الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثامن عشر
18 -
عن عبد الله بن عبّاسٍ رضي الله عنه ، قال: مرّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقبرين ، فقال: إنّهما ليُعذّبان ، وما يُعذّبان في كبيرٍ ، أمّا أحدهما: فكان لا يستتر من البول ، وأمّا الآخر: فكان يمشي بالنّميمة ، فأخذ جريدةً رطبةً فشقّها نصفين ، فغَرَزَ في كل قبرٍ واحدةً، فقالوا: يا رسولَ الله ، لِمَ فعلتَ هذا؟ قال: لعلَّه يخفّف عنهما ما لَم ييبسا. (1)
قوله: (عن عبد الله بن عباس) بن عبد المطلب بن هاشم ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم يكنى أبا العباس. ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ، ومات بالطائف سنة ثمان وستين ، وكان من علماء الصحابة حتى كان عمر يقدمه مع الأشياخ وهو شابٌّ.
وروى البخاري عنه قال: ضمَّني النبي صلى الله عليه وسلم إليه ، وقال: اللهم علّمه الحكمة ، وفي لفظ " علّمه الكتاب ". وهو يؤيد من فسَّر
(1) أخرجه البخاري (213 ، 215 ، 1321 ، 5705 ، 5708) ومسلم (292) من طريق الأعمش عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس به.
ورواه البخاري (213) من طريق منصور عن مجاهد عن ابن عباس. دون ذِكْر طاوس.
قال ابن حجر (1/ 414): وإخراجه له على الوجهين يقتضي صحتهما عنده ، فيحمل على أنَّ مجاهداً سمعه من طاوس عن ابن عباس ثم سمعه من ابن عباس بلا واسطة أو العكس.
ويؤيّده أنَّ في سياقه عن طاوس زيادة على ما في روايته عن ابن عباس ، وصرَّح ابن حبان بصحة الطريقين معاً ، وقال الترمذي: رواية الأعمش أصحُّ. انتهى
الحكمة هنا بالقرآن.
وهذه الفظة اشتهرت على الألسنة " اللهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل " حتى نسبها بعضهم للصحيحين ولم يصب.
والحديث عند أحمد بهذا اللفظ من طريق ابن خيثم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وعند الطبراني من وجهين آخرين، وأوله في هذا الصحيح من طريق عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس دون قوله:" وعلّمه التأويل ".
وأخرجها البزار من طريق شعيب بن بشر عن عكرمة بلفظ " اللهم علمه تأويل القرآن " وعند أحمد من وجه آخر عن عكرمة " اللهم أعط ابن عباس الحكمة وعلّمه التأويل ".
واختلف في المراد بالحكمة هنا.
فقيل: الإصابة في القول، وقيل: الفهم عن الله، وقيل: ما يشهد العقل بصحته، وقيل: نور يفرق به بين الإلهام والوسواس، وقيل: سرعة الجواب بالصواب، وقيل غير ذلك.
وكان ابن عباس من أعلم الصحابة بتفسير القرآن.
وروى يعقوب بن سفيان في " تاريخه " بإسناد صحيح عن ابن مسعود قال: لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عاشره منا رجلٌ. وكان يقول: نِعم ترجمان القرآن ابن عباس.
وروى هذه الزيادة ابن سعد من وجه آخر عن عبد الله بن مسعود.
وروى أبو زرعة الدمشقي في " تاريخه " عن ابن عمر قال: هو أعلم
الناس بما أنزل الله على محمد. وأخرج ابن أبي خيثمة نحوه بإسناد حسن.
وروى يعقوب أيضاً بإسناد صحيح عن أبي وائل قال: قرأ ابن عباس سورة النور ثم جعل يفسرها، فقال رجلٌ: لو سمعتْ هذا الديلم لأسلمت. ورواه أبو نعيم في " الحلية " من وجه آخر بلفظ " سورة البقرة " وزاد أنه " كان على الموسم " يعني سنة خمس وثلاثين، كان عثمان أرسله لما حُصر.
قوله: (مرّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم) وللبخاري في الأدب (1)" خرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من بعض حيطان المدينة " أي بستان ، وله أيضا " مر بحائط " فيحمل على أنّ الحائط الذي خرج منه غير الحائط الذي مرّ به.
