المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تواضع الولي وحقيقته: - قطر الولي على حديث الولي = ولاية الله والطريق إليها

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

- ‌تَقْدِيم

- ‌الْفَصْل الأول

- ‌من هُوَ الْوَلِيّ

- ‌أفضل الْأَوْلِيَاء:

- ‌طَبَقَات الْأَوْلِيَاء:

- ‌الْأَوْلِيَاء غير الْأَنْبِيَاء لَيْسُوا بمعصومين:

- ‌المقياس فِي قبُول الْوَاقِعَات والمكاشفات:

- ‌إِمْكَان وُقُوع المكاشفات

- ‌الْوَاجِب على الْوَلِيّ فِيمَا يصدر من أَعمال:

- ‌خوارق غير الْأَوْلِيَاء:

- ‌المكاشفات الصَّحِيحَة وأولياء الْمُؤمنِينَ:

- ‌شخصية الْوَلِيّ

- ‌جَوَاز الكرامات:

- ‌مَتى يكون الخارق كَرَامَة:

- ‌المعاداة من الْوَلِيّ كَمَا يُمكن أَن تتَصَوَّر:

- ‌عود إِلَى مقياس الْولَايَة:

- ‌السكونيات، والدينيات فِي الْقُرْآن الْكَرِيم:

- ‌الْقدر وَنفي احتجاج العصاة بِهِ:

- ‌مبدأ الباطنية، وَكَيف قَامُوا:

- ‌كَرَاهَة الرافضة للصحابة أُرِيد بِهِ هدم السّنة:

- ‌نصيب الْعلمَاء العاملين من الْولَايَة:

- ‌أَسبَاب رسوخ الْعلمَاء العاملين فِي الْولَايَة:

- ‌الرُّجُوع إِلَى كتاب الله وَسنة رَسُوله فِي مسَائِل الدّين هُوَ الطَّرِيقَة العلمية:

- ‌حَقِيقَة الْمُقَلّد والتقليد وحكمهما:

- ‌التَّقْلِيد فِي نظر الْعلم والمعرفة:

- ‌موقف أَئِمَّة الْمُسلمين من المقلدين:

- ‌تناقص الْمُقَلّد مَعَ نَفسه:

- ‌مَنْهَج الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ:

- ‌معنى الِاقْتِدَاء بالصحابة، وموقف الْمُقَلّد من ذَلِك:

- ‌رأى الْعَالم عِنْد فقد الدَّلِيل رخصَة لَهُ فَقَط:

- ‌وَإِذا عرفت هَذَا فقد قدمنَا من الْآيَات القرآنية، وَالْأَحَادِيث الصَّحِيحَة مَا هُوَ مَنْهَج الْحق، ومهيع الشَّرْع، وَهُوَ الْأَمر الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم، وخلفاؤه الراشدون، وَبِه تقوم الْحجَّة على كل مُسلم، وَمن سنته [صلى الله عليه وسلم]

- ‌الْمَطْلُوب من مقلد وَمن عوام الْمُسلمين:

- ‌الِاجْتِهَاد ووحدة الْأَحْكَام:

- ‌منطق المقلدين هُوَ منطق السوفسطائيين:وَمَا أشبه الْقَائِل بِهَذِهِ الْمقَالة بالفرقة الَّتِي يُقَال لَهَا الْفرْقَة بالسوفسطائية فَإِنَّهُم جَاءُوا بِمَا يُخَالف الْعقل فَلم يعْتد بأقوالهم أحد من عُلَمَاء الْمَعْقُول لِأَنَّهَا بالجنون أشبه مِنْهَا بِالْعقلِ.وهم ثَلَاثَة فرق: عِنْدِيَّة

- ‌سد بَاب الِاجْتِهَاد وَنسخ للشريعة

- ‌جِهَاد الشَّوْكَانِيّ للمقلدين

- ‌من أخطار التَّقْلِيد والمقلدين:

- ‌وجود الِاجْتِهَاد فِي الْمذَاهب حجَّة على المقلدين:

