الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بابٌ في المذي وغيره
الحديث الخامس والعشرون
25 -
عن عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه ، قال: كنت رجلاً مذَّاءً ، فاستحييتُ أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته منّي ، فأمرتُ المقداد بن الأسود فسأَلَه ، فقال: يغسلُ ذكرَه ، ويتوضّأ. (1)
وللبخاريّ. اغسل ذكرك وتوضّأ (2).
ولمسلمٍ: توضّأ وانضح فرجك. (3)
قوله: (عن عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه) أي ابن عبد المطلب القرشي الهاشمي أبو الحسن. وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم شقيق أبيه. واسمه عبد مناف على الصحيح.
ولد قبل البعثة بعشر سنين على الراجح ، وكان قد ربَّاه النبي صلى الله عليه وسلم من صغره لقصة مذكورة في السيرة النبوية، فلازمه من صغره فلم يفارقه إلى أن مات.
وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، وكانت ابنة عمة أبيه وهي أول
(1) أخرجه البخاري (266) ومسلم (303) من طريق أبي حصين عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه به.
وأخرجه البخاري (132 ، 176) ومسلم (303) من طريق منذر بن يعلى الثوري عن محمد ابن الحنفية عن عليٍّ رضي الله عنه. نحوه.
(2)
الصواب (توضأ وغسل ذكرك). كما سينبّه عليه الشارح.
(3)
أخرجه مسلم (303) من طريق سليمان بن يسار عن ابن عباس عن عليٍّ رضي الله عنه.
هاشمية ولدت لهاشمي، وقد أسلمتْ وصحِبتْ وماتتْ في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أحمد وإسماعيل القاضي والنسائي وأبو علي النيسابوري: لَم يرِد في حقِّ أحدٍ من الصحابة بالأسانيد الجياد أكثر مما جاء في علي.
وكأن السبب في ذلك أنه تأخَّر، ووقع الاختلاف في زمانه وخروج من خرج عليه، فكان ذلك سبباً لانتشار مناقبه من كثرة من كان بينها من الصحابة رداً على من خالفه، فكان الناس طائفتين، لكن المبتدعة قليلة جداً. ثم كان من أمرِ عليٍّ ما كان فنجمت طائفة أخرى حاربوه، ثم اشتدَّ الْخطْب فتنقصّوه ، واتخذوا لعنَه على المنابر سُنةً، ووافقهم الخوارج على بغضه. وزادوا حتى كفَّروه، مضموماً ذلك منهم إلى عثمان، فصار الناس في حق علي ثلاثة: أهل السنة والمبتدعة من الخوارج والمحاربين له من بني أمية وأتباعهم.
فاحتاج أهل السنة إلى بثِّ فضائله فكثر الناقل لذلك لكثرة من يخالف ذلك، وإلَاّ فالذي في نفس الأمر أنَّ لكل من الأربعة من الفضائل إذا حُرِّر بميزان العدل لا يخرج عن قول أهل السنة والجماعة أصلا.
وروى يعقوب بن سفيان بإسناد صحيح عن عروة قال: أسلم عليٌّ وهو ابن ثمان سنين. وقال ابن إسحاق: عشر سنين. وهذا أرجحها، وقيل غير ذلك. وكان قَتْلُ عليٍّ رضي الله عنه سنة أربعين.
قوله: (مذّاء) صيغة مبالغة من المذي. يقال: مذى يمذي ، مثل
مضى يمضي ثلاثيّاً ، ويقال أيضاً: أمذى يمذي بوزن أعطى يعطي رباعيّاً.
وفي المذي لغات. أفصحها بفتح الميم وسكون الذّال المعجمة وتخفيف الياء ثمّ بكسر الذّال وتشديد الياء.
وهو ماءٌ أبيض رقيقٌ لزجٌ يخرج عند الملاعبة ، أو تذكّر الجماع ، أو إرادته. وقد لا يحسّ بخروجه.
قوله: (لمكان ابنته) في رواية مسلمٍ من طريق ابن الحنفيّة عن عليّ " من أجل فاطمة رضي الله عنها ".
قوله: (توضّأ) هذا الأمر بلفظ الإفراد يشعر بأنّ المقداد سأل لنفسه ، ويحتمل: أن يكون سأل لمبهمٍ أو لعليٍّ ، فوجّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم الخطاب إليه.
والظّاهر أنّ عليّاً كان حاضر السّؤال ، فقد أطبق أصحاب المسانيد والأطراف على إيراد هذا الحديث في مسند عليّ ، ولو حملوه على أنّه لَم يحضر لأوردوه في مسند المقداد.
ويؤيّده ما في رواية النّسائيّ من طريق أبي بكر بن عيّاش عن أبي حصينٍ في هذا الحديث عن عليّ قال: فقلت لرجلٍ جالسٍ إلى جنبي: سلْه فسأله.
ووقع في رواية مسلم " فقال: يغسل ذكره ويتوضّأ " بلفظ الغائب ، فيحتمل أن يكون سؤال المقداد وقع على الإبهام ، وهو الأظهر ففي مسلمٍ أيضاً " فسأله عن المذي يخرج من الإنسان " ، وفي الموطّأ
نحوه (1).
