الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ: وَيدخل فِي قَوْله: افترضت عَلَيْهِ الْفَرَائِض الظَّاهِرَة فعلا، كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَغَيرهمَا من الْعِبَادَات.
وتركا كَالزِّنَا وَالْقَتْل وَغَيرهمَا من الْمُحرمَات، والباطنة كَالْعلمِ بِاللَّه تَعَالَى وَالْحب لَهُ والتوكل عَلَيْهِ، وَالْخَوْف مِنْهُ وَغير ذَلِك.
وَهُوَ يَنْقَسِم أَيْضا إِلَى أَفعَال وتروك.
الْوَلِيّ وَمَعْرِفَة الغيبيات:
قَالَ: وَفِيه دلَالَة على جَوَاز اطلَاع الْوَلِيّ على المغيبات باطلاع الله تَعَالَى وإياه، وَلَا يمْنَع من ذَلِك ظَاهر قَوْله:{عَالم الْغَيْب فَلَا يظْهر على غيبه أحدا إِلَّا من ارتضى من رَسُول} فَإِنَّهُ لَا يمْنَع دُخُول بعض أَتْبَاعه مَعَه بالتبعية لصدق قَوْلنَا: مَا دخل على الْملك الْيَوْم إِلَّا الْوَزير. وَمن الْمَعْلُوم أَنه دخل مَعَه بعض خدمه.
قلت: الْوَصْف الْمُسْتَثْنى للرسول هُنَا إِن كَانَ فِيمَا يتَعَلَّق بِخُصُوص كَونه رَسُولا فَلَا مُشَاركَة لأحد من أَتْبَاعه فِيهِ إِلَّا مِنْهُ، وَإِلَّا فَيحْتَمل مَا قَالَ، وَالْعلم عِنْد الله عز وجل " انْتهى.
أَقُول: أما قَوْله: فِي هَذَا الحَدِيث عظم قدر الْوَلِيّ فَلَا شكّ فِي ذَلِك لِأَن الله سُبْحَانَهُ قد أحبه وَكَانَ سَمعه وبصره وَيَده وَرجله، ووعده بِأَنَّهُ إِذا سَأَلَهُ أعطَاهُ، وَإِذا استعاذه أَعَاذَهُ.
وَأما قَوْله: " لكَونه خرج من تَدْبيره الخ " فَإِن أَرَادَ بِهَذَا التَّعْلِيل أَن
الْوَلِيّ فِي الْوَاقِع كَذَلِك فَصَحِيح. وَإِن أَرَادَ أَن فِي الحَدِيث الْقُدسِي دلَالَة على هَذِه الْعلَّة فَلَا، فَإِنَّهُ لم يذكر ذَلِك فِيهِ إِلَّا أَن يُرِيد أَن فِي قَوْله: كنت سَمعه الَّذِي يسمع بِهِ إِلَى آخِره، مَا يدل على أَنه بذلك قد صَار فِي تَدْبِير من صَار سَمعه وبصره الخ. وَهُوَ الرب عز وجل، وَلَكِن لَيْسَ هَذَا الْخُرُوج من فعل الْوَلِيّ حَتَّى يكون ذَلِك عِلّة لتعظيم قدره، فَإِن ذَلِك من فعل الله سُبْحَانَهُ، فَهُوَ الَّذِي جازى الْوَلِيّ بالمحبة وَكَانَ سَمعه وبصره الخ، هُوَ من جملَة مَا جوزي بِهِ الْوَلِيّ فَلَا يَصح أَن يكون عِلّة للمجازاة.
وَأما قَوْله " وَيُؤْخَذ مِنْهُ أَن لَا يحكم لإِنْسَان آذَى وليا الخ ".
