الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2640 - [سنان الإسماعيلي]
(1)
سنان بن سليمان (2) أبو الحسن البصري الإسماعيلي الباطني، صاحب الدعوة، وصاحب حصون الإسماعيلية.
كان أديبا متكلما، عالما بالفلسفة، أخباريا شاعرا، وله رسالة إلى السلطان نور الدين تدل على غزارة معرفته في ذلك، وقد ذكرناها في ترجمة السلطان محمود بن زنكي (3).
توفي المذكور سنة تسع وثمانين وخمس مائة (4).
2641 - [مسعود صاحب الموصل]
(5)
مسعود بن مودود بن أتابك زنكي السلطان عزّ الدين، صاحب الموصل.
كان كثير الخير والإحسان، يزور الصالحين ويقربهم، وفيه حلم وحياء ودين، لا جرم أعقبه ذلك ما ذكره ابن الأثير أنه بقي عشرة أيام لا يتكلم إلا بالشهادتين وقراءة القرآن، ورزق خاتمة خير (6).
وتوفي سنة تسع وثمانين وخمس مائة، ودفن في مدرسته بالموصل، وتملك بعده ولده نور الدين.
2642 - [صلاح الدين الأيوبي]
(7)
السلطان صلاح الدين الملك الناصر يوسف بن أيوب بن شاذي-بمعجمتين، بينهما
(1)«سير أعلام النبلاء» (21/ 182)، و «تاريخ الإسلام» (41/ 325)، و «العبر» (4/ 269)، و «الوافي بالوفيات» (15/ 463)، و «مرآة الجنان» (3/ 438)، و «شذرات الذهب» (6/ 483).
(2)
كذا هنا تبعا ل «مرآة الجنان» (3/ 438)، وفي سائر المراجع:(سلمان).
(3)
راجع (4/ 253).
(4)
ذكره ابن العماد في وفيات سنة (588 هـ)، انظر «شذرات الذهب» (6/ 483).
(5)
«الكامل في التاريخ» (10/ 123)، و «كتاب الروضتين» (4/ 414)، و «وفيات الأعيان» (5/ 203)، و «سير أعلام النبلاء» (21/ 237)، و «تاريخ الإسلام» (41/ 347)، و «العبر» (4/ 269)، و «مرآة الجنان» (3/ 438)، و «البداية والنهاية» (13/ 10)، و «شذرات الذهب» (6/ 488).
(6)
انظر «الكامل» (10/ 123).
(7)
«الكامل في التاريخ» (10/ 118)، و «التكملة لوفيات النقلة» (1/ 183)، و «كتاب الروضتين» (4/ 359)،
ألف، ثم ياء النسبة، ومعناه بالعربي: فرحان-صاحب الديار المصرية والبلاد الشامية والحجازية واليمنية الذي أعز الله به الإسلام، وأذل به أهل الشرك والصليب.
ولد سنة اثنتين وثلاثين وخمس مائة بقلعة تكريت لما كان أبوه واليا عليها من جهة مجاهد الدين متولي شحنة بغداد من قبل السلطان غياث الدين مسعود السلجوقي، ولم يزل في كنف أبيه حتى ترعرع.
فلما أخذ نور الدين محمود زنكي دمشق .. لازم نجم الدين أيوب وولده صلاح الدين المذكور خدمته، وكانت مخائل السعادة لائحة على صلاح الدين، والنجابة تقدمه من حالة إلى حالة، ونور الدين يقدمه ويؤثره لما يعلم من صلاح الدين من فعل الخير والمعروف والاجتهاد في أمور الجهاد، حتى جهزه للمسير مع عمه أسد الدين شيركوه إلى الديار المصرية مرارا كما ذكرناه في ترجمة أسد الدين (1)، واستقر في آخرها أسد الدين في وزارة مصر بعد قتله لشاور، وذلك في سنة أربع وستين.
