الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مبدأ السَّبَبِيَّة فِي الشَّرِيعَة الإسلامية:
فَإِن قلت: فعلام تحمل نَحْو قَوْله عز وجل: {مَا أصَاب من مُصِيبَة فِي الأَرْض وَلَا فِي أَنفسكُم إِلَّا فِي كتاب من قبل أَن نبرأها} وَقَوله سُبْحَانَهُ {قل لن يصيبنا إِلَّا مَا كتب الله لنا} وَكَذَلِكَ سَائِر مَا ورد فِي هَذَا الْمَعْنى.
قلت: أجمع بَينهَا، وَبَين مَا عارضها فِي الظَّاهِر من قَوْله عز وجل:{وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فِيمَا كسبت أَيْدِيكُم وَيَعْفُو عَن كثير} وَمَا ورد فِي مَعْنَاهَا. وَمن ذَلِك الحَدِيث الْقُدسِي الثَّابِت فِي الصَّحِيح عَن الرب عز وجل: {يَا عبَادي: إِنَّمَا هِيَ أَعمالكُم أحصيها عَلَيْكُم فَمن وجد خيرا فليحمد الله، وَمن وجد شرا فَلَا يَلُومن إِلَّا نَفسه} بِحمْل الْآيَتَيْنِ [الْأَوليين] وَمَا ورد فِي مَعْنَاهُمَا على عدم التَّسَبُّب من العَبْد بِأَسْبَاب الْخَيْر من الدُّعَاء وصلَة الرَّحِم، وَسَائِر الْأَفْعَال والأقوال الصَّالِحَة. وَحمل الْآيَة [الْأُخْرَى] ، والْحَدِيث الْقُدسِي، وَمَا ورد فِي مَعْنَاهُمَا، على وُقُوع التَّسَبُّب من العَبْد بِأَسْبَاب الْخَيْر الْمُوجبَة لحسن الْقَضَاء، واندفاع شَره. وعَلى وُقُوع التَّسَبُّب من العَبْد بِأَسْبَاب الشَّرّ الْمُقْتَضِيَة لإصابة الْمَكْرُوه، ووقوعه على العَبْد.
وَهَكَذَا أجمع بَين الْأَحَادِيث الْوَارِدَة بسبق الْقَضَاء، وَأَنه قد فرغ من تَقْدِير
الْأَجَل والرزق، والسعادة والشقاوة، وَبَين الْأَحَادِيث فِي طلب الدُّعَاء من العَبْد، وَأَن الله يُجيب دعاءه، وَيُعْطِيه مَا سَأَلَ مثله، وَأَنه يغْضب إِذا لم يسْأَل، وَأَن الدُّعَاء يرد الْقَضَاء وَنَحْو ذَلِك مِمَّا قدمنَا، كصلة الرَّحِم، وأعمال الْخَيْر.
فأحمل أَحَادِيث الْفَرَاغ من الْقَضَاء على عدم تسبب العَبْد بِأَسْبَاب الْخَيْر أَو الشَّرّ وأحمل الْأَحَادِيث [الْأُخْرَى] على وُقُوع التَّسَبُّب من العَبْد بِأَسْبَاب الْخَيْر أَو التَّسَبُّب بِأَسْبَاب الشَّرّ.
وَأَنت خَبِير بِأَن هَذَا الْجمع لَا بُد مِنْهُ لِأَن الَّذِي جَاءَنَا بالأدلة الدَّالَّة على أحد الْجَانِبَيْنِ هُوَ الَّذِي جَاءَنَا بالأدلة الدَّالَّة على الْجَانِب الآخر. وَلَيْسَ فِي ذَلِك خلف لما وَقع فِي الْأَزَل، وَلَا مُخَالفَة لما تقدم الْعلم بِهِ، بل هُوَ من تَقْيِيد المسبات بأسبابها، كَمَا قدر الشِّبَع والري بِالْأَكْلِ وَالشرب، وَقدر الْوَلَد بِالْوَطْءِ، وَقدر حُصُول الزَّرْع بالبذر.
فَهَل يَقُول قَائِل بِأَن ربط هَذِه المسببات بأسبابها يَقْتَضِي خلاف الْعلم السَّابِق، أَو يُنَافِيهِ بِوَجْه من الْوُجُوه؟ .
