المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث التاسع 9 - عن عمرو بن يحيى المازنيّ عن أبيه - فتح السلام شرح عمدة الأحكام من فتح الباري - جـ ١

[عبد السلام العامر]

فهرس الكتاب

- ‌مقدِّمة الكتاب

- ‌أولاً:

- ‌ثانياً:

- ‌ثالثاً:

- ‌رابعاً:

- ‌خامساً:

- ‌سادساً:

- ‌سابعاً:

- ‌ثامناً:

- ‌كتاب الطّهارة

- ‌باب

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌باب دخول الخلاء والاستطابة

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌الحديث الخامس عشر

- ‌الحديث السادس عشر

- ‌الحديث السابع عشر

- ‌الحديث الثامن عشر

- ‌باب السواك

- ‌الحديث التاسع عشر

- ‌الحديث العشرون

- ‌الحديث الواحد والعشرون

- ‌الحديث الثاني والعشرون

- ‌باب المسح على الخُفّين

- ‌الحديث الثالث والعشرون

- ‌الحديث الرابع والعشرون

- ‌بابٌ في المذي وغيره

- ‌الحديث الخامس والعشرون

- ‌الحديث السادس والعشرون

- ‌الحديث السابع والعشرون

- ‌الحديث الثامن والعشرون

- ‌الحديث التاسع والعشرون

- ‌الحديث الثلاثون

- ‌باب الغسل من الجنابة

- ‌الحديث الواحد والثلاثون

- ‌الحديث الثاني والثلاثون

- ‌الحديث الثالث والثلاثون

- ‌الحديث الرابع والثلاثون

- ‌الحديث الخامس والثلاثون

- ‌الحديث السادس والثلاثون

- ‌الحديث السابع والثلاثون

- ‌الحديث الثامن والثلاثون

- ‌الحديث التاسع والثلاثون

- ‌باب التّيمّم

- ‌الحديث الأربعون

- ‌الحديث الواحد والأربعون

- ‌الحديث الثاني والأربعون

- ‌باب الحيض

- ‌الحديث الثالث والأربعون

- ‌الحديث الرابع والأربعون

- ‌الحديث الخامس والأربعون

- ‌الحديث السادس والأربعون

- ‌الحديث السابع والأربعون

- ‌الحديث الثامن والأربعون

- ‌الحديث التاسع والأربعون

الفصل: ‌ ‌الحديث التاسع 9 - عن عمرو بن يحيى المازنيّ عن أبيه

‌الحديث التاسع

9 -

عن عمرو بن يحيى المازنيّ عن أبيه ، قال: شهدتُ عمرو بنَ أبي حسنٍ سأَل عبدَ الله بن زيدٍ عن وضوءِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فدعا بتورٍ من ماءٍ ، فتوضّأ لهم وضوءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأكفأ على يديه من التّور ، فغسل يديه ثلاثاً ، ثمّ أدخل يده في التّور ، فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً بثلاث غرفاتٍ ، ثمّ أدخل يده فغسل وجهه ثلاثاً ، ثمّ أدخل يده في التّور ، فغسلهما مرّتين إلى المرفقين ، ثمّ أدخل يده في التّور ، فمسح رأسه ، فأقبل بهما وأدبر مرّةً واحدةً، ثمّ غسل رجليه. (1)

وفي روايةٍ: بدأ بمقدّم رأسِه ، حتّى ذهب بهما إلى قفاه ، ثمّ ردَّهما حتّى رجع إلى المكان الذي بدأ منه.

وفي روايةٍ: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجنا له ماءً في تورٍ من صفرٍ.

قال الْمُصنِّف: التور: شبه الطست.

قوله: (عن عمرو بن يحيى المازنيّ عن أبيه) أي: أبي عثمان يحيى بن عمارة أي: ابن أبي حسن. واسمه تميم بن عبد عمرو، ولجده أبي حسن صحبة، وكذا لعمارة فيما جزم به ابن عبد البر.

(1) أخرجه البخاري (183، 184 ، 188 ، 189 ، 194 ، 196) ومسلم (235) من طرق عن عمرو بن يحيى به.

