الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع عشر
14 -
عن أبي أيّوب الأنصاريّ رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أتيتم الغائط ، فلا تستقبلوا القبلةَ بغائطٍ ولا بولٍ ، ولا تستدْبِروها ، ولكن شرّقوا أو غرّبوا.
قال أبو أيّوب: فقدمنا الشّام ، فوجدنا مراحيض قد بُنِيتْ نحو الكعبة ، فننحرف عنها ، ونستغفر الله عز وجل. (1)
الحديث الخامس عشر
15 -
عن عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه ، قال: رَقِيتُ يوماً على بيت حفصة ، فرأيتُ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبلَ الشّام ، مستدبرَ الكعبة. وفي روايةٍ: مستقبلاً بيت المقدس. (2)
قوله: (عن أبي أيوب)(3) هو خالد بن زيد بن كليب من بني النجار. وبنو النجار من الخزرج بن حارثة.
(1) أخرجه البخاري (144 ، 386) ومسلم (264) من طريق الزهري عن عطاء بن يزيد عن أبي أيوب رضي الله عنه به.
(2)
أخرجه البخاري (145 ، 147 ، 148 ، 2935) ومسلم (266) من طريق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن ابن عمر.
(3)
شهد العقبة وبدراً وما بعدها، ونزل عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا قدم المدينة، فأقام عنده حتى بنى بيوته ومسجده، وآخى بينه وبين مصعب بن عمير.
وشهد الفتوح، وداوم الغزو، واستخلفه عليّ على المدينة لَما خرج إلى العراق، ثم لحق به بعد، وشهد معه قتال الخوارج، قال ذلك الحكم بن عيينة. توفي في غزاة القسطنطينية سنة 50. وقيل: 51، وقيل 52 وهو أكثر. قاله في الإصابة.
ويقال: إنَّ تُبَّعاً لَمَّا غزا الحجاز واجتاز يثرب خرج إليه أربعمائة حبرٍ فأخبروه بما يجب من تعظيم البيت ، وأن نبياً سيبعث يكون مسكنه يثرب فأكرمهم وعظَّم البيت بأن كساه. وهو أول من كساه ، وكتب كتاباً وسلَّمه لرجل من أولئك الأحبار ، وأوصاه أن يسلمه للنبي صلى الله عليه وسلم إن أدركه.
فيقال: إنَّ أبا أيوب من ذرية ذلك الرجل. حكاه ابن هشام في التيجان ، وأورده ابن عساكر في ترجمة تُبَّع.
قوله: (إذا أتيتم الغائط) هُو المكان المطمئنُّ من الأرض الذي كانوا يقصدونه لقضاء الحاجة.
قوله: (فلا تستقبلوا القبلة بغائطٍ ولا بولٍ) بوّب عليه البخاري " باب لا تستقبل القبلة بغائط ولا بول إلَاّ عند البناء جدار أو نحوه " أي: كالأحجار الكبار والسّواري والخشب وغيرها من السّواتر.
قال الإسماعيليّ: ليس في حديث الباب دلالة على الاستثناء المذكور.
وأجيب بثلاثة أجوبة:
أحدها: أنّه تمسّك بحقيقة الغائط لأنّه المكان المطمئن من الأرض في الفضاء، وهذه حقيقته اللّغويّة، وإن كان قد صار يطلق على كلّ مكان أعدّ لذلك مجازاً فيختصّ النّهي به، إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة، وهذا الجواب للإسماعيليّ. وهو أقواها.
ثانيها: أنّ استقبال القبلة إنّما يتحقّق في الفضاء، وأمّا الجدار
والأبنية فإنّها إذا استقبلت أضيف إليها الاستقبال عرفاً. قاله ابن المنير.
ويتقوّى. بأنّ الأمكنة المعدّة ليست صالحة لأنْ يُصلَّى فيها ، فلا يكون فيها قبلة بحالٍ.
وتعقّب: بأنّه يلزم منه أن لا تصحّ صلاة من بينه وبين الكعبة مكان لا يصلح للصّلاة، وهو باطل.
ثالثها: الاستثناء مستفاد من حديث ابن عمر الذي بعده؛ لأنّ حديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم كلّه كأنّه شيء واحد. قاله ابن بطّال.