- ‌أهل الْيمن وَالِاجْتِهَاد:

- ‌تعصب المقلدين أساسه الْجَهْل:

- ‌وَاجِب الْعلمَاء وأولي الْأَمر نَحْو المقلدين:

- ‌مدى تكريم الله سُبْحَانَهُ للأولياء:

- ‌الْفَصْل الثَّانِي

- ‌الطَّرِيق إِلَى ولَايَة الله

- ‌ أَدَاء الْفَرَائِض:

- ‌ من أَدَاء الْفَرَائِض ترك الْمعاصِي:

- ‌ من الْمعاصِي إبِْطَال الْفَرَائِض بالحيل:

- ‌(ب) الْحِيلَة والشريعة:

- ‌(م) الْحِيلَة من الإضافات للشريعة المبطلة لفرائضها:

- ‌(د) المعاريض من الشَّرِيعَة:

- ‌(هـ) من الْحِيَل المكفرة والمنافية للدّين:

- ‌(ب) " التَّقَرُّب بالنوافل

- ‌ من نوافل الصَّلَاة:

- ‌تذييل - محبَّة الله والاستكثار من تِلْكَ النَّوَافِل:

- ‌ من نوافل الْحَج:

- ‌ من نوافل الصَّدَقَة:

- ‌(ج) التَّقَرُّب بالأذكار:

- ‌ترغيب الْكتاب، وَالسّنة فِيهَا:

- ‌أعظم الْأَذْكَار أجرا:

- ‌أذكار الْأَوْقَات وفوائدها:

- ‌أذكار التَّوْحِيد:

- ‌الصَّلَاة على النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] وفضلها:

- ‌التَّسْبِيح وفوائده:

- ‌الْأَدْعِيَة النَّبَوِيَّة:

- ‌الْأَدْعِيَة عقب الْوضُوء وَالصَّلَاة:

- ‌الْأَدْعِيَة عِنْد الْأَذَان وَالْإِقَامَة وَدخُول الْمَسْجِد:

- ‌الْأَدْعِيَة دَاخل الصَّلَاة:

- ‌الْأَدْعِيَة فِي الصّيام وَالْحج وَالْجهَاد وَالسّفر وَغَيرهَا:

- ‌د - الْإِيمَان وَطَرِيق الْولَايَة:

- ‌ الْإِيمَان بِالْقدرِ، وخاصة الْمُؤمنِينَ:

- ‌ فَوَائِد الْإِيمَان بِالْقدرِ:

- ‌ الْإِيمَان بِالْقضَاءِ والاستعاذة من سوءه:

- ‌ الْإِيمَان وَالْإِحْسَان وَلمن يَجْتَمِعَانِ:

- ‌الدُّعَاء أعظم مظَاهر الْولَايَة:

- ‌الْولَايَة وَالْعُزْلَة:

- ‌اللطف والنصر وَعَامة الْمُؤمنِينَ:

- ‌محبَّة الله بَين أَدَاء الْفَرْض وَالنَّفْل:

- ‌دَاء الْفَرَائِض شَرط فِي اعْتِبَار النَّوَافِل:

- ‌لَيست المداومة شرطا فِي الْقرب:

- ‌محبَّة الله شَامِلَة للمتقرب بِالْفَرْضِ والمتقرب بالنفل:

- ‌الْفَصْل الثَّالِث

- ‌أثر محبَّة الله فِي حَيَاة الْوَلِيّ

- ‌هدايته وتوفيقه

- ‌المُرَاد من أَن الله صَار سمع العَبْد وبصره إِلَخ:

- ‌تَحْقِيق آراء الاتحادية والصوفية:

- ‌منشأ الْخَطَأ عِنْد الاتحاديين:

- ‌فضل السّمع على الْبَصَر فِي التأثر وَالِاعْتِبَار:

- ‌إِجَابَة الدُّعَاء، من مظَاهر محبَّة الله للْعَبد (أَولا) :