فَلَعَلَّهُ يُرِيد أَنه سُبْحَانَهُ لما آذن من يعادي الْوَلِيّ بِالْحَرْبِ كَانَ ذَلِك وَاقعا لَا محَالة إِمَّا معجلا، أَو مُؤَجّلا، فِي النَّفس أَو فِي المَال أَو فِي الْوَلَد. فَإِن كل ذَلِك يصدق عَلَيْهِ أَنه من حَرْب الله لذَلِك المعادي للْوَلِيّ.
وَأما قَوْله: وَيدخل فِي قَوْله: " افترضت عَلَيْهِ: الْفَرَائِض الظَّاهِرَة الخ " فقد أوضحنا هَذَا عِنْد كلامنا على قَوْله: " وَمَا تقرب إِلَيّ عَبدِي بِمثل أَدَاء مَا افترضت عَلَيْهِ " بأوضح بَيَان فأرجع إِلَيْهِ.
وَأما قَوْله: " وَفِيه دلَالَة على جَوَاز اطلَاع الْوَلِيّ على المغيبات باطلاع الله تَعَالَى إِيَّاه الخ " فَهُوَ مَأْخُوذ من قَوْله: " كنت سَمعه الَّذِي يسمع بِهِ، وبصره الَّذِي يبصر بِهِ. . الخ ".
فَإِن من كَانَ الله سُبْحَانَهُ سَمعه وبصره لَا مَانع من اطِّلَاعه على بعض [أسراره] الإلهية وَلَا سِيمَا بعد بَيَان هَذَا بقوله: فَبِي يسمع، وَبِي يبصر،
وَبِي يبطش، وَبِي يمشي، وَقد أطلنا الْكَلَام على هَذَا فِيمَا سبق، وبيناه أكمل بَيَان وَذكرنَا مَا يُعَضِّدُ ذَلِك من الْأَدِلَّة.
وَأما قَوْله: " وَلَا يمْنَع من ذَلِك ظَاهر قَوْله تَعَالَى: {عَالم الْغَيْب فَلَا يظْهر على غيبه أحدا إِلَّا من ارتضى من رَسُول} فَإِنَّهُ لَا يمْنَع أحدا من دُخُول بعض أَتْبَاعه مَعَه بالتبعية الخ.
فَأَقُول: هَذَا صَحِيح، فَإِن الله سُبْحَانَهُ قد أطلع على مَا يَشَاء من غيبه من يرتضيه من رسله كَمَا تفيده هَذِه الْآيَة: وَلم يمْنَع الرَّسُول من إِظْهَار مَا أطلعه عَلَيْهِ على بعض خواصه من أَتْبَاعه:
وَقد وَقع مِنْهُ [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم ذَلِك فِي غير قَضِيَّة كاطلاعه حُذَيْفَة
على أهل النِّفَاق ومعرفته بهم. واطلاعه لَهُ أَيْضا على بعض الْأُمُور الْمُسْتَقْبلَة خُصُوصا أُمُور الْفِتَن الَّتِي حدثت بعد رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم، فَإِنَّهُ كَانَ بهَا خَبِيرا، وَكَانَ يسْأَل عَنْهَا فيجيب كسؤال عمر لَهُ الثَّابِت فِي الصَّحِيح، وإخباره لَهُ بِأَن بَينه وَبَينهَا بَابا، فَقَالَ عمر لَهُ: أيكسر أم يفتح؟ فَقَالَ: بلَى يكسر، ففهم عمر رضي الله عنه أَنه الْبَاب وَأَنه يقتل.
فَهَذَا وَأَمْثَاله هُوَ من عِنْد الله سُبْحَانَهُ. وَمن ذَلِك: قَول عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه كَمَا فِي صَحِيح مُسلم وَغَيره: " وَالَّذِي فلق الْحبَّة وبرأ النَّسمَة إِنَّه لعهد النَّبِي الْأُمِّي أَن لَا يحبني إِلَّا مُؤمن وَلَا يبغضني إِلَّا مُنَافِق ". وَمن ذَلِك قَضِيَّة المُخْدَج الَّذِي قتل من الْخَوَارِج فِي يَوْم النهروان وَأمرهمْ عَليّ أَن
يبحثوا عَنهُ فَلم يجدوه، فَقَامَ فَوَجَدَهُ فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبِيدَةَ السَّلمَانِي آللَّهُ إِنَّه لعهد النَّبِي إِلَيْك قَالَ: نعم.
