الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَا أَظُنك أَيهَا الْمُتَكَلّم إِلَّا شَيْطَانا، فأعوذ بِاللَّه مِنْك، فَعِنْدَ ذَلِك تتلاشى تِلْكَ الصُّورَة وَلَا يبْقى لَهَا أثر.
فقد بلغ كيد الشَّيْطَان إِلَى هَذَا الكيد الْعَظِيم، وَلكنه لم ينْفق كَيده هَذَا على أَوْلِيَاء الله سُبْحَانَهُ فَردُّوهُ فِي نَحره حَتَّى إِنَّه قد يتطاير عِنْد ذَلِك التلاشي شرراً كَمَا وَقع لكثير مِنْهُم.
فَهَذَا الَّذِي يزْعم أَنه من أَوْلِيَاء الله قد كاده الشَّيْطَان بِهَذِهِ الْحِيلَة واجتذبه بِهَذَا الْمَكْر، فانخدع وَعَاد سَعْيه ضلالا وعبادته كفرا وَعَمله خسراً. وَسبب ذَلِك مَا هُوَ فِيهِ من الْجَهْل بالشريعه المطهرة، وَلَوْلَا ذَلِك لَكَانَ لَهُ من أنوار الدّين وحجج الشَّرْع مَا يرد عَنهُ كيد الشَّيْطَان الرَّجِيم، كَمَا رده أَوْلِيَاء الله فَعَاد خاسئاً وَهُوَ حسير.
وَقد عرفناك أَن دَعْوَى الْولَايَة إِذا لم تكن مربوطة بِالشَّرْعِ مُقَيّدَة بِالْكتاب وَالسّنة صل صَاحبهَا وَهُوَ لَا يدْرِي ومكر بِهِ وَهُوَ لَا يشْعر وَوَقع فِي مغاضب الله سُبْحَانَهُ وَهُوَ يظنّ أَنه فِي مراضيه.
وَمَا أحسن قَول الشَّاعِر:
(فَسَاد كَبِير عَالم متهتك
…
وأفسد مِنْهُ جَاهِل متنسك)
(هما فتْنَة للْعَالمين كَبِيرَة
…
لمن بهما فِي دينه يتَمَسَّك)
المُرَاد بتررد الله سُبْحَانَهُ عَن نفس الْمُؤمن:
قَوْله: " وَمَا ترددت عَن شَيْء أَنا فَاعله ترددي عَن نفس الْمُؤمن " فِي حَدِيث عَائِشَة عَن مَوته.
التَّرَدُّد: التَّوَقُّف عَن الْجَزْم بِأحد الطَّرفَيْنِ وَلأَجل كَون هَذَا مَعْنَاهُ
عِنْد أهل اللُّغَة احْتَاجَ شرَّاح الحَدِيث إِلَى تَأْوِيله بِوُجُوه.
قَالَ الْخطابِيّ: " التَّرَدُّد فِي حق الله تَعَالَى غير جَائِز، والبدا عَلَيْهِ فِي الْأُمُور غير سَائِغ، وَلَكِن لَهُ تأويلات ".
" أَحدهَا: أَن العَبْد قد يشرف على الْهَلَاك فِي أَيَّام عمره من دَاء يُصِيبهُ. وفاقة تنزل بِهِ فيدعو الله تَعَالَى ويستغيثه فيشفيه مِنْهَا، وَيدْفَع عَنهُ مكروهها، فَيكون ذَلِك من فعله كتردد من يُرِيد أمرا ثمَّ يَبْدُو لَهُ فيتركه ويعرض عَنهُ، وَلَا بُد لَهُ من لِقَائِه إِذا بلغ الْكتاب أَجله. وَلِأَن الله تَعَالَى قد كتب الفناء على خلقه، واستأثر بِالْبَقَاءِ لنَفسِهِ " انْتهى الْوَجْه الأول.