وفي الأفراد للدّارقطنيّ من حديث جابر ، أنّ الحائط كان لأمّ مبشّر الأنصاريّة، وهو يقوّي رواية الأدب لجزمها بالمدينة من غير شكّ ، والشّكّ في رواية البخاري " المدينة أو مكّة " من جرير (2).
قوله: (بقبرين) زاد ابن ماجه " جديدين فقال: إنّهما ليعذّبان " فيحتمل أن يقال: أعاد الضّمير على غير مذكور ، لأنّ سياق الكلام يدلّ عليه، وأن يقال أعاده على القبرين مجازاً ، والمراد من فيهما. وللبخاري " فسمع صوت إنسانين يعذّبان في قبورهما ".
(1) أي: في " كتاب الأدب " من صحيح البخاري رقم (5708).
(2)
صحيح البخاري (213) من روايته عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنه -
قال ابن مالك: في قوله " صوت إنسانين " شاهد على جواز إفراد المضاف المثنّى إذا كان جزء ما أضيف إليه. نحو أكلت رأس شاتين، وجمعه أجود نحو (فقد صغت قلوبكما) وقد اجتمع التّثنية والجمع في قوله: ظهرُاهما مثل ظُهور التُّرسين فإن لَم يكن المضاف جزء ما أضيف إليه، فالأكثر مجيئه بلفظ التّثنية، فإن أمن اللبس جاز جعل المضاف بلفظ الجمع. وقوله " يعذّبان في قبورهما " شاهد لذلك.
قوله: (يُعذّبان وما يُعذّبان في كبير) وللبخاري " ثمّ قال: بلى. " أي: إنّه لكبير. وصرّح بذلك في الأدب من طريق عبد بن حميدٍ عن منصور فقال: وما يعذّبان في كبير. وإنّه لكبير.
وهذا من زيادات رواية منصور على الأعمش ، ولَم يخرجها مسلم.
واستدل ابن بطّال برواية الأعمش ، على أنّ التّعذيب لا يختصّ بالكبائر بل قد يقع على الصّغائر، قال: لأنّ الاحتراز من البول لَم يرد فيه وعيد، يعني: قبل هذه القصّة.
وتعقّب: بهذه الزّيادة، وقد ورد مثلها من حديث أبي بكرة عند أحمد والطّبرانيّ
…
ولفظه " وما يعذّبان في كبير، بلى ".
وقال ابن مالك: في قوله " في كبير " شاهد على ورود " في " للتّعليل، وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم: عذّبت امرأة في هرّة. قال: وخفي ذلك على أكثر النّحويّين مع وروده في القرآن كقول الله تعالى (لمسّكم فيما أخذتم) وفي الحديث كما تقدّم، وفي الشّعر فذكر شواهد. انتهى.
وقد اختلف في معنى قوله " وإنّه لكبير ".
فقال أبو عبد الملك البونيّ: يحتمل أنّه صلى الله عليه وسلم ظنّ أنّ ذلك غير كبير، فأوحي إليه في الحال بأنّه كبير، فاستدرك.
وتعقّب: بأنّه يستلزم أن يكون نسخاً ، والنّسخ لا يدخل الخبر.
وأجيب: بأنّ الحكم بالخبر يجوز نسخه فقوله " وما يعذّبان في كبير " إخبار بالحكم، فإذا أوحي إليه أنّه كبير فأخبر به كان نسخاً لذلك الحكم.
وقيل: يحتمل أنّ الضّمير في قوله " وإنّه " يعود على العذاب، لِمَا ورد في صحيح ابن حبّان من حديث أبي هريرة " يعذّبان عذاباً شديداً في ذنب هيّن ".
وقيل: الضّمير يعود على أحد الذّنبين ، وهو النّميمة لأنّها من الكبائر بخلاف كشف العورة، وهذا مع ضعفه غير مستقيم ، لأنّ الاستتار المنفيّ ليس المراد به كشف العورة فقط كما سيأتي.
وقال الدّاوديّ وابن العربيّ: " كبير " المنفيّ بمعنى أكبر، والمثبت واحد الكبائر، أي: ليس ذلك بأكبر الكبائر كالقتل مثلاً، وإن كان كبيراً في الجملة.
وقيل: المعنى ليس بكبيرٍ في الصّورة ، لأنّ تعاطي ذلك يدلّ على الدّناءة والحقارة، وهو كبير الذّنب.