بل ثَبت فِي الصَّحِيح " أَن النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم قَامَ مقَاما فَمَا ترك شَيْئا من الْأُمُور الْمُسْتَقْبلَة حَتَّى أخْبرهُم بِهِ حفظه من حفظه، ونسيه من نَسيَه ". وَذكر كل قَائِد من قواد الْفِتَن، وَأخْبر جمَاعَة من الصَّحَابَة كَأبي ذَر، وَأبي هُرَيْرَة وَغَيرهمَا بِشَيْء من الْأُمُور الْمُسْتَقْبلَة، كَمَا ذكره أهل الحَدِيث وَالسير والتاريخ.
وكما قَالَ لعبد الله بن عَبَّاس، لما وصل إِلَيْهِ بِابْنِهِ عَليّ ليبرك عَلَيْهِ: خُذ إِلَيْك أَبَا الْأَمْلَاك، فَكَانَ أول من ملك من أَوْلَاده السفاح عبد الله بن مُحَمَّد
ابْن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس، ثمَّ ملك بعده أَخُوهُ الْمَنْصُور، ثمَّ أَوْلَاده من خلفاء بني الْعَبَّاس، وَكَانَت لَهُم تِلْكَ الدولة الطَّوِيلَة. بل كَانَ لَدَى أَوْلَاد عَليّ بن أبي طَالب من الْأَخْبَار الْمُتَعَلّقَة بالدول مَا هُوَ مَعْرُوف، وَكَانَ الإِمَام الباقر وَالْإِمَام الصَّادِق يخبران خواصهم بِالْوَقْتِ الَّذِي تنْتَقل فِيهِ الدولة من بني أُميَّة إِلَى بني هَاشم. بل كَانَ عِنْد بني أُميَّة من دولتهم أَخْبَار منقولة فِي كتب التَّارِيخ، وَكَانَ الْعَارِف بهَا مسلمة بن عبد الْملك بن مَرْوَان.
وَمن أعجب مَا روى عَنهُ أَنهم اجْتَمعُوا فِي أَيَّام دولتهم فِي مَسْجِد من الْمَسَاجِد الْخَاصَّة بهم، فَصَارَ مسلمة بن عبد الْملك يُحَدِّثهُمْ بالأمور الَّتِي يكون بهَا زَوَال دولتهم، وبينما هُوَ يذكر لَهُم قيام أبي مُسلم بِظُهُور الدولة الهاشمية بخراسان، صَادف فِي ذَلِك الْوَقْت دُخُول رجل غَرِيب عَلَيْهِم ووقف يسمع الحَدِيث ومسلمة يُحَدِّثهُمْ عَن الْجَيْش الَّذِي يقدم من خُرَاسَان ويصل إِلَى الْعرَاق، وَتظهر دولة بني العباسية فَسَماهُ باسمه، وَقَالَ: هُوَ رجل اسْمه قَحْطَبَةَ ابْن شبيب صفته كَذَا، ثمَّ وَقعت عينه على ذَلِك الْغَرِيب، فَقَالَ كَأَنَّهُ هَذَا أَو
يشبه هَذَا، وَاسْتمرّ فِي حَدِيثه حَتَّى قَالَ: ثمَّ يهْلك بعد وُصُوله هُوَ وجيشه إِلَى الْعرَاق فِي دجلة أَو الْفُرَات، الشَّك مني.