- ‌أثر نوافل الصَّلَاة وَغَيرهَا فِي محبَّة الله لعَبْدِهِ:

- ‌الْعِصْمَة والقرب الَّتِي فِي هَذَا الحَدِيث:

- ‌مَتى نسلم بآراء أهل الْولَايَة وخواطرهم:

- ‌الْفَصْل الرَّابِع

- ‌قيمَة هَذَا الحَدِيث فِي بَاب السلوك والأخلاق

- ‌الْإِحْسَان والمفروضات الباطنية:

- ‌طَهَارَة الْبَاطِن وأثرها فِي مَرْكَز الْإِنْسَان من الْولَايَة:

- ‌الطَّرِيق إِلَى طَهَارَة الْبَاطِن:

- ‌مقَام الْإِحْسَان وَلمن يكون:

- ‌مقَام الْوَلِيّ وَإجَابَة الدُّعَاء:

- ‌مقَام الْمحبَّة وَإجَابَة الدُّعَاء:

- ‌مقَام الْمحبَّة ومداومة الدُّعَاء:

- ‌ضلال المدعين لرفع التَّكْلِيف:

- ‌المُرَاد بتررد الله سُبْحَانَهُ عَن نفس الْمُؤمن:

- ‌لَا تلازم بَين علم الله ونفاذ قَضَائِهِ:

- ‌الدُّعَاء كسبب لرد الْقَضَاء:

- ‌مبدأ السَّبَبِيَّة فِي الشَّرِيعَة الإسلامية:

- ‌كَرَاهَة الْمَوْت ومقام الْولَايَة:

- ‌الْوَلِيّ وَمَعْرِفَة الغيبيات:

- ‌تواضع الْوَلِيّ وَحَقِيقَته:

- ‌خَاتِمَة الشَّرْح

الفصل: ‌تواضع الولي وحقيقته:

وَهَذَا مِمَّا أَلْقَاهُ رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم إِلَى أَصْحَابه من علم الْغَيْب فَلهُ مدْخل فِي الِاسْتِدْلَال بِهِ على مَا نَحن بصدده.

وَمن أخباره [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم لأَصْحَابه رضي الله عنهم بِمَا هُوَ من علم الْغَيْب مِمَّا يتَعَلَّق بِهَذَا الإِمَام الْحسن السبط رضي الله عنه قَوْله [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم: " إِن ابْني هَذَا سيد، وسيصلح الله بِهِ بَين طائفتين من الْمُسلمين " فَكَانَ ذَلِك كَمَا أخبر بِهِ الصَّادِق المصدوق. وَبِالْجُمْلَةِ فالأخبار المتلقاة عَن النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم من غيب الله كَثِيرَة جدا تشْتَمل عَلَيْهَا المؤلفات الْمُدَوَّنَة فِي معجزاته.

‌تواضع الْوَلِيّ وَحَقِيقَته:

وَاعْلَم أَنه قد اسْتدلَّ البُخَارِيّ بِهَذَا الحَدِيث الَّذِي شرحناه على التَّوَاضُع لذكره لَهُ فِي بَاب التَّوَاضُع، فَمن جملَة مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ مَشْرُوعِيَّة التَّوَاضُع. وَقد قَالَ ابْن حجر فِي الْفَتْح عِنْد تَمام شَرحه لهَذَا الحَدِيث.

" تَنْبِيه: أشكل وَجه دُخُول هَذَا الحَدِيث فِي بَاب التَّوَاضُع حَتَّى قَالَ الدَّاودِيّ: لَيْسَ هَذَا الحَدِيث من التَّوَاضُع فِي شَيْء. وَقَالَ بَعضهم: الْمُنَاسب إِدْخَاله فِي الْبَاب الَّذِي قبله وَهُوَ مجاهدة الْمَرْء نَفسه فِي طَاعَة الله تَعَالَى.

