الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِمَا [يَشَاء] ، وتقتضيه حكمته. وَإِن لم يفعل حَتَّى جَاءَ أَجله، وحضره الْمَوْت مَاتَ بأجله الَّذِي قد قضى عَلَيْهِ إِذا لم يتسبب بِسَبَب يَتَرَتَّب عَلَيْهِ الفسحة لَهُ فِي عمره، مَعَ أَنه وَإِن فعل مَا يُوجب التَّأْخِير، والخلوص من الْأَجَل الأول، فَهُوَ لَا بُد لَهُ من الْمَوْت بعد انْقِضَاء تِلْكَ الْمدَّة الَّتِي وَهبهَا الله سُبْحَانَهُ لَهُ.
فَكَانَ هَذَا التَّرَدُّد مَعْنَاهُ: انْتِظَار مَا يَأْتِي بِهِ العَبْد مِمَّا يَقْتَضِي تَأْخِير الْأَجَل أَو لَا يَأْتِي، فَيَمُوت بالأجل الأول، وَهَذَا معنى صَحِيح لَا يرد عَلَيْهِ إِشْكَال، وَلَا يمْتَنع فِي حَقه سُبْحَانَهُ بِحَال، مَعَ أَنه سُبْحَانَهُ يعلم أَن العَبْد سيفعل ذَلِك السَّبَب، أَو لَا يَفْعَله، لكنه لَا يَقع التَّنْجِيز لذَلِك الْمُسَبّب إِلَّا بِحُصُول السَّبَب الَّذِي ربطه عز وجل بِهِ.
كَرَاهَة الْمَوْت ومقام الْولَايَة:
قَوْله: " يكره الْمَوْت وأكره إساءته " قَالَ ابْن حجر: " وَفِي حَدِيث عَائِشَة: أَنه يكره الْمَوْت وَأَنا أكره مساءته. زَاد ابْن مخلد عَن ابْن كَرَامَة فِي آخِره: " وَلَا بُد لَهُ مِنْهُ " وَوَقعت هَذِه الزِّيَادَة أَيْضا فِي حَدِيث وهب " انْتهى.
فِيهِ فَائِدَة جليلة هِيَ أَن الْمُؤمن قد يكره الْمَوْت وَلَا يخرج بذلك عَن رُتْبَة الْإِيمَان الجليلة، وَلَا يُنَافِي ذَلِك أَن شَأْن الْمُؤمن أَن يحب لِقَاء الله سُبْحَانَهُ، كَمَا ورد فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة لوُقُوع الْبَيَان فِيهَا بِأَن محبَّة لِقَاء الله لَا نستلزم أَن لَا يكره صَاحب هَذِه الْمحبَّة الْمَوْت، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا من حَدِيث عَائِشَة قَالَت: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم:
(من أحب لِقَاء الله، أحب الله لقاءه، وَمن كره لِقَاء الله كره الله لقاءه فَقلت يَا نَبِي الله أكراهية الْمَوْت فكلنا نكره الْمَوْت؟ قَالَ: لَيْسَ ذَلِك، وَلَكِن الْمُؤمن إِذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لِقَاء الله فَأحب الله لقاءه، وَأَن الْكَافِر إِذا بشر بِعَذَاب الله وَسخطه كره لِقَاء الله، وَكره الله لقاءه ".
وَأخرج أَحْمد بِرِجَال الصَّحِيح وَالنَّسَائِيّ بِإِسْنَاد جيد من حَدِيث أنس قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم:
(من أحب لِقَاء الله أحب الله لقاءه، وَمن كره لِقَاء الله كره الله لقاءه، قُلْنَا يَا رَسُول الله: كلنا نكره الْمَوْت. قَالَ: لَيْسَ ذَاك كَرَاهِيَة الْمَوْت، وَلَكِن الْمُؤمن إِذا حضر جَاءَهُ البشير من الله فَلَيْسَ شَيْء أحب إِلَيْهِ من أَن يكون قد لَقِي الله فَأحب الله لقاءه، وَإِن الْفَاجِر وَالْكَافِر إِذا حضر جَاءَهُ مَا هُوَ صائر إِلَيْهِ من الشَّرّ، أَو مَا يلقى من الشَّرّ، فكره لِقَاء الله فكره الله لقاءه ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ: " قَالَ رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم: قَالَ الله: إِذا أحب عَبدِي لقائي أَحْبَبْت لقاءه، وَإِذا كره لقائي كرهت لقاءه " وَأخرج الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد جيد من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو عَن النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم قَالَ: " تحفة الْمُؤمن الْمَوْت ". وَأخرج أَحْمد من رِوَايَة عبد الله ابْن [زَجْر] من حَدِيث معَاذ قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم: " إِن شِئْتُم أنبأتكم مَا أول مَا يَقُول الله عز وجل للْمُؤْمِنين يَوْم الْقِيَامَة، وَمَا أول مَا يَقُولُونَ لَهُ قُلْنَا: نعم يَا رَسُول الله قَالَ: إِن الله عز وجل يَقُول للْمُؤْمِنين: هَل أَحْبَبْتُم لقائي، فَيَقُولُونَ نعم يَا رَبنَا، فَيَقُول لَهُم: لم؟ فَيَقُولُونَ: رجونا عفوك ومغفرتك فَيَقُول: قد وَجَبت لكم مغفرتي ".
قَالَ ابْن حجر فِي الْفَتْح: " وَأسْندَ الْبَيْهَقِيّ فِي الزّهْد عَن الْجُنَيْد سيد الطَّائِفَة قَالَ: الْكَرَاهَة هُنَا لما يقلى الْمُؤمن من الْمَوْت، وصعوبته وكربه وَلَيْسَ الْمَعْنى أنس أكره لَهُ الْمَوْت لِأَن الْمَوْت يُورِدهُ إِلَى رَحْمَة الله ومغفرته " انْتهى.