ورواه مسلم (236) من وجه آخر عن حبان بن واسع عن أبيه عن عبد الله بن زيد به مختصراً.

ص: 95

وقال أبو نعيم: فيه نظر.

قوله: (شهدتُ عمرو بنَ أبي حسن سأل) اختلف رواة الموطّأ في تعيين هذا السّائل، وأمّا أكثرهم فأبهمه.

وللبخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه: أنَّ رجلا قال لعبد الله بن زيد - وهو جد عمرو بن يحيى - (1): أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ.

وقال معن بن عيسى في روايته عن عمرو عن أبيه يحيى: إنّه سمع أبا حسن - وهو جدّ عمرو بن يحيى - قال لعبد الله بن زيد - وكان من الصّحابة -. فذكر الحديث.

وقال محمّد بن الحسن الشّيبانيّ عن مالك: حدّثنا عمرو عن أبيه يحيى ، أنّه سمع جدّه أبا حسن يسأل عبد الله بن زيد. وكذا ساقه سحنون في المدوّنة.

وقال الشّافعيّ في " الأمّ ": عن مالك عن عمرو عن أبيه ، إنّه قال لعبد الله بن زيد. ومثله رواية الإسماعيليّ عن أبي خليفة عن القعنبيّ

(1) قال الشارح (1: 380): قوله هنا " وهو جد عمرو بن يحيى " فيه تجوّز؛ لأنه عم أبيه، وسماه جداً لكونه في منزلته، ووهم من زعم أن المراد بقوله " وهو " عبد الله بن زيد؛ لأنه ليس جدا لعمرو بن يحيى لا حقيقة ولا مجازا.

وأما قول صاحب الكمال ومَن تَبِعه في ترجمة عمرو بن يحيى: أنه ابن بنت عبد الله بن زيد. فغلطٌ توهَّمه من هذه الرواية، وقد ذكر ابن سعد ، أنَّ أم عمرو بن يحيى: هي حميدة بنت محمد بن إياس بن البكير، وقال غيره: هي أم النعمان بنت أبي حية. فالله أعلم

ص: 96

عن مالك عن عمرو عن أبيه ، قال.

قلت: والذي يجمع هذا الاختلاف أن يقال: اجتمع عند عبد الله بن زيد أبو حسن الأنصاريّ وابنه عمرو وابن ابنه يحيى بن عمارة بن أبي حسن ، فسألوه عن صفة وضوء النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، وتولى السّؤال منهم له عمرو بن أبي حسن، فحيث نسب إليه السّؤال كان على الحقيقة.

ويؤيّده رواية سليمان بن بلال عند البخاري قال: حدّثني عمرو بن يحيى عن أبيه قال: كان عمّي - يعني عمرو بن أبي حسن - يكثر الوضوء، فقال لعبد الله بن زيد أخبرني. فذكره.

وحيث نسب السّؤال إلى أبي حسن ، فعلى المجاز لكونه كان الأكبر وكان حاضراً. وحيث نسب السّؤال ليحيى بن عمارة ، فعلى المجاز أيضاً لكونه ناقل الحديث وقد حضر السّؤال.

ووقع في رواية مسلم عن محمّد بن الصّبّاح عن خالد الواسطيّ عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن عبد الله بن زيد قال: قيل له توضّأ لنا. فذكره مبهماً. وفي رواية الإسماعيليّ من طريق وهب بن بقيّة عن خالد المذكور بلفظ " قلنا له ".

وهذا يؤيّد الجمع المتقدّم من كونهم اتّفقوا على سؤاله؛ لكنّ متولي السّؤال منهم عمرو بن أبي حسن. ويزيد ذلك وضوحاً رواية الدّراورديّ عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن عمّه عمرو بن أبي حسن قال: كنت كثير الوضوء، فقلت لعبد الله بن زيد. فذكر الحديث. أخرجه أبو نعيمٍ في " المستخرج "، والله أعلم.

ص: 97

قوله: (سأل عبد الله بن زيد) بن عاصم المازني الأنصاري. (1)

وللبخاري " أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ " فيه ملاطفة الطالب للشيخ، وكأنَّه أراد أنُ يُريه بالفعل ليكون أبلغ في التعليم.

