الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جَوَاز الكرامات:
وَمن وُهِب لَهُ هَذِه الموهوبات الجليلة وتُفِضِّلَ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الصِّفَات الجميلة بِغَيْر بعيد، وَلَا مستنكر أَن تظهر على يَده من الكرامات الَّتِي لَا تنَافِي الشَّرِيعَة والتصرفات فِي مخلوقات الله عز وجل الوسيعة، لِأَنَّهُ إِذا دَعَاهُ أَجَابَهُ وَإِذا سَأَلَهُ أعطَاهُ، وَلم يصب من جعل مَا يظْهر من كثير من الْأَوْلِيَاء من قطع المسافات الْبَعِيدَة، والمكاشفات الْمُصِيبَة، وَالْأَفْعَال، الَّتِي تعجز عَنْهَا غَالب القوى البشرية، من الْأَفْعَال الشيطانية والتصرفات الإبليسية.
فَإِن هَذَا غلط وَاضح، لِأَن من كَانَ مجاب الدعْوَة لَا يمْتَنع عَلَيْهِ أَن يسْأَل الله سُبْحَانَهُ أَن يوصله إِلَى أبعد الْأَمْكِنَة الَّتِي لَا تقطع طريقها إِلَّا فِي شهور فِي لَحْظَة يسيرَة، وَهُوَ الْقَادِر الْقوي الَّذِي مَا شاءه كَانَ، وَمَا لم يشأه لم يكن، وَأي بُعد فِي أَن يُجيب الله دَعْوَة من دَعَاهُ من أوليائه فِي مثل هَذَا الْمطلب وأشباهه. وَفِي مثل هَذَا يُقَال مَا قَالَه الشَّاعِر:
(وَالنَّاس ألف مِنْهُم كواحدٍ
…
وَوَاحِد كالألف إِن أَمر عَفَا)
وَقَول الآخر:
(وَلم أر أَمْثَال الرِّجَال تَفَاوتا
…
من النَّاس حَتَّى عُدَّ ألفٌ بِوَاحِد)
بل هَذَا الَّذِي تفضل الله عَلَيْهِ بِهَذِهِ التفضلات لَا يعْدِلُه الْألف وَلَا الآلاف مِمَّن لم ينل مَا نَالَ، وَلَا ظفر بِشَيْء من هَذِه الْخِصَال.
(فمالك والتلدد حول نجد
…
وَقد غَصت تهَامَة بِالرِّجَالِ)
وَمن نظر فِي مثل الْحِلْية لأبي نعيم، وصفوة الصفوة لِابْنِ الْجَوْزِيّ، عرف صِحَة مَا ذَكرْنَاهُ، وَمَا كَانَ عَطاء رَبك مَحْظُورًا.
وَكم للصحابة، رضي الله عنهم، من الكرامات الَّتِي يصعب حصرها وسنشير إِلَى بَعْضهَا قَرِيبا، وَلَو لم يكن مِنْهَا إِلَّا إِجَابَة دُعَاء كثير مِنْهُم. وَقد عرفناك أَن إِجَابَة الدُّعَاء هِيَ أكبر كَرَامَة، وَمن أكْرمه الله بذلك دَعَا بِمَا يَشَاء كَيفَ يَشَاء من جليل الْأُمُور، وحقيرها وكبيرها، وصغيرها.
وَفِي كتب الحَدِيث وَالسير من ذَلِك الْكثير الطّيب، وَكَذَلِكَ فِي أُمَم الْأَنْبِيَاء السَّابِقين من أَوْلِيَاء الله سُبْحَانَهُ الصَّالِحين الْعدَد الجم حَسْبَمَا نقل إِلَيْنَا عَن نَبينَا [صلى الله عليه وسلم] ، وحسبما تحكيه التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل، ونبوات
أَنْبيَاء بني إِسْرَائِيل الَّتِي من جُمْلَتهَا الزبُور.
وَالْحَاصِل أَن الله سُبْحَانَهُ يتفضل على عباده بِمَا يَشَاء، وَالْفضل بِيَدِهِ، من شَاءَ أعطَاهُ، وَمن شَاءَ مَنعه.
وَلَيْسَ لنا أَن ننكر إِلَّا مَا أنكرته الشَّرِيعَة المطهرة. فَمن جَاءَ بِمَا يُخَالِفهَا دفعناه ومنعناه.
