الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الواحد والأربعون
41 -
عن عمّار بن ياسرٍ رضي الله عنه ، قال: بعثني النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حاجةٍ ، فأجنبتُ فلم أجد الماء ، فتمرَّغتُ في الصّعيد ، كما تَمرَّغ الدابَّة ، ثمّ أتيتُ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم فذكرتُ ذلك له ، فقال: إنّما يكفيك أنْ تقول بيديك هكذا - ثمّ ضرب بيديه الأرض ضربةً واحدةً ، ثمّ مسح الشّمال على اليمين ، وظاهر كفّيه ووجهه. (1)
قوله: (عن عمار بن ياسر) يكنى أبا اليقظان العنسي بالنون، وأمه سمية بالمهملة مصغر، أسلم هو وأبوه قديماً، وعُذِّبوا لأجل الإسلام، وقتلَ أبو جهل أمَّه فكانت أول شهيد في الإسلام ، ومات أبوه قديماً.
(1) أخرجه البخاري (339 ، 340) ومسلم (368) من طريق الأعمش سمعت شقيق بن سلمة قال: قال: كنت جالساً مع عبد الله، وأبي موسى، فقال أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن أرأيت لو أن رجلاً أجنب فلم يجد الماء شهراً كيف يصنع بالصلاة؟ فقال عبد الله: لا يتيمم. وإن لم يجد الماء شهراً. فقال أبو موسى: فكيف بهذه الآية في سورة المائدة {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً} [النساء: 43]. فقال عبد الله: لو رُخّص لهم في هذه الآية لأوشك إذا برَدَ عليهم الماء أن يتيمّموا بالصعيد، فقال أبو موسى لعبد الله: ألم تسمع قول عمار؟ بعثني. فذكره. وفيه. فقال عبد الله: أفلم تر عمر لم يقنع بقول عمّار؟
وأخرجه البخاري أيضاً (331 ، 336 ، 338) ومسلم (368) من طريق سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه، أنَّ رجلاً أتى عمر، فقال: إني أجنبت فلم أجد ماء؟ فقال: لا تصل. فقال عمار: أما تذكر يا أمير المؤمنين، إذ أنا وأنت في سريةٍ فأجنبنا فلم نجد ماءً، فأما أنت فلم تُصل، وأما أنا فتمعَّكتُ في التراب وصلَّيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما .. فذكره.
وعاش هو إلى أن قُتل بصفين مع علي رضي الله عنهم، وكان قد وَلِي شيئاً من أمور الكوفة لعمر فلهذا نسبه أبو الدرداء إليها. وقال: أليس فيكم الذي أجاره الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الشيطان. يعني: عماراً. أخرجه البخاري.
وزعم ابن التين أنَّ المراد بقوله: " على لسان نبيه " قول النبي صلى الله عليه وسلم: ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار " وهو محتمل.
ويحتمل: أن يكون المراد بذلك حديث عائشة مرفوعاً: ما خُيّر عمار بين أمرين إلا اختار أرشدهما. أخرجه الترمذي، ولأحمد من حديث ابن مسعود مثله. أخرجهما الحاكم، فكونه يختار أرشد الأمرين دائماً يقتضي أنه قد أجير من الشيطان الذي من شأنه الأمر بالغيِّ.
وروى البزار من حديث عائشة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ملئ إيمانا إلى مشاشه. يعني: عماراً. وإسناده صحيح.
ولابن سعد في " الطبقات " من طريق الحسن قال: قال عمار: نزلنا منزلا فأخذت قربتي ودلوي لأستقي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سيأتيك من يمنعك من الماء، فلمَّا كنت على رأس الماء إذا رجلٌ أسود كأنه مرس، فصرعته " فذكر الحديث، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ذاك الشيطان " فلعلَّ ابن مسعود (1) أشار إلى هذه القصة.
(1) كذا قال. وهو سبق قلم ، والصواب أبو الدرداء كما في صحيح البخاري (3113) ومواضع أخرى. وسبب وهمه أنَّ أبا الدرداء ذكرَ ابنَ مسعود مع عمارٍ فانتقل ذهنه له.
ويحتمل: أن تكون الإشارة بالإجارة المذكورة إلى ثباته على الإيمان لَمَّا أكرهه المشركون على النطق بكلمة الكفر، فنزلت فيه:(إلَاّ مَن أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان).
وقد جاء في حديث آخر " إنَّ عماراً مُلئ إيمانا إلى مشاشه " أخرجه النسائي بسند صحيح، والمشاش: بضم الميم ومعجمتين الأولى خفيفة.