وَالْجَوَاب عَن البُخَارِيّ من أوجه:

أَحدهَا: أَن التَّقَرُّب إِلَى الله تَعَالَى بالنوافل لَا يكون إِلَّا بغاية التَّوَاضُع لله تَعَالَى والتذلل لَهُ. ذكره الْكرْمَانِي.

وَثَانِيها: ذكره أَيْضا فَقَالَ: قيل: التَّرْجَمَة مستفادة مِمَّا قَالَ: كنت سَمعه، وَمن التَّرَدُّد.

قلت: وَيخرج مِنْهُ جَوَاب ثَالِث، وَيظْهر لي رَابِع وَهُوَ أَنه يُسْتَفَاد من لَازم

ص: 517

قَوْله من عادى لي وليا لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الزّجر عَن معاداة الْأَوْلِيَاء المستلزم لموالاتهم. وموالاة جَمِيع الْأَوْلِيَاء لَا تتأتى إِلَّا بغاية التَّوَاضُع لله تَعَالَى والتذلل لَهُ، إِذْ مِنْهُم الْأَشْعَث الأغبر الَّذِي لَا يؤبه لَهُ.

وَقد ورد فِي الْحَث على التَّوَاضُع عدَّة أَحَادِيث صَحِيحَة، لَكِن لَيْسَ فِي شَيْء مِنْهَا على شَرطه فاستغنى عَنْهَا بحديثي الْبَاب.

مِنْهَا حَدِيث عِيَاض بن حمَار رَفعه: " إِن الله تَعَالَى أوحى إِلَى أَن تواضعوا حَتَّى لَا يفخر أحد على أحد " أخرجه مُسلم، وَأَبُو دَاوُد وَغَيرهمَا. وَمِنْهَا حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَفعه " وَمَا تواضع أحد لله تَعَالَى إِلَّا رَفعه " أخرجه مُسلم أَيْضا وَالتِّرْمِذِيّ. وَمِنْهَا حَدِيث أبي سعيد رَفعه:" من تواضع لله رَفعه الله تَعَالَى حَتَّى يَجعله فِي أَعلَى عليين - الحَدِيث ". أخرجه ابْن مَاجَه وَصَححهُ ابْن حبَان " انْتهى.

أَقُول: كثيرا مَا يَقع فِي أذهان كثير من الناظرين فِي البُخَارِيّ عدم الْمُطَابقَة بَين بعض تراجم الْأَبْوَاب، وَبَين مَا ذكره فِيهَا من الْأَحَادِيث، فَإِذا أعْطوا الْفَهم حَقه، وتدبروا كل التدبر، وجدوه قد عمد إِلَى معنى دَقِيق ومنزع لطيف من مُنَازع ذَلِك الحَدِيث فَجعله دَلِيلا على التَّرْجَمَة، وَإِذا لم يجد على شَرطه شَيْئا مِمَّا يصلح لذَلِك الْبَاب، جعل مُجَرّد تَرْجَمته إِشَارَة إِلَى ذَلِك الْخَبَر الَّذِي لم يكن على شَرطه.

ص: 518

وَقد منح الله هَذَا الرجل من صدق الْفَهم ونفوذ الذِّهْن مَا لم يكن لغيره من أذكياء الْعَالم. هَذَا مَعَ مَا وهب لَهُ من حفظ السّنة المطهرة والتمييز بَين صحيحها وسقيمها، وَاخْتِيَار مَا اخْتَارَهُ فِي كِتَابه من أصح الصَّحِيح حَتَّى سَمَّاهُ كثير من أَئِمَّة هَذَا الشَّأْن، أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي الحَدِيث، وَجعل الله سُبْحَانَهُ كِتَابه هَذَا ارْفَعْ مجاميع كتب السّنة المطهرة وأعلاها وَأَكْرمهَا عِنْد جمع الطوائف الإسلامية، وأجلها عِنْد كل أهل هَذِه الْملَّة. وصاروا فِي جَمِيع الديار إِذا دهمهم عَدو أَو أصيبوا بجدب يفزعون إِلَى قِرَاءَته فِي الْمَسَاجِد والتوسل إِلَى الله بالعكوف على قِرَاءَته لما جربوه قرنا بعد قرن وعصراً بعد عصر، من حُصُول النَّصْر وَالظفر على الْأَعْدَاء بالتوسل بِهِ، واستجلاب غيث السَّمَاء، واستدفاع كل الشرور بذلك، وَصَارَ هَذَا لديهم من أعظم الْوَسَائِل إِلَى الله سُبْحَانَهُ، وَهَذِه مزية عَظِيمَة، ومنقبة كَرِيمَة، وَلم يكن هَذَا لغير هَذَا الْكتاب من حسن الانتقاء، وسلامة مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ من قيل وَقَالَ. وَمن تعرض لشَيْء من ذَلِك أرْغم الله أَنفه بِمَا يرد عَلَيْهِ أهل الإتقان من الردود الَّتِي تدع اعتراضه هباء منثورا، وهشيما تَذْرُوهُ الرِّيَاح.

