الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَا شكّ أَن مَا كَانَ بِهَذِهِ الْمنزلَة وعَلى هَذِه الصّفة من مشاعر الْإِدْرَاك أولى من غَيره مِنْهَا وأحق بالتقديم، مَعَ أَنه مشارك لِلْبَصَرِ فِي الْآيَات الكونية والعبر الخارجية بِوَجْه من الْوُجُوه. لِأَنَّهُ يصف الواصف لمن يسمع وَلَا يبصر مَا يُشَاهِدهُ فِي الْخَارِج فَيحصل لَهُ من الِاعْتِبَار والتفكر نصيب من ذَلِك. بِخِلَاف المبصر الَّذِي لَا يسمع فَإِنَّهُ لَا يُمكنهُ إِدْرَاك شَيْء من الْآيَات التنزيلية وَلَا من العبر القولية، وَلَا من الشَّرِيعَة الْمَشْرُوعَة للعباد من الرب سُبْحَانَهُ، وَمن نبيه [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم، وَالله أعلم.
إِجَابَة الدُّعَاء، من مظَاهر محبَّة الله للْعَبد (أَولا) :
قَوْله: " وَإِن سَأَلَني لأعطينه " بِاللَّامِ وَالنُّون فِي آخِره. وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَة " وَلَئِن استعاذني لأعيذنه " وَزَاد فِي رِوَايَة عبد الْوَاحِد لفظ " عَبدِي " بعد " سَأَلَني ". وَفِي ضبط استعاذني وَجْهَان: الأول بالنُّون بعد الذَّال الْمُعْجَمَة وَالثَّانِي بِالْبَاء الْمُوَحدَة.
وَفِي حَدِيث أبي أُمَامَة " وَإِذا استنصرني نصرته " وَفِي حَدِيث أنس " وَإِذا نصحني نصحت لَهُ ".
وَفِي الحَدِيث دَلِيل على شُمُول النَّوَافِل للأقوال وَالْأَفْعَال، وَقد بَينا فِيمَا تقدم بعض مَا يدْخل تَحت لفظ النَّوَافِل، وَهِي كَثِيرَة جدا يضبطها أَن يُقَال: هِيَ كل مَا رغب الشَّرْع فِيهِ أَو وعد بالثواب عَلَيْهِ من غير حتم.
وَظَاهر الصيغتين أَعنِي قَوْله: " وَإِن سَأَلَني أَعْطيته، وَإِن استعاذني أعذته " الْعُمُوم. وَهُوَ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة الَّتِي ذَكرنَاهَا أظهر لما فِيهَا من اللَّام الموطئة للقسم فيجاب لَهُ كل مطلب ويعاذ من كل مَا استعاذ مِنْهُ.
قَالَ ابْن حجر فِي الْفَتْح: " وَقد اسْتشْكل بِأَن جمَاعَة من الْعباد والصلحاء
دعوا وبالغوا وَلم يجابوا ".
وَالْجَوَاب: أَن الْإِجَابَة تتنوع فَتَارَة يَقع الْمَطْلُوب بِعَيْنِه على الْفَوْر، وَتارَة يَقع وَلَكِن يتَأَخَّر لحكمة فِيهِ، وَتارَة قد تقع الْإِجَابَة وَلَكِن بِغَيْر الْمَطْلُوب حَيْثُ لَا تكون فِي الْمَطْلُوب مصلحَة ناجزة، وَفِي الْوَاقِع مصلحَة ناجزة، أَو أصلح مِنْهَا ". انْتهى.
وَأَقُول: كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَن يرْبط هَذَا التَّقْسِيم بِالدَّلِيلِ، فَإِنَّهُ لَا يقبل إِلَّا بذلك. وَقد أخرج أَحْمد بِإِسْنَاد لَا بَأْس بِهِ وَالْبُخَارِيّ فِي الْأَدَب الْمُفْرد وَالْحَاكِم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَنهُ [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم قَالَ:" مَا من مُسلم ينصب وَجهه لله فِي مَسْأَلَة إِلَّا أعطَاهُ الله إِيَّاهَا: إِمَّا أَن يَجْعَلهَا لَهُ وَإِمَّا أَن يدخرها لَهُ ".
وَأخرج أَحْمد وَالْبَزَّار وَأَبُو يعلى بأسانيد جَيِّدَة وَالْحَاكِم وَقَالَ صَحِيح الْإِسْنَاد من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَن النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم قَالَ " مَا من مُسلم يَدْعُو بدعوة لَيْسَ فِيهَا إِثْم وَلَا قطيعة رحم، إِلَّا أعطَاهُ الله بهَا إِحْدَى ثَلَاث: إِمَّا أَن يعجل لَهُ دَعوته، وَإِمَّا أَن يدخرها لَهُ فِي الْآخِرَة، وَإِمَّا أَن يصرف عَنهُ من السوء مثلهَا ".