وقيل: ليس بكبيرٍ في اعتقادهما ، أو في اعتقاد المخاطبين ، وهو عند الله كبير كقوله تعالى (وتحسبونه هيّناً وهو عند الله عظيم).
وقيل: ليس بكبيرٍ في مشقّة الاحتراز، أي: كان لا يشقّ عليهما
الاحتراز من ذلك. وهذا الأخير جزم به البغويّ وغيره. ورجّحه ابن دقيق العيد وجماعة.
وقيل: ليس بكبيرٍ بمجرّده وإنّما صار كبيراً بالمواظبة عليه، ويرشد إلى ذلك السّياق فإنّه وصف كلاًّ منهما بما يدلّ على تجدّد ذلك منه واستمراره عليه للإتيان بصيغة المضارعة بعد حرف كان. والله أعلم.
قوله: (لا يستتر) كذا في أكثر الرّوايات بمثنّاتين من فوق الأولى مفتوحة والثّانية مكسورة. وفي رواية ابن عساكر " يستبرئ " بموحّدةٍ ساكنة من الاستبراء. ولمسلمٍ وأبي داود في حديث الأعمش " يستنزه " بنونٍ ساكنة بعدها زاي ثمّ هاء.
فعلى رواية الأكثر معنى الاستتار ، أنّه لا يجعل بينه وبين بوله سترة يعني: لا يتحفّظ منه، فتوافق رواية " لا يستنزه " لأنّها من التّنزّه. وهو الإبعاد.
وقد وقع عند أبي نعيمٍ في " المستخرج " من طريق وكيع عن الأعمش " كان لا يتوقّى " وهي مفسّرة للمراد.
وأجراه بعضهم على ظاهره ، فقال: معناه لا يستر عورته.
وضُعّف: بأنّ التّعذيب لو وقع على كشف العورة لاستقل الكشف بالسّببيّة ، واطّرح اعتبار البول فيترتّب العذاب على الكشف سواء وجد البول أم لا.
ولا يخفى ما فيه. وسيأتي كلام ابن دقيق العيد قريباً.
وأمّا رواية الاستبراء فهي أبلغ في التّوقّي.
وتعقّب الإسماعيليّ رواية الاستتار ، بما يحصل جوابه ممّا ذكرنا.
قال ابن دقيق العيد: لو حمل الاستتار على حقيقته للزم أنّ مجرّد كشف العورة كان سبب العذاب المذكور، وسياق الحديث يدلّ على أنّ للبول بالنّسبة إلى عذاب القبر خصوصيّة، يشير إلى ما صحَّحه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة مرفوعاً " أكثر عذاب القبر من البول " أي: بسبب ترك التّحرّز منه.
قال: ويؤيّده أنّ لفظ " من " في هذا الحديث لَمّا أضيف إلى البول اقتضى نسبة الاستتار الذي عدمه سبب العذاب إلى البول، بمعنى أنّ ابتداء سبب العذاب من البول، فلو حمل على مجرّد كشف العورة زال هذا المعنى، فتعيّن الحمل على المجاز لتجتمع ألفاظ الحديث على معنىً واحد ، لأنّ مخرجه واحد.
ويؤيّده أنّ في حديث أبي بكرة عند أحمد وابن ماجه " أمّا أحدهما فيعذّب في البول " ومثله للطّبرانيّ عن أنس
قوله: (من البول) قال ابن بطَّال: أراد البخاري (1) أن المراد بقوله " كان لا يستتر من البول " أي: بول النّاس لا بول سائر الحيوان، فلا يكون فيه حجّة لمن حمله على العموم في بول جميع الحيوان.
وكأنّه أراد الرّدّ على الخطّابيّ حيث قال: فيه دليل على نجاسة
(1) قال البخاري " باب ما جاء في غسل البول ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب القبر: كان لا يستتر من بوله. ولَم يذكر سوى بول الناس " انتهى كلام البخاري
الأبوال كلّها.
ومحصّل الرّدّ: أنّ العموم في رواية " من البول " أريد به الخصوص. لقوله " من بوله "(1) والألف واللام بدل من الضّمير، لكن يلتحق ببوله بول من هو في معناه من النّاس لعدم الفارق، قال: وكذا غير المأكول، وأمّا المأكول فلا حجّة في هذا الحديث لِمَن قال بنجاسة بوله، ولِمَن قال بطهارته حجج أخرى.