وَكَانَ ذَلِك الرجل الْغَرِيب الدَّاخِل عَلَيْهِم هُوَ قَحْطَبَةَ بن شبيب، فَلَمَّا سمع الحَدِيث انْخَنَسَ من بَينهم وَقصد خُرَاسَان، وَكَانَ هُوَ الْأَمِير الَّذِي أرْسلهُ أَبُو مُسلم إِلَى الْعرَاق، وطوى الممالك مَا بَين خُرَاسَان إِلَى الْعرَاق. وَلما وصلوا إِلَى النَّهر الَّذِي لَا يجاز مَعَه إِلَى الْعرَاق إِلَّا من القنطرة أَمر الْجَيْش أَن يتوقفوا إِلَى اللَّيْل ويجوزوا القنطرة، ثمَّ جمع خَواص الْجَيْش وكبارهم وَطلب مِنْهُم أَنهم يعقدون الْإِمَارَة بعده لِابْنِهِ حميد بن قَحْطَبَةَ إِذا عرض لَهُ الْمَوْت فَفَعَلُوا وَهُوَ قد ظن أَنه يكون هَلَاكه بِالْقَتْلِ فَدخل فِي غمار الْجَيْش كواحد مِنْهُم وأخفى نَفسه، وَركب فرسا من غَرَض الأفراس وَمَشى بهَا فِي الجسر، فازدحمت الْخَيل حَتَّى رمت بِهِ إِلَى النَّهر فَهَلَك، وَكَانَ فِي تَدْبيره تدميره.
وَمن عجائب مَا ألْقى من هَذَا الْعلم على لِسَان رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم أَنه اجْتمع بَنو هَاشم من آل عَليّ وَآل الْعَبَّاس فِي بعض الْأَوْقَات فِي أَيَّام بني أُميَّة، فَبَايعُوا مُحَمَّد بن عبد الله بن الْحسن بن الْحسن بن عَليّ بن
أبي طَالب، فَقَالَ جَعْفَر الصَّادِق لبَعض خواصه: إِن هَذَا يَعْنِي الْمَنْصُور الْعَبَّاس هُوَ الَّذِي يكون خَليفَة، وسيكون قتل من بَايَعْنَاهُ الْآن، يَعْنِي مُحَمَّد بن عبد الله الْمَذْكُور وَهُوَ الملقب بِالنَّفسِ الزكية على يَد جَيش الْمَنْصُور هَذَا. فَانْظُر إِلَى هَذَا الْعجب العجيب.
وَمن ذَلِك مَا أخبر بِهِ النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم فِيمَا صَحَّ عَنهُ فِي الصَّحِيح من خُرُوج التّرْك على بِلَاد الْإِسْلَام، وَذكر مَا يصدر مِنْهُم من أَخذ الْبِلَاد الإسلامية وَفتح مَدَائِن الْإِسْلَام، ثمَّ وَصفهم بأوصاف من جُمْلَتهَا أَن وُجُوههم كالمجان المطرقة، وَأَن نعَالهمْ الشّعْر، وَنَحْو ذَلِك من الْأَوْصَاف.
فَخرج التّرْك الَّذين يُقَال لَهُم التتر، وفعلوا تِلْكَ الأفاعيل بِبِلَاد الْإِسْلَام، حَتَّى كَادُوا يستولون عَلَيْهَا جَمِيعًا، وَلم يبْق إِلَّا الْيَسِير مِنْهَا.
وَكم يعد الْعَاد من ذَلِك فَإِنَّهُ كثير جدا، وَكله مُسْتَفَاد من الجناب النَّبَوِيّ، وَمن الْغَيْب الَّذِي أطلع الله رَسُوله عَلَيْهِ فَأطلع عَلَيْهِ من ارْتَضَاهُ من أَصْحَابه.
وَقد قدمنَا حَدِيث: " إِن فِي هَذِه الْأمة محدَّثين، وَإِن مِنْهُم عمر " وَهُوَ
فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَهَذَا هُوَ نوع من أَنْوَاع علم الْغَيْب. وَكَذَلِكَ ذكرنَا حَدِيث " اتَّقوا فراسة الْمُؤمن فَإِنَّهُ يرى بِنور الله " وَهُوَ حَدِيث حسن كَمَا بَينا فِيمَا سلف.