وَقد كَانَ هَذَا الرجل فِي الْعِبَادَة على اخْتِلَاف أَنْوَاعهَا، والزهد فِي الدُّنْيَا بمزلة علية ورتبة رفيعة، وَتمّ الله لَهُ ذَلِك بِمَا امتحن بِهِ فِي آخر أَيَّامه من أَعدَاء الْعلمَاء العاملين، والمتجرئين على عباد الله الصَّالِحين حَتَّى مَاتَ كمداً، رحمه الله ووفر عِنْده جزاءه فكوفئ فِي كِتَابه هَذَا بِهَذَا الْحَظ الْعَظِيم فِي الدُّنْيَا، ليتوفر فِي الْأُخْرَى بِمَا يصل إِلَيْهِ من الثَّوَاب الْحَاصِل من انْتِفَاع النَّاس بِهِ، فَإِن الْعلم الَّذِي ينْتَفع بِهِ هُوَ إِحْدَى الثَّلَاث الَّتِي يَدُوم للْمَيت ثَوَابهَا بعد انْقِطَاع كل شَيْء عَنهُ، كَمَا صَحَّ الحَدِيث بذلك الَّذِي أخرجه مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ:

ص: 519

" قَالَ رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم: إِذا مَاتَ ابْن آدم انْقَطع عمله إِلَّا من ثَلَاث: صَدَقَة جَارِيَة أَو علم ينْتَفع بِهِ، أَو ولد صَالح يَدْعُو لَهُ " وَأخرجه ابْن مَاجَه بِإِسْنَاد صَحِيح من حَدِيث أبي قَتَادَة بِنَحْوِهِ.

وَبِمَا ذكرنَا تعرف الْجَواب على مَا قَالَه الدَّاودِيّ إِجْمَالا.

وَأما مَا حَكَاهُ ابْن حجر عَن الْكرْمَانِي من الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورين. فَيُقَال على الأول: إِن كل الْعِبَادَات وَسَائِر الصَّلَوَات فرائضها ونوافلها هِيَ عبَادَة للرب. وَالْعَابِد متواضع للمعبود دَائِما خُصُوصا عِنْد الْعِبَادَة. فَمَا الْوَجْه لتقييد النَّوَافِل الْمَذْكُورَة فِي الْبَاب بِقَيْد التَّوَاضُع مَعَ أَن غَيرهَا مثلهَا؟ .

وَلِهَذَا ورد أَن الصَّلَوَات الْفَرَائِض وَغَيرهَا تَتَفَاوَت بتفاوت الْخُشُوع حَتَّى تكون لبَعض الْعباد صَلَاة كَامِلَة، ولبعضهم نصف صَلَاة ولبعضهم أقل من ذَلِك، كَمَا فِي الحَدِيث الْوَارِد فِي هَذَا الْمَعْنى.