وسبب الاستفهام ما قام عنده من احتمال أن يكون الشيخ نسي ذلك لبعد العهد.

قوله: (فدعا بتور من ماء) التّور بمثنّاةٍ مفتوحة ، قال الدّاوديّ: قدح.

وقال الجوهريّ: إناء يشرب منه. وقيل: هو الطّست، وقيل: يشبه الطّست، وقيل: هو مثل القدر يكون من صفر أو حجارة.

وفي رواية عبد العزيز بن أبي سلمة عند البخاري في أوّل هذا الحديث " أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجنا له ماء في تور من صفر ".

(1) أبو محمد. اختلف في شهوده بدراً، وبه جزم أبو أحمد الحاكم وابن منده، وأخرجه الحاكم في " المستدرك "، وقال ابن عبد البرّ: شهد أحداً وغيرها، ولَم يشهد بدراً. وكان مسيلمة قتل حبيب بن زيد أخاه، فلما غزا الناسُ اليمامةَ شارك عبد اللَّه بن زيد وحشيَّ بنَ حرب في قتل مسيلمة.

وأخرج البخاريّ عن عبد اللَّه بن زيد، قال: لَمَّا كان زمن الحرة أتاه آت، فقال له: إنَّ ابنَ حنظلة يبايع الناس على الموت، فقال: لا أبايع على هذا أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقال: قتل يوم الحرّة سنة 63. قاله في الإصابة.

قلت: يشتبه كثيراً بعبد الله بن زيد بن عبد ربّه صاحب الأذان. وقد نبَّه الشارح على هذا في حديثه الآتي في الاستسقاء. فانظره رقم (155)

ص: 98

والصّفر: بضمّ المهملة وإسكان الفاء وقد تكسر. صنف من حديد النّحاس.

قيل: إنّه سُمِّي بذلك لكونه يشبه الذّهب، ويسمّى أيضاً الشَّبَه بفتح المعجمة والموحّدة.

والتّور المذكور. يحتمل أن يكون هو الذي توضّأ منه عبد الله بن زيد إذ سئل عن صفة الوضوء ، فيكون أبلغ في حكاية صورة الحال على وجهها.

قوله: (فأكفأ) بهمزتين، وللبخاري من رواية سليمان بن حرب عن وهيب " فكفأ " بفتح الكاف، وهما لغتان بمعنىً ، يقال: كفأ الإناء ، وأكفأ إذا أماله.

وقال الكسائيّ: كفأت الإناء كببته ، وأكفأته أملته، والمراد في الموضعين إفراغ الماء من الإناء على اليد كما صرّح به في رواية مالك بقوله " فأفرغ ".

قوله: (فغسل يديه ثلاثاً) كذا في رواية وهيب وسليمان بن بلال عند البخاري. وكذا للدّراورديّ عند أبي نعيمٍ " فغسل يديه " بالتّثنية، وفي رواية مالك " فغسل يده مرتين " بإفراد يده ، فيحمل الإفراد في رواية مالك على الجنس، وعند مالك " مرّتين "، وعند هؤلاء " ثلاثاً "، وكذا لخالد بن عبد الله عند مسلم.

وهؤلاء حفّاظ وقد اجتمعوا ، فزيادتهم مقدّمة على الحافظ الواحد، وقد ذكر مسلم من طريق بهز عن وهيب ، أنّه سمع هذا الحديث

ص: 99

مرّتين من عمرو بن يحيى إملاء، فتأكّد ترجيح روايته، ولا يقال يُحمل على واقعتين لأنّا نقول: المخرج متّحد والأصل عدم التّعدّد.

وفيه من الأحكام غسل اليد قبل إدخالها الإناء ، ولو كان من غير نوم كما تقدّم مثله في حديث عثمان (1)، والمراد باليدين هنا الكفّان لا غير.

قوله: (ثمّ مضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً بثلاث غرفات) استدل به على استحباب الجمع بين المضمضة والاستنشاق من كلّ غرفة، وفي رواية خالد بن عبد الله " مضمض واستنشق من كفّ واحد فعل ذلك ثلاثاً ".

