المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث الواحد والعشرون - فتح السلام شرح عمدة الأحكام من فتح الباري - جـ ١

[عبد السلام العامر]

فهرس الكتاب

- ‌مقدِّمة الكتاب

- ‌أولاً:

- ‌ثانياً:

- ‌ثالثاً:

- ‌رابعاً:

- ‌خامساً:

- ‌سادساً:

- ‌سابعاً:

- ‌ثامناً:

- ‌كتاب الطّهارة

- ‌باب

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌باب دخول الخلاء والاستطابة

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌الحديث الخامس عشر

- ‌الحديث السادس عشر

- ‌الحديث السابع عشر

- ‌الحديث الثامن عشر

- ‌باب السواك

- ‌الحديث التاسع عشر

- ‌الحديث العشرون

- ‌الحديث الواحد والعشرون

- ‌الحديث الثاني والعشرون

- ‌باب المسح على الخُفّين

- ‌الحديث الثالث والعشرون

- ‌الحديث الرابع والعشرون

- ‌بابٌ في المذي وغيره

- ‌الحديث الخامس والعشرون

- ‌الحديث السادس والعشرون

- ‌الحديث السابع والعشرون

- ‌الحديث الثامن والعشرون

- ‌الحديث التاسع والعشرون

- ‌الحديث الثلاثون

- ‌باب الغسل من الجنابة

- ‌الحديث الواحد والثلاثون

- ‌الحديث الثاني والثلاثون

- ‌الحديث الثالث والثلاثون

- ‌الحديث الرابع والثلاثون

- ‌الحديث الخامس والثلاثون

- ‌الحديث السادس والثلاثون

- ‌الحديث السابع والثلاثون

- ‌الحديث الثامن والثلاثون

- ‌الحديث التاسع والثلاثون

- ‌باب التّيمّم

- ‌الحديث الأربعون

- ‌الحديث الواحد والأربعون

- ‌الحديث الثاني والأربعون

- ‌باب الحيض

- ‌الحديث الثالث والأربعون

- ‌الحديث الرابع والأربعون

- ‌الحديث الخامس والأربعون

- ‌الحديث السادس والأربعون

- ‌الحديث السابع والأربعون

- ‌الحديث الثامن والأربعون

- ‌الحديث التاسع والأربعون

الفصل: ‌الحديث الواحد والعشرون

‌الحديث الواحد والعشرون

21 -

عن عائشة رضي الله عنها ، قالت: دخل عبد الرّحمن بن أبي بكرٍ الصّدّيق رضي الله عنه على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأنا مُسنِدته إلى صدري ، ومع عبد الرّحمن سواكٌ رطبٌ يستنّ به ، فأبدَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بصرَه. فأخذت السّواك فقضَمْتُه ، فطيّبته ، ثمّ دفعته إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فاستنّ به ، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استنّ استناناً أحسن منه ، فما عدا أنْ فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رفع يده أو إصبعه ، ثمّ قال: في الرّفيق الأعلى ثلاثاً ثمّ قضى. وكانت تقول: مات بين حاقِنَتي وذاقِنَتي.

وفي لفظٍ: فرأيته ينظر إليه ، وعرفت أنّه يحبّ السّواك ، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه: أن نعم. هذا لفظ البخاريّ (1) ، ولمسلمٍ نحوه. (2)

قوله: (عن عائشة) هي الصّدّيقة بنت الصّدّيق ، وأمّها أمّ رومان ، وكان مولدها في الإسلام قبل الهجرة بثمان سنين أو نحوها. ومات النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولها نحو ثمانية عشر عاماً، وقد حفظتْ عنه شيئاً كثيراً ، وعاشتْ بعده قريباً من خمسين سنة، فأكثر النّاس الأخذ عنها،

(1) أخرجه البخاري (4174) من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة. بهذا اللفظ.

ورواه البخاري (850 ، 1323 ، 2933 ، 4181 ، 4184 ، 4186 ، 4919 ، 6145) من طرق أخرى عن عائشة. مختصراً ومطوّلاً.