وَأما مُجَرّد استبعاد أَن يهب الله سُبْحَانَهُ لبَعض عباده أمرا عَظِيما وَيُعْطِيه مَا تتقاصر عَنهُ قوى غَيره من الْمنح الجليلة، والتفضلات الجزيلة فَلَيْسَ مرادات المتصفين بالإنصاف. وَكَثِيرًا مَا ترى الجبان إِذا حكيت لَهُ أَفعَال الْأَفْرَاد من أهل الشجَاعَة من مقارعة الْأَبْطَال، وملابسة الْأَهْوَال ومنازلة الْعدَد الْكثير من الرِّجَال يستبعد عقله ذَلِك ويضيق ذهنه عَن تصَوره ويظنه بَاطِلا، وَلَا سَبَب لذَلِك إِلَّا أَن غريزته المجبولة على الْجُبْن الخالع تقصر عَن أقل قَلِيل من ذَلِك وتعجز عَن الملابسة لأحقر مِنْهُ.
وَهَكَذَا الْبَخِيل إِذا سمع مَا يحْكى عَن الأجواد من الْجُود بالموجود والسماحة بالكثير الَّذِي تشح نفوس من لم يهب الله لَهُ غريزة الْكَرم المحمودة بِعشر معشاره ظن أَن تِلْكَ الحكايات من كذب الوراقين وَمن مَخْرَقَةِ المُمَخْرِقِين وَهَكَذَا من قل حَظه من المعارف العليمة، وَقصر فهمه عَن إِدْرَاك الْفُنُون المتنوعة استبعد عقله، ونبا فهمه عَن قبُول مَا منح الله بِهِ أكَابِر عُلَمَاء هَذِه الْأمة من التَّوَسُّع فِي المعارف والاستكثار من الْعُلُوم الْمُخْتَلفَة وفهمها كَمَا يَنْبَغِي، وحفظها حق الْحِفْظ، وَالتَّصَرُّف الْكَامِل فِي كل مَا يرد عَلَيْهِ مِنْهَا فيورده موارده، ويصدره مصادره.
فاعرف هَذَا، وَاعْلَم أَن مواهب الله عز وجل لِعِبَادِهِ لَيست بِموضع لاستبعاد المستبعدين، وتشكيكات المشككين، فقد تفضل على بعض عباده بِالنُّبُوَّةِ واصطفاه لرسالته، وَجعله وَاسِطَة بَينه وَبَين عباده.
وتفضل على بعض عباده بِالْملكِ، وَجعله فَوق جَمِيع رَعيته، وَاخْتَارَهُ على من سواهُ مِنْهُم. وهم الْعدَد الجم، والسواد الْأَعْظَم، وَقد يكون غير شرِيف الأَصْل، وَلَا رفيع المحتد، كَمَا أعْطى ملك مصر وَالشَّام والحرمين وَغَيرهَا الْمُلُوك الجراكسة، وهم عبيد يجلب الْوَاحِد مِنْهُم إِلَى سوق الرَّقِيق، وَبعد حِين يصير ملكا كَبِيرا، وسلطانا جَلِيلًا.
وَهَكَذَا من ملك قبلهم من الأتراك لمماليك كبني قلاوون، وَأعْطى بني يوبه، وهم أَوْلَاد سماك غَالب، الممالك الإسلامية، وجعلهم الْحَاكِمين على الْخُلَفَاء العباسية، وعَلى سَائِر الْعباد فِي أقطار الأَرْض.
دع عَنْك التفضلات على هَذَا النَّوْع الإنساني المكرم بِالْعقلِ، وَانْظُر إِلَى
مَا من بِهِ على أَنْوَاع من مخلوقاته، فَإِن الشجَاعَة الَّتِي جعلهَا فِي الْأسد لَا يقوم لَهَا من بني آدم الْعدَد الْكثير، وَتلك موهبة من الله سُبْحَانَهُ، وَهَكَذَا كثير من أَنْوَاع الْحَيَوَان يخْتَص هَذَا بِالْقُوَّةِ الباهرة، وَهَذَا بالجسم الوافر وَهَذَا بِحسن التَّرْكِيب، وَهَذَا بالطيران فِي الْهَوَاء، وَهَذَا بِالْمَشْيِ فِي قَعْر الْبَحْر، وَالتَّصَرُّف لما يحْتَاج إِلَيْهِ فِي أمواج المَاء.
وَكم يعد الْعَاد من تفضلات الْملك الْجواد جلَّت قدرته، فسبحانه مَا أعظم شَأْنه وأعز سُلْطَانه وأجلّ إحسانه.