وهو صريح في الجمع كلّ مرّة، بخلاف رواية وهيب فإنّه تطرّقها احتمال التّوزيع بلا تسوية. كما نبّه عليه ابن دقيق العيد.

ووقع في رواية سليمان بن بلال عند البخاري " فمضمض واستنثر ثلاث مرّات من غرفة واحدة ".

واستدل بها على الجمع بغرفةٍ واحدة. وفيه نظرٌ. لِمَا أشرنا إليه من اتّحاد المخرج فتقدّم الزّيادة.

ولمسلمٍ من رواية خالد المذكورة " ثمّ أدخل يده فاستخرجها فمضمض " فاستدل بها على تقديم المضمضة على الاستنشاق ، لكونه عطف بالفاء التّعقيبيّة. وفيه بحث.

(1) أي حديثه الماضي رقم (8)

ص: 100

قوله: (ثمّ أدخل يده) بيّن في هذه الرّواية تجديد الاغتراف لكل عضو، وأنّه اغترف بإحدى يديه، وكذا هو في باقي الرّوايات، وفي مسلم وغيره.

لكن وقع في رواية ابن عساكر (1) وأبي الوقت من طريق سليمان بن بلال " ثمّ أدخل يديه " بالتّثنية، وليس ذلك في رواية أبي ذرّ (2) ولا الأصيليّ (3) ولا في شيء من الرّوايات خارج الصّحيح ، قاله النّوويّ.

وأظنّ أنّ الإناء كان صغيراً ، فاغترف بإحدى يديه ثمّ أضافها إلى الأخرى كما تقدّم نظيره في حديث ابن عبّاس (4)، وإلا فالاغتراف

(1) علي بن الحسن بن هبة الله، أبو القاسم، ثقة الدين ابن عساكر بالدمشقي: المؤرخ الحافظ الرحالة. كان محدث الديار الشامية، ورفيق السَّمْعَاني (صاحب الأنساب) في رحلاته. مولده سنة 499. ووفاته 571 هـ في دمشق. الأعلام للزركلي (4/ 273).

(2)

الحافظ الإمام المجود العلامة شيخ الحرم، أبو ذر؛ عبد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن غفير بن محمد، المعروف ببلده بابن السمَّاك، الأنصاري الخراساني الهروي المالكي، صاحب التصانيف، وراوي الصحيح عن الثلاثة: المستملي، والحموي، والكشميهني. قال: ولدتُ سنة خمس أو ست وخمسين وثلاث مائة. وقال الخطيب: مت بمكة سنه 434 هـ. السير للذهبي (13/ 212)

(3)

الإمام شيخ المالكية ، عالم الأندلس ، أبو محمد ، عبد الله بن إبراهيم الأصيلي. نشأ بأصيلا من بلاد العدوة ، وتفقَّه بقرطبة. كتب بمكة عن أبي زيد الفقيه " صحيح البخاري " ، وتوفي في ذي الحجة سنة 392، وشيَّعه أُمم. السير للذهبي (12/ 484)

(4)

يشير إلى ما أخرجه البخاري في " صحيحه "(140) عن عطاء بن يسار عن ابن عباس، أنه توضأ فغسل وجهه، أخذ غرفة من ماء، فمضمض بها واستنشق، ثم أخذ غرفة من ماء، فجعل بها هكذا، أضافها إلى يده الأخرى، فغسل بهما وجهه .. فذكر الحديث. ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ.

وبوَّب عليه البخاري (باب غسل الوجه باليدين من غرفة واحدة).

قال ابن حجر في " الفتح ": مراده (أي البخاري) بهذا. التنبيه على عدم اشتراط الاغتراف باليدين جميعاً ، والإشارة إلى تضعيف الحديث الذي فيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يغسل وجهه بيمينه.

وجمع الحَلِيْمي بينهما: بأنَّ هذا حيث كان يتوضأ من إناء يصب منه بيساره على يمينه والآخر حيث كان يغترف ، لكن سياق الحديث يأباه ، لأنَّ فيه أنه بعد أن تناول الماء بإحدى يديه أضافه إلى الأخرى وغسل بهما. انتهى

ص: 101

باليدين جميعاً أسهل وأقرب تناولاً كما قال الشّافعيّ.