وارتضاه ابن التّين (1) وغيره، لكنّ مقتضاه أن لا يبقى لتفصيل التّراجم معنىً.
فإن قيل ، لِمَ حملتم الغائط على حقيقته ، ولَم تحملوه على ما هو أعمّ من ذلك ليتناول الفضاء والبنيان ، لا سيّما والصّحابيّ راوي الحديث قد حمله على العموم فيهما ، لأنّه قال: فقدمنا الشّام فوجدنا مراحيض بنيت قبل القبلة فننحرف ونستغفر؟.
فالجواب: أنّ أبا أيّوب أعمل لفظ الغائط في حقيقته ومجازه وهو المعتمد، وكأنّه لَم يبلغه حديث التّخصيص، ولولا أنّ حديث ابن
(1) عبد الواحد بن التين أبو محمد الصفاقسي المغربي المالكي المحدث المفسر الفقيه توفي: 611 هـ. له شرح على صحيح البخاري باسم " المخبر الفصيح في شرح البخاري الصحيح ". شجرة النور الزكية (1/ 168)، تراجم المؤلفين التونسيين (1/ 276). نقلاً عن محقِّق قوت المغتذي.
عمر دلَّ على تخصيص ذلك بالأبنية لقلنا بالتّعميم؛ لكنّ العمل بالدّليلين أولى من إلغاء أحدهما.
وقد جاء عن جابر فيما رواه أحمد وأبو داود وابن خزيمة وغيرهم تأييد ذلك، ولفظه عند أحمد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نستدبر القبلة أو نستقبلها بفروجنا إذا هرقنا الماء. قال: ثمّ رأيته قبل موته بعامٍ يبول مستقبل القبلة.
والحقّ أنّه ليس بناسخٍ لحديث النّهي. خلافاً لمن زعمه، بل هو محمول على أنّه رآه في بناء أو نحوه؛ لأنّ ذلك هو المعهود من حاله صلى الله عليه وسلم لمبالغته في التّستّر.
ورؤية ابن عمر له. كانت عن غير قصد كما سيأتي ، فكذا رواية جابر.
ودعوى خصوصيّة ذلك بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم لا دليل عليها. إذ الخصائص لا تثبت بالاحتمال.
ودلَّ حديث ابن عمر الآتي على جواز استدبار القبلة في الأبنية، وحديث جابر على جواز استقبالها، ولولا ذلك لكان حديث أبي أيّوب لا يُخصّ من عمومه بحديث ابن عمر إلَاّ جواز الاستدبار فقط، ولا يقال: يلحق به الاستقبال قياساً؛ لأنّه لا يصحّ إلحاقه به لكونه فوقه.
وقد تمسّك به قومٌ ، فقالوا: بجواز الاستدبار دون الاستقبال ، حكي عن أبي حنيفة وأحمد.
القول الثاني: التّفريق بين البنيان والصّحراء مطلقاً. قاله الجمهور: وهو مذهب مالك والشّافعيّ وإسحاق.
وهو أعدل الأقوال لإعماله جميع الأدلة. ويؤيّده من جهة النّظر ما تقدّم عن ابن المنير أنّ الاستقبال في البنيان مضاف إلى الجدار عرفاً، وبأنّ الأمكنة المعدّة لذلك مأوى الشّياطين فليست صالحة لكونها قبلة، بخلاف الصّحراء فيهما.
القول الثالث: قال قوم بالتّحريم مطلقاً: وهو المشهور عن أبي حنيفة وأحمد، وقال به أبو ثور صاحب الشّافعيّ، ورجّحه من المالكيّة ابن العربيّ، ومن الظّاهريّة ابن حزم.
وحجّتهم: أنّ النّهي مقدّم على الإباحة، ولَم يصحّح حديث جابر الذي أشرنا إليه.
القول الرابع: قال قوم بالجواز مطلقاً: وهو قول عائشة وعروة وربيعة وداود.
واعتلّوا بأنّ الأحاديث تعارضت فليرجع إلى أصل الإباحة.
فهذه المذاهب الأربعة مشهورة عن العلماء، ولَم يحك النّوويّ في " شرح المهذّب " غيرها.
وفي المسألة ثلاثة مذاهب أخرى:
منها: جواز الاستدبار في البنيّان فقط تمسّكاً بظاهر حديث ابن عمر، وهو قول أبي يوسف.