وَهَذَا عَارض من القَوْل اقْتَضَاهُ تقريب مَا يتفضل الله بِهِ على خلص عباده إِلَى الأذهان الجامدة، والطبائع الراكدة حَتَّى تتزلزل عَن مَرْكَز الْإِنْكَار، وَرَبك يخلق مَا يَشَاء ويختار.
وَمن نظر إِلَى مَا وهبه الله سُبْحَانَهُ للصحابة رضي الله عنهم، لم يستبعد شَيْئا مِمَّا وهبه الله عز وجل لأوليائه ويصعب الْإِحَاطَة بِأَكْثَرَ ذَلِك فضلا عَن كُله. وَقد قدمنَا الْإِشَارَة إِلَى كراماتهم إِجْمَالا، وَنَذْكُر الْآن بعض كراماتهم على التَّفْصِيل وَالتَّعْيِين.
فَمِنْهَا أَن أسيد بن حضير رضي الله عنه كَانَ يقْرَأ سُورَة الْكَهْف فَنزلت
عَلَيْهِ السكينَة من السَّمَاء مثل الظُّلة فِيهَا أَمْثَال السرج وَهِي الْمَلَائِكَة، وَأخْبر بذلك النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] فَقَالَ لَهُ:
(لَو اسْتمرّ على تِلَاوَته لاستمرت تِلْكَ السكينَة واقفة عَلَيْهِ بَاقِيَة عِنْده) .
وَكَانَت الْمَلَائِكَة تسلم على عمرَان بن حُصَيْن، وَكَانَ سلمَان الْفَارِسِي وَأَبُو الدَّرْدَاء يأكلان فِي صَحْفَة فسبَّحت أَو سبَّح مَا فِيهَا، وَخرج عباد
ابْن بشر وَأسيد بن حضير من عِنْد رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] فِي ظلمَة اللَّيْل فأضاء لَهما أَطْرَاف السَّوْط، فَلَمَّا افْتَرقَا افترق الضَّوْء مَعَهُمَا. وَكَانَ الصّديق رضي الله عنه يَأْكُل هُوَ وأضيافه من الْقَصعَة، فَلَا يَأْكُلُون لقْمَة إِلَّا رَباً مِن أَسْفَلهَا أَكثر مِنْهَا فشبعوا، وَهِي أَكثر مِمَّا كَانَ فِيهَا قبل أَن يَأْكُلُوا.
وخُبَيْب بن عدي رضي الله عنه لما أسره الْمُشْركُونَ كَانَ يُؤْتِي بقطف من الْعِنَب فِي غير وقته.
وعامر بن فهَيْرَة التمسوا جسده فحمته الدبر، وَلم يقدروا على الْوُصُول إِلَيْهِ. وَخرجت أم أَيمن، وَهِي صَائِمَة، وَلَيْسَ مَعهَا زَاد وَلَا مَاء
فعطشت حَتَّى كَادَت تتْلف، فَلَمَّا كَانَ وَقت الْفطر سَمِعت حسا على رَأسهَا فَرَفَعته فَإِذا هُوَ دلو برشاء أَبيض مُعَلّق فَشَرِبت مِنْهُ حَتَّى رويت وَمَا عطشت بعْدهَا.
وَأخْبر سفينة مولى رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم الْأسد أَنه مولى رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم فَمشى مَعَه الْأسد حَتَّى أوصله إِلَى مقْصده.
والبراء بن مَالك كَانَ إِذا أقسم على الله أبر قسمه. وَكَانَ الْحَرْب إِذا اشْتَدَّ على الْمُسلمين فِي الْجِهَاد يَقُولُونَ: يَا برَاء أقسم على رَبك. فَيَقُول:
أقسم عَلَيْك يَا رب لما منحتنا أكتافهم، وجعلتني أول شَهِيد فمنحوا أكتفاهم وَقتل شَهِيدا.
وحاصر خَالِد بن الْوَلِيد رَضِي الله [عَنهُ] حصنا فَقَالُوا: لَا نسلم حَتَّى تشرب السم فشربه، وَلم يضرّه.