(2)

أخرجه مسلم (2443 ، 2444) مختصراً دون قصة السواك.

ص: 180

ونقلوا عنها من الأحكام والآداب شيئاً كثيراً حتّى قيل: إنّ ربع الأحكام الشّرعيّة منقول عنها رضي الله عنها.

وكان موتها في خلافة معاوية سنة ثمان وخمسين ، وقيل: في التي بعدها.

ولَم تلد للنّبيّ صلى الله عليه وسلم شيئاً على الصّواب، وسألتْه أن تكتني ، فقال: اكتني بابن أختك ، فاكتنت أمّ عبد الله ، وأخرج ابن حبّان في " صحيحه " من حديث عائشة ، أنّه كنّاها بذلك لَمّا أحضر إليه ابن الزّبير ليحنّكه ، فقال: هو عبد الله وأنت أمّ عبد الله. قالت: فلم أزل أكنّى بها ".

قوله: (ومع عبد الرّحمن سواك رطب) في رواية ابن أبي مليكة عن عائشة " ومرّ عبد الرّحمن وفي يده جريدة رطبة، فنظر إليه، فظننت أنّ له بها حاجة، فأخذتها فمضغت رأسها ونفضتها فدفعتها إليه ".

قوله: (يستنّ به) أي: يستاك، قال الخطّابيّ: أصله من السّنّ. أي: بالفتح، ومنه المسنّ الذي يسنّ عليه الحديد.

قوله: (فأبَدَّه) بتشديد الدّال. أي: مدّ نظره إليه، يقال: أبّدت فلاناً النّظر إذا طوّلته إليه، وفي رواية الكشميهنيّ " فأمدّه " بالميم.

قوله: (فقضمته) بفتح القاف وكسر الضّاد المعجمة. أي: مضغته، والقضم الأخذ بطرف الأسنان، يقال: قضمت الدّابّة بكسر الضّاد

ص: 181

شعيرها تقضم بالفتح إذا مضغته.

وحكى عياض: أنّ الأكثر رووه بالصّاد المهملة. (1) أي: كسرته أو قطعته، وحكى ابن التّين رواية بالفاء والمهملة.

قال المحبّ الطّبريّ: إن كان بالضّاد المعجمة فيكون قولها: " فطيّبته " تكراراً ، وإن كان بالمهملة فلا. لأنّه يصير المعنى كسرته لطوله، أو لإزالة المكان الذي تسوّك به عبد الرّحمن.

قوله: (وطيّبته) في رواية البخاري " ثمّ ليّنته ثمّ طيّبته " أي: بالماء ، ويحتمل أن يكون طيّبته تأكيداً لليّنته.

وللبخاري من رواية ذكوان عن عائشة: فقلت: آخذه لك؟ فأومأ برأسه أن نعم، فتناولته فأدخلته في فيه فاشتدّ، فتناولته ، فقلت: أليّنه لك؟ فأومأ برأسه أن نعم. ويؤخذ منه العمل بالإشارة عند الحاجة إليها، وقوّة فطنة عائشة.

فائدة: فيه أنَّ استعمال سواك الغير ليس بمكروه ، إلَّا أنَّ المستحب أن يغسله ثم يستعمله ، وفيه حديث عن عائشة في سنن أبي داود قالت:

(1) أي " فقصمته " وهي عند البخاري في كتاب الجمعة.

قال الشارح في موضع آخر: قاف وصاد مهملة للأكثر. أي: كسرته ، وفي رواية كريمة وبن السكن بضاد معجمة ، والقضم: بالمعجمة الأكل بأطراف الأسنان. قال ابن الجوزي: وهو أصح. قلت: ويحمل الكسر على كسر موضع الاستياك. فلا ينافي الثاني. والله أعلم. انتهى

ص: 182

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني السواك لأغسله فأبدأ به فأستاك ، ثم أغسله ، ثم أدفعه إليه ". وهذا دالٌّ على عظيم أدبها وكبير فطنتها ، لأنها لم تغسله ابتداء حتى لا يفوتها الاستشفاء بريقه صلى الله عليه وسلم ثم غسلته تأدبَّاً وامتثالاً ، ويحتمل: أن يكون المراد بأمرها بغسله تطييبه وتليينه بالماء قبل أن يستعمله. والله أعلم

وقوله: (فما عدا أنْ فرغ) أي: من السّواك.