قوله: (فغسل وجهَه ثلاثاً) لَم تختلف الرّوايات في ذلك، ويلزم من استدل بهذا الحديث على وجوب تعميم الرّأس بالمسح أن يستدلّ به على وجوب التّرتيب للإتيان بقوله " ثمّ " في الجميع؛ لأنّ كلاً من الحكمين مجمل في الآية بيّنته السّنّة بالفعل.

قوله: (ثمَّ أدخل يدَه ، فغسَلهما مرّتين) المراد غسل كلّ يد مرّتين كما في طريق مالك " ثمّ غسل يديه مرّتين مرّتين " وليس المراد توزيع المرّتين على اليدين فكان يكون لكل يد مرّة واحدة.

ولَم تختلف الرّوايات عن عمرو بن يحيى في غسل اليدين مرّتين، لكن في رواية مسلم من طريق حبّان بن واسع عن عبد الله بن زيد ، أنّه رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم توضّأ. وفيه .. ويده اليمنى ثلاثاً ثمّ الأخرى ثلاثاً. فيُحمل على أنّه وضوء آخر ، لكون مخرج الحديثين غير متّحد.

قوله: (إلى المرفقين) كذا للأكثر ، وللمستمليّ والحمويّ " إلى

ص: 102

المرفق " بالإفراد على إرادة الجنس.

وقد اختلف العلماء: هل يدخل المرفقان في غسل اليدين أم لا؟.

القول الأول: قال الْمُعظم: نعم.

القول الثاني: خالف زفر، وحكاه بعضهم عن مالك.

واحتجّ بعضهم للجمهور: بأنّ " إلى " في الآية بمعنى مع كقوله تعالى (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم).

وتعقّب: بأنّه خلاف الظّاهر، وأجيب بأنّ القرينة دلت عليه وهي كون ما بعد " إلى " من جنس ما قبلها.

وقال ابن القصّار: اليد يتناولها الاسم إلى الإبط لحديث عمّار " أنّه تيمّم إلى الإبط " وهو من أهل اللّغة، فلمّا جاء قوله تعالى (إلى المرافق) بقي المرفق مغسولاً مع الذّراعين بحقّ الاسم، انتهى.

فعلى هذا ، فإلى هنا حدّ للمتروك من غسل اليدين لا للمغسول، وفي كون ذلك ظاهراً من السّياق نظرٌ، والله أعلم.

وقال الزّمخشريّ: لفظ إلى يفيد معنى الغاية مطلقاً، فأمّا دخولها في الحكم وخروجها فأمر يدور مع الدّليل، فقوله تعالى (ثمّ أتمّوا الصّيام إلى الليل) دليل عدم الدّخول النّهي عن الوصال، وقول القائل حفظت القرآن من أوّله إلى آخره دليل الدّخول كون الكلام مسوقاً لحفظ جميع القرآن، وقوله تعالى (إلى المرافق) لا دليل فيه على أحد الأمرين.

قال: فأخذ العلماء بالاحتياط ووقف زفر مع المتيقّن. انتهى

ويمكن أن يستدلّ لدخولهما بفعله صلى الله عليه وسلم. ففي الدّارقطنيّ بإسنادٍ

ص: 103

حسن من حديث عثمان في صفة الوضوء: فغسل يديه إلى المرفقين حتّى مسّ أطراف العضدين.

وفيه عن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضّأ أدار الماء على مرفقيه. لكنّ إسناده ضعيف، وفي البزّار والطّبرانيّ من حديث وائل بن حجر في صفة الوضوء " وغسل ذراعيه حتّى جاوز المرفق ".

وفي الطّحاويّ والطّبرانيّ من حديث ثعلبة بن عبّاد عن أبيه مرفوعاً " ثمّ غسل ذراعيه حتّى يسيل الماء على مرفقيه ".

فهذه الأحاديث يقوّي بعضها بعضاً.

قال إسحاق بن راهويه: " إلى " في الآية ، يحتمل: أن تكون بمعنى الغاية ، وأن تكون بمعنى مع، فبيّنت السّنّة أنّها بمعنى مع. انتهى.