ثم مات أسد الدين بعد قتله لشاور بشهرين، فاستمر ابن أخيه صلاح الدين في الوزارة، واستقرت له الأمور، وتمهدت له القواعد، وملك قلوب الرجال ببذل الأموال، وشكر نعمة الله، فتاب عن الخمر، وأعرض عن أسباب الهوى، وتقمص بقميص الجد والاجتهاد، وشن الغارات على الفرنج إلى الكرك والشوبك، هذا وهو وزير متابع للقوم، لكنه يقول بمذهب أهل السنة، ويجالس أهل العلم والتصوف، والناس يهرعون إليه من كل جانب، وهو لا يخيب قاصدا.
واستدعى أباه نجم الدين من الشام، فسيره إليه الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي، فدخل مصر في أبهة عظيمة، وتلقاه العاضد بنفسه؛ إكراما لابنه صلاح الدين، ثم طلب من نور الدين أن يرسل إليه أخويه، فلم يجبه إلى ذلك وقال: أخاف أن يخالف عليك أحد منهم فتفسد البلاد.
ثم أمره نور الدين بقطع خطبة العاضد من مصر وإقامة الخطبة العباسية، فأحجم السلطان صلاح الدين من ذلك؛ خوفا من وثوب المصريين عليه، ثم لم يجد بدا من الإجابة إلى
= و «وفيات الأعيان» (7/ 139)، و «سير أعلام النبلاء» (21/ 278)، و «تاريخ الإسلام» (41/ 351)، و «العبر» (4/ 270)، و «مرآة الجنان» (3/ 439)، و «طبقات الشافعية الكبرى» (7/ 339)، و «البداية والنهاية» (13/ 5)، و «شذرات الذهب» (6/ 448).
(1)
انظر (4/ 239).
ذلك، فخطب للمستضيء العباسي، ومات العاضد عقيب ذلك، فاستولى صلاح الدين على القصر بجميع ما فيه، ونقل أهل العاضد إلى مكان منفرد، ووكل بهم من يحفظهم كما تقدم في ترجمة العاضد (1).
وطلب العادل نور الدين صلاح الدين من مصر إلى الشام، فاعتذر، فألح في طلبه وهم أن يصل بنفسه إلى مصر، وهم صلاح الدين بشق العصى ومقاتلة نور الدين، فأشار عليه أبوه بإظهار التذلل والخضوع لنور الدين، ويعلمه أنه عبده ونائبه في البلد وإن كان في باطن الأمر على خلاف ذلك، ففعل ما أشار به والده نجم الدين، فاستكان نور الدين لذلك، ورجع عما كان بصدده من قصد مصر، ثم توفي نور الدين في سنة تسع وسبعين.
وخرج على صلاح الدين الكنز كبير السودان، جمع بأسوان جمعا عظيما من السودان زعم أنه يعيد الدولة المصرية، وانضم إليه المصريون، فجهز إليه صلاح الدين جيشا كثيفا مقدمهم أخوه الملك العادل، فكسرهم في سنة سبعين وخمس مائة، فاستقر لصلاح الدين قواعد الملك.
وكان نور الدين قد خلف ولده الملك الصالح إسماعيل في دمشق، وكان شمس الدين ابن الداية بقلعة حلب قد حدثته نفسه بأمور، فسار الملك الصالح من دمشق إلى حلب، فوصل إلى ظاهرها ومعه سابق الدين، فخرج بدر الدين حسن بن الداية فقبض على سابق الدين، ولما دخل الملك الصالح القلعة .. قبض على شمس الدين ابن الداية وأخيه حسن، وأودع الثلاثة السجن، وفي ذلك اليوم قتل أبو الفضل بن الخشاب لفتنة جرت بحلب، وقيل: قتل قبل قبض أولاد الداية، ولما علم صلاح الدين بموت نور الدين وأن ولده الملك الصالح إسماعيل صبي لا يستقل بالأمر ولا ينهض بأعباء الملك .. ترك مصر، وتجهز إلى دمشق في جيش كثيف مظهرا أنه يتولى مصالح الملك الصالح، فدخلها بالتسليم في سنة سبعين وخمس مائة، وتسلم قلعتها، وفرح الناس به، وأنفق مالا عظيما.