والخشوع لَا يتم إِلَّا بغاية الخضوع فَهَذِهِ خَاصَّة للعبادات، خُصُوصا الصَّلَوَات شَامِلَة لَا مُخْتَصَّة بِنَوْع مِنْهَا. وَكلهَا إِذا حصل الاستكثار من نوافلها حصلت للْعَبد الْمحبَّة من الرب عز وجل فَيلْزم على هَذَا أَن الْعِبَادَات كلهَا يسْتَدلّ بهَا على التَّوَاضُع فِي جَمِيع الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة فِي أَنْوَاعهَا فِي البُخَارِيّ وَغَيره، بل مُجَرّد الْعُبُودِيَّة إِذا لم تكن على تواضع وخضوع فَلَيْسَتْ عبودية مُعْتَبرَة.

وَأما الْوَجْه الثَّانِي فَمَا أبعده. فالرب سُبْحَانَهُ قد وصف نَفسه بِأَنَّهُ المتكبر

ص: 520

وَأَنه ذُو الْكِبْرِيَاء، وَأَنه ذُو الْجلَال، فَمَا أسمج بِأَن يُوصف بالتواضع مَعَ عَبده الحقير الذَّلِيل.

قَالَ فِي الصِّحَاح: التَّوَاضُع: التذلل. فَانْظُر هَل يَصح إِطْلَاق التَّوَاضُع الَّذِي مَعْنَاهُ فِي هَذِه اللُّغَة الْعَرَبيَّة للتذلل على رب الْعَالم وخالق الْكل ورازقه ومحييه ومميته؟ سُبْحَانَكَ هَذَا بهتان عَظِيم.

تَعَالَى قدرك وَجل إسمك، سُبْحَانَكَ مَا أعظم شَأْنك، سُبْحَانَكَ مَا أعز سلطانك.

وَأما قَول ابْن حجر: قلت وَيخرج مِنْهُ جَوَاب ثَالِث، يُرِيد أَنه يخرج من التَّرَدُّد كَمَا خرج من قَوْله:" كنت سَمعه " وَهَذَا الَّذِي استخرجه مثل الْوَجْه الثَّانِي الَّذِي ذكره الْكرْمَانِي. وَكِلَاهُمَا فِي غَايَة السُّقُوط وَنِهَايَة الْبطلَان.

أما قَول ابْن حجر، وَيظْهر لي وَجه رَابِع إِلَى آخر كَلَامه، فَلَمَّا قَيده بِأَن يكون التَّوَاضُع لله سُبْحَانَهُ لم يبْق للْوَلِيّ مِنْهُ شَيْء.

وَلَا مُوجب لذَلِك فَإِن تواضع الْعباد مَعَ بَعضهم الْبَعْض، هُوَ الَّذِي ندب الله إِلَيْهِ وَجَاءَت بِهِ الترغيبات الْكَثِيرَة.

وَأما تواضع الْعباد مَعَ الرب سُبْحَانَهُ فهم أَحْقَر وَأَقل من أَن يتواضعوا لَهُ، وَإِن كَانَ ذَلِك من لَوَازِم الْعُبُودِيَّة.

وَانْظُر فِي مِثَال هَذَا فِي الْأَحْوَال، فَإِنَّهُ يسمح أَن يُقَال: تواضع الرجل لسلطانه ولوالديه، لِأَن التَّوَاضُع هُوَ التذلل بعد التَّلَبُّس بضده، كَمَا تدل عَلَيْهِ صِيغَة التفعل مَعَ أَن ابْن حجر ذكر فِي أول هَذَا الْبَاب مَا لَفظه: " بَاب التَّوَاضُع بِضَم الْمُعْجَمَة مُشْتَقّ من الضعة بِكَسْر أَوله وَهِي التذلل والهوان. وَالْمرَاد بالتواضع:

ص: 521

إِظْهَار التذلل لمن يُرَاد تَعْظِيمه. وَقيل: هُوَ تَعْظِيم من فَوْقه لفضله " انْتهى.

فَانْظُر هَل يَصح إِطْلَاقه على الرب عز وجل على كلا الْمَعْنيين؟ . فَلَعَلَّهُ سهى عَن أول الْبَاب.