وَأرْسل عمر بن الْخطاب رضي الله عنه جَيْشًا مَعَ رجل يُسمى سَارِيَة فَبَيْنَمَا عمر يخْطب جعل يَصِيح على الْمِنْبَر: يَا سَارِيَة الْجَبَل، يَا سَارِيَة الْجَبَل، فَقدم رَسُول الله الْجَيْش فَسَأَلَهُ عمر فَقَالَ: (يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَقينَا عدونا فهزمونا،
فَإِذا بصائحٍ يَقُول: يَا سَارِيَة الْجَبَل، يَا سَارِيَة الْجَبَل. فأسندنا ظُهُورنَا بِالْجَبَلِ فهزمناهم) .
وَلما عذبت بعض الصحابيات ذهب بصرها، فَقَالَ الْمُشْركُونَ مَا أصَاب بصرها إِلَّا اللات والعزى، فَقَالَت: كلا وَالله، فردَّ الله عَلَيْهَا بصرها وَكَانَ سعد بن وَقاص رضي الله عنه مجاب الدعْوَة مَا دَعَا قَطٍّ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ. وَكَذَلِكَ سعيد بن زيد رضي الله عنه دَعَا على الْمَرْأَة لما كذبت عَلَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِن كَانَت كَاذِبَة فأعم بصرها، واقتلها فِي أرْضهَا فعميت وَوَقعت فِي حفيرة فِي أرْضهَا فَمَاتَتْ.
ودعا الله الْعَلَاء بن الْحَضْرَمِيّ بِأَن يسقوا، ويتوضئوا، لما عدموا المَاء وَلَا يبْقى بعدهمْ فَأُجِيب، ودعا لما اعْتَرَضَهُمْ الْبَحْر، وَلم يقدروا على الْمُرُور، فَمروا بخيولهم على المَاء مَا ابتلت سروج خيولهم.
ودعا الله بِأَن لَا يرَوا جسده إِذا مَاتَ، فَلم يجدوه فِي اللَّحْد.
وَكَانَ للتابعين من الكرامات مَا هُوَ مَعْرُوف فِي كتب هَذَا الشَّأْن حَسْبَمَا قدمنَا الْإِشَارَة إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ من بعدهمْ.
وَقد كَانَ فِي التَّابِعين من ألْقى فِي النَّاس فَوجدَ قَائِما يُصَلِّي، وَهُوَ أَبُو مُسلم الْخَولَانِيّ، وَلما قدم الْمَدِينَة جعله عمر بَينه وَبَين أبي بكر. وَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي لم يُمِتْنِي حَتَّى أَرَانِي من أمة مُحَمَّد [صلى الله عليه وسلم] من فُعِلَ بِهِ كَمَا فُعِلَ بإبراهيم. ودعا على امْرَأَة أفسدت عَلَيْهِ زَوجته فعميت فتابت، فَدَعَا لَهَا فَرد الله عَلَيْهَا بصرها.
وَمِنْهُم من وضع رجله على رَقَبَة الْأسد حَتَّى مرت الْقَافِلَة، وَهُوَ عَامر
ابْن عبد قيس، وَمِنْهُم من مَاتَ فرسه فِي الْغَزْو فَقَالَ اللَّهُمَّ لَا تجْعَل لمخلوق على منَّة، ودعا الله فأحياه، فَلَمَّا وصل إِلَى بَيته قَالَ يَا بني خُذ سرج الْفرس فَإِنَّهُ عَارِية، فَأخذ سَرْجه فَمَاتَ، وَهُوَ (صلَة بن أَشْيَم) .
وَكَانَ سعيد بن الْمسيب لما خلى فِي الْمَسْجِد أَيَّام الْحرَّة سمع الْأَذَان من قبر النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] .
وَكَانَ عمر بن عتبَة بن فرقد يُصَلِّي يَوْمًا فِي شدَّة الْحر فأظلته غمامة.
وَكَانَ مطرف بن عبد الله الشخير إِذا دخل بَيته سبحت مَعَه آنيته.
وَلما مَاتَ الْأَحْنَف بن قيس، وَقعت قلنسوة رجل فِي قَبره فَأَهوى ليأخذها فَوجدَ الْقَبْر قد فسح فِيهِ مد الْبَصَر.
وأويس الْقَرنِي وجدوا لما مَاتَ فِي ثِيَابه أكفانا لم تكن مَعَه من قبل ووجدوا لَهُ قبرا محفوراً فِي صَخْرَة فدفنوه فِيهِ، وكفنوه فِي تِلْكَ الأثواب.
وَكَانَ إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ يُقيم الشَّهْر والشهرين لَا يَأْكُل شَيْئا، وَخرج