وَمن أغرب مَا نحكيه فِيمَا يتَعَلَّق بِهَذَا الحَدِيث أَن السرى السَّقْطي شيخ الْجُنَيْد أمره بِأَن يخرج يتَكَلَّم على النَّاس فَاعْتَذر مِنْهُ بِمَا فِي لِسَانه من العجمة، وبعدم صلاحيته لذَلِك، فعزم عَلَيْهِ أَن يخرج صبح تِلْكَ اللَّيْلَة يتَكَلَّم على النَّاس فِي الْجَامِع، فَكَأَنَّهُ نَادَى [مُنَاد] فِي النَّاس: بِأَن الْجُنَيْد سيتكلم على النَّاس عقب صَلَاة الفجرة فِي الْجَامِع، فَجَاءُوا إِلَيْهِ أَفْوَاجًا.
وَكَانَ هَذَا أول كَرَامَة للجنيد، لِأَنَّهُ لم يطلع على مَا دَار بَينه وَبَين شَيْخه أحد، فَخرج وَوجد الْجَامِع [غاصا] بأَهْله فَلَمَّا قعد وَأَقْبلُوا إِلَيْهِ بأجمعهم، فبرز رجل وَسَأَلَهُ عَن معنى حَدِيث:" اتَّقوا فراسة الْمُؤمن " فَأَطْرَقَ قَلِيلا ثمَّ قَالَ لَهُ: أسلم فقد آن لَك أَن تسلم، فَقَامَ وَجَثَا بَين يَدَيْهِ وَأسلم، وانكشف أَن ذَلِك الرجل من النَّصَارَى لما سمع أَخْبَار النَّاس بِأَن الْجُنَيْد سيتكلم فِي ذَلِك الْمحل فِي ذَلِك الْوَقْت لبس لبس الْمُسلمين وَدخل مَعَهم مختبراً لِلْإِسْلَامِ وَأَهله، فَكَانَ فِي ذَلِك سعادته الأبدية.
وَبِهَذَا تعرف أَنه لَا حَاجَة إِلَى مَا قَالَه الشَّيْخ أَبُو الْفضل فِي آخر كَلَامه من قَوْله: " لصدق قَوْلنَا مَا دخل على الْملك إِلَّا الْوَزير، وَمن الْمَعْلُوم أَنه قد دخل مَعَه بعض خدمه ". لِأَن مثل هَذَا التشغيل لَا يُؤْكَل بِهِ الْكَتف، وَلَا ينفع فِي مقَام النزاع. وَمرَاده أَن بعض أَتبَاع الرُّسُل قد يدْخل مَعَه كَمَا دخل أَتبَاع الْوَزير مَعَه فيطلعهم الله على الْغَيْب كَمَا أطلع عَلَيْهِ من ارتضى من رَسُول.
وَهَذَا إِلْحَاق مَعَ فَارق أوضح من الشَّمْس، وَهُوَ كَونه رَسُولا، وَكَون الله ارْتَضَاهُ، وَلَا يُوجد ذَلِك فِي غير رَسُول.
وَلَيْسَ النزاع فِي دُخُول أَتبَاع الرَّسُول [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم فِي قَوْله: " إِلَّا من ارتضى من رَسُول "، فمعلوم أَنه لَا دُخُول لَهُم فِي ذَلِك، لَكِن النزاع فِي أَن الرَّسُول هَل لَهُ أَن يطلع غَيره من أَتْبَاعه على مَا أطلعه الله عَلَيْهِ من علم الْغَيْب أم لَا؟ فَنحْن نقُول: لَا نسلم قَول من قَالَ إِنَّه لَا يجوز لَهُ، ونسند هَذَا الْمَنْع بِمَا قدمنَا ذكره وبأمثاله مَا لم نذكرهُ.
