الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع والعشرون
24 -
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كنت مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم (1) فبَالَ ، وتوضّأ ، ومسح على خفّيه. مختصراً. (2)
قوله: (كنت مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم فبال.) ولهما من طريق منصور عن أبي وائل عن حذيفة: رأيتني أنا والنّبيّ صلى الله عليه وسلم نتماشى، فأتى سباطة قومٍ خلف حائطٍ، فقام كما يقوم أحدكم، فبال. وفي رواية لهما من طريق الأعمش عن أبي وائل " أتى سُباطة قومٍ ، فبال قائماً ".
والسباطة بضم المهملة بعدها موحدة. هي المزبلة والكناسة تكون بفناء الدور مرفقاً لأهلها ، وتكون في الغالب سهلة لا يرتد فيها البول على البائل.
وإضافتها إلى القوم إضافة اختصاص لا ملك؛ لأنها لا تخلو عن النجاسة. وبهذا يندفع إيراد من استشكله لكون البول يوهي الجدار ففيه إضرار.
(1) في بعض النسخ زيادة (في سفر) وعليها شرح البسام في تيسير العلام. وهي خطأ فليست في الصحيحين. وسيأتي في كلام الشارح أن في بعض الروايات أن الواقعة في المدينة.
(2)
أخرجه البخاري (222 ، 223 ، 224 ، 2339) ومسلم (273) من طرق عن أبي وائل عن حذيفة به. ليس في البخاري " المسح على الخُفّين " كما سيذكر الشارح رحمه الله.
قال عبد الحق: لَم يذكر البخاري في روايته هذه الزيادة.
أو نقول: إنما بال فوق السباطة لا في أصل الجدار. وهو صريحٌ رواية أبي عوانة في " صحيحه ".
وقيل: يحتمل أن يكون علم إذنهم في ذلك بالتصريح أو غيره، أو لكونه مما يتسامح الناس به، أو لعلمه بإيثارهم إياه بذلك، أو لكونه يجوز له التصرف في مال أمته دون غيره؛ لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأموالهم.
وهذا - وإن كان صحيح المعنى - لكن لَم يُعهد ذلك من سيرته ومكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم.
قال ابن بطال: دلالة الحديث على القعود بطريق الأولى؛ لأنه إذا جاز قائما فقاعدا أجوز.
قلت: ويحتمل أن يكون أشار (1) بذلك إلى حديث عبد الرحمن بن حسنة الذي أخرجه النسائي وابن ماجه وغيرهما فإن فيه: بال رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً ، فقلنا: انظروا إليه يبول كما تبول المرأة.
وحكى ابن ماجه عن بعض مشايخه أنه قال: كان من شأن العرب البول قائماً. أَلا تراه يقول في حديث عبد الرحمن بن حسنة: قعد يبول كما تبول المرأة. وقال في حديث حذيفة: فقام كما يقوم أحدكم.
ودلَّ حديث عبد الرحمن المذكور على أنه صلى الله عليه وسلم كان يخالفهم في ذلك فيقعد لكونه أستر وأبعد من مماسة البول. وهو حديث صحيح.
(1) أي: البخاري حيث بوَّب على الحديث " باب البول قائماً وقاعداً "
صحَّحه الدارقطني وغيره ، ويدلُّ عليه حديث عائشة قالت: ما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً منذ أنزل عليه القرآن. رواه أبو عوانة في " صحيحه " والحاكم.
قوله: (وتوضّأ) وللبخاري من رواية شعبة عن الأعمش " ثم دعا بماءٍ ، فجئته بماء فتوضأ ". زاد مسلم وغيره من طرق عن الأعمش " فتنحَّيت فقال: ادنه. فدنوت حتى قمت عند عقبيه " ، ولهما من رواية منصور " فانتبذت منه ، فأشار إليَّ فجئته ، فقمتُ عند عقبه حتى فرغ ".
وفي رواية أحمد عن يحيى القطان " أتى سباطة قوم فتباعدت منه. فأدناني حتى صرتُ قريباً من عقبيه ، فبال قائما ودعا بماء فتوضأ ومسح على خفيه " وكذا زاد مسلم وغيره فيه " ذكر المسح على الخُفّين " وهو ثابت أيضاً عند الإسماعيلي وغيره من طرق عن شعبة عن الأعمش.