أَقُول: مَا أبرد هَذَا التَّأْوِيل وأسمجه، وَأَقل [فَائِدَته] فَإِن صُدُور الشِّفَاء من الله عز وجل لذَلِك الَّذِي أَصَابَهُ الدَّاء فشفاه مِنْهُ لَيْسَ من التَّرَدُّد فِي شَيْء بل هُوَ أَمر وَاحِد وَجزم لَا تردد فِيهِ قطّ.
وَكَذَلِكَ إِنْزَال الْمَرَض بِهِ جزم لَا تردد فِيهِ فهما قَضَاء بعد قَضَاء، وقدَر بعد قدر، وَإِن كَانَا [با] اعْتِبَار شخص وَاحِد، فهما مُخْتَلِفَانِ متغايران لم يتحدا ذاتا، وَلَا وقتا، وَلَا زَمَانا، وَلَا صفة. بل قضى الله على عَبده بِالْمرضِ ثمَّ شفَاه مِنْهُ.
فَأَي مدْخل للتردد أَو لما يشبه التَّرَدُّد، أَو لما يَصح أَن يُؤَل بِهِ التَّرَدُّد فِي مثل هَذَا.
وَقد ذكر أهل الْعلم أَن التَّأْوِيل لما احتِج إِلَى تَأْوِيله لَا بُد أَن يكون مَقْبُولًا على وَجه، وَله مدْخل على حَاله. وَإِلَّا وَقع تَحْرِيف الْكَلِمَات الإلهية والنبوية لمن شَاءَ كَيفَ شَاءَ، وتلاعب بهما من شَاءَ بِمَا شَاءَ.
قَالَ الْخطابِيّ:
الثَّانِي، أَن يكون مَعْنَاهُ:" مَا رددت رُسُلِي فِي شَيْء أَنا فَاعله كترديدي إيَّاهُم فِي نفس الْمُؤمن، كَمَا روى فِي قصَّة مُوسَى عليه السلام، وَمَا كَانَ من لطمه عين ملك الْمَوْت وَتردد إِلَيْهِ مرّة بعد أُخْرَى. قَالَ: وَحَقِيقَة الْمَعْنى على الْوَجْهَيْنِ عطف الله تَعَالَى على العَبْد ولطفه بِهِ وشفقته عَلَيْهِ " انْتهى.
أَقُول: جعل التَّرَدُّد الَّذِي مَعْنَاهُ التَّوَقُّف عَن الْجَزْم بِأحد الطَّرفَيْنِ بِمَعْنى الترديد الَّذِي هُوَ الرَّد مرّة بعد مرّة، وهما مُخْتَلِفَانِ مفهوماً وصدقاً. فحاصله: إِخْرَاج التَّرَدُّد عَن مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ إِلَى معنى لَا يلاقيه وَلَا يلابسه بِوَجْه من الْوُجُوه فَلَيْسَ هَذَا من التَّأْوِيل فِي شَيْء. قَالَ فِي الْفَتْح بعد أَن ذكر كَلَام الْخطابِيّ بِاللَّفْظِ الَّذِي حكيناه: " وَقَالَ الكلاباذي مَا حَاصله: أَنه عبر عَن صفة الْفِعْل بِصفة الذَّات أَي عَن الترديد بالتردد. وَجعل مُتَعَلق الترديد اخْتِلَاف أَحْوَال العَبْد من ضعف ونَصَب إِلَى أَن تنْتَقل محبته فِي الْحَيَاة إِلَى محبته فِي الْمَوْت فَيقبض على ذَلِك.
قَالَ وَقد يحدث الله تَعَالَى فِي قلب عَبده من الرَّغْبَة فِيمَا عِنْده والشوق إِلَيْهِ والمحبة للقائه مَا يشتاق مَعَه إِلَى الْمَوْت فضلا عَن إِزَالَة الْكَرَاهَة عِنْده فَأخْبرهُ أَنه يكره الْمَوْت ويسوءه فَيكْرَه الله تَعَالَى مساءته، فيزيل عَنهُ كَرَاهَة
الْمَوْت بِمَا يُورِدهُ عَلَيْهِ من الْأَحْوَال، فيأتيه الْمَوْت وَهُوَ لَهُ مُؤثر، وَإِلَيْهِ مشتاق.