وقال القرطبيّ: قوله " من البول " اسم مفرد لا يقتضي العموم، ولو سلم فهو مخصوص بالأدلة المقتضية لطهارة بول ما يؤكل. (2)
قوله: (يمشي بالنّميمة) صحّح ابن حبّان من حديث أبي هريرة بلفظ: وكان الآخر يؤذي النّاس بلسانه ويمشي بينهم بالنّميمة.
قال ابن دقيق العيد: النميمة هي نقل كلام النّاس. والمراد منه هنا ما كان بقصد الإضرار، فأمّا ما اقتضى فعل مصلحة أو ترك مفسدة فهو مطلوب. انتهى
وهو تفسير للنّميمة بالمعنى الأعمّ.
قال النّوويّ: وهي نقل كلام الغير بقصد الإضرار، وهي من أقبح القبائح.
وتعقّبه الكرمانيّ فقال: هذا لا يصحّ على قاعدة الفقهاء، فإنّهم
(1) رواية (من بوله) أخرجها الشيخان أيضاً.
(2)
انظر حديث أنس رضي الله عنه رقم (250).
يقولون: الكبيرة هي الموجبة للحدّ ولا حدّ على المشي بالنّميمة، إلَاّ أن يقال: الاستمرار هو المستفاد منه جعله كبيرة؛ لأنّ الإصرار على الصّغيرة حكمه حكم الكبيرة. أو أنّ المراد بالكبيرة معنىً غير المعنى الاصطلاحيّ. انتهى.
وما نقله عن الفقهاء ليس هو قول جميعهم؛ لكنّ كلام الرّافعيّ يشعر بترجيحه حيث حكى في تعريف الكبيرة وجهين:
أحدهما: هذا. والثّاني: ما فيه وعيد شديد. قال: وهم إلى الأوّل أميل. والثّاني أوفق لِمَا ذكروه عند تفصيل الكبائر. انتهى.
ولا بدّ من حمل القول الأوّل على أنّ المراد به غير ما نصّ عليه في الأحاديث الصّحيحة؛ وإلَاّ لزم أن لا يعدّ عقوق الوالدين وشهادة الزّور من الكبائر، مع أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عدّهما من أكبر الكبائر. وعرف بهذا الجواب عن اعتراض الكرمانيّ ، بأنّ النّميمة قد نصّ في الصّحيح على أنّها كبيرة كما تقدم.
قال الغزاليّ ما ملخّصه: ينبغي لمن حملت إليه نميمة أن لا يصدّق من نمّ له. ولا يظنّ بمن نمّ عنه ما نقل عنه ، ولا يبحث عن تحقيق ما ذكر له ، وأن ينهاه ويقبّح له فعله ، وأن يبغضه إن لَم ينزجر ، وأن لا يرضى لنفسه ما نهي النّمّام عنه ، فينمّ هو على النّمّام فيصير نمّاماً.
قال النّوويّ: وهذا كلّه إذا لَم يكن في النّقل مصلحة شرعيّة ، وإلا فهي مستحبّة أو واجبة، كمن اطّلع من شخص أنّه يريد أن يؤذي شخصاً ظلماً فحذّره منه، وكذا من أخبر الإمام أو من له ولاية بسيرة
نائبه مثلاً فلا منع من ذلك.
وقال الغزاليّ ما ملخّصه: النّميمة في الأصل نقل القول إلى المقول فيه، ولا اختصاص لها بذلك بل ضابطها كشف ما يكره كشفه ، سواء كرهه المنقول عنه أو المنقول إليه أو غيرهما، وسواء كان المنقول قولاً أم فعلاً، وسواء كان عيباً أم لا، حتّى لو رأى شخصاً يخفي ما له فأفشى كان نميمة.
واختلف في الغيبة والنّميمة. هل هما متغايرتان أو متّحدتان؟.
والرّاجح التّغاير، وأنّ بينهما عموماً وخصوصاً وجهيّاً، وذلك لأنّ النّميمة نقل حال الشّخص لغيره على جهة الإفساد بغير رضاه سواء كان بعلمه أم بغير علمه، والغيبة ذكره في غيبته بما لا يرضيه، فامتازت النّميمة بقصد الإفساد، ولا يشترط ذلك في الغيبة، وامتازت الغيبة بكونها في غيبة المقول فيه، واشتركتا فيما عدا ذلك. ومن العلماء من يشترط في الغيبة أن يكون المقول فيه غائباً، والله أعلم.