فَلَو قَالَ قَائِل: أَنا لَا آكل، وَلَا أشْرب، بل أنْتَظر الْقَضَاء، فَإِن قدر الله لي ذَلِك كَانَ، وَإِن لم يقدره لم يكن، أَو قَالَ: أَنا لَا أزرع وَلَا أجامع زَوْجَتي فَإِن قدر الله لي الزَّرْع وَالْولد حصلا، وَإِن لم يقدرهما لم يحصلا.
أَلَيْسَ هَذَا الْقَائِل قد خَالف مَا فِي كتب الله سُبْحَانَهُ، وَمَا جَاءَت بِهِ رسله
وَمَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم وَأَصْحَابه، والتابعون، وتابعوهم وَسَائِر عُلَمَاء الْأمة، وصلحائها، بل يكون هَذَا الْقَائِل قد خَالف مَا عَلَيْهِ هَذَا النَّوْع الإنساني من أَبينَا آدم إِلَى الْآن، بل قد خَالف مَا عَلَيْهِ جَمِيع أَنْوَاع الْحَيَوَانَات فِي الْبر وَالْبَحْر؟ .
فَكيف يُنكر وُصُول العَبْد إِلَى الْخَيْر بدعائه، أَو بِعَمَلِهِ الصَّالح، فَإِن هَذَا من الْأَسْبَاب الَّتِي ربط الله مسبباتها بهَا، وَعلمهَا قبل أَن تكون. فعله على كل تَقْدِير أزلي فِي المسببات، والأسباب. وَلَا يشك من لَهُ اطلَاع على كتاب الله عز وجل، مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ من تَرْتِيب حُصُول المسببات على حُصُول أَسبَابهَا، وَذَلِكَ كثير جدا.
وَمن ذَلِك قَوْله: {إِن تجتنبوا كَبَائِر، مَا تنهون عَنهُ تكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ} ، {فَقلت اسْتَغْفرُوا ربكُم إِنَّه كَانَ غفارًا يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين وَيجْعَل لكم جنَّات وَيجْعَل لكم أَنهَارًا} و {لَئِن شكرتم لأزيدنكم} {اتَّقوا الله ويعلمكم الله} {فلولا أَنه كَانَ من المسبحين للبث فِي بَطْنه إِلَى يَوْم يبعثون}
وَكم يعد الْعَاد من هَذَا الْجِنْس فِي الْكتاب الْعَزِيز. وَمَا ورد فِي مَعْنَاهُ من السّنة المطهرة.
فَهَل يُنكر هَؤُلَاءِ الغلاة مثل هَذَا ويجعلونه مُخَالفا لسبق الْعلم مباينا
لأزليته؟ . فغن قَالُوا نعم، فقد أَنْكَرُوا مَا فِي كتاب الله سُبْحَانَهُ من فاتحته إِلَى خاتمته، وَمَا فِي السّنة المطهرة من أَولهَا إِلَى آخرهَا، بل أَنْكَرُوا أَحْكَام الدُّنْيَا وَالْآخِرَة جَمِيعهَا، لِأَنَّهَا كلهَا مسببات مترتبة على أَسبَابهَا، وجزاءات معلقَة بشروطها.
وَمن بلغ إِلَى هَذَا الْحَد فِي الغباوة، وَعدم تعقل الْحجَّة، لم يسْتَحق المناظرة، وَلَا يَنْبَغِي الْكَلَام مَعَه فِي الْأُمُور الدنية، بل يَنْبَغِي إِلْزَامه بإهمال أَسبَاب مَا فِيهِ صَلَاح معاشه، وَأمر دُنْيَاهُ كُله حَتَّى ينتعش من غفلته، وَيَسْتَيْقِظ من نومته، وَيرجع عَن ضلالته وجهالته.
وَالْهِدَايَة بيد ذِي الْحول، وَالْقُوَّة.
ثمَّ يُقَال لَهُم: أَيّمَا فَائِدَة لأَمره عز وجل لِعِبَادِهِ بِالدُّعَاءِ بقوله: " ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم " ثمَّ عقب ذَلِك بقوله: " إِن الَّذين يَسْتَكْبِرُونَ عَن عبادتي " أَي دعائي " سيدخلون جَهَنَّم داخرين ". وَقَوله عز وجل: {اسألوا الله من فَضله} فَأَي فَائِدَة لهذين الْأَمريْنِ مِنْهُ عز وجل بِالدُّعَاءِ ووعيده لمن تَركه وَجعله مستكبرا، وتمدحه سُبْحَانَهُ بقوله {أم من يُجيب الْمُضْطَر إِذا دَعَاهُ ويكشف السوء} . وَبِقَوْلِهِ:" وَإِذا سَأَلَك عبَادي عني فَإِنِّي قريب أُجِيب دَعْوَة الدَّاعِي إِذا دعان " فَإِن قَالُوا إِن هَذَا الدُّعَاء الَّذِي أمرنَا الله عز وجل بِهِ وأرشدنا إِلَيْهِ وَجعل تَركه استكبارا وتوعد عَلَيْهِ بِدُخُول النَّار مَعَ الذل، وَأنكر عَلَيْهِم أَن غَيره يُجيب الْمُضْطَر.