ومنها: التّحريم مطلقاً حتّى في القبلة المنسوخة وهي بيت المقدس
، وهو محكيّ عن إبراهيم وابن سيرين عملاً بحديث معقل الأسديّ: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلتين ببولٍ أو بغائطٍ.
رواه أبو داود وغيره، وهو حديث ضعيف ، لأنّ فيه راوياً مجهول الحال.
وعلى تقدير صحّته فالمراد بذلك أهل المدينة ومَن على سمتها؛ لأنّ استقبالهم بيت المقدس يستلزم استدبارهم الكعبة ، فالعلة استدبار الكعبة لا استقبال بيت المقدس.
وقد ادّعى الخطّابيّ الإجماع على عدم تحريم استقبال بيت المقدس لمن لا يستدبر في استقباله الكعبة.
وفيه نظرٌ. لِمَا ذكرناه عن إبراهيم وابن سيرين، وقد قال به بعض الشّافعيّة أيضاً. حكاه ابن أبي الدّم.
ومنها: أنّ التّحريم مختصّ بأهل المدينة ومن كان على سمتها، فأمّا من كانت قبلته في جهة المشرق أو المغرب فيجوز له الاستقبال والاستدبار مطلقاً. لعموم قوله " شرّقوا أو غرّبوا ". قاله أبو عوانة صاحب المزنيّ.
وعكَسَه البخاريّ فاستدل به على أنّه ليس في المشرق ولا في المغرب قبلة. كما في كتاب الصلاة (باب قبلة أهل المدينة وأهل الشّام والمشرق (1) ليس في المشرق ولا في المغرب قبلة).
(1) قال ابن حجر في " الفتح "(1/ 498): نقل عياض أنَّ رواية الأكثر ضم قاف المشرق. فيكون معطوفاً على باب ، ويحتاج إلى تقدير محذوف ، والذي في روايتنا بالخفض. ووجَّه السهيلي روايةَ الضم: بأنَّ الحامل على ذلك كون حكم المشرق في القبلة مخالفاً لحكم المدينة بخلاف الشام فإنه موافق. وأجاب ابن رشيد: بأنَّ المراد بيان حكم القبلة من حيث هو ، سواء توافقت البلاد أم اختلفت. انتهى
وقول البخاري " ليس في المشرق ولا في المغرب قبلة " هذه جملة مستأنفة من تفقّه البخاري، وقد نوزع في ذلك؛ لأنّه يحمل الأمر في قوله " شرّقوا أو غرّبوا " على عمومه، وإنّما هو مخصوص بالمخاطبين وهم أهل المدينة، ويلحق بهم من كان على مثل سمتهم ممّن إذا استقبل المشرق أو المغرب لَم يستقبل القبلة ولَم يستدبرها، أمّا من كان في المشرق فقبلته في جهة المغرب وكذلك عكسه.
وهذا معقول لا يخفى مثله على البخاريّ. فيتعيّن تأويل كلامه بأن يكون مراده: ليس في المشرق ولا في المغرب قبلة، أي: لأهل المدينة والشّام، ولعل هذا هو السّرّ في تخصيصه المدينة والشّام بالذّكر.
وقال ابن بطّالٍ: لَم يذكر البخاريّ مغرب الأرض اكتفاء بذكر المشرق، إذ العلة مشتركة، ولأنّ المشرق أكثر الأرض المعمورة، ولأنّ بلاد الإسلام في جهة مغرب الشّمس قليلة.
قوله: (ولا تستدبروها) وللبخاري " ولا يولها ظهره " ولمسلمٍ " ببولٍ أو بغائطٍ " والغائط الثّاني غير الأوّل، أطلق على الخارج من الدّبر مجازاً من إطلاق اسم المحلّ على الحالّ كراهية لذكره بصريح اسمه، وحصل من ذلك جناس تامّ.
والظّاهر من قوله " ببولٍ " اختصاص النّهي بخروج الخارج من العورة ، ويكون مثاره إكرام القبلة عن المواجهة بالنّجاسة.
ويؤيّده قوله في حديث جابر " إذا هرقنا الماء ".