قوله: (في الرفيق الأعلى) في رواية للشيخين: سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه، وأخذته بحّةٌ، يقول: مع الذين أنعم الله عليهم. وفي رواية المطّلب عن عائشة عند أحمد: فقال: مع الرّفيق الأعلى، مع الذين أنعم الله عليهم من النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء - إلى قوله - رفيقاً.

وفي رواية أبي بُرْدة بن أبي موسى عن أبيه عند النّسائيّ وصحَّحه ابن حبّان: فقال: أسأل الله الرّفيق الأعلى الأسعد، مع جبريل وميكائيل وإسرافيل.

وظاهره أنّ الرّفيق المكان الذي تحصل المرافقة فيه مع المذكورين.

وفي رواية عبّاد عن عائشة بعد هذا قال: اللهمّ اغفر لي وارحمني وألحقني بالرّفيق. وفي رواية ذكوان عن عائشة " فجعل يقول: في الرّفيق الأعلى حتّى قبض "، وفي رواية ابن أبي مليكة عن عائشة "

ص: 183

وقال: في الرّفيق الأعلى، في الرّفيق الأعلى " (1)

وهذه الأحاديث تردّ على من زعم أنّ " الرّفيق " تغيير من الرّاوي ، وأنّ الصّواب الرّقيع - بالقاف والعين المهملة - وهو من أسماء السّماء.

وقال الجوهريّ: الرّفيق الأعلى الجنّة.

ويؤيّده ما وقع عند أبي إسحاق: الرّفيق الأعلى الجنّة.

وقيل: بل الرّفيق هنا اسم جنس يشمل الواحد وما فوقه ، والمراد الأنبياء ومن ذكر في الآية. وقد ختمت بقوله:(وحسن أولئك رفيقاً) ونكتة الإتيان بهذه الكلمة بالإفراد ، الإشارة إلى أنّ أهل الجنّة يدخلونها على قلب رجل واحد، نبّه عليه السّهيليّ.

وزعم بعض المغاربة. أنّه يحتمل أن يراد بالرّفيق الأعلى الله عز وجل ، لأنّه من أسمائه كما أخرج أبو داود من حديث عبد الله بن مغفّل رفعه: إنّ الله رفيق يحبّ الرّفق. كذا اقتصر عليه، والحديث عند مسلم عن عائشة ، فعزوه إليه أولى.

قال: والرّفيق ، يحتمل: أن يكون صفة ذات كالحكيم، أو صفة فعل.

قال: ويحتمل أن يراد به حضرة القدس، ويحتمل: أن يراد به

(1) رواية عبَّاد وذكوان وابن أبي مليكة كلها في صحيح البخاري ، ووافقه مسلم في رواية عباد ، وإنما لَم يعزها الشارح. إمَّا لتقدمها في البخاري ، وإمَّا للعلم بها عند الإطلاق.

ص: 184

الجماعة المذكورون في آية النّساء. ومعنى كونهم رفيقاً. تعاونهم على طاعة الله وارتفاق بعضهم ببعضٍ.

وهذا الثّالث هو المعتمد. وعليه اقتصر أكثر الشّرّاح.

وقد غلّط الأزهريّ القولَ الأوّل، ولا وجه لتغليطه من الجهة التي غلطه بها. وهو قوله: مع الرّفيق أو في الرّفيق، لأنّ تأويله على ما يليق بالله سائغ.