إِن [كَانَ] ذَلِك كُله لَا فَائِدَة فِيهِ للْعَبد، وَأَنه لَا ينَال إِلَّا مَا قد سبق بِهِ الْقَضَاء فعل الدُّعَاء، أَو لم يفعل، فقد نسبوا إِلَى الرب عز وجل مَا لَا يجوز عَلَيْهِ وَلَا تحل نسبته إِلَيْهِ بِإِجْمَاع الْمُسلمين، فَإِنَّهُ عز وجل لَا يَأْمر إِلَّا بِمَا فِيهِ فَائِدَة للْعَبد دنيوية أَو أخروية إِمَّا جلب نفع أَو دفع ضرّ.
هَذَا مَعْلُوم لَا يشك فِيهِ إِلَّا من لَا يعقل حجج الله، وَلَا يفهم كَلَامه وَلَا يدْرِي بِخَير وَلَا شَرّ، وَلَا نفع وَلَا ضرّ. وَمن بلغ فِي الْجَهْل إِلَى هَذِه الْغَايَة فَهُوَ حقيق بِأَن لَا يُخَاطب، وقمين بِأَن لَا يناظر، فَإِن هَذَا الْمِسْكِين المتخبط فِي جَهله المتقلب فِي ضَلَالَة قد وَقع فِيمَا هُوَ أعظم خطرا من هَذَا أَو أَكثر ضَرَرا مِنْهُ.
وَذَلِكَ بِأَن يُقَال لَهُ: إِذا كَانَ دُعَاء الْكفَّار إِلَى الْإِسْلَام، ومقاتلتهم على الْكفْر وعزوهم إِلَى عقر الديار، كَمَا فعله رسل الله وَنزلت بِهِ كتبه، لَا يَأْتِي بفائدة، وَلَا يعود على القائمين بِهِ من الرُّسُل وأتباعهم، وَسَائِر الْمُجَاهدين بعائدة، وَأَنه لَيْسَ هُنَاكَ إِلَّا مَا قد سبق بِهِ الْقَضَاء، وجف بِهِ الْقَلَم، وَأَنه لَا بُد أَن يدْخل فِي الْإِسْلَام، ويهتدي إِلَى الدّين من علم الله فِي سَابق علمه أَنه يَقع مِنْهُ ذَلِك سَوَاء قوتل أم لم يُقَاتل، وَسَوَاء دعى أم لم يدع، كَانَ هَذَا الْقِتَال والتكليف الشاق ضائعاً، لِأَنَّهُ من تَحْصِيل الْحَاصِل، وتكوين مَا هُوَ كَائِن فعلوا أَو تركُوا. وَحِينَئِذٍ يكون الْأَمر بذلك عَبَثا، تَعَالَى الله عَن ذَلِك.
وَهَكَذَا مَا شَرعه الله لِعِبَادِهِ من الشَّرَائِع على لِسَان أنبيائه، وَأنزل بِهِ كتبه يُقَال فِيهِ مثل هَذَا. فَإِنَّهُ إِذا كَانَ مَا فِي سَابق علمه كَائِنا لَا محَالة، سَوَاء أنزل كتبه، وَبعث رسله أم لم ينزل وَلَا بعث، كَانَ ذَلِك من تَحْصِيل الْحَاصِل فَيكون عَبَثا، تَعَالَى الله عَن ذَلِك.
ثمَّ يُقَال لَهُم: هَذِه الْأَدْعِيَة الَّتِي علَّم رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم أمته فِي صلواتهم وليلهم ونهارهم وسفرهم وحضرهم، لَو رام الْعَالم جمعهَا متوناً لكَانَتْ فِي مُجَلد. وَقد كَانَ رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم أَكثر النَّاس قيَاما وتضرعاً إِلَى ربه حَتَّى كَانَ فِي تَارَة يرفع كفيه حَتَّى يرى بَيَاض إبطَيْهِ وَفِي تَارَة يرفعهما حَتَّى يسْقط الرِّدَاء عَن مَنْكِبَيْه، ثمَّ أخبرنَا بِمَا للداعي لرَبه من الْجَزَاء الجزيل، وَالثَّوَاب الْجَلِيل عُمُوما، وخصوصاً.