قَالَ: " وَقد ورد تفَعَّل بِمَعْنى فَعَل مثل تَفَكَّر، وفَكَّرَ، وتَدَبَّر ودَبَّرَ، وتهدد وهدد وَالله أعلم " انْتهى.
أَقُول: كَلَامه هَذَا قد اشْتَمَل على أَمريْن: أَحدهمَا هُوَ كالتفسير لما ذكره الْخطابِيّ، وَلكنه ربطه بغاية هِيَ قَوْله إِلَى أَن تنْتَقل محبته فِي الْحَيَاة إِلَى محبته فِي الْمَوْت، فَصَارَ كَلَامه بِهَذِهِ الْغَايَة أتم من كَلَام الْخطابِيّ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا جعل حَاصِل الْوَجْهَيْنِ اللَّذين ذكرهمَا، هُوَ عطف الله على العَبْد. ولطفه بِهِ وشفقته عَلَيْهِ.
وَيُقَال للكلاباذي غَايَة مَا جَاءَ بِهِ التَّأْوِيل الَّذِي ذكرته أَن التَّرَدُّد الَّذِي حَكَاهُ الله عَن نَفسه هُوَ انْتِقَال العَبْد من حَالَة إِلَى حَالَة. فأخرجت التَّرَدُّد عَن مَعْنَاهُ، وأخرجت المتردد إِلَى اخْتِلَاف أَحْوَال المتردد فِي شَيْء من الْأُمُور الْمُتَعَلّقَة بِهِ. وَهَذَا إِخْرَاج للمعنى إِلَى معنى مُغَاير لَهُ بِكُل حَال وعَلى كل وَجه.
وَيُقَال للخطابي: جعلت التَّرَدُّد فِي الْمَوْت عطف الله على الْعباد ولطفه بِهِ وشفقته عَلَيْهِ. وَهَذَا معنى لَا جَامع بَينه وَبَين التَّرَدُّد فِي موت العَبْد، فَإِن لطف الله [بعباده] وَعطفه عَلَيْهِم وشفقته بهم أَمر مَقْطُوع بِهِ لَا تردد فِيهِ مِنْهُ عز وجل وَأما مَا ذكره الكلاباذي من قَوْله:(وَقد يحدث الله فِي قلب عَبده من الرَّغْبَة فِيمَا عِنْده والشوق إِلَيْهِ الخ) . فَهُوَ تَكْرِير لقَوْله قبله إِلَى أَن تنْتَقل محبته فِي الْحَيَاة إِلَى محبته فِي الْمَوْت، وَقد قدمنَا الْجَواب عَنهُ.
وَأما قَوْله: وَقد ورد تفعَّل بِمَعْنى فعل مثل تفكر الخ فَأَقُول: هَذَا مُسلم فِيمَا لم يخرج مِنْهُ الْمَعْنى إِلَى معنى آخر، فَإِن فكر، وتفكر، لم يخرجَا عَن معنى حُصُول الفكرة للْعَبد فِي شَيْء متفكر فِيهِ. وَكَذَلِكَ دبَّر وتدبَّر فَإِنَّهُمَا راجعان إِلَى معنى التَّدْبِير، وَكَذَلِكَ هدد وتهدد. وَأما التَّرَدُّد والترديد فَلَا يرجعان إِلَى معنى كَمَا بَينا، بل لكل وَاحِد مِنْهُمَا معنى مُسْتَقل يغاير معنى الآخر لمن تدبر وتفكر.
قَالَ فِي الْفَتْح: " وَعَن بَعضهم يحْتَمل أَن يكون تركيب الْوَلِيّ يحْتَمل أَن يعِيش خمسين سنة وعمره الَّذِي كتب لَهُ سَبْعُونَ، فَإِذا بلغَهَا فَمَرض دَعَا الله تَعَالَى بالعافية فَيُجِيبهُ عشْرين أُخْرَى مثلا. فَعبر عَن قدر التَّرْكِيب وَعَما انْتهى إِلَيْهِ بِحَسب الْأَجَل الْمَكْتُوب بالتردد " انْتهى.