وَإِذا تبرعنا بالاستدلال على جَوَاز إطلاعه لبَعض أَتْبَاعه على مَا أطلعه الله عَلَيْهِ من علم الْغَيْب، فَنَقُول: عُمُوم قَوْله: " يأيها الرَّسُول بلغ مَا أنزل إِلَيْك ". وَلِهَذَا يَقُول الله عز وجل: {وَإِن لم تفعل فَمَا بلغت رسَالَته} وَتقول عَائِشَة: " من زعم أَن مُحَمَّدًا كتم شَيْئا مِمَّا أوحاه الله إِلَيْهِ فقد أعظم على الله الْفِرْيَة " وَهُوَ فِي الصَّحِيح.
وَلَو سلمنَا تَخْصِيص ذَلِك بِمَا يَحْتَاجهُ النَّاس من علم الشَّرِيعَة، وَهَذَا لَا يحتاجونه لَكَانَ مَا قدمنَا ذكره من الْوَاقِعَات مِنْهُ [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم من إطلاع بعض أَتْبَاعه على شَيْء من علم الْغَيْب دَلِيلا على أَن ذَلِك جَائِز.
وَأما قَول ابْن حجر مستدركاً على أبي الْفضل بقوله: " قلت: الْوَصْف الْمُسْتَثْنى للرسول هُنَا إِن كَانَ فِيمَا يتَعَلَّق بِخُصُوص كَونه رَسُولا فَلَا مُشَاركَة لأحد من أَتْبَاعه فِيهِ إِلَّا مِنْهُ، وَإِلَّا فَيحْتَمل مَا قَالَ وَالْعلم عِنْد الله " انْتهى.
فَأَقُول: لَيْسَ المُرَاد إِلَّا الشق الأول، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يظْهر على غيبه أحدا إِلَّا من ارتضى من رَسُول فَلَو لم يكن ذَلِك الْوَصْف الْمُسْتَثْنى مُتَعَلقا بِخُصُوص كَونه رَسُولا لكفى قَوْله: {إِلَّا من ارتضى} بِدُونِ قَوْله: " من رَسُول " فَلَا يتم مَا قَالَه فِي الشق الثَّانِي من قَوْله. وَإِلَّا فَيحْتَمل مَا قَالَ.
نعم اقْتِصَار الشَّيْخ أَبُو الْفضل على مُجَرّد ذَلِك الْمِثَال، وموافقة ابْن حجر لَهُ بقوله، وَإِلَّا فَيحْتَمل مَا قَالَ إِن [أَرَادَ] أَن ذَلِك الْمِثَال. وَهَذَا الِاحْتِمَال فِي الْآيَة القرآنية. فقد عرفت اندفاع ذَلِك من الأَصْل، وَلَكِن كَانَ يَنْبَغِي لَهما أَن يحْتَجَّا لدُخُول بعض أَوْلِيَاء الله وصلحاء عباده فِي الظفر بِشَيْء من الْغَيْب الَّذِي اسْتَأْثر الله بِعَمَلِهِ بِمَا قدمنَا من قَوْله:" كنت سَمعه الَّذِي يسمع بِهِ، وبصره الَّذِي يبصر بِهِ الخ ".
وَلَو فَرضنَا أَن دلَالَة هَذَا مَخْصُوصَة بقوله: لَا يظْهر على غيبه أحدا إِلَّا
من ارتضى من رَسُول} فَإِن هَذَا النَّفْي وَالِاسْتِثْنَاء مشعران أتم إِشْعَار باختصاص ذَلِك بِمن جمع بَين وصف كَونه مِمَّن ارْتَضَاهُ الله، وَوصف كَونه رَسُولا. وَالْوَلِيّ وَإِن كَانَ مِمَّن ارْتَضَاهُ الله، فَإِن وصف الْمحبَّة لَهُ يُفِيد كَونه مرتضى لله لكنه لَيْسَ برَسُول.