قال السّهيليّ: الحكمة في اختتام كلام المصطفى بهذه الكلمة كونها تتضمّن التّوحيد والذّكر بالقلب حتّى يستفاد منه الرّخصة لغيره ، أنّه لا يشترط أن يكون الذّكر باللسان ، لأنّ بعض النّاس قد يمنعه من النّطق مانع فلا يضرّه إذا كان قلبه عامراً بالذّكر. انتهى ملخّصاً.

تنْبيه: قال السّهيليّ: وجدت في بعض كتب الواقديّ ، أنّ أوّل كلمة تكلم بها صلى الله عليه وسلم وهو مسترضع عند حليمة: الله أكبر (1). وآخر كلمة تكلَّم بها كما في حديث عائشة: في الرّفيق الأعلى. وروى الحاكم من حديث أنس ، أنّ آخر ما تكلَّم به: جلال ربّي الرّفيع.

قوله: (ثم قضى) أي: مات ، وكانت وفاته يوم الاثنين بلا خلاف

(1) أخرج البيهقي في " الدلائل "(46) وابن عساكر في " تاريخ دمشق "(3/ 474) من حديث ابن عباس قال: كانت حليمة بنت أبي ذؤيب التي أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم تحدّث أنها لَمَّا فطمت رسول الله تكلَّم ، قالت: سمعته يقول كلاماً عجيباً. سمعته يقول الله: أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرةً وأصيلاً فلمَّا ترعرع. فذكر حديثاً طويلاً. وسنده ضعيف

ص: 185

من ربيع الأوّل ، وكاد يكون إجماعاً، لكن في حديث ابن مسعود عند البزّار في حادي عشر رمضان، ثمّ عند ابن إسحاق والجمهور أنّها في الثّاني عشر منه.

وعند موسى بن عقبة والليث والخوارزميّ وابن زبر: مات لهلال ربيع الأوّل

وعند أبي مخنف والكلبيّ في ثانيه. ورجّحه السّهيليّ.

وعلى القولين يتنزّل ما نقله الرّافعيّ ، أنّه عاش بعد حجّته ثمانين يوماً، وقيل: أحداً وثمانين.

وأمّا على ما جزم به في " الرّوضة "(1) فيكون عاش بعد حجّته تسعين يوماً أو أحداً وتسعين.

وقد استشكل ذلك السّهيليّ ومن تبعه. أعني: كونه مات يوم الاثنين ثاني عشر شهر ربيع الأوّل، وذلك أنّهم اتّفقوا على أنّ ذا الحجّة كان أوّله يوم الخميس، فمهما فرضت الشّهور الثّلاثة توأم أو نواقص أو بعضها لَم يصحّ، وهو ظاهر لمن تأمّله.

وأجاب البارزيّ ثمّ ابن كثير: باحتمال وقوع الأشهر الثّلاثة كوامل،

(1) قال الحافظ: وذكر الخطابي أنه ابتدأ به المرض يوم الاثنين. وقيل: يوم السبت. وقال الحاكم أبو أحمد: يوم الأربعاء.

واختلف في مدة مرضه. فالأكثر على أنها ثلاثة عشر يوماً. وقيل: بزيادة يوم. وقيل: بنقصه. والقولان في الروضة. وصدر بالثاني ، وقيل: عشرة أيام. وبه جزم سليمان التيمي في مغازيه. وأخرجه البيهقي بإسناد صحيح. اهـ

ص: 186

وكان أهل مكّة والمدينة اختلفوا في رؤية هلال ذي الحجّة ، فرآه أهل مكّة ليلة الخميس ، ولَم يره أهل المدينة إلَاّ ليلة الجمعة، فحصلت الوقفة برؤية أهل مكّة، ثمّ رجعوا إلى المدينة فأرّخوا برؤية أهلها فكان أوّل ذي الحجّة الجمعة وآخره السّبت، وأوّل المحرّم الأحد وآخره الاثنين، وأوّل صفر الثّلاثاء وآخره الأربعاء، وأوّل ربيع الأوّل الخميس فيكون ثاني عشره الاثنين.