وزاد عيسى بن يونس فيه عن الأعمش. أنَّ ذلك كان بالمدينة. أخرجه ابن عبد البر في التمهيد بإسناد صحيح.
وزعم في الاستذكار: أنَّ عيسى تفرد به.
وليس كذلك، فقد رواه البيهقي من طريق محمد بن طلحة بن مصرف عن الأعمش كذلك ، وله شاهد من حديث عصمة بن مالك سنذكره بعد.
واستدل به على جواز المسح في الحضر ، وهو ظاهر. ولعلَّ
البخاري اختصره لتفرد الأعمش به ، فقد روى ابن ماجه من طريق شعبة ، أنَّ عاصماً رواه له عن أبي وائل عن المغيرة ، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قومٍ فبال قائماً. قال عاصم: وهذا الأعمش يرويه عن أبي وائل عن حذيفة وما حفظه. يعني: أنَّ روايته هي الصواب. قال شعبة: فسألت عنه منصوراً فحدثنيه عن أبي وائل عن حذيفة يعني كما قال الأعمش ، لكن لَم يذكر فيه المسح، فقد وافق منصورٌ الأعمشَ على قوله عن حذيفة دون الزيادة. ولَم يلتفت مسلم إلى هذه العلة بل ذكرها في حديث الأعمش؛ لأنها زيادة من حافظ.
وقال الترمذي: حديث أبي وائل عن حذيفة أصحُّ، يعني حديثه عن المغيرة.
وهو كما قال. وإن جنح ابن خزيمة إلى تصحيح الروايتين لكون حماد بن أبي سليمان وافق عاصماً على قوله عن المغيرة، فجاز أن يكون أبو وائل سمعه منهما فيصح القولان معاً، لكن من حيث الترجيح رواية الأعمش ومنصور لاتفاقهما أصحُّ من رواية عاصم وحماد. لكونهما في حفظهما مقال.
وقوله " فانتبذت " بالنون والذال المعجمة. أي: تنحَّيت. يقال: جلس فلان نبذة بفتح النون وضمها ، أي: ناحية. وقوله " فأشار إليَّ " يدل على أنه لَم يبعد منه بحيث لا يراه.
وإنما صنع ذلك ليجمع بين المصلحتين: عدم مشاهدته في تلك الحالة وسماع ندائه لو كانت له حاجة، أو رؤية إشارته إذا أشار له
وهو مستدبره.
وليست فيه دلالة على جواز الكلام في حال البول؛ لأن هذه الرواية بينت أن قوله في رواية مسلم " ادنه " كان بالإشارة لا باللفظ.
وأما مخالفته صلى الله عليه وسلم لِمَا عرف من عادته من الإبعاد عند قضاء الحاجة عن الطرق المسلوكة وعن أعين النظارة ، فقد قيل فيه: إنه صلى الله عليه وسلم كان مشغولاً بمصالح المسلمين. فلعله طال عليه المجلس فاحتاج إلى البول فلو أبعد لتضرر.
واستدنى حذيفة ليستره من خلفه من رؤية من لعله يمر به وكان قدامه مستوراً بالحائط، أو لعله فعله لبيان الجواز. ثم هو في البول وهو أخف من الغائط لاحتياجه إلى زيادة تكشف، ولِمَا يقترن به من الرائحة. والغرض من الإبعاد التستر وهو يحصل بإرخاء الذيل والدنو من الساتر.
وروى الطبراني من حديث عصمة بن مالك قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض سكك المدينة. فانتهى إلى سباطة قوم ، فقال: يا حذيفة استرني. فذكر الحديث.
وظهر منه الحكمة في إدنائه حذيفة في تلك الحالة ، وكان حذيفة لَمّا وقف خلفه عند عقبه استدبره. وظهر أيضاً أنَّ ذلك كان في الحضر لا في السفر.
ويستفاد من هذا الحديث.