أَقُول: هَذَا التَّأْوِيل لم يَأْتِ بفائدة قطّ فَإِن الْعُمر الَّذِي هُوَ السبعون لَا بُد أَن يبلغهُ العَبْد على اعْتِقَاد هَذَا الْقَائِل سَوَاء كَانَ التَّرْكِيب مُحْتملا لذَلِك أم لَا، وَسَوَاء مرض عِنْد انْتِهَاء عمره إِلَى خمسين أَو لم يمرض، وَسَوَاء دَعَا الله بالعافية أَو لم يدع. فَإِنَّهُ لَا بُد أَن يبلغ السّبْعين. وَغَايَة مَا هُنَاكَ أَن الله رَحمَه ولف بِهِ فشفاه من مَرضه الَّذِي عرض لَهُ وَهُوَ فِي خمسين سنة.
فَأَي شَيْء هَذَا، وَمَا الْجَامِع بَينه وَبَين معنى التَّرَدُّد الْمَذْكُور فِي الحَدِيث؟ قَالَ فِي الْفَتْح: " وَعبر ابْن الْجَوْزِيّ عَن الثَّانِي بِأَن التَّرَدُّد للْمَلَائكَة الَّذين
يقبضون الرّوح فأضاف الْحق ذَلِك لنَفسِهِ لِأَن ترددهم عَن أمره قَالَ: وَهَذَا التَّرَدُّد ينشأ عَن إِظْهَار الْكَرَاهَة. فَإِن قيل إِذا أُمر الْملك بِالْقَبْضِ كَيفَ يَقع مِنْهُ التَّرَدُّد؟ فَالْجَوَاب أَنه مُتَرَدّد فِيمَا لم يحد لَهُ فِيهِ الْوَقْت كَأَن يُقَال. لَا تقبض روحه إِلَّا إِذا رضى " انْتهى.
أَقُول: انْظُر مَا فِي هَذَا الْكَلَام من الْخبط والخلط. فَإِنَّهُ أَولا جعل التَّرَدُّد للْمَلَائكَة فَأخْرج الْكَلَام عَن مَعْنَاهُ إخراجاً لَا يبْقى للمعنى الْأَصْلِيّ مَعَه أثر قطّ. وَكَأَنَّهُ جعله من الْمجَاز الْعقلِيّ كَقَوْلِه بنى الْأَمِير الْمَدِينَة وَهُوَ عَنهُ أَجْنَبِي، فَإِنَّهُ قد وَقع الْبناء فِي الْخَارِج. وَإِنَّمَا نسب الْفِعْل إِلَى [الْأَمِير] . وَأما هَذَا فَلم يكن للتردد الْوَاقِع من الْمَلَائِكَة فَائِدَة قطّ وَلَا وجد فِي الْخَارِج [لَهُ] أثر. ثمَّ قَالَ: وَهَذَا التَّرَدُّد ينشأ عَن إِظْهَار الْكَرَاهَة، فَيُقَال: إِن كَانَ هَذَا الْإِظْهَار من جِهَة الرب سُبْحَانَهُ فَهُوَ يحْتَاج إِلَى تَأْوِيل آخر كَمَا احْتِيجَ التَّرَدُّد إِلَى تَأْوِيل. فَإِن الكرهة أَلا تجوز عَلَيْهِ بِهَذَا الْمَعْنى.