وهذه الصفة لا تقع إلَاّ ممن أجاره الله من الشيطان
قوله: (فتمرّغت) بالغين المعجمة ، أي: تقلبت ، وفي رواية لهما " فتمعكت " وكأنّ عمّاراً استعمل القياس في هذه المسألة؛ لأنّه لَمّا رأى أنّ التّيمّم
إذا وقع بدل الوضوء وقع على هيئة الوضوء رأى أنّ التّيمّم عن الغسل يقع على هيئة الغسل.
ويستفاد من هذا الحديث وقوع اجتهاد الصّحابة في زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنّ المجتهد لا لوم عليه إذا بذل وسعه وإن لَم يصب الحقّ، وأنّه إذا عمل بالاجتهاد لا تجب عليه الإعادة. وفي تركه أمر عمر أيضاً بقضائها مُتمسّكٌ لِمَن قال: إنّ فاقد الطّهورين لا يُصلِّي ولا قضاء عليه. (1)
(1) تقدَّم ذِكر قصة عمر مع عمار. انظر التعليق السابق ،
والمقصود بالطهورين الماء والتراب. وقد تكلَّم الشارح رحمه الله عن مسألة فاقد الطهورين في شرحه لحديث عائشة في قصة سبب نزول آية التيمم في البخاري (329) باب إذا لم يجد ماء ولا تراباً. ونقل عن الجمهور وجوب الصلاة. فانظره.
قوله: (كما تمرّغ) بفتح المثنّاة وضمّ الغين المعجمة ، وأصله تتمرّغ. فحذفت إحدى التّاءين.
قوله: (إنّما كان يكفيك) وللبخاري " يكفيك الوجه والكفان " وفيه دليلٌ على أنّ الواجب في التّيمّم هي الصّفة المشروحة في هذا الحديث، والزّيادة على ذلك لو ثبتت بالأمر دلّت على النّسخ ولزم قبولها، لكن إنّما وردت بالفعل فتحمل على الأكمل، وهذا هو الأظهر من حيث الدّليل.
والأحاديث الواردة في صفة التّيمّم لَم يصحّ منها سوى حديث أبي جهيم (1) وعمّار، وما عداهما فضعيفٌ أو مختلفٌ في رفعه ووقفه، والرّاجح عدم رفعه.
(1) أخرجه البخاري (337) عن يحيى بن بكير عن الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن عمير مولى ابن عباس عن أبي الجهيم رضي الله عنه قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئرِ جملٍ. فلقيه رجلٌ فسلَّم عليه فلم يردَّ عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم ردَّ عليه السلام. وذكره مسلم (369) معلَّقاً عن الليث.
قال الحافظ في " الفتح ": وللدارقطني من طريق أبي صالح عن الليث " فمسح بوجهه وذراعيه " كذا للشافعي من رواية أبي الحويرث، وله شاهد من حديث ابن عمر. أخرجه أبو داود، لكن خطَّأ الحفَّاظ روايتَه في رفعه ، وصوَّبوا وقفه، وقد تقدَّم أنَّ مالكاً أخرجه موقوفاً بمعناه.
وهو الصحيح، والثابت في حديث أبي جهيم أيضاً بلفظ " يديه " لا ذراعيه. فإنها رواية شاذة مع ما في أبي الحويرث وأبي صالح من الضعف. انتهى
فأمّا حديث أبي جهيم. فورد بذكر اليدين مجملاً.
وأمّا حديث عمّار. فورد بذكر الكفّين في الصّحيحين. وبذكر المرفقين في السّنن، وفي رواية إلى نصف الذّراع، وفي رواية إلى الآباط.
فأمّا رواية المرفقين وكذا نصف الذّراع. ففيهما مقال.
وأمّا رواية الآباط. فقال الشّافعيّ وغيره: إن كان ذلك وقع بأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم فكلّ تيمّم صحّ للنّبيّ صلى الله عليه وسلم بعده فهو ناسخ له، وإن كان وقع بغير أمره فالحجّة فيما أمر به.
وممّا يقوّي رواية الصّحيحين في الاقتصار على الوجه والكفّين كون عمّار كان يفتي بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، وراوي الحديث أعرف بالمراد به من غيره ، ولا سيّما الصّحابيّ المجتهد.
وإليه ذهب أحمد وإسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن خزيمة، ونقله ابن الجهم وغيره عن مالك، ونقله الخطّابيّ عن أصحاب الحديث.
وقال النّوويّ: رواه أبو ثور وغيره عن الشّافعيّ في القديم، وأنكر ذلك الماورديّ وغيره. قال: وهو إنكار مردود؛ لأنّ أبا ثور إمام ثقة.
قال: وهذا القول - وإن كان مرجوحاً - فهو القويّ في الدّليل. انتهى كلامه في شرح المهذّب.
وقال في شرح مسلم في الجواب عن هذا الحديث: إنّ المراد به بيان صورة الضّرب للتّعليم، وليس المراد به بيان جميع ما يحصل به التّيمّم.