أَقُول: ظَاهر الْأَحَادِيث الَّتِي قدمناها: أَن الْكَرَاهَة لنَفس الْمَوْت الَّذِي هُوَ انْتِقَال من الدَّار الأولى إِلَى الدَّار الْآخِرَة من غير حَاجَة إِلَى تَأْوِيل. وَلَا شكّ أَن الْكَرَاهَة للْمَوْت قد تكون لاستصعاب مقدماته، وَقد تكون لما فِي الْمَوْت من مُفَارقَة الْأَهْل وَالْولد وَالْأَصْحَاب والأتراب، وَقد تكون للخوف من أَن يُفَارق الدُّنْيَا وَهُوَ غير رَاض من نَفسه بِأَعْمَالِهِ الصَّالِحَة، أَو لذنوب اقترفها لم
يخلص التَّوْبَة عَنْهَا، أَو لحقوق لله سُبْحَانَهُ، أَو لِعِبَادِهِ لم يتَخَلَّص عَنْهَا، فَلَيْسَتْ كَرَاهَة الْمَوْت مُخْتَصَّة بذلك الْوَجْه الَّذِي ذكره الْجُنَيْد رحمه الله.
قَالَ فِي الْفَتْح: " وَعبر بَعضهم عَن هَذَا بِأَن الْمَوْت حتم مقضي، وَهُوَ مُفَارقَة الرّوح الْجَسَد، وَلَا يحصل غَالِبا إِلَّا بألم [شَدِيد] جدا كَمَا جَاءَ عَن عَمْرو بن الْعَاصِ أَنه سُئِلَ وَهُوَ يَمُوت فَقَالَ: كَأَنِّي أتنفس من خرم إبرة، وَكَأن غُصْن شوك يجر بِهِ من قامتي إِلَى هامتي " انْتهى.
قلت: هَذَا هُوَ مثل كَلَام الْجُنَيْد. وَالْجَوَاب عَنهُ جَوَاب عَن هَذَا، وقصة عَمْرو هَذِه مَشْهُورَة فِي كتب التَّارِيخ، قَالَ لَهُ رجل وَهُوَ يجود بِنَفسِهِ: إِنَّك كنت تَقول لنا: وددت أَن يُخْبِرنِي رجل عَاقل [و] هُوَ فِي سِيَاق الْمَوْت كَيفَ يجد الْمَوْت فَقَالَ لَهُ رجل: أَنْت ذَلِك الرجل الْعَاقِل فَأخْبرنَا فَقَالَ: " كَأَنِّي أتنفس الخ "، قَالَ فِي الْفَتْح:" وَعَن كَعْب أَن عمر سَأَلَهُ عَن الْمَوْت فوصفه بِنَحْوِ هَذَا، فَلَمَّا كَانَ الْمَوْت بِهَذَا الْوَصْف وَالله سُبْحَانَهُ يكره [أَذَى] الْمُؤمن أطلق على ذَلِك الْكَرَاهَة. وَيحْتَمل أَن تكون المساءة بِالنِّسْبَةِ إِلَى طول الْحَيَاة لِأَنَّهَا تُؤدِّي إِلَى أرذل الْعُمر وتنكس الْخلق وَالرَّدّ إِلَى أَسْفَل سافلين " انْتهى.
أَقُول: معنى قَوْله وأكره إساءته كَرَاهَة إساءته بِنَفس الْمَوْت كَمَا يفِيدهُ قَوْله يكره الْمَوْت، فَإِن قَوْله وأكره إساءته هُوَ مَعْطُوف عَلَيْهِ، فَالْمُرَاد أكره إساءته بِمَا
كرهه. وَتَخْصِيص التَّفْسِير بِوَجْه مَعَ وضوح الْمَعْنى لَا حَاجَة إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يلْزم من ذَلِك شَيْء حَتَّى يُصَار إِلَى التَّأْوِيل، وعَلى فرض وجود مُقْتَض للتأويل، فَهُوَ ذُو وُجُوه كَمَا بَينا، وَغير مَا تطابق عَلَيْهِ قَول الْجُنَيْد وَكَعب وَالْمُصَنّف [وَهُوَ] أولى مِنْهُ.
قَالَ فِي الْفَتْح: " وَجوز الْكرْمَانِي أَن يكون المُرَاد أَنه يكره الْمَوْت فَلَا أسْرع بِقَبض روحه فَأَكُون كالمتردد " انْتهى.
أَقُول: هَذَا صَوَاب إِذْ لَا مُقْتَضى للتأويل كَمَا عرفناك.
قَالَ فِي الْفَتْح: " وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو الْفضل: فِي هَذَا الحَدِيث، عظم قدر الْوَلِيّ، لكَونه خرج عَن تَدْبِير نَفسه إِلَى تَدْبِير ربه تَعَالَى، وَمن انتصاره لنَفسِهِ إِلَى انتصار الله لَهُ، وَعَن حوله وقوته بِصدق توكله.
قَالَ: وَيُؤْخَذ مِنْهُ أَن لَا يحكم لإِنْسَان آذَى وليا ثمَّ لم يعاجل بمصيبة فِي نَفسه أَو مَاله أَو وَلَده، بِأَنَّهُ يسلم من انتقام الله تَعَالَى لَهُ: فقد يكون مصيبته فِي غير ذَلِك مِمَّا هُوَ أشبه عَلَيْهِ كالمصيبة فِي الدّين مثلا.