ثمَّ لم يظْهر لهَذَا الْإِظْهَار فَائِدَة. فَإِن ذَلِك العَبْد الَّذِي وَقع التَّرَدُّد فِي قبض روحه لم يمت إِلَّا بأجله المحتوم من دون أَن يتَقَدَّم عَنهُ سَاعَة، أَو يتَأَخَّر عَنهُ سَاعَة. ثمَّ انْظُر إِلَى مَا أوردهُ على نَفسه من قَوْله: فَإِن قيل: إِذا أُمر الْملك
بِالْقَبْضِ. كَيفَ يَقع مِنْهُ التَّرَدُّد؟ وَهَذَا إِيرَاد وَارِد، فَإِنَّهُم لَا يعصون الله فِيمَا أَمرهم وَلَا يتراخون عَن إنجاز أمره سُبْحَانَهُ. ثمَّ انْظُر إِلَى سُقُوط مَا أجَاب من أَن الْملك مُتَرَدّد فِيمَا لم يحد لَهُ فِيهِ الْوَقْت. وَكَيف يُؤمر الْملك بِفعل غير مَحْدُود ثمَّ يُسَارع إِلَى فعله؟ ! .
أما قَوْله. كَأَن يُقَال لَهُ: لَا تقبض روحه إِلَّا إِذا رضى فَهُوَ مَعَ كَونه يبطل التَّأْوِيل بالمرة والكرة، لَيْسَ للْملك أَن يفعل إِلَّا مَا يرضى بِهِ العَبْد من قبض روحه أَو عَدمه، لِأَنَّهُ قد علق ذَلِك بِرِضَاهُ. وَحِينَئِذٍ لَا ينجز الْفِعْل إِلَّا عِنْد الرضى من العَبْد. والمفروض أَنه يكره الْمَوْت كَمَا نطق بِهِ هَذَا الحَدِيث الْقُدسِي. فَعِنْدَ أَن يعرف الْملك أَن العَبْد لَا يرضى بِقَبض روحه، مَا بَقِي إِلَّا الْإِمْهَال لَهُ حَتَّى يرضى، وَأَن يُخَالف الْوَقْت الْمَحْدُود لمَوْته.
وَحِينَئِذٍ ينفتح إِشْكَال أكبر من هَذَا الْإِشْكَال الَّذِي هم بصدد تَأْوِيله.
قَالَ فِي الْفَتْح: " ثمَّ ذكر ابْن الْجَوْزِيّ جَوَابا ثَانِيًا وَهُوَ احْتِمَال أَن يكون معنى التَّرَدُّد اللطف بِهِ كَأَن الْملك يُؤَخر الْقَبْض. فَإِنَّهُ إِذا نظر إِلَى قدر الْمُؤمن وَعظم الْمَنْفَعَة بِهِ لأهل الدُّنْيَا احترمه فَلَا يبسط يَده إِلَيْهِ، فَإِذا ذكر أَمر ربه تَعَالَى لم يجد بدا من امتثاله " انْتهى.
أَقُول هَذَا اللطف الَّذِي بنى عَلَيْهِ هَذَا الْجَواب لم يظْهر لَهُ أثر، وَلَا تبين لَهُ معنى، فَإِن الْملك وَإِن تردد فَهُوَ لَا محَالة سيقبض الرّوح فِي الْوَقْت الْمَحْدُود
وَوُقُوع ذَلِك الشَّيْء فِي نَفسه لم يجد لَهُ العَبْد فَائِدَة وَلَا علم بِهِ فضلا عَن أَن يصل إِلَيْهِ مِنْهُ مَنْفَعَة.