وتعقّب: بأنّ سياق القصّة يدلّ على أنّ المراد به بيان جميع ذلك؛ لأنّ ذلك هو الظّاهر من قوله " إنّما يكفيك ".
وأمّا ما استدل به من اشتراط بلوغ المسح إلى المرفقين ، من أنّ ذلك مشترط في الوضوء. فجوابه أنّه قياس في مقابلة النّصّ، فهو فاسد الاعتبار وقد عارضه من لَم يشترط ذلك بقياسٍ آخر، وهو الإطلاق في آية السّرقة، ولا حاجة لذلك مع وجود هذا النّصّ.
قوله: (وضرب بيديه الأرض ضربة واحدةً) فيه الاكتفاء بضربةٍ واحدةٍ في التّيمّم، ونقله ابن المنذر عن جمهور العلماء واختاره.
وفيه أنّ التّرتيب غير مشترط في التّيمّم.
قال ابن دقيق العيد: اختلف في لفظ هذا الحديث. فوقع عند البخاريّ بلفظ " ثمّ " وفي سياقه اختصارٌ ، ولمسلمٍ بالواو. ولفظه " ثمّ مسح الشّمال على اليمين وظاهر كفّيه ووجهه " وللإسماعيليّ ما هو أصرح من ذلك.
قلت: ولفظه من طريق هارون الحمّال عن أبي معاوية " إنّما يكفيك أن تضرب بيديك على الأرض ، ثمّ تنفضهما ثمّ تمسح بيمينك على شمالك وشمالك على يمينك ، ثمّ تمسح على وجهك ".
قال الكرمانيّ: في هذه الرّواية إشكالٌ من خمسة أوجه:
أحدها: الضّربة الواحدة، وفي الطّرق الأخرى ضربتان، وقد قال النّوويّ: الأصحّ المنصوص ضربتان.
قلت: مراد النّوويّ ما يتعلق بنقل المذهب.
قوله: (ثمّ مسح الشّمال على اليمين ، وظاهر كفّيه ووجهه) وللبخاري " فضرب بكفّه ضربةً على الأرض، ثمّ نفضها، ثمّ مسح بهما ظهر كفّه بشماله أو ظهر شماله بكفّه، ثمّ مسح بهما وجهه ".كذا في جميع الرّوايات بالشّكّ.
وفي رواية أبي داود تحرير ذلك من طريق أبي معاوية أيضاً ، ولفظه " ثمّ ضرب بشماله على يمينه وبيمينه على شماله على الكفّين ثمّ مسح وجهه ".
وللبخاري " ونفخ فيهما ثمّ مسح بهما وجهه وكفّيه " وله أيضاً " ثمّ أدناهما من فيه " وهي كناية عن النّفخ، وفيها إشارة إلى أنّه كان نفخاً خفيفاً.
وفي رواية سليمان بن حرب عند البخاري " تفل فيهما " والتّفل. قال أهل اللّغة: هو دون البزق، والنّفث دونه.
وسياق هؤلاء يدلّ على أنّ التّعليم وقع بالفعل. ولمسلمٍ من طريق يحيى بن سعيد، وللإسماعيليّ من طريق يزيد بن هارون وغيره - كلّهم عن شعبة - أنّ التّعليم وقع بالقول، ولفظهم " إنّما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض " زاد يحيى " ثمّ تنفخ ، ثمّ تمسح بهما وجهك وكفّيك ".
واستدل بالنّفخ على استحباب تخفيف التّراب.
والنّفخ. يحتمل: أن يكون لشيءٍ علق بيده خشي أن يصيب وجهه الكريم.
ويحتمل: أنه علِق بيده من التّراب شيء له كثرة فأراد تخفيفه ، لئلا يبقى له أثر في وجهه.
ويحتمل: أن يكون لبيان التّشريع، ومن ثَمَّ تمسّك به من أجاز التّيمّم بغير التّراب زاعماً أنّ نفخه يدلّ على أنّ المشترط في التّيمّم الضّرب من غير زيادة على ذلك، فلمّا كان هذا الفعل محتملاً لَمَا ذكر. أورد البخاري الترجمة بلفظ الاستفهام بقوله: المتيمم هل ينفخ فيهما؟. ليعرف النّاظر أنّ للبحث فيه مجالاً.
واستدل به أيضاً على سقوط استحباب التّكرار في التّيمّم؛ لأنّ التّكرار يستلزم عدم التّخفيف.
وعلى أنّ من غسل رأسه بدل المسح في الوضوء أجزأه أخذاً من كون عمّار تمرّغ في التّراب للتّيمّم، وأجزأه ذلك، ومن هنا يؤخذ جواز الزّيادة على الضّربتين في التّيمّم، وسقوط إيجاب التّرتيب في التّيمّم عن الجنابة.