لطيفة: أبدى بعضهم للجمع بين هاتين الخصلتين مناسبة. وهي أنَّ البرزخ مقدمة الآخرة ، وأول ما يقضى فيه يوم القيامة من حقوق الله الصلاة ومن حقوق العباد الدماء ، ومفتاح الصلاة التطهر من الحدث والخبث ، ومفتاح الدماء الغيبة والسعي بين الناس بالنميمة بنشر الفتن التي يسفك بسببها الدماء.
قوله: (فأخذ جريدةً رطبةً) ولهما من رواية الأعمش " فدعا
بعسيبٍ رطب " والعسيب - بمهملتين بوزن فعيل - هي الجريدة التي لَم ينبت فيها خوص، فإن نبت فهي السّعفة. وقيل: إنّه خصّ الجريد بذلك لأنّه بطيء الجفاف.
وروى النّسائيّ من حديث أبي رافع بسندٍ ضعيف ، أنّ الذي أتاه بالجريدة بلال، ولفظه: كنّا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم في جنازة إذ سمع شيئاً في قبر ، فقال لبلالٍ: ائتني بجريدةٍ خضراء. الحديث.
قوله: (فشقها نصفين) وللبخاري " فكسرها كسرتين " بكسر الكاف، والكسرة القطعة من الشّيء المكسور، وقد تبيّن من رواية الباب أنّها كانت نصفاً. وفي رواية جرير عنه " باثنتين "
قال النّوويّ: الباء زائدة للتّوكيد والنّصب على الحال ، وفي حديث أبي بكرة عند أحمد والطّبرانيّ ، أنّه الذي أتى بها إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
وأمّا ما رواه مسلم في حديث جابر الطّويل المذكور في أواخر الكتاب أنّه الذي قطع الغصنين، فهو في قصّة أخرى غير هذه.
فالمغايرة بينهما من أوجه:
منها: أنّ هذه كانت في المدينة. وكان معه صلى الله عليه وسلم جماعة، وقصّة جابر كانت في السّفر. وكان خرج لحاجته فتبعه جابرٌ وحده.
ومنها: أنّ في هذه القصّة ، أنّه صلى الله عليه وسلم غرس الجريدة بعد أن شقّها نصفين كما في الباب، وفي حديث جابر ، أنّه صلى الله عليه وسلم أمر جابراً بقطع غصنين من شجرتين ، كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم استتر بهما عند قضاء حاجته، ثمّ أمر جابراً فألقى الغصنين عن يمينه وعن يساره حيث كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم -
جالساً، وأنّ جابراً سأله عن ذلك فقال: إنّي مررت بقبرين يعذّبان فأحببت بشفاعتي أن يرفع عنهما ما دام الغصنان رطبين.
ولَم يذكر في قصّة جابر أيضاً السّبب الذي كانا يعذّبان به، ولا التّرجّي الآتي في قوله " لعله "، فبان تغاير حديث ابن عبّاس وحديث جابر وأنّهما كانا في قصّتين مختلفتين، ولا يبعد تعدّد ذلك.
وقد روى ابن حبّان في " صحيحه " من حديث أبي هريرة ، أنّه صلى الله عليه وسلم مرّ بقبرٍ فوقف عليه ، فقال: ائتوني بجريدتين، فجعل إحداهما عند رأسه ، والأخرى عند رجليه.
فيحتمل أن تكون هذه قصّة ثالثة. ويؤيّده أنّ في حديث أبي رافع كما تقدّم " فسمع شيئاً في قبر " وفيه " فكسرها باثنين ترك نصفها عند رأسه ونصفها عند رجليه " وفي قصّة الواحد حمل نصفها عند رأسه ونصفها عند رجليه، وفي قصّة الاثنين " جعل على كلّ قبر جريدة ".
قوله: (فغرز) وفي رواية لهما " فغرس " وهما بمعنىً، وأفاد سعد الدّين الحارثيّ ، أنّ ذلك كان عند رأس القبر. وقال: إنّه ثبت بإسنادٍ صحيح.
