الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَيْسَ من دأب الْأَوْلِيَاء. {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يحكمون فِيمَا شجر بَينهم، ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجا مِمَّا قضيت، ويسلموا تَسْلِيمًا} .
وتحكيم رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] هُوَ تحكيم مَا جَاءَ بِهِ من الشَّرِيعَة المطهرة. وَهِي مَوْجُودَة فِي كتاب الله سُبْحَانَهُ، وَفِي سنة رَسُوله [صلى الله عليه وسلم] وهما باقيان إِلَى هَذِه الْغَايَة بَين أظهر الْمُسلمين. وَالْعُلَمَاء العارفون بِمَا فيهمَا، موجودون فِي كل أقطار الأَرْض، فَإِذا حكم حَاكم مِنْهُم على الْوَلِيّ بِمَا يجب عَلَيْهِ فِي كتاب الله سُبْحَانَهُ، وَفِي سنة رَسُوله [صلى الله عليه وسلم] ، فالامتثال عَلَيْهِ أوجب من الِامْتِثَال على غَيره لارْتِفَاع رتبته ومزيد [خصوصيته] بِكَوْنِهِ وليا لله سُبْحَانَهُ، فَإِذا حرج صَدره من ذَلِك وتأذى بِهِ فَهُوَ قَادِح فِي ولَايَته، وَلَيْسَ على المخاصم لَهُ وَلَا على الْحَاكِم الَّذِي حكم عَلَيْهِ شَيْء من الْإِثْم.
عود إِلَى مقياس الْولَايَة:
وَقد قدمنَا أَن المعيار الَّذِي تعرف بِهِ صِحَة ولَايَته، هُوَ أَن يكون عَاملا بِكِتَاب الله سُبْحَانَهُ وبسنة رَسُوله [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم مؤثراً لَهما على كل شَيْء مقدما لَهما فِي إصداره وإيراده، وَفِي كل شئونه، فَإِذا زاغ عَنْهُمَا زاغت عَنهُ الْولَايَة.
وَانْظُر مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ هَذِه الْآيَة الشَّرِيفَة مِمَّا هُوَ موعظة للمتعظين وعبرة للمعتبرين، فَإِنَّهُ أَولا بَدَأَ فِيهَا بالقسم الرباني، وَأقسم بِنَفسِهِ عز وجل وتقدس مُشَرفا لَهُ [صلى الله عليه وسلم] بِإِضَافَة الربوبية إِلَيْهِ، جَازِمًا بِنَفس الْإِيمَان عَمَّن خَالف هَذَا الْقسم الرباني، فَقَالَ: لَا يُؤمنُونَ. ثمَّ جعل لذَلِك غَايَة هِيَ تحكيمه [صلى الله عليه وسلم] فِيمَا شجر بَين الْعباد.
ثمَّ لم يكتف بذلك حَتَّى قَالَ: {ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجا مِمَّا قضيت} فَلَا ينفع مُجَرّد التَّحْكِيم لكتاب الله سُبْحَانَهُ ولسنة رَسُوله [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم، حَتَّى لَا يكون فِي صدر الْمُحكم لَهما حرجا من ذَلِك الْقَضَاء.
ثمَّ لم يكتف بذلك، حَتَّى قَالَ:{ويسلموا} فَلَا ينفع مُجَرّد التَّحْكِيم لَهما مَعَ عدم الْحَرج من الحكم عَلَيْهِ بهما حَتَّى يسلم مَا عَلَيْهِ مِمَّا أوجبه الْقَضَاء بهما، ثمَّ جَاءَ بالتأكيد لهَذَا التَّسْلِيم الْمُفِيد أَنه أَمر لَا مخلص عَنهُ، وَلَا خُرُوج مِنْهُ.
فَكيف يجد من كَانَ وليا لله سُبْحَانَهُ حرجاً فِي صَدره على خَصمه المطالب لَهُ بِحَق يحِق عَلَيْهِ التَّخَلُّص مِنْهُ، أَو على حاكمه الَّذِي حكم بِهِ عَلَيْهِ؟ {
فَإِن هَذَا لَيْسَ بصنيع أهل الْإِيمَان بِاللَّه، فَكيف بأوليائه الَّذين ضمُّوا إِلَى الْإِيمَان مَا استحقوا بِهِ اسْم الْولَايَة، والعزة الربانيه؟} !