وقد قال الشّافعيّ في الأمّ: لا أعلم مخالفاً في إيجاب دخول المرفقين في الوضوء.

فعلى هذا ، فزُفر محجوجٌ بالإجماع قبله ، وكذا مَن قال بذلك من أهل الظّاهر بعده، ولَم يثبت ذلك عن مالك صريحاً ، وإنّما حكى عنه أشهب كلاماً محتملاً.

والْمِرفق. بكسر الميم وفتح الفاء ، هو العظم النّاتئ في آخر الذّراع ، سُمِّي بذلك لأنّه يرتفق به في الاتّكاء ونحوه.

قوله: (ثمّ مسح رأسه) في رواية خالد بن عبد الله في الصحيحين " برأسه " بزيادة الباء. زاد إسحاق بن عيسى بن الطّبّاع " كلّه "، بيّنه ابن خزيمة في " صحيحه " من طريقه. ولفظه: سألت مالكاً عن

ص: 104

الرّجل يمسح مقدّم رأسه في وضوئه أيجزئه ذلك؟ فقال: حدّثني عمرو بن يحيى عن أبيه عبد الله بن زيد فقال: مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وضوئه من ناصيته إلى قفاه، ثمّ ردّ يديه إلى ناصيته فمسح رأسه كلّه.

وموضع الدّلالة من الحديث والآية - وهي قوله (وامسحوا برءوسكم) - أنّ لفظ الآية مجمل؛ لأنّه يحتمل أن يراد منها مسح الكلّ على أنّ الباء زائدة.

أو مسح البعض على أنّها تبعيضيّة، فتبيّن بفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ المراد الأوّل.

ولَم يُنقل عنه أنّه مسح بعض رأسه إلَاّ في حديث المغيرة ، أنّه صلى الله عليه وسلم مسح على ناصيته وعمامته. (1) فإنّ ذلك دلَّ على أنّ التّعميم ليس

(1) أخرجه مسلم في " صحيحه "(247) عن المغيرة رضي الله عنه ، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم: توضأ فمسح بناصيته، وعلى العمامة وعلى الخُفّين.

وللبخاري (202) عن عمرو بن أمية الضمري: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على عمامته وخفيه "

قال ابن حجر في " الفتح "(1/ 309): اختلف السلف في معنى المسح على العمامة.

فقيل: إنه كمَّل عليها بعد مسح الناصية، ورواية مسلم يدلُّ على ذلك، وإلى عدم الاقتصار على المسح عليها ذهب الجمهور.

وقال الخطابي: فرض الله مسح الرأس، والحديث في مسح العمامة محتمل للتأويل، فلا يترك المتيقن للمحتمل. قال: وقياسه على مسح الخف بعيد؛ لأنه يشق نزعه بخلافها.

وتعّقب: بأن الذين أجازوا الاقتصار على مسح العمامة شرطوا فيه المشقة في نزعها كما في الخف، وطريقه أن تكون محنكة كعمائم العرب، وقالوا: عضو يسقط فرضه في التيمم فجاز المسح على حائله كالقدمين، وقالوا: الآية لا تنفي ذلك ، ولا سيما عند من يحمل المشترك على حقيقته ومجازه ، لأنَّ مَن قال: قبّلت رأسَ فلانٍ يصدق ولو كان على حائل.

وإلى هذا ذهب الأوزاعي والثوري في رواية عنه وأحمد وإسحاق وأبو ثور والطبري وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهم. وقال ابن المنذر: ثبت ذلك عن أبي بكر وعمر، وقد صح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنْ يُطعِ الناسُ أبا بكر وعمر يرشدوا ". والله أعلم.

ص: 105

بفرضٍ، فعلى هذا فالإجمال في المسند إليه لا في الأصل.

قال القرطبيّ: الباء للتّعدية يجوز حذفها وإثباتها كقولك مسحت رأس اليتيم ومسحت برأسه. وقيل: دخلت الباء لتفيد معنىً آخر وهو أنّ الغسل لغة يقتضي مغسولاً به، والمسح لغة لا يقتضي ممسوحاً به، فلو قال وامسحوا رءوسكم ، لأجزأ المسح باليد بغير ماء، فكأنّه قال: وامسحوا برءوسكم الماء فهو على القلب، والتّقدير امسحوا رءوسكم بالماء.