ثم سار إلى حمص فأخذ مدينتها، ولم يشتغل بقلعتها، ثم توجه إلى حلب فنازلها، فأنفذ سيف الدين غازي صاحب الموصل جيشا عظيما مقدمهم أخوه عزّ الدين مسعود لمقاتلة صلاح الدين، فلما علم بذلك صلاح الدين .. رحل عن حلب عامدا إلى حماة، ثم إلى حمص، فأخذ قلعتها، ورحل عزّ الدين إلى حلب، واستظهر بعسكر ابن عمه الملك
(1) انظر (4/ 247).
الصالح إسماعيل، وخرجوا في جمع عظيم، وسار صلاح الدين، فالتقوا على قرون حماة، فراسلهم صلاح الدين، واجتهد في الصلح فلم يقبلوا، فلاقاهم، فكسرهم وأسر جماعة منهم، ثم نزل على حلب، وصالحوه على أخذ المعرة وكفر طاب ومارين، ولما جرت هذه الوقعة .. كان سيف الدين غازي محاصرا أخاه عماد الدين صاحب سنجار؛ لأنه كان قد انتمى إلى صلاح الدين، ثم جمع العساكر وسار، وخرج ابن عمه الملك الصالح، فوصل إلى حلب، وصعد قلعتها، ووصل إلى صلاح الدين عسكر مصر، فالتقاهم، وكسرهم، وأسر منهم جمعا من كبار الأمراء، ثم منّ عليهم وأطلقهم، وعاد سيف الدين إلى حلب، فأخذ منها خزائنه وسار إلى بلاده، ومنع صلاح الدين من اتباع القوم، ونزل على خيامهم، وقسم الخزائن، وأعطى خيمة سيف الدين لابن أخيه، وسار إلى منبج فتسلمها، ثم إلى قلعة عزاز فحاصرها، ووثب جماعة من الإسماعيلية على صلاح الدين، فنجاه الله تعالى منهم، وظفره بهم، ثم سار، فنزل على حلب، وأقام عليها مدة، فأخرجوا له ابنة صغيرة لنور الدين، فسألته عزاز، فوهبها لها، وعاد صلاح الدين إلى مصر، فتفقد أحوالها.
ثم تأهب للغزو، وخرج يطلب الساحل حتى وافى الفرنج على الرملة في أوائل سنة ثلاث وسبعين، فانكسر المسلمون، ولم يكن لهم حصن قريب يأوون إليه، فطلبوا جهة الديار المصرية، فضلوا في الطريق، وأسر منهم جمع، منهم الفقيه عيسى الهكاري، وكان ذلك وهنا عظيما جبره الله بوقعة بعدها، ثم التمس الروم من صلاح الدين الصلح، فصالحهم.
وتوفي الملك الصالح إسماعيل في هذه السنة-أعني سنة ثلاث وسبعين-بعد أن استخلف أمراء حلب وأجنادها لابن عمه عزّ الدين مسعود صاحب الموصل، فتوجه عزّ الدين لقبض حلب؛ خوفا أن يسبقه إليها صلاح الدين، فقبضها، وصعد قلعتها، واستولى على حواصلها، وتزوج أم الملك الصالح، ثم قايض عزّ الدين أخاه عماد الدين صاحب سنجار عن حلب بسنجار، فخرج عزّ الدين عن حلب، ودخلها عماد الدين، وجاء صلاح الدين إلى حلب وحاصره، ثم اصطلحا على أن ينزل عماد الدين لصلاح الدين عن حلب، ويعوضه عنها الخابور ونصيبين وسروج، وسلم صلاح الدين قلعة حلب، وجعل فيها ولده الملك الظاهر، وكان صبيا، وطلب صلاح الدين أخاه الملك العادل من مصر ليجتمعوا على الكرك، فوصل إليه في جيش عظيم، واجتمعوا في شعبان سنة تسع وسبعين وخمس مائة، فلما بلغ الفرنج ذلك .. حشدوا خلقا كثيرا، وجاءوا إلى الكرك، فخاف صلاح الدين على
الديار المصرية، فسير إليها ابن أخيه تقي الدين، ورحل عن الكرك ومعه أخوه العادل، فدخل دمشق، ثم رجع العادل إلى مصر، ونازل صلاح الدين الموصل وحاصرها مرارا فلم يقدر عليها، وترددت الرسل بينه وبين صاحبها، ثم مرض صلاح الدين، فسار إلى حران، ولحقته الرسل بالإجابة إلى ما طلب، وتم الصلح على أن يسلم صاحب الموصل لصلاح الدين شهرزور وأعمالها وما وراء الفرات (1) من الأعمال، وأن يخطب له على المنابر، وينقش على السكة اسمه، وقبض نواب صلاح الدين البلد التي وقع الصلح عليها، وطال مرض صلاح الدين حتى أيسوا منه، فحلف الناس لأولاده، وكان عنده منهم الملك العزيز، وجاء أخوه العادل من حلب وهو ملكها يومئذ، فجعله وصيا على أولاده، وسلم إليه ولده العزيز، وجعله أتابكه، ثم من الله عليه بالعافية.
وفي ربيع الآخر من سنة ثلاث وثمانين في يوم الجمعة-وكان كثيرا ما يقصد لقاء العدو يوم الجمعة عند الصلاة؛ تبركا بدعاء المسلمين والخطباء على المنابر-كانت وقعة حطين المباركة على المسلمين، سار صلاح الدين حتى نزل على بحيرة الطبرية على سطح الجبل ينتظر قصد الفرنج له، فلم يتحركوا ولا خرجوا عن منازلهم، فلما رآهم لا يتحركون .. ترك جريدة على طبرية، وترك الأطلاب على حالها قبالة العدو، وهجم طبرية فأخذها في ساعة واحدة، وأخذ الناس في النهب والسبي والقتل والحريق، وبقيت القلعة محمية بمن فيها، فلما بلغ العدو ذلك .. قلقوا ورحلوا نحوها، وبلغ السلطان ذلك، فترك على طبرية من يحاصرها، ولحق بالعسكر، فالتقى بالعدو على سطح طبرية، وحال الليل بين العسكرين، فناما على مصافهما ليلة الجمعة إلى بكرة يومها، واستعرت نار الحرب، واشتد الأمر، ولم تزل الحرب تضطرم، والفارس مع قرنه يصطدم، حتى حال بينهم الليل بظلامه، وبات كل واحد من الفريقين بمقامه إلى صبيحة يوم السبت، وتحقق المسلمون أن من ورائهم الأردن، ومن بين أيديهم بلاد العدو، وأنه لا ينجيهم إلا الاجتهاد في الجهاد، فحملوا بأجمعهم عليهم، وصاحوا صيحة رجل واحد، فألقى الله الرعب في قلوب الكافرين، وكان حقا عليه سبحانه نصر المؤمنين، فأحاط المسلمون بالكافرين من كل جانب، وأطلقوا فيهم السهام، وحكّموا فيهم السيوف القواضب، وأشعلوا حولهم النيران، وصدقوا فيهم الضرب والطعان، وأسر مقدمهم، وقتل الباقون.
(1) كذا في «مرآة الجنان» (3/ 453)، و «الكامل» (10/ 10)، و «وفيات الأعيان» (7/ 172):(الزاب).
قال الشيخ اليافعي: (وقال بعض الرواة: حكى لي من أثق به أنه رأى بحوران شخصا واحدا معه نيف وثلاثون أسيرا قد ربطهم بطنب خيمة؛ لما وقع عليهم من الخذلان)(1).
ثم رحل السلطان إلى عكا، فأخذها واستنقذ من كان بها من أسرى المسلمين، وكانوا أكثر من أربعة آلاف، واستولى على ما فيها من الأموال والذخائر والبضائع؛ لأنها كانت مظنة التجار، وتفرقت العساكر في بلاد الساحل، فأخذوا الحصون والقلاع والأماكن المنيعة، فأخذوا نابلس وحيفا وقيسارية وصفورية والناصرة، ولما استقرت قواعد عكا، وقسمت أموالها .. أخذ صلاح الدين يشن الغارات، ويفتح بلدا بعد بلد، فأخذ صيدا وعسقلان والرملة والداروم والأماكن المحيطة بالقدس، فيقال: إنه ألقيت في مخيمه رقعة فيها على لسان بيت المقدس: [من مجزوء الكامل]
يا أيها الملك الذي
…
لقواعد الإسلام أسس
يا من سطا بحسامه
…
ومعالم الصلبان نكس
كل الأماكن طهرت
…
وأنا على شرفي منجس
فشمر عن ساق الجد والاجتهاد في قصد القدس المبارك، واجتمعت إليه العساكر التي كانت متفرقة في الساحل، فسار نحوه معتمدا على الله، مفوضا أمره إلى الله، ومنتهز الفرصة في فتح باب الخير الذي حث الله على انتهازه بقول نبيه صلى الله عليه وسلم:«من فتح له باب خير .. فلينتهزه؛ فإنه لا يعلم متى يغلق دونه» فنزل بالجانب الغربي، وكان مشحونا بالمقاتلة من الخيالة والرجالة، قيل: كان فيه من المقاتلة ما يزيدون على ستين ألفا خارجا عن النساء والصبيان، ثم انتقل لمصلحة رآها إلى الشمالي في يوم الجمعة العشرين من رجب ونصب المجانيق، وضايق البلد بالزحف والقتال حتى أخذ النقب في السور مما يلي وادي جهنم، فلما رأى أعداء الله ما نزل بهم من الأمر الذي لا مدفع لهم عنه، وظهرت لهم أمارات الفتح .. استكانوا، وطلبوا الأمان، واتفق الصلح على أن يسلموا القدس المبارك للمسلمين، وقطعوا على أنفسهم على كل رجل عشرين دينارا، وعن كل امرأة خمسة دنانير صورية، وعن كل صغير ذكر أو أنثى دينارا واحدا، فمن أحضر قطيعته .. نجا بنفسه، وإلا .. أخذ أسيرا، وعلى إفراج كل من كان بالقدس من أسارى المسلمين، وكانوا خلقا كثيرا، فتسلم المسلمون يوم الجمعة الميمون سابع وعشرين رجب المعظم، وذلك
(1)«مرآة الجنان» (3/ 454).
مثل الليلة التي عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم فيها على المشهور.
وكان فتحا عظيما شهده من الأولياء والعلماء خلق، وقصده أهل الخير من البلدان القريبة والبعيدة، وارتفعت الأصوات بالتسبيح والدعاء، والتهليل والتكبير، وصليت فيه الجمعة يوم فتحه، واشر أبّ جماعة من العلماء للخطبة فيه، وكلهم قد هيأ خطبة تتضمن الفتح، فورد أمر السلطان صلاح الدين بأن يخطب أبو المعالي محمد بن علي بن محمد القرشي الأموي العثماني، وهو القائل لما فتح صلاح الدين مدينة حلب في شهر صفر:[من البسيط]
وفتحك القلعة الشهباء في صفر
…
مبشر بفتوح القدس في رجب
فكان كما قال، فسئل: من أين لك ذلك؟ فقال: أخذته من تفسير ابن برجان في قوله تعالى: {الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ، } فخطب خطبة بليغة افتتحها بحوامد القرآن ك (الفاتحة) وأول (الأنعام) وآخر (بني إسرائيل) وأول (الكهف) و {قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى} وأول (سبأ) و (فاطر) ونحو ذلك.
ونكس الصليب الذي كان على قبة الصخرة وكان شكلا عظيما.
وكان استيلاء الفرنج على البيت المقدس في سنة اثنتين وسبعين وأربع مائة، فلم يزل بأيديهم حتى استنقذه منهم صلاح الدين في السنة المذكورة.
ثم بعد فتح بيت المقدس قصد صور وضايقها برا وبحرا، وأحضر آلات القتال، فأسر الفرنج جماعة من المسلمين فيهم المقدم والرئيس، فعظم ذلك على صلاح الدين، وهجم الشتاء، وتراكمت الأمطار والثلوج، وامتنع الناس من القتال بسبب الأمطار، فأشار عليه الأمراء بالرحيل ليستريح الرجال ويتجمعوا للقتال، فرحلوا عنها بما أمكن من آلات الحصار، وأحرقوا ما عجزوا عن حمله، فأخذ في طريقه طرسوس عنوة، ثم جبلة بالأمان، ولم يزل يأخذ بلدة بعد بلدة وقلعة بعد قلعة إلى أن بلغ برزيه، وهو من الحصون المنيعة في غاية القوة، يضرب بها المثل في بلاد الفرنج، تحيط بها أودية من جميع جوانبها، وعلوها خمس مائة ونيف وسبعون ذراعا، فأخذها عنوة، ثم كذلك بلدا بعد بلد حتى بلغ أنطاكية، فراسله أهلها في طلب الصلح، فصالحهم إلى سبعة أشهر على أن يطلقوا كل أسير عندهم، فإن جاء من ينصرهم وإلا .. سلموا البلد، ثم سار فدخل حلب، فأقام ابنه الظاهر بضيافته ثلاثة أيام، ثم دخل حماة، فأضافه ابن أخيه تقي الدين، فأعطاه جبلة
وبلدة أخرى، ثم دخل دمشق، فأقام بها، ثم نزل على صفد، فتسلمها بالأمان، ثم تسلم الكرك بالأمان، ثم كوكب، وسار مع أخيه العادل لزيارة القدس وليودع أخاه في توجهه إلى مصر، فعيد الأضحى بالقدس، ثم دخل عسقلان ونظر في أمورها وأخذها من أخيه العادل وعوضه عنها الكرك، ثم مر على بلاد الساحل يتفقد أحوالها، ثم دخل عكا، فأقام بها معظم المحرم يصلح أحوالها، وأمر بعمارة سورها، ثم سار إلى دمشق، فأقام بها إلى ربيع الأول، ثم خرج إلى شقيف أرنون وهي موضع حصين، فخيم بالقرب منه في مرج عيون، فأقام أياما يباشر قتاله والعساكر تتواصل إليه، فلما تحقق صاحب الشقيف أنه لا طاقة له به .. نزل إليه بنفسه، فلم يشعر به إلا وهو قائم على باب خميته، وكان من أكابر الفرنج وعقلائهم، يعرف بالعربية، وعنده اطلاع على شيء من الحديث والتواريخ، فأكرمه السلطان واحترمه، وأكل مع السلطان، ثم خلا به، وذكر أنه مملوكه ويحب طاعته، وأنه يسلم إليه المكان من غير تعب على أن يعطى موضعا يسكنه بدمشق، وإقطاعا بها يقوم به وبأهله، وشروطا غير ذلك، فأجابه إلى مرامه.
وفي أثناء شهر ربيع الأول بلغه خبر تسليم الشوبك بالأمان، ثم ظهر للسلطان بعد ذلك أن جميع ما قاله صاحب الشقيف كان خديعة، فرسم عليه، ثم بلغه أن الفرنج نزلوا على عكا، فسير صاحب الشقيف إلى دمشق بعد الإهانة الشديدة، ودخل عكا بغتة لتقوى قلوب من بها، ثم استدعى العسكر من كل ناحية، وتكاثر الفرنج، واستفحل أمرهم، وأحاطوا بعكا وحصروها، ومنعوا من يدخل إليها ويخرج، فاجتهد السلطان حتى فتح طريقا إليها ليستمر السابلة بالميرة والنجدة، وسار الأمراء حتى فتحوا إليها طريقا سلكه المسلمون، ودخل السلطان عكا فأشرف على أمورها، وجرى بين الفريقين وقعات، فقيل للسلطان: إن الوخم قد وقع بعكا، وإن الموت قد فشا بين الطائفتين، فأنشد السلطان قول ابن الزبير لما تعارك هو ومالك بن الحارث المعروف بالأشتر يوم الجمل:[من مجزوء الخفيف]
اقتلاني ومالكا
…
واقتلا مالكا معي
يريد بذلك أنه قد رضي أن يتلف إذا أتلف الله أعداءه.