وَلَكِن هَذَا إِذا كَانَ الْخصم يعلم أَنه محق فِي طلبه، وَأَن ذَلِك الْحق ثَابت لَهُ لَا محَالة، فَإِن القَاضِي: إِنَّمَا يقْضِي لَهُ بِالظَّاهِرِ الشَّرْعِيّ، كَمَا ثَبت عَنهُ
[صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا أَنه قَالَ:
" إِنَّكُم تختصمون إليّ وَلَعَلَّ بَعْضكُم أَن يكون أَلحن بحجته من بعض، وَإِنَّمَا أَقْْضِي بِنَحْوِ مَا أسمع فَمن قضيت لَهُ من حق أَخِيه شَيْئا، فَلَا يَأْخُذهُ، فَإِنَّمَا أقطع لَهُ قِطْعَة من النَّار ".
فَهَذَا يَقُوله الصَّادِق المصدوق سيد ولد آدم، الْمَبْعُوث إِلَى جَمِيع الْعَالم إنسهم وجنهم، وَقد أخبرنَا بِأَنَّهُ إِذا قضى بِشَيْء مِمَّا سَمعه، وَكَانَ الْبَاطِل بِخِلَافِهِ لم يجز للمحكوم لَهُ أَن يَأْخُذهُ بل هُوَ قِطْعَة من النَّار فَكيف بِمن هُوَ مَظَنَّة للخطأ، وَمحل للإصابة تَارَة ولغيرها أُخْرَى، وبمن لَا عصمَة لَهُ، وَلَا وَحي ينزل عَلَيْهِ؟ {} .
وَقد صَحَّ [عَنهُ صلى الله عليه وسلم] فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا أَنه قَالَ:
إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ، وَإِن اجْتهد فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر. فَكل حَاكم من حكام الْمُسلمين [يتَرَدَّد] حكمه بَين الصَّوَاب وَالْخَطَأ، وَلكنه مأجور على كل حَال، لِأَن ذَلِك فَرْضه الْوَاجِب عَلَيْهِ، وَلَا يحل للمحكوم لَهُ أَيْن يسْتَحل مَال خَصمه بِمُجَرَّد الحكم، كَمَا قضى بِهِ رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] فِي أَحْكَامه الشَّرِيفَة فَكيف بِأَحْكَام غَيره من حكام أمته؟ {} .
وَقد ثَبت فِي السّنَن وَغَيرهَا عَن النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] :
" إِن
الْقُضَاة ثَلَاثَة قاضيان فِي النَّار وقاض فِي الْجنَّة، فَالَّذِي فِي الْجنَّة رجل علم بِالْحَقِّ وَقضى بِهِ والقاضيان [اللَّذَان] هما فِي النَّار: رجل قضى للنَّاس بِجَهْل فَهُوَ فِي النَّار، وَرجل علم الْحق وَقضى بِخِلَافِهِ فَهُوَ فِي النَّار ".
وَبِهَذَا تعرف أَن الْخصم المحاكم للْوَلِيّ، إِذا كَانَ يعلم أَنه لَا حق لَهُ عَلَيْهِ وَأَن دَعْوَاهُ بَاطِلَة، فَهُوَ دَاخل تَحت قَوْله:" من عادى لي وليا " لِأَن دَعْوَاهُ الْبَاطِلَة على الْوَلِيّ معاداة لَهُ ظَاهِرَة، فَاسْتحقَّ الْحَرْب الَّذِي توعده الله سُبْحَانَهُ بِهِ فِي هَذَا الحَدِيث.
وَأما القَاضِي إِذا قضى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ فِي ظَنّه [حق][مُوَافق] للْكتاب وَالسّنة، واجتهد فِي الْبَحْث والفحص، وَكَانَ أَهلا للْحكم فَلَيْسَ ذَلِك مِنْهُ معاداة للْوَلِيّ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ من تأذيه بِحكمِهِ شَيْء، فَهُوَ قد حكم بالشريعة المطهرة وَاسْتحق أَجْرَيْنِ أَو أجرا، وامتثل مَا أرشده إِلَيْهِ الصَّادِق المصدوق [صلى الله عليه وسلم] .
وَهَا هُنَا نُكْتَة يَنْبَغِي التنبه لَهَا من كل أحد من أهل الْعلم، وَهِي أَن لفظ الشَّرِيعَة إِن أُرِيد بِهِ الْكتاب وَالسّنة، لم يكن لأحد من أَوْلِيَاء الله تَعَالَى وَلَا من غَيرهم أَن يخرج مِنْهُ، وَلَا يُخَالِفهُ بِوَجْه من الْوُجُوه، وَإِن أُرِيد بِهِ حكم الْحَاكِم فقد يكون صَوَابا، وَقد يكون خطأ كَمَا بَينه رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] وَآله