وَأما تواضع الْعباد مَعَ بَعضهم الْبَعْض، فَهُوَ الممدوح المرغب فِيهِ كَمَا ذكره فِي الحَدِيث الَّذِي اسْتدلَّ بِهِ فِي آخر الْبَحْث " إِن الله أوحى إِلَيّ أَن تواضعوا حَتَّى لَا يفخر أحد على أحد "، فَإِن المُرَاد تواضع الْعباد [لبَعْضهِم] الْبَعْض حَتَّى لَا يفخر أحد على أحد.

وَأما حَدِيث: " من تواضع لله رَفعه الله " الخ. فَالْمُرَاد تواضع لعباد الله لأجل الرب سُبْحَانَهُ امتثالاً لما أرشد إِلَيْهِ رَسُوله، أَو يكون المُرَاد بِهِ (التَّوَاضُع لكتابه ولسنة رَسُوله ولعلماء أمته وَلَا بُد من هَذَا فَإِن الله) أعظم وَأجل من أَن يتواضع لَهُ الْعباد، فَيكون معنى قَوْله من تواضع لله من تواضع لأجل الله عز وجل. وَمن هَذَا الْقَبِيل من تصدق لله، من أحب لله، وَأبْغض لله. وَنَحْو ذَلِك كثير.

وَإِذا عرفت هَذَا كَانَ هَذَا الْوَجْه الَّذِي ذكره ابْن حجر أحسن مَا يحمل عَلَيْهِ تَرْجَمَة البُخَارِيّ، لَكِن بِدُونِ ذَلِك التقيد إِلَّا أَن يُرِيد هَذَا الْمَعْنى الَّذِي ذَكرْنَاهُ، فَيكون

ص: 522

معنى قَوْله لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بغاية التَّوَاضُع لله، أَي لأَجله.

وَقد وَردت أَحَادِيث فِي مَشْرُوعِيَّة التَّوَاضُع غير مَا ذكره المُصَنّف، مِنْهَا مَا هُوَ صَحِيح، وَمِنْهَا مَا هُوَ حسن.

وَورد فِي ذمّ التكبر الَّذِي هُوَ مُقَابل التَّوَاضُع أَحَادِيث صَحِيحَة، مِنْهَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا من حَدِيث حَارِثَة بن وهب قَالَ:" سَمِعت رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم يَقُول: أَلا أخْبركُم بِأَهْل النَّار؟ كل عتل [جواظ] مستكبر ". وَمِنْهَا حَدِيث أبي سعيد وَأبي هُرَيْرَة عِنْد مُسلم وَغَيره قَالَا: " يَقُول الله عز وجل: الْعِزّ إزَاره، والكبرياء رِدَاؤُهُ، فَمن نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهَا عَذبته ".

وَمِنْهَا حَدِيث أبي سعيد عِنْد مُسلم قَالَ: " احتجت الْجنَّة وَالنَّار فَقَالَت النَّار فيَّ الجبارون والمتكبرون، وَقَالَت الْجنَّة فيَّ ضعفاء الْمُسلمين ومساكينهم " وَأخرج مُسلم وَغَيره من حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم

" ثَلَاثَة لَا يكلمهم الله يَوْم الْقِيَامَة وَلَا يزكيهم، وَلَا ينظر إِلَيْهِم، وَلَهُم عَذَاب أَلِيم: شيخ زَان، وَملك كَذَّاب وعائل مستكبر ". وَأخرجه الْبَزَّار بِإِسْنَاد حسن من حَدِيث سلمَان.

وَأخرج النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَحسنه من حَدِيث ابْن عَمْرو، نَحوه وَأخرج مُسلم وَغَيره من حَدِيث ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم قَالَ:

" لَا يدْخل الْجنَّة من كَانَ فِي قلبه مِثْقَال ذرة من كبر "، وَأخرج البُخَارِيّ وَغَيره من حَدِيث ابْن عمر أَن رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم قَالَ:

" بَيْنَمَا رجل

ص: 523