فقد تضمن الحَدِيث الأول صُورَتَيْنِ. إِمَّا التَّعْجِيل وَإِمَّا التَّأْجِيل، وتضمن الحَدِيث الثَّانِي ثَلَاث صور: الصُّورَتَيْنِ المذكورتين فِي الحَدِيث الأول وَالثَّانيَِة: أَن يصرف عَنهُ من السوء مثلهَا.
وَورد أَيْضا مَا يدل على وُقُوع الْإِجَابَة وَلَا محَالة كَمَا فِي حَدِيث عَائِشَة عِنْد الْحَاكِم وَالْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط والخطيب عَنهُ [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم قَالَ:
" لَا حذر من قدر وَالدُّعَاء ينفع مِمَّا نزل وَمِمَّا لم ينزل وَإِن الْبلَاء لينزل فيتلقاه الدُّعَاء فيعتلجان إِلَى يَوْم الْقِيَامَة " قَالَ الْحَاكِم: صَحِيح الْإِسْنَاد.
وَتعقبه الذَّهَبِيّ فِي التَّلْخِيص بِأَن زَكَرِيَّا بن مُوسَى أحد رِجَاله وَهُوَ مجمع على ضعفه.
وَقَالَ الهيثمي فِي مجمع الزَّوَائِد رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو يعلى بِنَحْوِهِ، وَالْبَزَّار، وَالطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط وَرِجَال أَحْمد وَأبي يعلى وَأحد إسنادي الْبَزَّار رِجَاله رجال الصَّحِيح غير عَليّ بن عَليّ الرِّفَاعِي وَهُوَ ثِقَة.
وَقد قدمنَا ذكر هَذَا الحَدِيث وَذكر مَا قيل فِي إِسْنَاده.
وَقد تضمن أَن الدُّعَاء ينفع مِمَّا نزل وَمِمَّا لم ينزل. وَذَلِكَ يَشْمَل دفع كل الْبلَاء النَّازِل وَأَنه يعتلج هُوَ وَالْبَلَاء إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
فَيمكن أَن يجمع بَين الحَدِيث وَبَين حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد بِأَن دفع الْبلَاء يحصل بِالدُّعَاءِ على كل حَال.
وَأما إِذا كَانَ الدُّعَاء فِي مَطْلُوب من المطالب الَّتِي لَيست بِدفع الْبلَاء، فَيحْتَمل تِلْكَ الصُّور.
وَيُؤَيّد هَذَا الْجمع مَا أخرجه ابْن حبَان فِي صَحِيحه وَالْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه، والضياء فِي المختارة من حَدِيث أنس عَنهُ [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم أَنه قَالَ:
" لَا تعجزوا فِي الدُّعَاء، فَإِنَّهُ لن يهْلك مَعَ الدُّعَاء أحد ". وَقد صَححهُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة فَلَا وَجه لتعقب الذَّهَبِيّ بِأَن فِي إِسْنَاده عمر بن مُحَمَّد الْأَسْلَمِيّ وَأَنه لَا يعرفهُ لِأَنَّهُ قد عرفه هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة وَلَو لم يعرفوه لم يصححوا الحَدِيث. لكنه حكى الذَّهَبِيّ فِي الْمِيزَان عَن أبي حَاتِم أَنه مَجْهُول. وَقَالَ ابْن حجر فِي لِسَان الْمِيزَان: أَنه تساهل الْحَاكِم فِي تَصْحِيحه.
وَيُجَاب عَنهُ بِأَنَّهُ قد صَححهُ مَعَه ابْن حبَان والضياء وهما مَا هما! ؟ وَمَعْلُوم أَنَّهُمَا لَا يصححان إِلَّا حَدِيثا قد عرفا إِسْنَاده. وَمن علم حجَّة على من لم يعلم.
وَمِمَّا يدل على إِجَابَة الدُّعَاء على الْعُمُوم حَدِيث سلمَان عِنْد أبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَحسنه وَابْن مَاجَه وَابْن حبَان فِي صَحِيحه وَالْحَاكِم، وَقَالَ صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم:
" إِن الله حييّ [كريم] يستحي إِذا رفع الرجل يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَن يردهما صفراً خائبتين ". وَأخرج الْحَاكِم وَقَالَ صَحِيح الْإِسْنَاد من حَدِيث أنس قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم:
" إِن الله حييّ كريم يستحي من عَبده أَن يرفع إِلَيْهِ يَدَيْهِ ثمَّ لَا يضع فيهمَا خيرا ".
وَيدل على إجَابَته على الْعُمُوم بِالْآيَاتِ الَّتِي قدمنَا ذكرهَا.