ووقع في روايةٍ لأبي داود والنّسائيّ وابن خزيمة ذكر سبب ذلك من طريق حصين بن قبيصةٍ عن عليّ قال: كنت رجلاً مذّاء ، فجعلت أغتسل منه في الشّتاء حتّى تشقّق ظهري ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: لا تفعل.
ولأبي داود وابن خزيمة من حديث سهل بن حنيفٍ ، أنّه وقع له نحو ذلك ، وأنّه سأل عن ذلك بنفسه.
ووقع في روايةٍ للنّسائيّ ، أنّ عليّاً قال: أمرت عمّاراً أن يسأل. وفي روايةٍ لابن حبّان والإسماعيليّ ، أنّ عليّاً قال: سألت.
وجمع ابن حبّان بين هذا الاختلاف ، بأنّ عليّاً أمر عمّاراً أن يسأل ، ثمّ أمر المقداد بذلك ، ثمّ سأل بنفسه.
وهو جمعٌ جيّدٌ إلَاّ بالنّسبة إلى آخره؛ لكونه مغايراً لقوله. إنّه استحيى من السّؤال بنفسه لأجل فاطمة ، فيتعيّن حمله على المجاز بأنّ بعض الرّواة أطلق أنّه سأل لكونه الآمر بذلك ، وبهذا جزم
(1) الموطأ برقم (53) من طريق سليمان بن يسار عن المقداد بن الأسود، أنَّ علي بن أبي طالب أمره أن يسأل له رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل إذا دنا من أهله فخرج منه المذي، ماذا عليه؟ .. الحديث " وأخرجه الإمام أحمد (6/ 5) وأبو داود في " السنن " (207) والنسائي في " المجتبى " (1/ 97) وابن ماجه (505) وابن خزيمة في " صحيحه " (21) وابن حبان في " صحيحه " (1101) وغيرهم من طرق عن مالك به.
وسليمان بن يسار لَم يسمع من المقداد رضي الله عنه. ولَم يره كما قال ابن عبد البر وغيره.
وقوله: (إذا دنا من أهله) ليست في الصحيحين ، وهي تبيُّن السبب في وجود المذي ، وأنه بسبب الملاعبة والدنو من أهله لا مطلقاً.
الإسماعيليّ ثمّ النّوويّ.
ويؤيّد أنّه أمر كُلاًّ من المقداد وعمّاراً بالسّؤال عن ذلك ، ما رواه عبد الرّزّاق من طريق عائش بن أنس قال: تذاكر عليٌّ والمقداد وعمّار المذي ، فقال عليٌّ: إنّني رجل مذّاء ، فاسألا عن ذلك النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، فسأله أحد الرّجلين.
وصحّح ابن بشكوال ، أنّ الذي تولى السّؤال عن ذلك هو المقداد ، وعلى هذا فنسبة عمّار إلى أنّه سأل عن ذلك محمولة على المجاز أيضاً؛ لكونه قصده ، لكن تولى المقداد الخطاب دونه. والله أعلم.
واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم " توضّأ " على أنّ الغسل لا يجب بخروج المذي ، وصرّح بذلك في روايةٍ لأبي داود وغيره وهو إجماع.
وعلى أنّ الأمر بالوضوء منه كالأمر بالوضوء من البول كما استدل البخاري به في باب " من لَم ير الوضوء إلَاّ من المخرجين ".
وحكى الطّحاويّ عن قومٍ أنّهم قالوا بوجوب الوضوء بمجرّد خروجه ، ثمّ ردّ عليهم بما رواه من طريق عبد الرّحمن بن أبي ليلى عن عليّ قال: سئل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن المذي. فقال: فيه الوضوء ، وفي المنيّ الغسل. فعرف بهذا أنّ حكم المذي حكم البول وغيره من نواقض الوضوء ، لا أنّه يوجب الوضوء بمجرّده.
قوله: (اغسل ذكرك ، وتوضأ) وقع في البخاريّ تقديم الأمر بالوضوء على غسله.
ووقع في العمدة نسبة ذلك إلى البخاريّ بالعكس ، لكنّ الواو لا
ترتّب فالمعنى واحد. وهي رواية الإسماعيليّ.
فيجوز تقديم غسله على الوضوء وهو أولى ويجوز تقديم الوضوء على غسله ، لكن من يقول بنقض الوضوء بمسّه ، يشترط أن يكون ذلك بحائل.
واستدل به ابن دقيق العيد على تعيّن الماء فيه دون الأحجار ونحوها؛ لأنّ ظاهره يعيّن الغسل، والمعيّن لا يقع الامتثال إلَاّ به ، وهذا ما صحَّحه النّوويّ في شرح مسلم ، وصحّح في باقي كتبه جواز الاقتصار إلحاقاً بالبول وحملاً للأمر بغسله على الاستحباب ، أو على أنّه خرج مخرج الغالب، وهذا المعروف في المذهب.