وقيل: مثار النّهي كشف العورة، وعلى هذا فيطّرد في كلّ حالة تكشف فيها العورة كالوطء مثلاً، وقد نقله ابن شاسٍ المالكيّ قولاً في مذهبهم.
وكأنّ قائله تمسّك بروايةٍ في الموطّأ " لا تستقبلوا القبلة بفروجكم " ولكنّها محمولة على المعنى الأوّل. أي: حال قضاء الحاجة جمعاً بين الرّوايتين. والله أعلم.
قوله: (عن عبد الله بن عمر) وهو أحد العبادلة وفقهاء الصحابة والمكثرين منهم ، وأمه زينب ، ويقال: رائطة بنت مظعون أخت عثمان وقدامة ابني مظعون للجميع صحبة.
وكان مولده في السنة الثانية أو الثالثة من المبعث لأنه ثبت أنه كان يوم بدر بن ثلاث عشرة سنة. وكانت بدر بعد البعثة بخمس عشرة سنة. وقد روى البخاري وفاته. وأنها كانت بسبب مَنْ دسَّه عليه الحجاج فمسَّ رجله بحربة مسمومة فمرض بها إلى أن مات أوائل سنة أربع وسبعين.
قوله: (رقيت) بفتح الرّاء وكسر القاف. أي: صعدت
قوله: (على بيت حفصة) أي: أخته كما صرّح به في رواية مسلم،
ولابن خزيمة " دخلت على حفصة بنت عمر فصعدت ظهر البيت " وللبخاري " على ظهرِ بيتٍ لنا " وله أيضاً " على ظهر بيتنا ".
وطريق الجمع أن يقال: إضافته البيت إليه على سبيل المجاز لكونها أخته فله منه سبب، وحيث أضافه إلى حفصة كان باعتبار أنّه البيت الذي أسكنها النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيه ، واستمرّ في يدها إلى أن ماتت فورث عنها.
وحيث أضافه إلى نفسه كان باعتبار ما آل إليه الحال ، لأنّه ورث حفصة دون إخوته ، لكونها كانت شقيقته ولَم تترك من يحجبه عن الاستيعاب.
قوله: (فرأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته) وفي رواية للبخاري ومسلم " على لَبِنَتَيْن " - بفتح اللام وكسر الموحّدة وفتح النّون - تثنية لبنة ، وهي ما يصنع من الطّين أو غيره للبناء قبل أن يحرق ، ولابن خزيمة " فأشرفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على خلائه " وفي رواية له: فرأيته يقضي حاجته محجوباً عليه بلبنٍ.
وللحكيم التّرمذيّ بسندٍ صحيح " فرأيته في كنيف " وهو بفتح الكاف وكسر النون بعدها ياء تحتانيّة ثمّ فاء.
وانتفى بهذا إيراد مَن قال ممّن يرى الجواز مطلقاً: يحتمل أن يكون رآه في الفضاء وكونه رآه على لبنتين لا يدلّ على البناء لاحتمال أن يكون جلس عليهما ليرتفع بهما عن الأرض.
ويردّ هذا الاحتمال أيضاً ، أنّ ابن عمر كان يرى المنع من الاستقبال
في الفضاء إلَاّ بساترٍ. كما رواه أبو داود والحاكم بسندٍ لا بأس به (1).
ولَم يقصد ابن عمر الإشراف على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة ، وإنّما صعد السّطح لضرورةٍ له كما في رواية البخاري " ارتقيت فوق ظهر بيت حفصة لبعض حاجتي ". فحانت منه التفاتة. كما في رواية للبيهقيّ من طريق نافع عن ابن عمر.
نعم. لَمّا اتّفقت له رؤيته في تلك الحالة عن غير قصد ، أحبّ أن لا يخلي ذلك من فائدة فحفظ هذا الحكم الشّرعيّ، وكأنّه إنّما رآه من جهة ظهره حتّى ساغ له تأمّل الكيفيّة المذكورة من غير محذور، ودلّ ذلك على شدّة حرص الصّحابيّ على تتبّع أحوال النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليتّبعها، وكذا كان رضي الله عنه.
(1) سنن أبي داود (11) ومستدرك الحاكم (1/ 256) من طريق الحسن بن ذكوان عن مروان الأصفر، قال: رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، أليس قد نُهي عن هذا؟ قال: بلى إنما نهي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس.