الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْإِحْسَان والمفروضات الباطنية:
وَحكى ابْن حجر فِي الْفَتْح عَن الطوفي أَنه قَالَ: " هَذَا الحَدِيث أصل فِي السلوك إِلَى الله تَعَالَى، والوصول إِلَى مَعْرفَته ومحبته، وَطَرِيقَة أَدَاء المفروضات الْبَاطِنَة وَهِي الْإِيمَان، وَالظَّاهِرَة وَهِي الْإِسْلَام، والمركب مِنْهُمَا وَهُوَ الْإِحْسَان، كَمَا تضمنه حَدِيث جِبْرِيل عليه السلام. وَالْإِحْسَان يتَضَمَّن مقامات السالكين من الزّهْد وَالْإِخْلَاص والمراقبة وَغَيرهَا " انْتهى.
أَقُول: قد عرفناك فِيمَا سلف أَن مِمَّا افترضه الله على عباده ترك الْمُحرمَات، فَتَركهَا فَرِيضَة من فَرَائض الله سُبْحَانَهُ. فَقَوله أَدَاء المفروضات الْبَاطِنَة وَهِي الْإِيمَان، وَالظَّاهِرَة وَهِي الْإِسْلَام لَا يَشْمَل جَمِيع فَرَائض الله.
وَبَيَانه أَن الْإِيمَان هُوَ كَمَا قَالَه [صلى الله عليه وسلم] وَآله وَسلم فِي جَوَاب من سَأَلَهُ عَن الْإِيمَان " أَن تؤمن بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَالْقدر خَيره وشره "، فَلم يَشْمَل جَمِيع المفروضات الْبَاطِنَة. فَإِن مِنْهَا لَا يتَعَلَّق بِشَيْء من الاعتقادات الْبَاطِلَة، وَلَا يحْسد، وَلَا يعجب، وَلَا يتكبر وَلَا يشوب عمله رِيَاء، وَلَا نِيَّته عدم خلوص. وَلَا يستخف بِمَا أوجب الله عَلَيْهِ تَعْظِيمه، وَلَا يبطن غير مَا يظهره حَتَّى يكون ذَا وَجْهَيْن، وَغير ذَلِك من الْأُمُور القلبية الَّتِي هِيَ عِنْد من يتفكر فِي الْأُمُور ويتفهم الْحَقَائِق كَثِيرَة جدا. والتكليف بهَا شَدِيد،
والوعيد عَلَيْهَا عتيد، والحريص على دينه إِذا لم يجاهدها كُلية المجاهدة هلك من حَيْثُ لَا يشْعر. وَذهب عَلَيْهِ أجر أَعماله الظَّاهِرَة وَهُوَ لَا يدْرِي.
فَترك هَذِه هُوَ من أعظم مَا افترضه الله على عباده، وَهِي غير دَاخِلَة فِي خِصَال الْإِيمَان الَّتِي اشْتَمَل عَلَيْهَا الحَدِيث.
فَإِن الرجل قد يُؤمن بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله، وَالْقدر خَيره وشره وَهُوَ مُشْتَمل على شَيْء من هَذِه الْمعاصِي الْبَاطِنَة.
وَبَيَان ذَلِك أَنَّك لَو كشفت مَا عِنْده فِي الْإِيمَان بِاللَّه لوجدته مُؤمنا بِهِ لَا يَعْتَرِيه فِي ذَلِك شكّ وَلَا شُبْهَة، وَكَذَلِكَ لَا يشك فِي الْمَلَائِكَة وَفِي كتب الله وَرُسُله، وَكَون الْأَمر بيد الله عز وجل وَهُوَ الْقَابِض الباسط النافع الضار. فَهَذِهِ [يجدهَا] الْإِنْسَان عِنْد كل أحد من الْمُسلمين. وَإِذا كشفت عَن هَذِه الْأُمُور الْبَاطِنَة وجدت عباد الله مُخْتَلفين فِيهَا لَا يَنْزِعهَا الله سُبْحَانَهُ إِلَّا من قُلُوب خَاصَّة الْخَاصَّة.
وَمَا أحسن مَا روى عَن بعض كفار الْهِنْد الوثنية بعد إِسْلَامه أَنه قَالَ: " جاهدت نَفسِي فِي كسر الوثن الَّذِي كنت أعبده لَيْلَة فَغَلَبَتْهَا وكسرته، وَأَنا فِي جِهَاد لَهَا نَحْو عشْرين سنة فِي كسر الْأَصْنَام الْبَاطِنَة فَلم أقدر عَلَيْهَا، وَلَا نفع جهادي لَهَا أبدا ".
وَمن فكر فِي هَذَا النَّوْع الإنساني وجد غَالب مصائب دينه من الْمعاصِي الْبَاطِنَة وَوجد الْمعاصِي الظَّاهِرَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَاطِنَة أقل خطراً وأيسر شرا، لِأَنَّهُ قد يمْنَع عَنْهَا الدّين وَقد يمْنَع عَنْهَا الْحيَاء وَحفظ الْمُرُوءَة. وَأما البلايا الْبَاطِنَة فَهِيَ إِذا لم يَزع حاملها وازع الدّين لم يقْلع عَنْهَا لِأَنَّهَا أُمُور لَا يطلع عَلَيْهَا النَّاس حَتَّى يستحي ويحاشى ويحافظ على مروءته.