فَهَذَا اللطف لَيْسَ بلطف أصلا، وَإِن فَرضنَا أَنه بِتِلْكَ الرأفة على العَبْد، لكَونه مِمَّن ينْتَفع الْعباد بِهِ، كَانَ بهَا تَأْخِير قبض روح العَبْد لَحْظَة وَأَن مُجَرّد ذَلِك يعد لطفا، فَإِنَّهُ يرد عَلَيْهِ إِشْكَال أعظم من الْإِشْكَال الَّذِي هم بصدد تَأْوِيله، وَهُوَ أَن الْأَجَل المحتوم قد تَأَخّر عَن وقته بِسَبَب تراخي الْملك عَن إِنْفَاذ أَمر الله بِهِ. وحاشا الْملك أَن يكون مِنْهُ هَذَا، وحاشا الْأَمر الإلهي أَن لَا ينجز حسب الْمَشِيئَة الربانية، فَمَا أَحَق صَاحب هَذَا التَّأْوِيل، بقول الشَّاعِر:
(فَكنت كالساعي إِلَى مثعب
…
موائلا من سبل الراعد)
قَالَ فِي الْفَتْح: " وجواباً، رَابِعا، وَهُوَ أَن يكون خطابا، لنا بِمَا نعقل، والرب عز وجل يتنزه عَن حَقِيقَته، بل هُوَ من جنس قَوْله: " وَمن أَتَانِي يمشي أَتَيْته هرولة ". فَكَمَا أَن أَحَدنَا يُرِيد أَن يضْرب وَلَده تأديبا فتمنعه الْمحبَّة وتبعثه الشَّفَقَة فيتردد بَينهمَا، وَلَو كَانَ غير الْوَالِد كالمعلم لم يتَرَدَّد بل كَانَ لَا يُبَالِي، بل يُبَادر إِلَى ضربه لتأديبه. فَأُرِيد تفهيمنا بتحقيق الْمحبَّة للْوَلِيّ بِذكر التَّرَدُّد " انْتهى.
أَقُول: هَذَا التَّأْوِيل هُوَ أحسن مِمَّا تقدم من تِلْكَ الْوُجُوه، فَإِنَّهُم قد أولُوا
مَالا يجوز على الله سُبْحَانَهُ من مثل التَّعَجُّب والاستفهام وَنَحْوهمَا مِمَّا يرد هَذِه الْمَوَارِد بِأَن ذَلِك بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعباد المخاطبين.
وَلَكِن هَذَا الْمقَام الَّذِي نَحن بصدده، هُوَ مقَام أَوْلِيَاء الله وأحبائه وصفوته من خلقه، وخالصته من عباده.
وَفِيه التَّرْغِيب للعباد بِأَن يحرصوا على هَذِه الرُّتْبَة، وعَلى الْبلُوغ إِلَيْهَا بِمَا تبلغ إِلَيْهِ طاقتهم، وَتصل إِلَيْهِ قدرتهم، وَلَا يألون جهداً فِي تَحْصِيل أَسبَابهَا الموصلة إِلَيْهَا من التَّقَرُّب إِلَى الله سُبْحَانَهُ بِمَا يحب.
فَلَا بُد أَن يكون لذَلِك التَّرَدُّد فَائِدَة تعود على الْوَلِيّ حَتَّى يكون ذَلِك سَببا لتنشيط الْعباد إِلَى بُلُوغ رتبته.
وَأما إِذا كَانَ يَمُوت بأجله المحتوم فَهُوَ كَغَيْرِهِ من عباد الله من غير فرق بَين سعيدهم وشقيهم وصالحهم وطالحهم.
قَالَ فِي الْفَتْح: " وجوَّز الْكرْمَانِي احْتِمَالا آخر وَهُوَ أَن المُرَاد أَنه يقبض روح الْمُؤمن بالتأني والتدريج بِخِلَاف سَائِر الْأَمْوَات فَإِنَّهَا تحصل بِمُجَرَّد قَول كن سَرِيعا " انْتهى.
أَقُول: هَذَا التأني والتدريج إِن كَانَ لَهُ تَأْثِير فِي الْأَجَل وَلَو يَسِيرا رَجَعَ الْإِشْكَال بأعظم مِمَّا نَحن بصدده لِأَنَّهُ قد تَأَخّر عَن وقته الْمَحْدُود وأجله المحتوم.
وَإِن كَانَ لَا تَأْثِير لَهُ فَلَا نفع فِيهِ للْعَبد أصلا بل قد يكون قبض روحه دفْعَة وَاحِدَة من غير تراخ وَلَا تدريج أسهل عَلَيْهِ من قَبضه على خلاف ذَلِك. فَإِن قلت إِذا لم ترض شَيْئا من هَذِه التأويلات فَأَبِنْ لنا مَا لديك حَتَّى نَنْظُر فِيهِ.