وهذا الجواب بعيد من حيث إنّه يلزم توالي أربعة أشهر كوامل.

وقد جزم سليمان التّيميّ أحد الثّقات ، بأنّ ابتداء مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوم السّبت الثّاني والعشرين من صفر ، ومات يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأوّل، فعلى هذا كان صفر ناقصاً، ولا يمكن أن يكون أوّل صفر السّبت إلَاّ إن كان ذو الحجّة والمحرّم ناقصين ، فيلزم منه نقص ثلاثة أشهر متوالية.

وأمّا على قول مَن قال: مات أوّل يوم من ربيع الأوّل ، فيكون اثنان ناقصين ، وواحد كاملاً، ولهذا رجّحه السّهيليّ.

وفي " المغازي " لأبي معشر عن محمّد بن قيس قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأربعاء لإحدى عشرة مضت من صفر، وهذا موافق لقول سليمان التّيميّ ، المقتضي أنّ أوّل صفر كان السّبت.

وأمّا ما رواه ابن سعد من طريق عمر بن عليّ بن أبي طالب. قال: اشتكى رسول الله يوم الأربعاء لليلةٍ بقيَتْ من صفر فاشتكى ثلاث عشرة ليلة، ومات يوم الاثنين لاثنتي عشرة مضت من ربيع الأوّل.

ص: 187

فيرِدُ على هذا الإشكال المتقدّم، وكيف يصحّ أن يكون أوّل صفر الأحد يكون تاسع عشرينه الأربعاء؟.

والغرض أنّ ذا الحجّة أوّله الخميس، فلو فرض هو والمحرّم كاملين لكان أوّل صفر الاثنين، فكيف يتأخّر إلى يوم الأربعاء؟.

فالمعتمد ما قال أبو مخنف. وكأنّ سبب غلط غيره أنّهم قالوا: مات في ثاني شهر ربيع الأوّل فتغيّرت فصارت ثاني عشر، واستمرّ الوهم بذلك يتبع بعضهم بعضاً من غير تأمّل، والله أعلم.

وقد أجاب القاضي بدر الدّين بن جماعة بجوابٍ آخر ، فقال:

يحمل قول الجمهور لاثنتي عشرة ليلة خلت. أي: بأيّامها. فيكون موته في اليوم الثّالث عشر، ويفرض الشّهور كوامل فيصحّ قول الجمهور.

ويعكّر عليه ما يعكّر على الذي قبله مع زيادة مخالفة اصطلاح أهل اللسان في قولهم لاثنتي عشرة ، فإنّهم لا يفهمون منها إلَاّ مضيّ الليالي، ويكون ما أرّخ بذلك واقعاً في اليوم الثّاني عشر.

قوله: (وكانت تقول: مات ورأسه بين حاقنتي وذاقنتي) في رواية ذكوان عن عائشة " توفّي في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وإنّ الله جمع ريقي وريقه عند موته في آخر يوم من الدّنيا ".

والحاقنة بالمهملة والقاف: ما سفل من الذّقن، والذّاقنة ما علا منه. أو الحاقنة: نقرة التّرقوة، هما حاقنتان. ويقال: إنّ الحاقنة المطمئن من التّرقوة والحلق. وقيل ما دون التّرقوة من الصّدر، وقيل:

ص: 188

هي تحت السّرّة.

وقال ثابت: الذّاقنة طرف الحلقوم: والسّحر: بفتح المهملة وسكون الحاء المهملة هو الصّدر، وهو في الأصل الرّئة. والنّحر: بفتح النّون وسكون المهملة والمراد به موضع النّحر.

وأغرب الدّاوديّ ، فقال: هو ما بين الثّديين. والحاصل أنّ ما بين الحاقنة والذّاقنة هو ما بين السّحر والنّحر.

والمراد أنّه مات ورأسه بين حنكها وصدرها صلى الله عليه وسلم ورضي عنها. وهذا لا يغاير حديثها الذي قبل هذا أنّ رأسه كان على فخذها، لأنّه محمول على أنّها رفعته من فخذها إلى صدرها.