نعم مَا قدمنَا من حَدِيث الْمُحدثين، وَأَن فِي هَذِه الْأمة مِنْهُم، وَأَن مِنْهُم عمر رَضِي الله [عَنهُ] يُفِيد أعظم إِفَادَة بِأَن وصف كَونه من الْمُحدثين طَرِيق إِلَى تلقي شَيْء من علم الْغَيْب ووصوله إِلَيْهِم، والْحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَانْظُر إِلَى قَول عمر رضي الله عنه: " يَا سَارِيَة الْجَبَل " مَعَ كَونه فِي الْمَدِينَة يخْطب فِي منبرها وسارية وَمن مَعَه من الْمُسلمين فِي أقاصي بِلَاد الْعَجم فأطلعه الله على الْحَرْب الَّذِي هم فِيهِ حَتَّى كَأَنَّهُ مشَاهد لَهُم، وأسمعهم الله صَوته فنفعهم بِهِ وسلموا من معرة الْكفَّار مَعَ أَن ذهنه فِي تِلْكَ الْحَالة كَانَ مَشْغُولًا بالخطابة الَّتِي هِيَ محتاجة إِلَى جمع الْفَهم عَلَيْهَا، وإفراغ الذِّهْن لَهَا، وَعدم الِاشْتِغَال بغَيْرهَا، لكَون ذَلِك فِي مجمع الصَّحَابَة رضي الله عنهم وهم أهل الفصاحة التَّامَّة والبلاغة الفائقة.
فَانْظُر إِلَى مَا منح الله هَذَا الرجل من الْمَوَاهِب الْعَظِيمَة من كل بَاب: جعله خَليفَة الْمُسلمين وإمامهم ثمَّ فتح الله لَهُ أقطار الأَرْض، وَكَانَت دولته مثلا مَضْرُوبا لكل دولة جَامِعَة بَين كَمَال الحزم والورع، وَالْعَمَل بالشريعة الْوَاضِحَة
ثمَّ جعل لَهُ من المهابة فِي الصُّدُور مَالا تبلغ إِلَيْهِ المهابة لعادل، أَو جَائِر حَتَّى قَالَ النَّاس: إِن درته أهيب فِي الصُّدُور من سيف الْحجَّاج الَّذِي قتل من عباد الله ظلما وعدواناً نَحْو مائَة وَعشْرين ألفا.
وَكَانَ ابْن عَبَّاس رضي الله عنه يَقُول: " إِذا عوتب على قَول لم يقلهُ فِي أَيَّام عمر، أَو على فتيا لم يفت بهَا فِي زَمَانه: كَانَ عمر مهيباً فهبته " وَلَقَد صدق من قَالَ: " إِن سَعَادَة الْمُسلمين طويت فِي أكفان عمر " لِأَن مُعظم الْفتُوح الإسلامية فِيهَا ثمَّ حدث بعده مَا حدث من الِاخْتِلَاف الْعَظِيم فِي آخر أَيَّام الإِمَام الْمَظْلُوم الشَّهِيد [عُثْمَان] بن عَفَّان رضي الله عنه. وَمَا زَالَت من بعد قَتله سيوف الْمُسلمين مُخْتَلفَة، من بَعضهم على بعض إِلَى هَذِه الْغَايَة، وَأَنت إِذا كنت عَالما بأخبار النَّاس عَارِفًا بِمَا [اشْتَمَلت] عَلَيْهِ تواريخ أهل الْإِسْلَام لم تشك فِي هَذَا، وَلأَجل هَذِه المزايا العمرية قَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه، لما رأى عمر فِي أَكْفَانه:" مَا أحب أَن ألْقى الله بِعَمَل رجل من النَّاس إِلَّا بِعَمَل هَذَا ". وَإِنَّمَا يعرف الْفضل لأهل الْفضل ذووا الْفضل.
وَقد أخبرنَا الصَّادِق المصدوق بِأَن خلَافَة النُّبُوَّة بعده ثَلَاثُونَ عَاما، [فكملت] بخلافة الْحسن السبط رضي الله عنه.