واستدل به بعض المالكيّة والحنابلة على إيجاب استيعابه بالغسل عملاً بالحقيقة (1) ، لكنّ الجمهور نظروا إلى المعنى ، فإنّ الموجب
(1) قال ابن تيمية في " شرح العمدة "(1/ 102) بعد أن ذكر الروايات عن الإمام أحمد فيما يُغسل من المذي: الثالثة: يغسل جميع الذكر والأنثيين. اختارها أبو بكر والقاضي. لما روي عن علي قال: كنت مذاء فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته فأمرت المقداد فسأله، فقال: يغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ. رواه أحمد وأبو داود.
فإن قيل: يرويه هشام بن عروة عن أبيه عن علي. وهو لم يدركه، قلنا: مُرسِلُه أحدُ أجلاء الفقهاء السبعة. رواه ليبين الحكم المذكور فيه، وهذا من أقوى المراسيل، وقد روى عبد الله بن سعد قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء يكون بعد الماء فقال: ذاك المذي ، وكلُّ فحل يمذي فتغسل من ذلك فرجك وأنثييك وتوضأ. رواه أبو داود. ولأنه خارج بشهوة فجاز أن يجب بغسله أكثر من محله كالمني، وذلك لأنَّ الأنثيين وعاؤه فغسلهما يقطعه ويزيل أثره. انتهى
وقال ابن حجر في " التلخيص "(1/ 206): ورواه أبو داود من طريق عروة عن علي، وفيه يغسل أنثييه وذكره، وعروة لم يسمع من علي، لكن رواه أبو عوانة في " صحيحه " من حديث عَبيدة عن علي بالزيادة، وإسناده لا مطعن فيه. انتهى.
قلت: مما يقوّي القول بغسل الأنثيين أن المذيَّ ربما خرج من الرجل دون انتصاب أو يخرج بالانتصاب ثم يسترخي الذكر فيمس الأنثيين دون أن يشعر الرجل. والله أعلم
لغسله إنّما هو خروج الخارج ، فلا تجب المجاوزة إلى غير محله.
ويؤيّده ما عند الإسماعيليّ في روايةٍ " فقال: توضّأ واغسله " فأعاد الضّمير على المذي ، ونظير هذا قوله " من مسّ ذكره فليتوضّأ " فإنّ النّقض لا يتوقّف على مسّ جميعه.
واختلف القائلون بوجوب غسل جميعه ، هل هو معقول المعنى أو للتّعبّد؟. فعلى الثّاني. تجب النّيّة فيه.
قال الطّحاويّ: لَم يكن الأمر بغسله لوجوب غسله كلّه ، بل ليتقلَّص فيبطل خروجه كما في الضّرع إذا غسل بالماء البارد يتفرّق لَبَنُه إلى داخل الضّرع ، فينقطع بخروجه.
واستدل به أيضاً. على نجاسة المذي ، وهو ظاهرٌ ، وخرّج ابن عقيل الحنبليّ من قول بعضهم: إنّ المذي من أجزاء المنيّ روايةً بطهارته.
وتعقّب: بأنّه لو كان منيّاً لوجب الغسل منه.
واستدل به على وجوب الوضوء على من به سلس المذي؛ للأمر بالوضوء مع الوصف بصيغة المبالغة الدّالة على الكثرة.
وتعقّبه ابن دقيق العيد: بأنّ الكثرة هنا ناشئةٌ عن غلبة الشّهوة مع
صحّة الجسد بخلاف صاحب السّلس فإنّه ينشأ عن عِلَّة في الجسد ، ويمكن أن يقال: أَمَرَ الشّارع بالوضوء منه ولَم يستفصل ، فدلَّ على عموم الحكم.
واستدل به على قبول خبر الواحد ، وعلى جواز الاعتماد على الخبر المظنون مع القدرة على المقطوع.
وفيهما نظرٌ. لِمَا قدّمناه من أنّ السّؤال كان بحضرة عليّ ، ثمّ لو صحّ أنّ السّؤال كان في غيبته ، لَم يكن دليلاً على المدّعى ، لاحتمال وجود القرائن التي تحفّ الخبر فترقّيه عن الظّنّ إلى القطع ، قاله القاضي عياض.
وقال ابن دقيق العيد: المراد بالاستدلال به على قبول خبر الواحد مع كونه خبر واحد ، أنّه صورةٌ من الصّور التي تدلّ ، وهي كثيرةٌ تقوم الحجّة بجملتها لا بفردٍ معيّنٍ منها.
وفيه جواز الاستنابة في الاستفتاء ، وقد يؤخذ منه جواز دعوى الوكيل بحضرة موكّله ، وفيه ما كان الصّحابة عليه من حرمة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وتوقيره. وفيه استعمال الأدب في ترك المواجهة بما يستحى منه عرفاً ، وحسن المعاشرة مع الأصهار ، وترك ذِكْر ما يتعلق بجماع المرأة ونحوه بحضرة أقاربها.
وقد استدل البخاري به في العلم لمن استحيى فأمر غيره بالسّؤال؛ لأنّ فيه جمعاً بين المصلحتين: استعمال الحياء وعدم التّفريط في معرفة الحكم.