وكأنّه يشير إلى حديث أبي هريرة ، عند ابن حبّان. وقد قدّمنا لفظه، ثمّ وجدته في " مسند عبد بن حميدٍ " من طريق عبد الواحد بن زياد عن الأعمش في حديث ابن عبّاس صريحاً.
قوله: (قالوا له: يا رسولَ الله) أي: الصّحابة، ولَم نقف على تعيين السّائل منهم.
قوله: (لعلَّه) قال ابن مالك: يجوز أن تكون الهاء ضمير الشّأن، وجاز تفسيره بأن وصلتها لأنّها في حكم جملة لاشتمالها على مسند ومسند إليه.
قال: ويحتمل أن تكون " أن " زائدة مع كونها ناصبة كزيادة الباء مع كونها جارّة. انتهى
وقد ثبت في رّواية البخاري بحذف " أن " فقوّى الاحتمال الثّاني.
وقال الكرمانيّ: شبّه لعل بعسى فأتى بأن في خبره.
قوله: (يخفّف) بالضّمّ وفتح الفاء، أي: العذاب عن المقبورين.
قوله: (ما لَم ييبسا) أي: العودان، وللبخاري " تيبسا " أي: الكسرتان وللكشميهنيّ " إلَاّ أن تيبسا " بحرف الاستثناء.
قال المازريّ: يحتمل أن يكون أوحي إليه أنّ العذاب يخفّف عنهما هذه المدّة. انتهى
وعلى هذا فـ " لعلَّ " هنا للتّعليل، قال: ولا يظهر له وجه غير هذا.
وتعقّبه القرطبيّ: بأنّه لو حصل الوحي لَمَا أتى بحرف التّرجّي، كذا قال. ولا يرد عليه ذلك إذا حملناها على التّعليل.
قال القرطبيّ: وقيل إنّه شفع لهما هذه المدّة كما صرّح به في حديث جابر؛ لأنّ الظّاهر أنّ القصّة واحدة. وكذا رجّح النّوويّ كون القصّة واحدة.
وفيه نظر. لِمَا أوضحنا من المغايرة بينهما.
وقال الخطّابيّ: هو محمول على أنّه دعا لهما بالتّخفيف مدّة بقاء النّداوة، لا أنّ في الجريدة معنىً يخصّه، ولا أنّ في الرّطب معنىً ليس في اليابس.
قال: وقد قيل: إنّ المعنى فيه أنّه يسبّح ما دام رطباً فيحصل التّخفيف ببركة التّسبيح، وعلى هذا فيطّرد في كلّ ما فيه رطوبة من الأشجار وغيرها؛ وكذلك فيما فيه بركة الذّكر وتلاوة القرآن من باب الأولى.
وقال الطّيبيّ: الحكمة في كونهما ما دامتا رطبتين تمنعان العذاب ، يحتمل أن تكون غير معلومة لنا كعدد الزّبانية.
وقد استنكر الخطّابيّ ومن تبعه وضع النّاس الجريد ونحوه في القبر عملاً بهذا الحديث. قال الطّرطوشيّ: لأنّ ذلك خاصّ ببركة يده.
وقال القاضي عياض: لأنّه علَّل غرزهما على القبر بأمرٍ مغيّب ، وهو قوله " ليعذّبان ".
قلت: لا يلزم من كوننا لا نعلم أيعذّب أم لا؟ أن لا نتسبّب له في أمر يخفّف عنه العذاب أن لو عذّب، كما لا يمنع كوننا لا ندري أرحم أم لا؟. أن لا ندعو له بالرّحمة. وليس في السّياق ما يقطع على أنّه باشر الوضع بيده الكريمة، بل يحتمل أن يكون أمر به.
وقد تأسّى بريدة بن الحصيب الصّحابيّ بذلك فأوصى أن يُوضع
على قبره جريدتان (1) وهو أولى أن يتّبع من غيره (2).
قال ابن المرابط وغيره. يحتمل: أن يكون بريدة أمر أن يُغرزا في ظاهر القبر. اقتداء بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم في وضعه الجريدتين في القبرين.
ويحتمل: أن يكون أمر أن يُجعلا في داخل القبر لِمَا في النّخلة من البركة. لقوله تعالى (كشجرةٍ طيّبةٍ).
والأوّل أظهر، ويؤيّده إيراد البخاري حديث القبرين في آخر باب " الجريد على القبر "، وكأنّ بريدة حمل الحديث على عمومه ، ولَم يره خاصّاً بذينك الرّجلين.