وقال الشّافعيّ: احتمل قوله تعالى: (وامسحوا برءوسكم) جميع الرّأس أو بعضه، فدلَّتِ السّنّة على أنّ بعضه يجزئ. والفرق بينه وبين قوله تعالى (فامسحوا بوجوهكم) في التّيمّم أنّ المسح فيه بدَلٌ عن الغسل ، ومسح الرّأس أصل فافترقا، ولا يرد كون مسح الخفّ بدلاً عن غسل الرّجل ، لأنّ الرّخصة فيه ثبتت بالإجماع.

فإن قيل: فلعلَّه اقتصر على مسح النّاصية لعذرٍ ، لأنّه كان في سفر وهو مظنّة العذر، ولهذا مسح على العمامة بعد مسح النّاصية. كما هو ظاهر من سياق مسلم في حديث المغيرة بن شعبة.

ص: 106

قلنا: قد روي عنه مسح مقدّم الرّأس من غير مسح على العمامة ولا تعرّض لسفرٍ، وهو ما رواه الشّافعيّ من حديث عطاء ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم توضّأ فحسر العمامة عن رأسه ومسح مقدّم رأسه. وهو مرسل ، لكنّه اعتضد بمجيئه من وجه آخر موصولاً. أخرجه أبو داود من حديث أنس. (1)

وفي إسناده أبو معقل لا يُعرف حاله، فقد اعتضد كلّ من المرسل والموصول بالآخر، وحصلت القوّة من الصّورة المجموعة، وهذا مثال لِمَا ذكره الشّافعيّ من أنّ المرسل يعتضد بمرسلٍ آخر أو مسند.

وظهر بهذا جواب مَن أورد أنّ الحجّة حينئذٍ بالمسند فيقع المرسل لغواً، وقد قرّرت جواب ذلك فيما كتبته على علوم الحديث لابن الصّلاح.

وفي الباب أيضاً عن عثمان في صفة الوضوء قال: ومسح مقدّم رأسه. أخرجه سعيد بن منصور، وفيه خالد بن يزيد بن أبي مالك مختلف فيه.

وصحّ عن ابن عمر الاكتفاء بمسح بعض الرّأس، قاله ابن المنذر وغيره، ولَم يصحّ عن أحد من الصّحابة إنكار ذلك، قاله ابن حزم.

(1) سنن أبي داود (147) من طريق أبي معقل عن أنس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية (القطرية ضرب من البرد) فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدَّم رأسه ، ولم ينقض العمامة.

ص: 107

وهذا كلّه ممّا يقْوَى به المرسل المتقدّم ذكره.

تكميل: قال سعيد بن المسيّب: الرّجل والمرأة في المسح سواء. أخرجه ابن أبي شيبة. ونقل عن أحمد ، أنّه قال: يكفي المرأة مسح مقدّم رأسها. والله أعلم

قوله: (بدأ بمقدّم رأسه) الظّاهر أنّه من الحديث وليس مدرجاً من كلام مالك، ففيه حجّة على مَن قال: السّنّة أن يبدأ بمؤخّر الرّأس إلى أن ينتهي إلى مقدّمه لظاهر قوله " أقبل وأدبر ".

ويرِدُ عليه أنّ الواو لا تقتضي التّرتيب، وللبخاري ومسلم من رواية سليمان بن بلال " فأدبر بيديه وأقبل " فلم يكن في ظاهره حجّة ، لأنّ الإقبال والإدبار من الأمور الإضافيّة، ولَم يعيّن ما أقبل إليه ولا ما أدبر عنه.

ومخرج الطّريقين متّحد، فهما بمعنىً واحد ، وعيّنتْ روايةُ مالك البداءةَ بالمقدّم فيحمل قوله " أقبل " على أنّه من تسمية الفعل بابتدائه، أي: بدأ بقبل الرّأس، وقيل في توجيهه غير ذلك.