هَل كَانَ لهَذَا فَائِدَة يتَبَيَّن أَثَرهَا أم لَا فَائِدَة، بل مَا خطّ فِي اللَّوْح فَهُوَ كَائِن لَا محَالة وَقع الدُّعَاء أم لم يَقع؟ {} .
فَيُقَال لَهُم: يَا نوكي. أَنْتُم أعرف بِاللَّه سُبْحَانَهُ من رَسُوله [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم حَتَّى يكون مَا فعله، وَمَا علمه أمته لَغوا ضائعاً لَا فَائِدَة فِيهِ وَلَا عَائِدَة؟ {سُبْحَانَكَ هَذَا بهتان عَظِيم.
ثمَّ يُقَال لَهُم: لَو كَانَ الْقَضَاء السَّابِق حتما لَا يتَحَوَّل، فَأَي فَائِدَة فِي استعاذته [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم من سوء الْقَضَاء، كَمَا صَحَّ ذَلِك عَنهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَصَحَّ عَنهُ أَنه كَانَ يَقُول: وقني شَرّ مَا قضيت.
فيا لله الْعجب من دعاوي عريضة من قُلُوب مهيضة، وأفهام مَرِيضَة. يَا لكم الويل، أما تَدْرُونَ فِي أَي بلية وَقَعْتُمْ، وعَلى أَي جنب سَقَطْتُمْ، وَمن أَي بَاب من الشَّرِيعَة خَرجْتُمْ؟} ! فَإِنَّكُم لم تعملوا بشرع وَلَا اهْتَدَيْتُمْ بعقل.
وَقد كَانَ لكم قدوة وأسوة برَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم، وبكتاب الله الْمنزل عَلَيْهِ، وَبِمَا كَانَ عَلَيْهِ أكَابِر الصَّحَابَة فِي هَذِه الْمَسْأَلَة [الَّتِي]
نَحن بصددها كعمر بن الْخطاب. وَعبد الله بن مَسْعُود، وَأبي وَائِل، وأمثالهم من أكَابِر الصَّحَابَة الَّذين صَحَّ عَنْهُم أَنهم كَانُوا يسْأَلُون الله سُبْحَانَهُ أَن يثبتهم فِي ديوَان السَّعَادَة وَأَن ينقلهم من ديوَان الشقاوة إِن كَانُوا فِيهَا، إِلَى ديوَان السَّعَادَة كَمَا قدمنَا.
وَللَّه در كَعْب الْأَحْبَار، فَإِنَّهُ قَالَ لما طعن عمر رضي الله عنه:" وَالله لَو دَعَا عمر أَن يُؤَخر الله أَجله لأخره " فَقيل لَهُ: إِن الله عز وجل يَقُول: {فَإِذا جَاءَ أَجلهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} فَقَالَ: هَذَا إِذا حضر الْأَجَل، فَأَما قبل ذَلِك فَيجوز أَن يُزَاد وَينْقص " وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى:{وَمَا يعمر من معمر وَلَا ينقص من عمره إِلَّا فِي كتاب} .
وَكَلَامه هَذَا يرشد إِلَى الْجمع الَّذِي جمعناه كَمَا عرفت، ولنقتصر على هَذَا الْمِقْدَار فِي تَقْرِير الْمُقدمَة الَّتِي قدمنَا أَنه يظْهر بهَا مَا سنذهب إِلَيْهِ فِي ذَلِك الْمقَام، بعد أَن تعقبنا جَمِيع تِلْكَ التأويلات الْمَذْكُورَة فِي التَّرَدُّد الَّذِي وَقع فِي الحَدِيث الْقُدسِي.
فَنَقُول الْآن: إِن ذَلِك التَّرَدُّد هُوَ كِنَايَة عَن محبَّة الله لعَبْدِهِ الْمُؤمن أَن يَأْتِي بِسَبَب من الْأَسْبَاب الْمُوجبَة لخلوصه من الْمَرَض الَّذِي وَقع فِيهِ حَتَّى يطول بِهِ عمره، من دُعَاء أَو صلَة رحم، أَو صَدَقَة، فَإِن فعل مد لَهُ فِي عمره