قال ابن رشيد: ويظهر من تصرّف البخاريّ ، أنّ ذلك خاصّ بهما ، فلذلك عقّبه بقول ابن عمر: انزعه يا غلام إنّما يظلّه عمله. لَمّا رأى فسطاطاً على قبر عبد الرحمن بن أبي بكر. (3)
(1) ذكره البخاري معلّقاً في كتاب الجنائز. باب الجريد على القبر.
قال الشارح في " الفتح "(3/ 223): وصله ابن سعد من طريق مورِّق العجلي قال: أوصى بريدة أن يوضع في قبره جريدتان ومات بأدنى خراسان.
(2)
قال الشيخ ابن باز رحمه الله: الصواب في هذه المسألة ما قاله الخطابي من استنكار الجريد ونحوه على القبور ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَم يفعله إلَاّ في قبور مخصوصة اطلع على تعذيب أهلها. ولو كان مشروعاً لفعله في كل القبور وكبار الصحابة - كالخلفاء - لَم يفعلوه. وهم أعلم بالسنة من بريدة رضي الله عن الجميع - فتنبّه
(3)
ذكره البخاري معلَّقاً في باب " الجريد على القبر "
قال ابن حجر في " الفتح "(3/ 223): وصَلَه ابن سعد من طريق أيوب بن عبد الله بن يسار قال: مرَّ عبد الله بن عمر على قبر عبد الرحمن بن أبي بكر - أخي عائشة - وعليه فسطاط مضروب، فقال: يا غلام انزعه، فإنما يُظلّه عمله. قال الغلام: تضربني مولاتي. قال: كلَاّ فنزعه. ومن طريق ابن عون عن رجلٍ قال: قدِمتْ عائشة ذا طوى حين رفعوا أيديهم عن عبد الرحمن بن أبي بكر، فأمرت بفسطاط فضُرب على قبره. ووكَّلت به إنساناً ، وارتحلت، فقدم ابن عمر. فذكر نحوه.
تنبيه: لَم يُعرف اسم المقبورين ولا أحدهما، والظّاهر أنّ ذلك كان على عمد من الرّواة لقصد السّتر عليهما، وهو عمل مستحسن. وينبغي أن لا يبالغ في الفحص عن تسمية من وقع في حقّه ما يذمّ به.
وما حكاه القرطبيّ (1) في " التّذكرة " وضعّفه عن بعضهم ، أنّ أحدهما سعد بن معاذ ، فهو قولٌ باطلٌ لا ينبغي ذكره إلَاّ مقروناً ببيانه.
وممّا يدلّ على بطلان الحكاية المذكورة ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حضر دفن سعد بن معاذ كما ثبت في الحديث الصّحيح، وأمّا قصّة المقبورين ففي حديث أبي أمامة ، عند أحمد أنّه صلى الله عليه وسلم قال لهم: مَن دفنتم اليوم هاهنا؟ " فدلَّ على أنّه لَم يحضرهما.
وإنّما ذكرتُ هذا ذبّاً عن هذا السّيّد الذي سَمّاه النّبيّ صلى الله عليه وسلم سيّداً ، وقال لأصحابه: قوموا إلى سيّدكم. وقال: إنّ حكمه قد وافق حكم الله. وقال: إنّ عرش الرّحمن اهتزّ لموته. إلى غير ذلك من مناقبه
(1) أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فَرح الأنصاري الخزرجي الأندلسي القرطبي: من كبار المفسرين. صالح متعبد. من أهل قرطبة. رحل إلى الشرق ، واستقرَّ بِمِنية ابن خصيب (في شمالي أسيوط بمصر) وتوفي فيها سنة 671 هـ. من كتبه " الجامع لأحكام القرآن " و " التذكرة في أحوال الموتى والآخرة ".
الأعلام للزركلي (5/ 322).
الجليلة، خشية أن يغترّ ناقص العلم بما ذكره القرطبيّ ، فيعتقد صحّة ذلك. وهو باطل.
وقد اختلف في المقبورَين.
فقيل: كانا كافرين، وبه جزم أبو موسى المدينيّ، واحتجّ بما رواه من حديث جابر بسندٍ فيه ابن لهيعة ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرّ على قبرين من بني النّجّار هلكا في الجاهليّة، فسمعهما يعذّبان في البول والنّميمة.