ثم إن الإفرنج جاءتهم الأمداد من البحر، واستظهروا على المسلمين بعكا، فضاق المسلمون من ذلك، وعزموا على صلح الفرنج بأن يسلموا البلد، وجميع ما فيه؛ من الآلات والعدة والسلاح والمراكب، ومائتي ألف دينار، وخمس مائة أسير مجاهيل، ومائة
أسير معيّنين من جهتهم، ويخرجوا بأنفسهم سالمين، وما معهم من الأموال والأقمشة المختصة بهم وذراريهم ونسائهم، وكتبوا بذلك كتبا، فلما علم السلطان بذلك .. عظم عليه ذلك، وبقي مترددا فيه، فلم يشعر إلا وقد ارتفعت أعلام العدو وصلبانه وناره وشعاره على سور البلد، وصاح الفرنج صيحة واحدة، وعظمت المصيبة على المسلمين، واشتد حزنهم، ووقع فيهم الصياح والعويل.
وذكر بعضهم: أن الفرنج خرجوا من عكا قاصدين أخذ عسقلان، فخاف السلطان أن يستولي الفرنج عليها، وتأخذ بها القدس، فأمر بإخرابها، وسارع في ذلك، وجرت أمور عظيمة، ووصل كتاب من الملك العادل بأن الفرنج تحدثوا معه في الصلح، وطلبوا جميع البلاد الساحلية، فرأى السلطان أن في ذلك مصلحة؛ لما علم في النفوس من الضجر، فكتب إليه بالإذن بذلك وتفويض الأمر إلى رأيه، والتمس بعض أكابر الفرنج الاجتماع بصلاح الدين بعد ما اجتمع بأخيه العادل، فأشار عليه أكابر دولته أن يكون ذلك بعد تمام الصلح، وقال صلاح الدين: متى صالحناهم .. لم نأمن غائلتهم، ولو حدث بي حادث الموت .. ما كانت تجتمع هذه العساكر وتقوى الفرنج، والمصلحة ألا نزول عن الجهاد حتى نخرجهم من الساحل أو نموت، ثم ترددت الرسل بينهم بالصلح، وجرت وقعات كثيرة، ثم وقع الصلح بينهم، وتردد المسلمون إلى بلاد الفرنج، وتردد الفرنج إلى بلاد المسلمين، وحملت البضائع والمتاجر إلى البلدان، وحضر منهم خلق كثير لزيارة القدس، وفسح للعساكر الواردة عليه المنجدة من البلاد البعيدة، وتوجه السلطان إلى القدس، وأخوه العادل إلى الكرك، وابنه الظاهر إلى حلب، وابنه الأفضل إلى دمشق، وأقام السلطان بالقدس يعطي الناس ويقطعهم، ويفسح لهم في التوجه إلى بلدانهم، وتأهب للمسير إلى الديار المصرية.
قال ابن خلكان: (قال شيخنا ابن شداد: وأمرني بالمقام في القدس إلى حين عوده لعمارة مارستان أنشأه وتكميل المدرسة التي أنشأها)(1)
فلما فرغ من افتقاده أحوال القلاع .. دخل دمشق وبها أولاده الكبار: الأفضل والظاهر والظافر، وأولاده الصغار، وجلس للناس يوم الخميس سابع وعشرين شوال من سنة ثمان وثمانين ولم يتخلف عنه الخاص والعام، وأنشده الشعراء، وأقام ينشر جناح عدله، ويهطل
(1)«وفيات الأعيان» (7/ 200).
سحاب إنعامه وفضله، ويكشف عن مظالم الرعايا، ولم يزل كذلك إلى ليلة السبت سادسة صفر، فأصابته الحمى، ولم يزل المرض يتزايد إلى أن توفي بعد صلاة الصبح السابع والعشرين من شهر صفر من سنة تسع وثمانين وخمس مائة، ولم يصب المسلمون بمثله بعد الخلفاء الراشدين، وارتفعت الأصوات بالبكاء، وعظم الضجيج عند ما أخرج تابوته، ودفن بمقابر الشهداء بالباب الصغير، ثم أعيد إلى الدار التي في البستان، ودفن في الصفة الغربية منها، وذكر بعضهم أنه بقي مدفونا بقلعة دمشق إلى أن بنيت له شمالية الكلاسة التي هي شمالي جامع دمشق، فنقل إليها يوم عاشوراء من سنة اثنتين وتسعين وخمس مائة، ورتب عنده القراء ومن يخدم المكان، وأنشد في آخر سيرته بيت أبي تمام:[من الكامل]
ثم انقضت تلك السنون وأهلها
…
فكأنها وكأنهم أحلام
تغمده الله برحمته، لقد كان من محاسن الدنيا وغرائبها، ومن مصالح الأمور الدينية ودفع نوائبها.
