة واحدة وصغائر.
خامسها: أن يأتي بكبائر وصغائر.
وهذا فيه نظرٌ. يحتمل: إذا لَم يجتنب الكبائر أن لا تكفر الكبائر بل تكفر الصغائر.
ويحتمل: أن لا تكفر شيئا أصلا.
والثاني أرجح؛ لأن مفهوم المخالفة إذا لَم تتعين جهته لا يعمل به. فهنا لا تكفّر شيئاً إما لاختلاط الكبائر والصغائر ، أو لتمحض الكبائر أو تكفر الصغائر، فلم تتعين جهة مفهوم المخالفة لدورانه بين الفصلين فلا يُعمل به.
ويؤيده أن مقتضى تجنب الكبائر أن هناك كبائر، ومقتضى " ما اجتنبت الكبائر " أن لا كبائر فيُصان الحديث عنه. انتهى كلامه رحمه الله.
قال النووي: المعروف أنه يختص بالصغائر، وبه جزم إمام الحرمين. وعزاه عياض لأهل السنة.
وهو في حقّ من له كبائر وصغائر، فمن ليس له إلَاّ صغائر كفّرت عنه، ومن ليس له إلَاّ كبائر خفّف عنه منها بمقدار ما لصاحب الصّغائر، ومن ليس له صغائر ولا كبائر يزداد في حسناته بنظير ذلك.
وفي الحديث التّعليم بالفعل لكونه أبلغ وأضبط للمتعلم، والتّرتيب في أعضاء الوضوء للإتيان في جميعها بثمّ، والتّرغيب في الإخلاص، وتحذير من لها في صلاته بالتّفكير في أمور الدّنيا من عدم
القبول، ولا سيّما إن كان في العزم على عمل معصية فإنّه يحضر المرء في حال صلاته ما هو مشغوف به أكثر من خارجها.
ووقع في رواية البخاري في آخر هذا الحديث: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: لا تغترّوا. أي: فتستكثروا من الأعمال السّيّئة بناء على أنّ الصّلاة تكفّرها، فإنّ الصّلاة التي تكفّر بها الخطايا هي التي يقبلها الله، وأنّى للعبد بالاطّلاع على ذلك.
وظهر لي جوابٌ آخر ، وهو أنّ المكفّر بالصّلاة هي الصّغائر ، فلا تغترّوا فتعملوا الكبيرة بناءً على تكفير الذّنوب بالصّلاة فإنّه خاصٌّ بالصّغائر ، أو لا تستكثروا من الصّغائر فإنّها بالإصرار تعطى حكم الكبيرة فلا يكفّرها ما يكفّر الصّغيرة ، أو أنّ ذلك خاصٌّ بأهل الطّاعة فلا يناله من هو مرتبكٌ في المعصية. والله أعلم