قال أبو موسى: هذا وإن كان ليس بقويٍّ ، لكنّ معناه صحيح؛ لأنّهما لو كانا مسلمين لَمَا كان لشفاعته إلى أن تيبس الجريدتان معنىً؛ ولكنّه لَمّا رآهما يعذّبان لَم يستجز للطفه وعطفه حرمانهما من إحسانه فشفع لهما إلى المدّة المذكورة.
وجزم ابن العطّار في شرح العمدة. بأنّهما كانا مسلمين. وقال: لا يجوز أن يقال إنّهما كانا كافرين ، لأنّهما لو كانا كافرين لَم يدع لهما بتخفيف العذاب ، ولا ترجّاه لهما، ولو كان ذلك من خصائصه لبيّنه، يعني كما في قصّة أبي طالب.
قلت: وما قاله أخيراً هو الجواب، وما طالب به من البيان قد حصل، ولا يلزم التّنصيص على لفظ الخصوصيّة.
لكنّ الحديث الذي احتجّ به أبو موسى ضعيف كما اعترف به، وقد رواه أحمد بإسنادٍ صحيح على شرط مسلم ، وليس فيه سبب التّعذيب، فهو من تخليط ابن لهيعة، وهو مطابق لحديث جابر الطّويل الذي قدّمنا أنّ مسلماً أخرجه، واحتمال كونهما كافرين فيه ظاهر.
وأمّا حديث الباب ، فالظّاهر من مجموع طرقه أنّهما كانا مسلمين، ففي رواية ابن ماجه " مرّ بقبرين جديدين " فانتفى كونهما في الجاهليّة، وفي حديث أبي أمامة عند أحمد ، أنّه صلى الله عليه وسلم مرّ بالبقيع ، فقال: من دفنتم اليوم هاهنا؟.
فهذا يدلّ على أنّهما كانا مسلمين؛ لأنّ البقيع مقبرة المسلمين، والخطاب للمسلمين مع جريان العادة بأنّ كلّ فريق يتولاه من هو منهم.
ويقوّي كونهما كانا مسلمين ، رواية أبي بكرة عند أحمد والطّبرانيّ بإسنادٍ صحيح " يعذّبان، وما يعذّبان في كبير ، وبلى. وما يعذّبان إلَاّ في الغيبة والبول ". فهذا الحصر ينفي كونهما كانا كافرين؛ لأنّ الكافر - وإن عذّب على ترك أحكام الإسلام - فإنّه يعذّب مع ذلك على الكفر بلا خلاف.
قال الكرمانيّ: الغيبة نوع من النّميمة لأنّه لو سمع المنقول عنه ما نقل عنه لغمّه.
قلت: الغيبة قد توجد في بعض صور النّميمة، وهو أن يذكره في غيبته بما فيه ممّا يسوؤه قاصداً بذلك الإفساد، فيحتمل أن تكون قصّة الذي كان يعذّب في قبره كانت كذلك.
وورد في بعض طرقه بلفظ الغيبة صريحاً، وهو ما أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " من حديث جابر قال: كنّا مع صلى الله عليه وسلم فأتى على قبرين. فذكر فيه نحو حديث الباب. وقال فيه: أمّا أحدهما فكان
يغتاب النّاس. الحديث.
ولأحمد والطّبرانيّ أيضاً من حديث يعلى بن شبابة ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرّ على قبر يعذّب صاحبه ، فقال: إنّ هذا كان يأكل لحوم النّاس ، ثمّ دعا بجريدةٍ رطبة. الحديث، ورواته موثّقون.
ولأبي داود الطّيالسيّ عن ابن عبّاس بسندٍ جيّد مثله. وأخرجه الطّبرانيّ ، وله شاهد عن أبي أمامة عند أبي جعفر الطّبريّ في " التّفسير ". وأكل لحوم النّاس يصدق على النّميمة والغيبة.
والظّاهر اتّحاد القصّة، ويحتمل التّعدّد.
وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدّم.
إثبات عذاب القبر، وفيه التّحذير من ملابسة البول، ويلتحق به غيره من النّجاسات في البدن والثّوب.
ويستدلّ به على وجوب إزالة النّجاسة، خلافاً لمن خصّ الوجوب بوقت إرادة الصّلاة. والله أعلم.