قال الشيخ عبد الله بن أسعد اليافعي: (كان صلاح الدين كاسمه؛ لما فتح من بلاد الكفار وعمرها بالإسلام، وما له من محاسن الأحكام، وما تضمنه فعل المعروف من النفع العام)(1).
وله من المآثر الدينية المدرسة الصغرى بالقرافة المجاورة لضريح الشافعي رحمه الله، ومدرسة بالقاهرة جوار المشهد المنسوب إلى الحسن بن علي رضي الله عنهما، وأوقف على ذلك وقفا جيدا، وجعل دار أسعد السعداء خادم المصريين خانقاه، ووقف عليها وقفا طائلا، وجعل دار عباس بن السلار مدرسة للحنفية، وعليها وقف جيد، وبنى المدرسة التي بمصر المعروفة بزين التجار وقفا للشافعية، ووقفها جيد أيضا، وله بمصر أيضا مدرسة للمالكية، وبنى بالقاهرة داخل القصر مارستانا له وقف جيد، وله بالقدس مدرسة وخانقاه وقفهما كثير، وغالب هذه الوقوفات والمدارس غير منسوبة إليه في الظاهر، ولا يعرف أنه أنشأها إلا من له اطلاع على التواريخ.
وكان رحمه الله تعالى مع اتساع مملكته وعظيم سلطانه ورفيع مرتبته كثير التواضع واللطف، قريبا من الناس، رحيم القلب، كثير الاحتمال والمداراة، يحب العلماء وأهل الخير ويحسن إليهم، ويميل إلى الفضائل، ويستحسن الأشعار الجيدة ويرددها في
(1)«مرآة الجنان» (3/ 464).
مجلسه، حتى قيل: كثيرا ما كان ينشد قول أبي منصور محمد بن الحسين الحميري، وقيل: إنه قول أبي محمد أحمد بن علي بن خيران العامري: [من البسيط]
وزارني طيف من أهوى على حذر
…
من الوشاة وداعي الصبح قد هتفا
فكدت أوقظ من حولي به فرحا
…
وكاد يهتك ستر الحب بي شغفا
ثم انتبهت وآمالي تخيل لي
…
نيل المنى فاستحالت غبطتي أسفا
قيل: وكان يعجبه قول أبي الحسن المعروف بابن المنجم: [من الطويل]
وما خضّب الناس البياض لقبحه
…
فأقبح منه حين يظهر ناصله
ولكنه مات الشباب فسوّدت
…
على الرسم من حزن عليه منازله
وكان يمسك بكريمته وينظر إليها ويقول: إي والله، مات الشباب.
ومات رحمه الله ولم يخلف في خزائنه ذهبا ولا فضة سوى سبعة وأربعين درهما مصرية وخرصا واحدا من الذهب صوريا، ولم يخلف ملكا لا دارا ولا عقارا ولا مزرعة ولا بستانا.
ومدحه الشعراء بغرر القصائد، فمن ذلك قصيدة المهذب أبو حفص عمر بن محمد المعروف بابن الشحنة الموصلي الشاعر التي أولها:[من الطويل]
سلام مشوق قد براه التشوق
…
على جيرة الحي الذين تفرقوا
وعدد أبياتها مائة وثلاثة عشر بيتا، وفيها البيتان السائران اللذان يتمثل بهما مدعي الأشجان، مع بعد المكان:
أحدهما:
وإني امرؤ أحببتكم لمكارم
…
سمعت بها والأذن كالعين تعشق
والثاني:
وقالت لي الأيام إن كنت واثقا
…
بأبناء أيوب فأنت الموفق
وقال فيه بعض شعراء المشرق: [من البسيط]
الله أكبر جاء القوس باريها
…
ورام أسهم دين الله راميها
فكم لمصر على الأمصار من شرف
…
بيوسفين وهل أرض تدانيها