وهذا الحديث يعارض ما أخرجه الحاكم وابن سعد من طرق ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مات ورأسه في حجر عليٍّ.

وكلّ طريق منها لا يخلو من شيعيّ، فلا يُلتفت إليهم.

وقد رأيت بيان حال الأحاديث التي أشرت إليها دفعاً لتوهّم التّعصّب.

قال ابن سعد: ذكر مَن قال: توفّي في حجر عليّ ، وساق من حديث جابر: سأل كعبٌ الأحبار عليّاً ما كان آخر ما تكلم به صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أسندته إلى صدري، فوضع رأسه على منكبي ، فقال: الصّلاة الصّلاة. فقال كعب: كذلك آخر عهد الأنبياء.

وفي سنده الواقديّ وحرم بن عثمان وهما متروكان.

وعن الواقديّ عن عبد الله بن محمّد بن عمر بن عليّ عن أبيه عن

ص: 189

جدّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: ادعوا إليّ أخي، فدعي له عليّ ، فقال: ادن منّي، قال: فلم يزل مستنداً إليّ ، وإنّه ليكلمني حتّى نزل به. وثقل في حجري ، فصِحْتُ: يا عبّاس أدركني إنّي هالك، فجاء العبّاس، فكان جهدهما جميعاً أن أضجعاه.

فيه انقطاع مع الواقديّ، وعبد الله فيه لين.

وبه عن أبيه عن عليّ بن الحسين: قبض ورأسه في حجر عليّ " فيه انقطاع.

وعن الواقديّ عن أبي الحويرث عن أبيه عن الشّعبيّ: مات ورأسه في حجر عليّ. فيه الواقديّ والانقطاع، وأبو الحويرث اسمه عبد الرّحمن بن معاوية بن الحارث المدنيّ قال مالك: ليس بثقةٍ، وأبوه لا يعرف حاله.

وعن الواقديّ عن سليمان بن داود بن الحصين عن أبيه عن أبي غطفان: سألت ابن عبّاس قال: توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو إلى صدر عليّ، قال: فقلت: فإنّ عروة حدّثني عن عائشة ، قالت: توفّي النّبيّ صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري، فقال ابن عبّاس: لقد توفّي وإنّه لمستند إلى صدر عليّ، وهو الذي غسّله وأخي الفضل، وأَبَى أَبِي أن يحضر.

فيه الواقديّ، وسليمان لا يعرف حاله، وأبو غطفان - بفتح المعجمة ثمّ المهملة - اسمه سعد. وهو مشهور بكنيته، وثّقه النّسائيّ.

وأخرج الحاكم في " الإكليل " من طريق حبّة العرنيّ عن عليّ:

ص: 190

أسندته إلى صدري ، فسالت نفسه. وحبّة ضعيف. ومن حديث أمّ سلمة قالت: عليٌّ آخرهم عهداً برسول الله صلى الله عليه وسلم.

والحديث عن عائشة أثبت من هذا، ولعلَّها أرادت آخر الرّجال به عهداً.

ويمكن الجمع: بأن يكون عليّ آخرهم عهداً به ، وأنّه لَم يفارقه حتّى مال ، فلمّا مال ظنّ أنّه مات ، ثمّ أفاق بعد أن توجّه ، فأسندته عائشة بعده إلى صدرها فقبض.

ووقع عند أحمد من طريق يزيد بن بابنوس - بموحّدتين بينهما ألف غير مهموز وبعد الثّانية المفتوحة نون مضمومة ، ثمّ واو ساكنة ثمّ سين مهملة - في أثناء حديث " فبينما رأسه ذات يوم على منكبي ، إذ مال رأسه نحو رأسي ، فظننت أنّه يريد من رأسي حاجة ، فخَرجَتْ من فيه نقطة باردة فوقعت على ثغرة نحري فاقشعرّ لها جلدي، وظننت أنّه غشي عليه فسجّيته ثوباً ".

ص: 191