دفع أشد المفسدتين بأخفهما والإتيان بأعظم المصلحتين إذا لَم يمكنا
معا. وبيانه أنه صلى الله عليه وسلم كان يطيل الجلوس لمصالح الأمة ويكثر من زيارة أصحابه وعيادتهم، فلمَّا حضره البول وهو في بعض تلك الحالات لَم يؤخره حتى يبعد كعادته لِمَا يترتب على تأخيره من الضرر فراعى أهم الأمرين. وقدم المصلحة في تقريب حذيفة منه ليستره من المارة على مصلحة تأخيره عنه إذ لَم يمكن جمعهما.
تكميل: زاد الشيخان في أوله عن أبى وائل ، قال: كان أبو موسى الأشعرى يشدِّد في البول ، ويقول: إنَّ بني إسرائيل كان إذا أصاب ثوبَ أحدهم قرضه. فقال حذيفة: ليته أمسك. فذكر الحديث. للإسماعيلي " لوددتُ أنَّ صاحبكم لا يشدد هذا التشديد ".
وإنما احتج حذيفة بهذا الحديث؛ لأن البائل عن قيام قد يتعرض للرشاش ولَم يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الاحتمال ، فدلَّ على أنَّ التشديد مخالف للسنة.
واستدل به لمالك في الرخصة في مثل رءوس الإبر من البول.
وفيه نظرٌ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة لَم يصل إلى بدنه منه شيء. وإلى هذا أشار ابن حبان في ذكر السبب في قيامه.
قال: لأنه لَم يجد مكاناً يصلح للقعود فقام لكون الطرف الذي يليه من السباطة كان عالياً فأمن أن يرتد إليه شيء من بوله.
وقيل: لأن السباطة رخوة يتخللها البول فلا يرتد إلى البائل منه شيء.
وقيل: إنما بال قائماً؛ لأنها حالة يؤمن معها خروج الريح بصوت
ففعل ذلك؛ لكونه قريبا من الديار.
ويؤيده ما رواه عبد الرزاق عن عمر رضي الله عنه قال: البول قائماً أحصن للدبر.
وقيل: السبب في ذلك ما روي عن الشافعي وأحمد. أنَّ العرب كانت تستشفي لوجع الصلب بذلك فلعله كان به.
وروى الحاكم والبيهقي من حديث أبي هريرة قال: إنما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً لِجُرح كان في مأبضه.
والمأبض: بهمزة ساكنة بعدها موحدة ثم معجمة باطن الركبة. فكأنه لَم يتمكن لأجله من القعود ، ولو صحَّ هذا الحديث لكان فيه غِنى عن جميع ما تقدم ، لكن ضعَّفه الدارقطني والبيهقي.
والأظهر. أنه فعل ذلك لبيان الجواز ، وكان أكثر أحواله البول عن قعود. والله أعلم.
وسلك أبو عوانة في صحيحه وابن شاهين فيه مسلكاً آخر. فزعما أنَّ البول عن قيام منسوخ، واستدلاّ عليه بحديث عائشة الذي قدمناه " ما بال قائماً منذ أنزل عليه القرآن " وبحديثها أيضا " من حدَّثكم أنه كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلَاّ قاعداً. (1)
والصواب أنه غير منسوخ.
(1) أخرجه الترمذي (12) والنسائي (29) وابن ماجه (307) من حديث شريك عن المقدام بن شريح عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها. وفي سنده شريك.
والجواب عن حديث عائشة أنَّه مُستندٌ إلى علمها. فيحمل على ما وقع منه في البيوت ، وأما في غير البيوت فلم تطلع هي عليه ، وقد حفظه حذيفة - وهو من كبار الصحابة - وقد بينا أنَّ ذلك كان بالمدينة فتضمَّن الرد على ما نفته من أنَّ ذلك لَم يقع بعد نزول القرآن.
وقد ثبت عن عمر وعلي وزيد بن ثابت وغيرهم ، أنهم بالوا قياماً. وهو دالٌّ على الجواز من غير كراهة إذا أمن الرشاش. والله أعلم.
ولَم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عنه شيءٌ كما بينتُه في أوائل شرح الترمذي، والله أعلم.