والحكمة في هذا الإقبال والإدبار. استيعاب جهتي الرّأس بالمسح، فعلى هذا يختصّ ذلك بمن له شعر، والمشهور عمّن أوجب التّعميم أنّ الأولى واجبة والثّانية سنّة، ومن هنا يتبيّن ضعف الاستدلال بهذا الحديث على وجوب التّعميم، والله أعلم

قوله: (ثمّ غسل رجليه) زاد في رواية وهيب " إلى الكعبين " والبحث فيه كالبحث في قوله إلى المرفقين.

ص: 108

والمشهور. أنّ الكعب هو العظم النّاشز عند ملتقى السّاق والقدم.

وحكى محمّد بن الحسن عن أبي حنيفة ، أنّه العظم الذي في ظهر القدم عند معقد الشّراك، وروي عن ابن القاسم عن مالك مثله.

والأوّل هو الصّحيح الذي يعرفه أهل اللّغة، وقد أكثر المتقدّمون من الرّدّ على من زعم ذلك، ومن أوضح الأدلة فيه حديث النّعمان بن بشير الصّحيح في صفة الصّفّ في الصّلاة " فرأيت الرّجل منّا يلزق كعبه بكعب صاحبه "(1) وهو الذي يمكن أن يلزق بالذي بجنبه.

وقيل: إنّ محمّداً إنّما رأى ذلك في حديث قطع المحرم الخُفّين إلى الكعبين إذا لَم يجد النّعلين. (2)

وفي هذا الحديث من الفوائد.

الإفراغ على اليدين معاً في ابتداء الوضوء، وأنّ الوضوء الواحد يكون بعضه بمرّةٍ وبعضه بمرّتين وبعضه بثلاثٍ.

وفيه مجيء الإمام إلى بيت بعض رعيّته وابتداؤهم إيّاه بما يظنّون أنّ له به حاجة، وجواز الاستعانة في إحضار الماء من غير كراهة، والتّعليم بالفعل، وأنّ الاغتراف من الماء القليل للتّطهّر لا يصيّر الماء

(1) ذكره البخاري معلقاً في " باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف "

قال ابن حجر في " الفتح ": وصله ابن خزيمة في " صحيحه " وأبو داود والدارقطني في حديثٍ أصله عند مسلم " وستأتي رواية مسلم للحديث برقم (76)

(2)

انظر حديث ابن عمر رضي الله عنه الآتي في الحج برقم (220) فقد حكى الشارح أن الناقل عن محمد بن الحسن وهِم فيه

ص: 109

مستعملاً لقوله في رواية وهيب وغيره " ثمّ أدخل يده فغسل وجهه

إلخ ". وأمّا اشتراط نيّة الاغتراف فليس في هذا الحديث ما يثبتها ولا ما ينفيها.

واستدل به أبو عوانة في " صحيحه ". على جواز التّطهّر بالماء المستعمل، وتوجيهه أنّ النّيّة لَم تذكر فيه، وقد أدخل يده للاغتراف بعد غسل الوجه وهو وقت غسلها.

وقال الغزاليّ: مجرّد الاغتراف لا يصيّر الماء مستعملاً ، لأنّ الاستعمال إنّما يقع من المغترف منه، وبهذا قطع البغويّ.

واستدل به البخاري على استيعاب مسح الرّأس، وقد قدّمنا أنّه يدلّ لذلك ندباً لا فرضاً، وعلى أنّه لا يندب تكريره كما تقدم.

وعلى الجمع بين المضمضة والاستنشاق من غرفة كما تقدّم أيضاً، وعلى جواز التّطهّر من آنية النّحاس وغيره.

تكميل: روى البخاري من حديث ابن عباس ، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة. وهو بيان بالفعل لمجمل الآية. إذ الأمر يفيد طلب إيجاد الحقيقة ولا يتعين بعدد. فبين الشارع أنَّ المرة الواحدة للإيجاب وما زاد عليها للاستحباب.

وأمَّا حديث أُبي بن كعب ، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا بماء فتوضأ مرة مرة ، وقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلَاّ به. ففيه بيان الفعل والقول معاً. لكنه حديث ضعيف. أخرجه ابن ماجه. وله طرق أخرى كلها ضعيفة.

ص: 110